【 المجتمع العربي 】
الجزء الرابع :
عُبَيَّة الجاهلية :
ولقد تحدثت في الجزء الأول من هذا > الكتاب عن العقلية العربية بصفة عامة :
عقلية العرب أي الحضر وعقلية الأعراب.
وأعود في هذا الموضع إلى الحديث عن عقلية الأعراب وما رماهم به أهل الحضر من الغلظة والجفاء والجهالة والعنجهية والكبر, إلى غير ذلك من نعوت عرفت عند العلماء بـ"عبية الجاهلية"؛ وذلك لما لهذه العبية من صلة بهذا الموضوع في هذا المكان.
وإذا أردت الوقوف على عنجهية الجاهلية وتكبر سادات القبائل وعلى نظرتهم إلى من هم دونهم في ذلك الوقت، فخذ ما روي عن قصة وقعت لمعاوية بن أبي سفيان على ما يرويه أهل الأخبار. فقد رُوي أن الرسول أمر معاوية بإنزال "وائل بن حجر" الحضرمي منزلًا بالحرة، فمشى معه ووائل راكب وكان النهار حارًّا شديد الحرارة، فقال له معاوية :
ألق إليَّ نعلك، قال : لا، إني لم أكن لألبسها وقد لبستها. قال: فأردفني، قال: لست من أرداف الملوك, قال: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي، قال: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك, ولكن إن شئت قصرت عليك ناقتي فسرت في ظلها. فأتى معاوية النبي، فأنبأه فقال : "إن فيه لعُبَيَّة من عُبَيَّة الجاهلية" (١).
و"العبية" الكبر والفخر, "وعبية الجاهلية: نخوتها, وفي الحديث: إن الله وضع عنكم عبية الجاهلية، وتعظمها بآبائها، يعني الكبر". وقد وصفت "قريش" ونعتت بتكبرها حتى قيل: "هذه عبية قريش"(٢), ونجد في القرآن الكريم إشارات إلى عبية زعماء قريش وفخرهم على غيرهم بالآباء وبالأحساب وبأمور لا تستوجب فخر مفاحر؛ لأنها لا تتناول عمل إنسان ليحمد أو ليذم عليه. وقد ذمها الإسلام ونهى المسلمين عن عبية الجاهلية.
ونظرًا إلى ما للبداوة من فقر وقساوة وغلظ في المعاش، ومن ضيق أفق في المدارك وقصر نظر في شئون هذا العالم الخارجي وفي فهم الحياة -نظر العربي إلى الأعرابي نظرة استجهال وازدراء، ونظر إلى نفسه نظرة فيها علو واستعلاء. فورد أن الأعرابي إذا قيل له: يا عربي, فرح بذلك وهش له، والعربي إذا قيل له: يا أعرابي! غضب له (٣) ؛ لما بين الحياتين من فروق وتضاد. فقد جبلت البادية أبناءها على أن يكونوا غرباء عن العالم الحضر وعن عقلية أهل القرى والمدن, متغطرسين مغرورين على فقرهم وفقر من يحيط بهم، فخورين بأنفسهم إلى حد الزهو والإعجاب والخروج عن الحد، فكانوا إذا تكلموا رفعوا أصواتهم، وظهرت الخشونة في كلماتهم، وإذا تعاملوا مع غيرهم ظهر الحذر عليهم، خشية الغدر بهم.
ولهذا قال الحضر : "أعرابي جلف"، أي جاف (٤), وفي الحديث : "من بدا جفا"، أي: غلظ طبعه لقلة مخالطة الناس(٥). وقالوا :
"أعرابي قح" و"أعرابي قُحاح"، وهو الذي لم يدخل الأمصار ولم يختلط بأهلها (٦).
ولهذه الخشونة التي خلقتها طبيعة البادية في الأعرابي، وهو لا دخل له بها الطبع، كما أنه لا يشعر بها ولا يرى أن فيه شيئًا منها، كان العرب إذا تحدثوا عن شخص فيه عنجهية وخشونة، قالوا عنه: فيه أعرابية، كالذي ذكروه مثلًا عن "عيينة بن حصن الفزاري"، من أنه كان أحمق مطاعًا، دخل على النبي من غير إذن وأساء الأدب فصبر النبي "على جفوته وأعرابيته"(٧).
إلى غير ذلك من نعوت تصف الأعرابي بالغلظ والقسوة والأنانية وما شاكل ذلك من نعوت تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب. وهي حاصل هذا المحيط الذي وُلد فيه وعاش، والظروف التي ألمت به، فعزلته عن العالم الخارجي، وأبعدته عن التحسس بتنوع مظاهر الطبيعة وبتغيرها، فلم يرَ الثلج في حياته وهو يتساقط من السماء، ولم يتعود على رؤية الأمطار وهي تتساقط عليه على نحو ما يقع في عالم أوروبا أو في البلاد الحارة ذات الأمطار الموسمية الواضحة، حتى يستفيد منها في استغلال أرضه، ولم تعطِه الطبيعة أنهارًا ومياهًا جارية، إلى غير ذلك من أمور تحدثت عنها أثناء كلامي على العقلية العربية, في الجزء الأول من هذا الكتاب.
ووصف الأعرابي بالجهل، بل بالجهل المطبق. فهو وثني ولكنه لا يفهم شيئًا من أمور الوثنية، وهو نصراني، لكنه نصراني بالاسم، لا يعرف عن النصرانية في الغالب شيئًا، وهو مسلم ولكنه لا يعرف عن الإسلام إلا الاسم. ونجد في كتب أهل الأخبار والأدب قصصًا مضحكًا يمثل هذا الجهل الذي رُمي به الأعراب في بعضه حق بعض وفي بعضه باطل؛ لأنه موضوع حمل عليهم حملًا للانتقاص منهم وليكون قصصًا وتفكهةً وتسلية يتسلى بها الحضر في مجالسهم, في أثناء قتلهم للوقت.
وهو حقود، لا يرى أن يغفر ذنب من أساء إليه, بل يظل في نفسه حاقدًا عليه حتى يأخذ بثأره منه. "قيل لأعرابي : أيسرك أن تدخل الجنة ولا تسيء إلى من أساء إليك؟ فقال: بل يسرني أن أدرك الثأر وأدخل النار" (٨).
ويذكر أن الرسول كان يميز بين الأعراب وبين البادية، وهم الذين كانوا
ينزلون أطراف القارة "القارية" وحولهم.
فلما أهدت "أم سنبلة" الأسلمية لبنًا إلى بيت رسول الله، أبت عائشة قبوله؛ لأن الرسول قد نهى أهله عن قبول هدية أعرابي.
وبينما كانت أم سنبلة في بيته، دخل رسول الله، فقال: "ما هذا؟ " قالت عائشة: يا رسول الله، هذه أم سنبلة أهدت لنا لبنًا، وكنت نهيتنا أن نقبل من أحد من الأعراب شيئًا، فقال رسول الله: "خذوها، فإن أسلم ليسوا بأعراب، هم أهل باديتنا" (٩).
ويفهم من هذا الخبر، أن الرسول فرق بين العرب البادية المقيمين حول "القارية" أهل الحاضرة، الذين هم على اتصال دائم بالحضر، وبين الأعراب، وهم البادون البعيدون عن أهل الحواضر، وهم الذين نهى الرسول عن قبول هدية منهم؛ وذلك بسبب جفائهم على ما يظهر ولأنهم لا يهدون شيئًا إلا طمعوا في رد ما هو أكثر منه لغلظ معاشهم وضيق تفكيرهم, وآية ذلك ما ورد عنهم في القرآن الكريم.
فأهل البادية المجاورون للحضر أخف على النفس من الأعراب، لتأثرهم بحياة الحضر, ولعل منهم من شارك أهل الحضر في التعاطي والتعامل. ونرى أهل الأخبار يروون أن أهل القرى كانوا أصحاب زرع ونخيل وفواكه وخيل وشاء كثير وإبل، يقيم حولهم أناس بادون, كالذي كان حول مكة ويثرب والطائف وقرى الحجاز واليمن وغير ذلك، فإن هؤلاء لم يكونوا أعرابًا أي: بدوًا صرفًا, هجروا الحواضر وأقاموا في البوادي البعيدة، بل هم وسط بين الحضر وبين الأعراب.
فأخلاقهم ألين من أخلاق الأعراب وأرق, ويمكن الاعتماد عليهم نوعًا ما، بينما لا يمكن الركون إلى قول أعرابي.
وقد بلغ من استعلاء الحضر على أهل البادية، أن الأعراب لما أرادوا التسمي بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا، منعوا من ذلك، فأعلموا أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين، وعليهم التسمي بها (١٠).
والأعراب أهل منة، إذا فعلوا معروفًا بقوا يتحدثون عنه، ويمنون بصنعه على من قدموه له, وهم يريدون منه صنع أضعاف ما صنعوه له. وهم خشنون إذا تكلموا رفعوا أصواتهم, وقد وبهخم القرآن وأنبهم لفعلهم هذا, فجاء فيه :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ, إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (١١).
وأمر المسلمين بالتأدب بأدب الإسلام, فقال : {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير} (١٢) , وقد كانوا يجهرون له بالكلام ويرفعون أصواتهم، فوعظهم الله ونهاهم عن ذلك، يقول تعالى ذكره : "يأيها الذين صدقوا الله ورسوله, لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت 【 رسول الله ﷺ 】 تتجهمونه بالكلام, وتغلظون له في الخطاب" (١٣).
وكان من خشونتهم وأعرابيتهم أن أحدهم إذا جاء 【الرسول ﷺ】 فوجده في حجرته نادى : يا محمد, يا محمد ؟ وذكر أن وفدًا من "تميم" وفد على 【 رسول اللهﷺ】 , فوجده في حجرته، ونادى مناديه : اخرج إلينا يا محمد؟ فإن مدحنا زين وذمنا شين, أو: يا محمد! إن مدحي زين وإن شتمي شين، فأنزل 【اللهﷻ】 : {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ, وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (١٤).
وقد اتهم الأعرابي بماديته المفرطة وبطمعه الفظيع. فهو يحارب معك، ثم ينقلب عليك ويصير مع خصمك، إذا وجد أن في الجانب الثاني حلاوة، وأنه مستعد لإعطائه أكثر مما أعطيته، حاربوا مع 【 الرسول ﷺ】 ثم صاروا عليه وانتهبوا عسكره، وجاءوا إليه فعرضوا عليه الإسلام، فلما أرادوا العودة إلى بلادهم وهم مسلمون، وجدوا رعاء 【 للرسول ﷺ 】 فانتهبوه وقتلوا حماته مع علمهم بأنه له، وأن انتهاب مال المسلم حرام، فكيف بهم وهم ينتهبون مال 【 رسول اللهﷺ】 .
وقد ندد القرآن الكريم بطمعهم في الآية : {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فهؤلاء قوم من بوادي العرب، قدموا على 【النبي ﷺ 】 المدينة طمعًا في الصدقات، لا رغبة في الإسلام، فسماهم الله تعالى الأعراب.
ومثلهم الذين ذكرهم 【 الله ﷻ】 في سورة التوبة، فقال :
{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} (١٥).
وذكر عن "قتادة" قوله :
"قالت الأعراب آمنا، قل: لم تؤمنوا، ولعمري ما عمت هذه الآية الآعراب. إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء الأعراب امتنوا بإسلامهم على 【 نبي الله ﷺ 】 فقالوا : أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. فقال 【 الله ﷻ】 : لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا"(١٦). "وقال آخرون: قيل لهم ذلك؛ لأنهم منوا على 【رسول الله ﷺ 】 بإسلامهم.
فقال 【اللهﷻ】 【 لنبيه ﷺ 】 "قل لهم لم تؤمنوا ولكن استسلم خوف السباء والقتل"(١٧).
ولا يعرف الأعرابي شيئًا غير القوة ولا يخضع إلا لسلطانها، وبموجب هذه النظرة بنى أصول الحق والعدل، وما يتبعهما من حقوق, كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد، وهو فخور بنفسه متباهٍ بشجاعته، لكنه لا يصبر إذا طال القتال وجد، ولا يتحمل الوقوف طويلًا في ساحة المعركة، لا سيما إذا شعر أن القتال غير متوازن، وأن أسلحة خصمه أمضى وأقوى في القتال من أسلحته، فيولي عندئذ الإدبار، ولا يرى في هروبه هذا من المعركة شيئًا ولا عيبًا. وفي تأريخ معارك الجاهلية ولا سيما في معاركهم مع الأعاجم ومع القوات النظامية العربية أمثلة عديدة من هذا القبيل. ففي الحروب التي وقعت بين المسلمين والفرس أو الروم، خذلت بعض القبائل المسلمين، وتركتهم لما رأت جد القتال وألا فائدة مادية ستحصل عليها منه. "وقد كان انضم إلى المسلمين حين ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام, فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى، وخذلوا
المسلمين"(١٨), فروا وهربوا لأنهم وجدوا أن القتال قد طال وأنه قتال جد، ولا قبل للقبائل على القتال الطويل الشديد الجد، فاختاروا الهروب دون أن يفكروا في عقدهم الذي عقدوه مع إخوانهم في الجنس على القتال معهم والاستمرار فيه حتى النهاية، فإما نصر وإما هزيمة وموت وهلاك، ولكن طبيعة الأعراب لا تقيم وزنًا ولا تعطي أهمية للعقود في مثل هذه المواقف, إن رأت هواها في القتال قد تغير وتحول، وأن الأمن في كسب مغنم قد تضاءل، انسحبت منه بعذر قد يكون تافهًا وبغير عذر أيضًا. وقد لا تنسحب، وإنما تبدل الجبهة، بأن تذهب إلى الجانب الآخر فتحارب معه، وتقاتل عندئذ من كانت تقاتل معه؛ لأنها وجدت أن الربح من هذا الجانب مضمون، وأن ما ستناله منه من فائدة أكثر. وذلك بعد مفاوضات سرية تجري بالطبع, وهذا ما أزعج الروم والفرس وجعلهم لا يطمئنون إلى قتال العرب معهم وفي صفوفهم، فرموهم بالغدر، فكانوا إذا كلفوهم بالحرب معهم عهدوا إليهم القيام فيها بأعمال حربية ثانوية، أو الانفراد بحرب الأعراب الأعداء الذين هم من أنصار الجانب الآخر. فقد حدث مرارًا أن هرب الأعراب من ساحة القتال حين سعرت نار الحرب، وارتفع لهيبها، فأحدث هروبهم هذا ارتباكًا في جانب من كان يقاتلون معه, أدى إلى هزيمته هزيمة منكرة، لما أحدثه فرارهم هذا من فجوة في صفوف المقاتلين، وقد أشارت إلى هذه الحوادث مؤلفات الكتاب اليونان واللاتين.
وهو صارم عبوس، إذا ضحك ضحك بقدر، وكأنه يدفع بضحكته هذه ضريبة فرضت عليه. يكره الدعابة، ويرى فيها تبذلًا لا يليق صدوره من إنسان كريم، بقي هذا شأنه حتى في الإسلام فلما وصف "أبو عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري" "عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق" قال عنه: "كان امرأً صالحًا. وقد كانت فيه دعابة"(١٩) , حتى إن من العلماء من عد "الدعابة" من الشوائب التي تنقص المروءة، وتؤثر في صاحبها، وتطعن فيه، فلا تجعله أهلًا لأن يؤخذ عنه الحديث، أي جعلوه شخصًا غير موثوق به.
وقد بحث "غوستاف لبون" و"رينان" و"الأب لامانس" في عقلية الأعرابي، وما رأوه فيه من وجود "فردية" متطرفة عنده، إلى درجة تجعله يقيس كل شيء بمقياس الفائدة التي يحصل عليها من ذلك الشيء. ثم ما وجدوه فيه في الوقت نفسه من خوفه من الإمعان في القسوة، ومن الإمعان في القتل، لما يدركه من رد الفعل الذي سيحدث عند أعدائه ضده إذا تمكنوا منه، ومن نتائج الأخذ بالثأر. كما بحثوا عن ميل الأعرابي إلى المبالغة؛ المبالغة في كلامه والمبالغة في إعطائه إذا أعطى، والمبالغة في مدح نفسه، والتباهي بشجاعته وبكرمه وبشدة صبره إلى غير ذلك، مع وجود تناقض فيه بالنسبة إلى دعاويه هذه. وهو يحب المديح كثيرًا, وهو على حد قولهم إذا أعطى، صور ذلك غاية الجود، وبالغ فيه، ويظل يذكره في كل وقت ويحب أن يطرى عليه، لا سيما إذا كان من شاعر وهو صحافي ومذيع ذلك الوقت (٢٠).
وللفوارق الموجودة بين العرب والأعراب، بين الحضر وبين أهل البوادي رأى "الأزهري" وجوب التفريق بين الاثنين. إذ قال : "والذي لا يفرق بين العرب والأعراب والعربي والأعرابي، ربما تحامل على العرب، بما يتأوله في هذه الآية. وهو لا يميز بين العرب والأعراب, ولا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب؛ لأنهم استوطنوا القرى العربية، وسكنوا المدن, سواء منهم الناشئ بالبدو ثم استوطن القرى, والناشئ بمكة ثم هاجر إلى المدينة. فإن لحقت طائفة منهم بأهل البدو بعد هجرتهم واقتنوا نعمًا ورعوا مساقط الغيث بعد ما كانوا حاضرة أو مهاجره، قيل: قد تعربوا أي: صاروا أعرابًا بعد ما كانوا عربًا, وفي الحديث تمثل في خطبته مهاجر ليس بأعرابي؛ جعل المهاجر ضد الأعرابي، قال: والأعراب، ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة. وقال أيضًا: المستعربة عندي قوم من العجم دخلوا في العرب فكانوا بلسانهم وحكوا هيئاتهم وليسوا بصرحاء فيهم. وتُعربوا مثل استعربوا" (٢١).
وقد ذهب هذا المذهب "ابن خلدون", إذ رأى أن الأعراب يختلفون عن العرب؛ ولذلك فإن ما أشار إليه "ابن خلدون" من أن العرب إذا دخلوا بلدًا أسرع إليه الخراب إنما قصد به الأعراب, لا العرب الحضر.
ولكي نكون منصفين في الأحكام عادلين غير ظالمين علينا التفريق بين الأعراب وبين العرب, فما يقال عن الأعراب يجب ألا يتخذ قاعدة عامة تطبق على العرب؛ لما بين العرب والأعراب من تباين في الحياة وفي النفسية والعقل.
الحنين إلى الأوطان :
تابع الجزء الخامس 》》
=======================
(١) ابن سعد، طبقات "1/ 349 وما بعدها"، "وفد حضرموت".
(٢) تاج العروس "1/ 574 وما بعدها"، "عبب".
(٣) اللسان "1/ 586"، "صادر"، "عرب".
(٤) تاج العروس "6/ 60"، "جلف".
(٥) تاج العروس "6/ 74"، "جفا".
(٦) تاج العروس "2/ 202"، "قح".
(٧) تاج العروس "6/ 45"، "ألف".
(٨) نهاية الأرب "6/ 67".
(٩) ابن سعد، الطبقات "8/ 215".
(١٠) تفسير الطبري "26/ 9".
(١١) الحجرات, الآية 2 وما بعدها.
(١٢) لقمان, الآية 19.
(١٣) تفسير الطبري "26/ 74 وما بعدها".
(١٤) الحجرات, الآية 4 وما بعدها، تفسير الطبري "26/ 76 وما بعدها".
(١٥) اللسان "1/ 586"، "عرب".
(١٦) تفسير الطبري "26/ 90".
(١٧) تفسير الطبري "26/ 90".
(١٨) الطبري "3/ 571"، "دار المعارف".
(١٩) نسب قريش "278".
(٢٠) المشرق, عدد "2" سنة 1932 "ص101 وما بعدها".
(٢١) تاج العروس "1/ 371"، "عرب".