【تحديد لفظة العرب】
الجزء الأول :
نطلق لفظــة "العـــرب" اليـــوم على سكّان بلاد واسعة ، يكتبون ويؤلفون وينشرون ويخاطبون بالإذاعـــة والتلفزيون" بلغة واحدة ، نقول لها : لغة العرب أو لغة الضاد أو لغة القرآن الكريم.
وإن تكلمـوا وتفاهموا وتعـاملوا فيمـا بينهم وفي حياتهم اليومية أدّوا ذلك بلهجات محلية متباينة؛ ذلك لأن تلك اللهجات إذا أًرجعت رجعت إلى أصل واحــد هـــو اللسان العـــربي المذكور وإلى ألسنة قبائل عربية قديمة وإلى ألفــاظ أعجمية دخــلت تلك اللهجات بعـــوامل عديدة لا يدخل البحث في بيان أسبابها في نطاق هـــذا البحث.
ونحــن إذْ نطلق لفظـــة "عـــرب" و"العـــرب" على سكان البلاد العـربية فإنما نطلقها إطلاقًًا عامًا على البـــدو وعلى الحضر، لا نفرق بين طائفة من الطائفتين ، ولا بين بلـــد وبلـــد.
نطلقها بمعنى جنسية وقــومية وعلم على رسٍّ لـه خصائص وسمات وعـــلامات وتفكير يــربط الحاضرين بالماضين كما يربط الماضي بالحاضر
واللفظة بهـــذ المعنى وبهـذا الشكـــل مصطلح يرجـــع إلى مـا قبل الإسلام ولكنه لا يـــرتقي تأريخيًّا إلى ما قبل الميلاد، بـل لا يرتقي عن الإسلام إلى عهد جــدّ بعيد ؛ فأنت إذا رجعت إلى القـــرآن الكريم ، وإلى حديث رسول الله ﷺ ، وجـــدت للفظة مـــدلولًا يختلف عــن مدلولها في النصـــوص الجاهلية التي عُثـــر عليها حتى الآن أو في التـــوراة والإنجيـــل والتلمـود وبقيــة كتب اليهـــود والنصــارى وما بقي مــن مـــؤلفات يونانية ولاتينية تعـــود إلى ما قبل الإسلام.
فهي في هـــذه أعــراب أهل وبر ، أي طـــائفة خاصـــة مـــن العـــرب.
أمــا في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي ، وفي الشعر المعاصر للرسول ﷺ فإنها علــم على الطائفتين واسم للسان الذي نــزل بــه القـــرآن الكريم لسان أهـــل الحضر ولسان أهل الوبر على حـــد سواء.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} .
وإذا مــا سألتني عــن معنى لفظـــة "عرب" عند علماء العربية فإني أقول لك :
إن لعلماء العـــربية آراء في المعنى تجدها مسطورة في كتب اللغة وفي المعجمات ؛ ولكنها كلها مــن نـــوع البحوث المألوفة المبنية على أقــوال وآراء لا تعتمد على نصــوص جاهلية ولا على دراسات عميقة مقـــارنة وُضعت على الحدس والتخمين وبعد حيـــرة شديدة في إيجـــاد تعليل مقبول فقالوا ما قالوه مما هو مذكور في الموارد اللغوية المعـــروفة ، وفي طليعتها المعجمات وكتب الأدب وكل آرائهــم تفسير اللفظة وفي محـــاولة إيجـــاد أصلها ومعانيها ، هو إسلامي دوّن في الإسلام.
وترى علماء العربية حَيَارى في تعيين أول مــن نطــق بالعـــربية ؛ فبينما يذهبون إلى أن "يعرب" كان أول من أعرب في لسانه وتكلـــم بهذا اللسان العربي ، ثم يقولون : ولـــذلك عــرف هــذا اللسان باللسان العربي ، وتراهم يجعلون العـــربية لسان أهـــل الجنة ولسان آدم ، أي : أنهم يرجعون عهده إلى مبدأ الخليقة، وقد كانت الخليقة قبـــل خَلْـــق "يعرب" بالطبع بـــزمان طـــويل ، ثـــم تـــراهم يقولون :
أول من تكلـــم بالعـربية ونسي لسان أبيه إسماعيلُ ، أُلْهِم إسماعيل هـــذا اللسان العربي إلهامًا ، وكان أول مــن فُتِق لسانه بالعربية المبينة ، وهو ابن أربـــع عشرة سنة.
وإسماعيل هــو جدّ العرب المستعربة على حـــد قـــولهم.
والقائلون إن "يعـــرب" هـــو أول من أعرب في لسانه، وإنــه أول من نطق
بالعربية، وإن العربية إنما سميت بــه فأخــذت مــن اسمه ، إنمـا هـــم القحطانيون ، وهـــم يأتـون بمختلف الــروايات والأقـــوال لإثبـــات أن القحطانيين هـــم أصل العــرب ، وأن لسانهم هو لسان العرب الأول، ومنهم تعلّـــم العدنانيون العـــربية ، ويـأتون بشاهـــد مــن شعر "حسان بن ثابت" على إثبات ذلك ، يقـــولون :
إنــه قـــاله ، وإن قوله هذا هو برهان على أن منشأ اللغــة العـــربية هو من اليمن. يقـــولون إنـــه قـــال :
تعلمتم من منطق الشيخ يعرب ... أبينا ؛ فصرتم معربين ذوي نفـــر
وكنتم قديمًا ما بكم غيـــر عجمة ... كـــلام ، وكنتـــم كالبهائم في القفر
ولم يكن يخطر ببال هؤلاء أن سكان اليمـن قبـــل الإسلام كانـــوا ينطقون بلهجـــات تختلف عــن لهجة القـــرآن الكـــريم ، وأن مـن سيأتي سيكتشف سرّ "المسنَد" ، ويتمكن بـــذلك مـــن قـــراءة نصوصه والتعـرف على لغته وأن عـــربيته هي عــربية تختلف عن هـــذه العربية التي نــدوّن بها ، حتى ذهـــب الأمـــر بعلمــاء العـــربية في الإسلام بالطبع إلى إخراج الحميــرية واللهجات العـــربية الجنوبية الأخرى مــن العـــربية ، وقصر العـــربية على العـــربية التي نزل بها القـرآن الكريم وعلى ما تفـــرع منها من لهجات كما سأتحــدث عن ذلك فيما بعــد. وهـــو رأي يمثــل رأي العــدنانيين خصـــوم القحطانيين.
والقائلون إن يعــرب هــو جدّ العربية وموجدها، عاجزون عن التوفيق بين رأيهم هـــذا ورأيهم في أن العـــربية قديمة قـدم العالم ، وأنها لغة آدم في الجنــة ، ثـــم هــم عاجزون أيضًا عن بيان كيف كان لسان أجداد "يعـــرب" وكيف اهتدى "يعـرب" إلى استنباطه لهذه اللغة العــربية ، وكيف تمكن من إيجاده وحده لها من غير مؤازرة ولا معين ؟ إلى غيـــر ذلك مــن أسئلة لم يكـــن يفطن لها أهل الأخبار في ذلك الزمن، وللإخباريين بعد كلام في هذا الموضوع طويل، الأشهر منه القولان المذكوران ووفـق البعض بينهما بــأن قالوا : إن "يعـــرب" أول مــن نطـــق بمنطق العربية ، وإسماعيل هـــو أول من نطق بالعربية الخالصة الحجازية التي أنـــزل عليها القرآن.
أمــا المستشرقون وعلمــاء التـــوراة المحدثون ؛ فقـد تتبعوا تأريخ الكلمة وتتبعوا معناهـا في اللغات الساميـــة وبحثــوا عنهـا في الكتابات الجاهلية وفي كتابات "الآشوريين" فيــه لفظة "عـــرب" هـــو نصّ آشوري من أيـــام الملك "شلمنصر الثالث" "الثاني؟ " ملك آشور.
وقـــد تبين لهـم أن لفظة "عـــرب" لم تكــن تعني عنــد الآشوريين ما تعنيه عندنا من معنى ، بــل كانوا يقصدون بها بـــداوة وإمـــارة "مشيخة" كانـت تحكــم في الباديـة المتاخمة للحدود الآشوريــة ، كـــان حكمها يتـــوسع ويتقلص في الباديــة تبعًا للظـــروف السياسية ولقـــوة شخصية الأميـــر وكان يحكمها أمير يلقب نفسه بلقب "ملك" يقال له "جنديبو" أي "جندب" وكــانت صلاته سئية بالآشوريين.
ولما كانت الكتابة الآشورية لا تحــرك المقاطــع ، صعُب على العلمــاء ضبط الكلمــة ؛ فاختلفوا في كيفية المنطق بها ، فقــرئت : "aribi" و "arubu" و "aribu" و "arub" و "arabi" و "urbi" و "arbi" إلى غيـــر ذلك مــن قـــراءات. والظاهـر أن صيغة "urbi" كانـــت مــن الصيغ القليلة الاستعمال ويغلب على الظــن أنها استعملت في زمــن متأخـــر ، وأنهــا كـــانت بمعنى "أعـــراب" على نحـــو مـا يقصد مـن كلمي "عُـــربي" و"أعـرابي" في لهجة أهل العـــراق لهذا العهد. وهي تقابــل كلمة "عـــرب" التي هي مــن الكلمات المتأخـــرة كـــذلك على رأي بعض المستشرقين.
وعلى كل حـال فإن الآشوريين كانوا يقصدون بكلمـــة "عـــربي" على اختلاف أشكالها بـــداوة ومشيخة كانـــت تحكم في أيــامهم الباديــة تمييزًا لها عــن قبـــائل أخـــرى كانت مستقرة في تخوم البادية".
ووردت في الكتــابات البابليــة جملة "ماتواربي" "matu a-ra-bi"، "Matu arabaai" ، ومعنى "ماتو" "متو" أرض ، فيكـــون المعنى "أرض عـــربي"، أي "أرض العرب"، أو "بـلاد العـــرب" ، أو "العـــربية" ، أو "بـــلاد الأعـــراب" بتعبير أصــدق وأصح ؛ إذ قصـــد بها الباديـــة ، وكـــانت تحفل بالأعـــراب. وجـــاءت في كتـــابة "بهستون" بيستون" "behistun" لــدار الكبيـــر "داريوس" لفظــة "أرباية" "عرباية" "arabaya"، وذلك في النص الفارسي المكتـوب باللغـــة "الأخمينية"، ولفظة "arpaya"" "m ar payah" في النص المكتوب بلهجة أهـــل السوس "susian" "susiana" وهي اللهجة العيلامية لغـــة "عيـــلام".
ومـراد البابليين أو الآشوريين أو الفرس من "العربية" أو "بلاد العرب". الباديــة التي في غــرب نهر الفـــرات الممتدة إلى تخـــوم بـــلاد الشام.
وقد ذكرت "العربية" بعد آشور وبابل وقبل مصر في نصّ "دارا" المذكور. فحمل ذلك بعض العلماء على إدخال طـــور سيناء في جملـة هـــذه الأرضين.
وقــد عاشت قبائل عربية عديدة في منطقة سيناء قبــل الميـــلاد.
وبهــذا المعنى أي معنى البـــداوة والأعـــرابية والجفاف والقفر ، وردت اللفظة في العبـــرانية وفي لغــات سامية أخـــرى ، ويـــدل ذلك على أن لفظــة "عـــرب" في تلك اللغـات المتقاربة هـــو البـداوة وحياة البادية أي بمعنى "أعـــراب". وإذا راجعنا المواضـــع التي وردت فيـها كلمــة "عربي" و "عرب" في التوراة، تجدها بهذا المعنى تمامًا ؛ ففي كل المواضع التي وردت فيهـا في سفـر "أشعياء" "Isaiah" مثــلًا نـــرى أنها استعملت بمعنى بــداوة وأعــرابية ، كالذي جاء فيـــه : "ولا يخيم هنـــاك أعـــرابي". فقصد بلفظة "عرب" في هـــذه الآية الأخيـــرة البــادية مـــوطن العـــزلة والوحشة والخطر ، ولـــم يقصــد بها قومية وعلمية لمجلس معين بالمعنى المعـــروف المفهوم.
ولــم يقصد بجملة "بــلاد العرب" في الآية المذكورة والتي هي ترجمة "مسا هـ - عـــراب" "MASSA HA-arab، المعنى المفهوم من "بلاد العـــرب" في الزمـــن الحاضـر أو في صـــدر الإسلام ؛ وإنمــا المـــراد بهــا البادية ، التي بين بلاد الشام والعراق وهي مـــوطن الأعـــراب.
وبهذا المعنى أيضًا وردت في"أرميا" ففي الآيــة "وكـــل ملـــوك العـــرب" الـــواردة في الإصحاح الخامس والعشرين، تعني لفظـــة "العـــرب" الأعرابي" ، أي "عرب البادية" والمراد من "وكل ملوك العرب" و "كل رؤساء العرب" و" مشايخهم" ، رؤساء قبائل ومشايخ. لا ملوك مــدن وحكومات.
وأما الآية: "في الطرقات جلست لهم كأعرابي في البرية"، فـــإنها واضحة وهي من الآيــات الواردة في "أرميا". والمـــراد بها أعـــرابي من البادية ، لا حضري مـن أهـــل الحاضرة.
فالمفهوم إذن مـن لفظة "عـــرب" في إصحاحات "أرميا" إنما هـــو البـداوة والباديـــة والأعـــرابية ليس غيـــر.
ومما يؤيد هذا الرأي ورود "ها عرابة ha 'arabah" في العبرانية ، ويـــراد بها مــا يقال لــه : "وادي العربة" ، أي الوادي الممتد من البحر الميت أو من بحـــر الجليل إلى خليج العقبة. وتعني لفظة "عـــرابة" في العبــرانية الجفــاف وحـــافة الصحـــراء وأرض محــروفة ، أي معـــاني ذات صلة بالبــداوة والباديـــة ، وقد أقامت في هـــذا الـــوادي قبائل بـــدوية شملتها لفظة "عـــرب".
وفي تقارب لفظة "عـــرب" و "عرابة" وتقــارب معنـــاها ، دلالة على الأصل المشترك للفظتين.
ويعـــدّ وادي "العـــربة" وكذلك "طور سيناء" في بلاد العـــرب.
وقصد بــــ "العربية" برية سورية في "رسالة القـــديس بـــوليس إلى أهـل غـــلاطية".
وقد عرف علماء العـــربية هذه الصلة بين كلمة "عـرب" و"عرابة" أو "عربة" فقالوا : "إنهم سمّوا عربًا باسم بلدهم العربات ، وقال إسحاق بن الفرج : عـــربة باحــة العرب ، وباحة دار أبي الفصاحة "إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام".
وقالـــوا : "وأقـــامت قـــريش بعـربة فتنخت بها ، وانتشر سائر العرب في جزيرتها ؛ فنسبوا كلهـــم إلى عـــربة لأن أباهم إسماعيل، صلى الله عليه وسلم، نشأ وربّى أولاده فيها فكثروا. فلما لـــم تحتملهم البـــلاد ، انتشروا وأقـــامت قـــريش بها ، وقـــد هـــب بعضهم إلى أن عربة من تهامة، وهذا لا ينفي على كل حـــال وجـود الصلة بين الكلمتين.
ورواية هـــؤلاء العلماء ، مأخوذة مـن التوراة، أخذوها من أهل الكتاب، ولا سيما مــن اليهـود وذلك باتصــال المسلمين بهم ، واستفسارهم منهـــم عن أمــور عديدة وردت في التــوراة ولا سيما في الأمـــور التي وردت مجملًا في القـــرآن الكريم والأمـــور التي تخص تأريـخ العـــرب وصلاتهم بأهـــل الكتاب.
ويــرى بعض علماء التـــوراة أن كلمة "عـــرب" إنما شاعت وانتشرت عنـــد العبرانيين بعد ضعف "الإشماعيليين" "الإسماعيليين" وتدهورهــم وتغلـب الأعـــراب عليهم حتى صارت اللفظة مــرادفة عندهم لكلمة "إشماعيليين". ثــم تغلبت عليهم ؛ فصــارت تشملهم مــع أن "الإشماعيليين" كانوا أعـــرابًا كـــذلك ، أي قبائل بــدوية تتنقل مـن مكان إلى مكان، طلبًا للمرعى وللماء. وكانت تسكن أيضًا في المناطق التي سكنها الأعـــراب ، أي أهل البادية.
ويـرى أولئك العلماء أن كلمة "عــرب" لفظــة متأخــرة ، اقتبسها العبرانيون مــن الآشوريين والبابليين ، بـــدليل ورودهـــا في النصوص الآشورية والبابلية ، وهي نصوص يعود عهدها إلى مــا قبل التـــوراة. ولشيوعها بعد لفظة "إشماعيليين" ، ولأدائها المعنى ذاته المـــراد مـن اللفظة ، ربط بينهما وبيـن لفظـــة "إشماعيليين"، ولأدائها المعنى ذاته المـــراد من اللفظة ، ربط بينها وبين لفظــة "إشماعيليين" وصـــارت نسبًا ، فصُير جـــد هـــؤلاء العـــرب "إشماعيل"، وعـدوًّا من أبناء إسماعيل.
هـذا مــا يخص التوراة ، أما "التمود" فقد قصدت بلفظة "عـرب" و "عريم" "arbim" "عــربئيم" "arbi'im" الأعراب كذلك، أي المعنى نفسه الذي ورد في الأسفار القـــديمة، وجعلت لفظــة "عـــربي" مـــرادفة لكلمـة "إسماعيل" في بعض المـــواضع.
وقبـــل أن أنتقـــل مــن البحــث في مدلول لفظه "عـــرب" عند العبرانيين إلى البحث في مدلولها عنـــد اليونان أود أن أشير إلى أن العبرانيين كانــوا إذا تحدثوا عن أهل المدر، أي الحضر ذكروهم بأسمائهم.
وفي سلاسل النسب الـواردة في التوراة، أمثلة كثيرة لهذا النوع سوف أتحدث عنها.
وأول من ذكر العــرب من اليونان هو "أسكيلوس ، أسخيلوس" "أشيلس" "أخيلوس" "Aeschylus"، "525- 456 قبل الميلاد" مـــن أهل الأخبــار منهم ، ذكــرهم في كلامه على جيش "أحشويرش" "xerxes"، وقـــال :
إنه كان في جيشه ضابط عــربي من الرؤساء مشهور. ثـــم تـــلاه "هيرودوتس" شيخ المؤرخين "نحــو 484- 425 قبل الميلاد ،فتحدث في مواضيع مــن تـــأريخه عــن العـــرب حديثًا يظهر منه أنــه كان على شيء مــن العلـــم بهم.
وقد أطلق لفظة "arabae" على بلاد العـــرب ، الباديـــة وجـــزيرة العــرب والأرضين الواقعة إلى الشرق من نهر النيـــل ، فأدخــل "طـــور سيناء" وما بعـــدها إلى ضفـــاف النيل في بــلاد العـــرب.
فلفظة "العـــربية" "arabae" عنـد اليـــونان والـــرومان ، هي في معنى "بـــلاد العـــرب". وقــد شملت جزيرة العـــرب وباديـــة الشام. وسكانها هم عــرب على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم على سبيل التغليب ؛ لاعتقادهـم أن البـــداوة كانت هي الغالبة على هــذه الأرضين ؛ فأطلقوها مــن ثـــم على الأرضين المذكورة.
وتـــدل المعلومات الــواردة في كتب اليـــونان واللاتين المـــؤلفة بعـــد "هيرودوتس" على تحسن وتقدم في معارفهم عـن بلاد العـــرب ، وعلى أن حـــدودها قــد توسعت في مداركهم فشملت البادية وجزيرة العرب وطور سيناء في أغلــب الأحيان ؛ فصـارت لفظـة "arabae" عنـــدهم علمًا على الأرضين المأهــولة بالعـــرب والتي تتغلب عليها الطبيعة الصحراوية وصـــارت كلمة "عــربي" عندهم علمًا للشخص المقيم في تلك الأرضين من بــدو ومــن حضر ؛ إلا أن فكرتهم عــن حضر بلاد العــرب لم تكن ترتفع عن فكرتهم عـن البدوي ، بمعنى أنهم كانـــوا يتصوّرون أن العـــرب هـــم أعـــراب.
ووردت في جغرافية "سترابون" كلمة "أرمي" "erembi"، ومعناها اللغـــوي الدخـــول في الأرض أو السكنى في حفـــر الأرض وكهوفها وقــد أشار إلى غمــوض هــذه الكلمة ومــا يقصــد بهـا ، أيقصد بهـا أهـــل "طرغلوديته" "troglodytea" أي "سكان الكهوف" أم العـــرب؟
ولكنه ذكــر أن هناك من كان يريد بها العرب ، وأنها كانت تعني هذا المعنى عند بعضهم في الأيام المتقدمة ومن الجائـــز أن تكـــون تحـريفًا لكلمة "arabi" فأصبحت بهذا الشكل.
أمــا "الإرميون" ؛ فلـم يختلفوا عـــن "الآشوريين" و"البابليين" في مفهوم "بلاد العـــرب". أي ما يسمى بـ"بادية الشام" وبادية السماوة. وهي الباديـة الواسعة الممتدة مــن نهر الفرات إلى تخوم الشام. وقـد أطلقوا على القسم الشرقي من هـذه البادية، وهو القسم الخاضـــع لنفوذ الفــرس ، اسم "بيت عـــرباية" "beth' arb'aya" و "باعرباية" "ba'arabaya" ، ومعناها "أرض العـــرب".
وقـــد استعملت هـــذه التسمية في المؤلفات اليونانية المتأخرة. وفي هـذا الاستعمال أيضًا معنى الأعرابية والسكنى في الباديــة.
ووردت لفظة "عـــرب" في عـــدد من كتابات "الحضر". وردت مثلًا في النص الــذي وسم بـــ"79" حيث جاء في السطرين التاسع والعاشر "وبجندا دعــرب" ، أي :
"وبجنود العــرب". وفي السطر الرابع عشر: "وبحطر وعرب"، أي "وبالحضر وبالعرب". ووردت في النص: "193": "ملكادي عـــرب" ، أي "ملك العـــرب" وفي النص "194" وفي نصوص أخـــرى. وقــد وردت اللفظة في كــل هذه النصوص بمعنى "أعــراب" ، ولم تـــرد علمًا على قـــوم وجنس ، أي بالمعنى المفهوم من اللفظة في الوقت الحاضر.
هـــذا ، وليست لدينا كتـابات جاهلية مــن النـــوع الـــذي يقـــول لـــه المستشرقون "كتابات عـــربية شمالية"، فيها اسم "العرب"، غير نصّ واحـــد ، هـــو النص الذي يعـــود إلى "امرئ القيس بن عمـــرو". وقـــد ورد فيه :
"مر القيس بر عمرو، ملك العــرب كله ذو إسرالتج وملك الأسدين ونزروا وملوكهم وهرب مذحجو ... ". ولورد لفظة "العـــرب" في هــذا النص الذي يعـــود عهده إلى سنة "328 م" شأن كبير "غير أننا لا نستطيع أن نقول : إن لفظة "العرب" هنا، يراد بها العرب بدوًا وحضرًا، أي : يراد بها العلم على قومية ، بل يظهر مــن النص بوضوح وجـــلاء أنـــه قصد "الأعـــراب" ، أي القبائل التي كانت تقطن الباديــة في تلك الأيـــام.
أمـا النصوص العربية الجنوبية ؛ فقد وردت فيها لفظــة "أعـــرب" بمعنى "أعــراب" ، ولم يقصد بها قومية ، أي علـــم لهذا الجنس المعـــروف ، الـذي يشمل كل سكان بلاد العرب من بــدو ومــن حضـــر ، فــورد : "وأعرب ملك حضرموت" ، أي "وأعـــراب ملك حضرموت" ، وورد : "وأعـــرب ملك سبأ" ، أي "وأعـــراب ملك سبأ". وكالذي ورد في نصّ "أبرهــة" ، نائب ملك الحبشة على اليمـــن ؛ ففي كـل هذه المواضع ومواضع أخرى ، وردت بمعنى أعـــراب".
أما أهل المدن والمتحضرون ، فكانوا يعرفون بمدنهم أو بقبائلهم ، وكانت مستقر في الغالب. ولهذا قيل "سبأ"و "هَمْدَان" و"حِمْيَر" وقبـــائل أخـــرى بمعنى أنها قبـــائل مستقرة متحضرة تمتاز عــن القبائل المتنقلة المسماة "أعـــرب" في النصوص العـــربية الجنوبية ؛ مما يــدل على أن لفظــة "عرب" و "العرب" لــم تكـــن تـــؤدي معنى الجنس والتقومية ذلك في الكتابات العـــربية الجنوبية المــدونة والواصلة إلينا إلى قُبيل الإسلام بقليل "449 م" "542 م".
والرأي عندي أن العرب الجنوبيين لم يفهموا هذا المعنى من اللفظة إلا بعد دخولهم في الإسلام ، ووقوفهم على القـــرآن الكريم ، وتكلمهم باللغة التي نزل بها، وذلك بفضل الإسلام بالطبع. وقـــد وردت لفظــة "عـــرب" في النصوص علمًا لأشخاص.
وقـــد عـرف البدو ، أي سكان البادية بالأعـــراب في عـربية القرآن الكريم. وقــد ذكـــروا في مــواضع من كتاب الله ، وقــد نعتـــوا فيه بنعوت سيئة تدل على أثر خلق البادية فيهم. وقد ذكـــر بعض العلماء أن الأعراب بادية العـــرب ، وأنهم سكان البادية.
والنص الوحيـــد الوحيـد الذي وردت فيه لفظة "العـــرب" علمًا على العرب جميعًا من حضر وأعراب ، ونعت فيه لسانهم باللسان العربي ، هـــو القرآن الكريم. وقد ذهب "د. هـ. ملر" إلى أن القـــرآن الكـــريم هـــو الــذي خصص الكلمة وجعلها علمًا لقومية تشمل كل العـــرب. وهــو يشك في صحة ورود كلمة "عـــرب" علمًا لقومية في الشعر الجاهلي ، كالذي ورد في شعر لامرئ القيس ، وفي الأخبـــار المـــدونة في كتب الأدب على ألسنة بعض الجاهليين.
ورأي "ملر" هذا رأي ضعيف لا يستند إلى دليل ؛ إذ كيــف تعقـل مخـــاطبة القـــرآن قـومًا بهذا المعنى لو لم يكن لهم علم سابق بـه؟ وفي الآيات دلالة واضحة على أن القوم كان لهم إدراك لهذا المعنى قبل الإسلام، وأنهم كانوا ينعتون لسانهم باللسان العربي وأنهم كانـــوا يقولون للألسنة الأخرى ألسنة أعجمية : {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّاً} . {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} . {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ففي هـذه الآيات وآيات أخرى غيرها دلالة على أن الجاهلين كانوا يطلقون على لسانهم لسانًا عـــربيًا ، وفي ذلك دليـــل على وجـــود الحس بالقـومية قبيل الإسلام.
ونحـــن لا نـــزال نميز الأعـــراب عـن الحضر ، ونعتدّهم طبقة خاصة تختلف عـن الحضر ، فنطلق عليهم لفظة :"عـرب" في معنى بدو وأعراب أي بالمعنى الأصلي القديم ، ونرى أن عشيرة "الرولة" وعشائر أخرى تقسم سكان الجزيرة إلى قسمين :
حضر و "عـــرب". وتقصد بالعـــرب أصحاب الخيام أي المتنقّلين، وتقسم العرب، أي البدو إلى "عـــرب القبيلة" وهـــو "عـــرب الديرة"، وهـــم العرب المقيمون على حـــافات البـــوادي والأريـــاف ، أي في معنى "عـــرب الضاحية" و "عـــرب الضواحي" في اصطلاح القـــدامى.
ثـــم تقسم الحضر وتسميهم أيضًا بـ"أهل الطين" إلى "قارين"، والواحد "قروني"، وهم المستقرون الذين لهم أماكـــن ثابتـــة ينـــزلونها أبدًا ، وإلى "راعية" والمفــرد راع ، وهم أصحاب أغنـــام وشبه حضـــر ، ويقال لهـــم" شوّاية" وو"شيّان" و "شاوية" و "رحم الديرة" بحسب لغات القبائل.
وأشبه مصطلح مـــن المصطلحات القديمة بمصطلح "شوّاية" و "شاوية"، هو "الأرحاء"، وهي القبائل التي لا تنتجع ولا تبرح مكانها؛ إلا أن ينتجع بعضها في البرحاء وعـــام الجدب.
وخلاصة ما تقدم أن لفظة "ع ر ب"، "عـرب" هي بمعنى التبدي والأعرابية في كــل اللغات السامية ، ولـــم تكن تفهم إلا بهذا المعنى في أقدم النصوص التاريخية التي وصلت إلينا، وهي النصوص الآشورية، وقد عنت بها البدو عامة، مهما كان سيدهم أو رئيسهم.
وبهذا المعنى استعملت عند غيرهم. ولما توسعت مـدارك الأعـــاجم وزاد اتصالهم واحتكاكهم بالعرب وبجزيرة العـــرب توسعوا في استعمال اللفظة حتى صارت تشمل أكثر العـــرب على اعتبار أنهم أهل بـــادية وأن حياتهم حياة أعـــراب. ومن هنا غلبت عليهم وعلى بـــلادهم ، فصارت علَمية عنـد أولئك الأعاجم على بلاد العرب وعلى سكانها، وأطلق لذلك كتبة اللاتين واليونان على بلاد العرب لفظة "arabae" "Arabia" أي "العربية" بمعنى بلاد العرب.
لقــد أوقعنا هـذا الاستعمال في جهل بأحــوال كثير مــن الشعوب والقبائل ذكـــرت بأسمائها دون أن يشار إلى جنسها.
فحرنا في أمـــرها ، ولـــم نتمكن من إدخالها في جملة العرب؛ لأن الموارد التي تملكها اليـــوم لـــم تنص على أصلها ؛ فلم تكن من عادتها، ولم يكن في مصطلح ذلك اليوم كما قلت إطلاق لفظة "عـرب" إلا على الأعراب عامـــة ، وذلك عند جهل اسم القبيلة وكـــانت تلك القبيلة بـــادية غيـــر مستقرة، وقد رأينا أن العرب أنفسهم لـــم يكونوا يسمون أنفسهم قبل الميلاد، إلا بأسمائهم، ولولا وجودهم في جزيرة العـــرب ولولا عثورنا على كتابات أو مــوارد أشارت إليهم، لكان حالهم حـــال من ذكرنا ، أي لما تمكّنّا مـــن إدخالهم في العـــرب ، ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئًا تجــاه القبائل المذكورة، وليس لنا إلا الانتظار فلعل الزمن يبعث نصًّا يكشف عــن حقيقة بعض تلك القبائل.
هـــذا ويُلاجظ أن عـــددًا من القبائل العربية الضاربة في الشمال والساكنة في العـــراق وفي بلاد الشام ، تأثرت بلغـــة بين إرم ، فكتبت بها ، كما فعل غيرهم من الناس الساكنين في هذه الأرضين، مع أنهم لم يكونوا من بني إرم. ولهذا حسبوا على بني إرم ، مع أن أصلهم من جنس آخر. وفي ضمن هـــؤلاء قبائل عـــربية عديدة ، ضاع أصلها ؛ لأنهـــا تثقفت بثقافة بني إرم فظن لـــذلك أنها منهـــم.
الآن وقـــد انتهت مــن تحديد معنى "عـــرب" وتطورها إلى قبيل الإسلام أرى لزامًا عليّ أن أتحدث عــن ألفاظ أخــرى استعملت بمعنى "عــرب" في عهد من العهود، وعند بعض الشعوب
في الجزء الثاني من الموضوع 》..