تاريــــخ العــــرب قبــــل الاســــلام
الجزء السادس :
عمــــرو الذي هشم الثريد لقومــــه ... ورجال مكــــة مُسْنِتُونَ عجــــافُ...
ويظهر مــن وصف الإخباريين لهاشم أنـــه كان تاجـــرًا، لـــه تجارة مع بلاد الشام, وأنــه جمـــع ثـروة من تجارته هذه، حتى زعموا أنه هو أول من سن الرحلتين لقــــريش :
رحلــــة الشتاء و الصيف (١).
ويذكر أهل الأخبار أن "هاشمًا" كـــان يحث أهل مكــــة على إكرام الحجاج وإضافتهم وتقديــم كــل معونة لهــم لأنهـــم يأتـــون يعظمــون "بيت الله" ويزورونه، وهم جيران بيت الله، وقد أُكرموا بـه، وشرفوا بالبيت على سائر العــــرب، فعليهم تقديــم كــل معونـة لحجاج البيت.
وكــان يطلب منهم مساعدته بإخراج مــا يتمكنون من إخراجه من أموالهم يضعونـــه في دار الندوة, ليخدم بــه الحجاج؛ لأنـــه لا يتمكن وحـــده مـن إكرامهـــم وتقديـــم الطعام من مالــه وحــــده إليهــــم (٢).
فكان "هاشم" يخرج في كل عام مالا كثيـــرا، وكـــان قــوم من قريش أهل يسار يترافــدون، وكــان كــــل إنسان يــرسل بمائة مثقال هــرقلية، فيجمع هاشم مـــا يتجمع ويصنع بـــه طعامًا للحجاج (٣)....
︎
ولشـــح الماء في مكــــة، واضطـــرار الناس إلى جلبه مــن أماكــن بعيـــدة فعـــل "هاشم" مـا فعله "قصي" حين حفــــر بئرًا على نحو ما ذكرت، فحفر بئرًا عــرفت بـ"بـــذَّر" وهي البئر التي في حق "المقوم بن عبد المطلب" في ظهـــر دار الطلــوب مـــولاة زبيــــدة بالبطحاء في أصل المستنذر, وحفـــر بئرًا أخرى, وهي البئر التي يقـــال لها بئـــر "جبير بن معطم", ودخلــت في دار القواريــــر (٤)....
︎
فيسَّر بـــذلك لمكة الماء، وساعد على إكثــــاره عندهــــم...
وأخــذ "هاشم" عهدًا على نفسه بــأن يسقي الحجاج ويكفيهم بالماء، قُـرْبَةً إلى رب "البيت" ما دام حيًّا.
فكان إذا حضر الحج، يأمـــر بحياض من أدم، فتجعل في موضع "زمـــزم" ثــــم تملأ بالماء من الآبار التي بمكــة فيشرب منها الحــــاج.
وكـــان يطعمهم قبـــل التروية بيــوم بمكــة، وبمنى وعرفة، وكان يثرد لهم الخبــــز واللحــــم، والخبــــز والسمن والسويق والتمـــر، ويحمل لهــم الماء فيستقون بمنى، والماء يومئـــذ قليل في حياض الأدم إلى أن يصدروا مـن "منى", ثـــم تنقطع الضيافة، ويتفرق الناس إلى بــــلادهم (٥)...
︎
ومـــوضوع السقاية موضوع غـامض فبينما نجـــد أهــل الأخبــار يفسرون السقايــــة بإسقــاء المحتاجيــن مــن الحجـــاج بالمــــاء مجانــا، نجدهــــم يتحـــدثون عـــن السقايــــة على أنها إسقاء الحجاج مـــن الـــزبيب المنبوذ بالماء، وذكر أن العباس كان يليها في الجاهليــــة والإســــلام (٦)....
وتحـــدث أهـــل الأخبار عن "سقاية" عــرفت بـ"سقاية عدي"، زعمـــوا أنها كــانت بالمشعرين بين الصفا والمروة وأن "مطرودًا الخزاعي" ذكــرها حين قــــال :
ومـــا النيل يــأتي بالسفين يكفّـــه ... بأجـــود سيبًا من عــــدي بن نــــوفل
وأنبطت بين المشعرين سقايــــة ... لحجاج بيت الله أفضــــل منهــــل
وذكــر أن هذه السقاية، كانت بسقاية اللبن والعسل (٧)...
ويظهر مــن وصف الإخباريين لهاشم أنـــه كـــان تاجرًا، لـــه تجارة مع بلاد الشام، وأنـــه جمع ثـــروة من تجارته هذه، حتى زعموا أنه هو أول من سن الرحلتين لقــــريش :
رحلة الشتاء والصيف (٨), وأنـــه كان صاحب "إيــــلاف قريش"(٩)....•
وذلك أن قريشًا كانـــوا تجارًا, ولكــن تجارتهم -كما يقول أهل الأخبار- لــم تكــن تتجاوز مكـــة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثــم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها على مـن حولهم من العـرب. فكانوا كذلك حتى ركــب هاشم بن عبد مناف إلى الشام فكان يـــذبح كــل يــوم شاة, ويصنع جفنـة ثــــريد ويجمـــع مـــن حــــوله فيأكلــــون.
وكـان هاشم من أجمل الناس وأتمهم فــذكر ذلك لقيصــر، فدعا به فلما رآه وكلمه، أعجب بــه, فكــان يبعث إليه في كل يوم، فيدخـــل عليه ويحادثه فلما رأى نفسه تمكن عنده، قال لـــه :
أيها الملك, إن قومي تجار العرب فإن رأيـــت أن تكتـــب لي كتابًـــا تـــؤمن تجارتهــــم, فيقــــدموا عليـــك بـــما يستطرف مـــن أدم الحجاز وثيابــــه فتباع عندكــــم، فهو أرخص عليكـــم فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم. فأقبـــل هاشم بـــذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من العـــرب بطريقه إلى مكــة، عقد معهم عقدًا على أن تقــدم قـــريش إليهم ما يرضيهم من بضائع وهـــدايا تــؤلف بينهم وبين قـــريش فكــــان الإيــــلاف.
فلما وصل إلى مكة, كان هذا الإيلاف أعظــم مـــا جاء به هاشم إلى قريش فخـــرجوا بتجـــارة عظيمة، وخـــرج هاشم معهــــم يجوزهــــم, يوفيهـــم إيلافهم الذي أخذ من العــــرب, حتى أوردهم الشام، وأحلهم قـــراها، فكان ذلك بــــدء إيــــلاف قــــريش (١٠).
وذكر أن متجر "هاشم" كان إلى بـلاد الشام (١١), ويصل بتجارته إلى "غزة" وناحيتها، وربما توغــل نحــو الشمال حتى زعم بعض أهـل الأخبار أنه كان ربما بلغ "أنقرة" "فيدخل على قيصـر فيكرمــــه ويحبــــوه" (١٢).
ويجــب علينا ألا نتصــور دائما أن أي "قيصـــر" يـــرد ذكره في أخبار أهــل الأخبار، هو قيصر الروم حقا، بل هــو أحــــد عمالــــه في الغالـــب، وأحــــد الموظفين الروم في بلاد الشام. وربما أخذوا اسم "أنقرة" من قصــة للشاعر امـــرئ القيس، فأدخلوها في قصــــة "هاشم", فلــــم تكــــن "أنقرة" مقــرًّا للقياصرة إذ ذاك حتى يـــذهب هاشم إليها ليدخل على قيصر ويـزوره فيها بل كانت "القسطنطينية" هي عاصمة البيزنطيين...
وقد فسر "الجاحظ" "الإيـــلاف"، أنه جُعْــــلٌ فــــرضه هاشم على القبائـــل لحمايــة مكـــة مـــن الصعاليك ومــن المتطاولين، إذ قال : "وقد فسره قوم بغير ذلك. قالوا : إن هاشما جعل على رءوس القبائل ضـــرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهـــل مكــــة, فــإن ذؤبان العــــرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الطوائل، كانوا لا يؤمَنون على الحـرم لا سيما ونـــاس مـن العــــرب كانوا لا يــرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قـــدرا, مثــــل :
"طيء" و "خثعـــم" و "قضاعــــة" وبعض "بلحارث بن كعب" (١٣)...•
فيفهم من ذلك إذن أن الإيلاف، هـــو نوع من تأليف قلــوب سادات القبائل لصدهم عن التحرش بأهل مكـة ومن التعـــرض بقوافلهم، فألفهــــم هاشم وصاروا له مثل "المؤلفة قلوبهم" في الإسلام, ولا سيما وأن بين الإيـــلاف و"ألف" "ألف بينهم" و"المؤلفة" صلة وأن فيما قاله "الجاحظ" عن "هاشم" من قوله : "وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العــرب ... وجعل لهم معه ربحًــــا"(١٤)
وبين تأليف القبائل صلة تامـة، تجعل تفسير الإيــــلاف على أنــــه عهــــود ومــــواثيق مــــع سادات القبائل في مقابل إسهامهم بأموالهم وبحمايتهم لقوافل قـــريش, في مقابل ضــرائب معينة تدفع لهم، وسهام من الأربـــاح تـــؤدى لهــــم، مــــع إعطائهم رءوس أموالهم وما ربحته في الأسواق هـــو تفسير منطقي معقول, وبذلك كسبت قريش حياد هذه القبائل ودفاعها عن مصالحها....
︎
وقــــد تعــــرض "الثعالبي" لموضـوع "إيلاف قريش" فقال: إيلاف قريش: كانت قريش لا تتاجر إلا مع مــن ورد عليها من مكــــة في المواسم وبـــذي المجـاز وسوق عكــــاظ، وفي الأشهر الحــــرام لا تبـــرح دارهــا، ولا تجاوز حـــرمها؛ للتحمس في دينهم، والحب لحرمهـــم، والإلف لبيتهم، ولقيامهـــم لجميع مـــن دخل مكـــة بما يصلحهم وكانوا بوادٍ غير ذي زرع ... فكان أول من خـرج إلى الشام ووفد إلى الملوك وأبعد في السفر ومـــر بالأعداء وأخذ منهم الإيــلاف الذي ذكره الله, هاشم بن عبد مناف، وكـــانت لـــه رحلتان : رحلة في الشتاء نحــــو العباهلة مــن ملــــوك اليمن ونحــــو اليكسوم مـــن الحبشة، ورحلــــة في الصيف نحــــو الشام وبــــلاد الــــروم.
وكــــان يأخـــذ الإيــــلاف من رؤساء القبائل وسادات العشائر لخصلتين : إحداهما أن ذؤبان العـــرب وصعاليك الأعـــراب وأصحاب الغارات وطـلاب الطوائل كانـــوا لا يؤمَنون على أهــل الحـــرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى أن أناسًا من العـــرب كانــــوا لا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قــدرًا كبني طيء وخثعم وقضاعة، وسائــر العــــرب يحجون البيــت ويــــدينون بالحــــرمة لــــه.
ومعنى الإيــــلاف إنما هــو شيء كان يجعلــه هاشم لرؤساء القبائـــل مـــن الــربح، ويحمل لهم متاعًا مع متاعــه ويسوق إليهم إبـــلًا مع إبله؛ ليكفيهم مــؤنة الأسفار, ويكفي قريشًا مـــؤنة الأعـــداء، فكان ذلك صلاحًا للفريقين إذ كـــان المقيـــم رابحًـــا، والمسافــر محفوظًا, فأخصبت قــــريش، وأتاها خيــر الشام واليمن والحبشة، وحسن حالها، وطاب عيشها.
ولما مـــات هاشم قــام بذلك المطلب فلما مـــات المطلب قــــام بــــذلك عبد شمس، فلما مات عبد شمس قام بــــه نــــوفل، وكــــان أصغرهم (١٥).
وإلى هــذا الإيــــلاف, أشير في شعـر "مطــرود الخــــزاعي" بقــــوله :
يأيها الرجـــل المحول رحله ... هــــلا حللت بــــآل عبــــد منــــاف
الآخــــدين العهــــد في إيــــلافهم ... والراحلين بــــرحلة الإيــــلاف (١٦).
وعمل قــــريش هـــذا هو عمل حكيم بــــدَّل وغيَّر أسلوب تجارة مكة، بأن جعـــل لها قـوافل ضخمة تمــــر بأمن وبسلام في مختلف أنحاء الجــــزيرة جــــاءت إليها نتيجة لـــذلك بأربـــاح كبيرة، مــا كــان في إمكانها الحصول عليها، لو بقيت تتاجــر وفقا لطريقتها القــــديمة، من إرسالها قوافل صغيرة للمتاجرة مع مختلف الأسواق فكانت القافلة منها إذا سلبت، عادت بأفــدح الأضرار المادية على صاحبها أو على الأســرة التي أرسلتها، وربما أنــــزلت الإفــــلاس والفقــــر بأصحابهـا، بينما تــــوسعت القافلــة وفقًـــا للطــــريقة الجديدة بـــأن ساهم بأموالها كل من أراد المساهمة، من غني أو صعلوك أو متوسط حــــال، ومــن سادات قبائل. وبــذلك تـوسع الربــح، وعمت فائدته عددًا كبيرًا من أهل مكة، فرفع بذلك مــن مستواها الاجتماعي، كما ضمــن لقوافلها الأمن والسلامة، وصيَّر مكــة مكانــا مقصـــودا للأعــــراب.
ويــــذكر أهل الأخبار أنه كان المطلب وهاشم وعبد شمس، ولد عبد مناف من أمهم : "عاتكة بنت مرة السُّليمة"، و"نوفل" من "واقدة"، قد سادوا بعـد أبيهم عبد مناف جميعًا، وكــــان يقال لهــــم : "المجبرون"، وصار لهــم شأن وسلطان، فكانوا أول من أخذ لقريش "العِصَم"(١٧), أي "الحبال"، ويراد بها العهود. أخذ لهم هاشم حبلا من ملوك الروم وغسان، وأخــذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبــــر، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهـــم نــــوفل حبــــلا مــن الأكــاسرة فاختلفـــوا بــــذلك السبب إلى أرض العـــراق وأرض فــارس، وأخــذ لهـــم المطلب حبــــلا مــن ملــــوك حميــــر فاختلفوا بــــذلك السبب إلى اليمــــن فجُبرت بهم قريش، فسموا المجبرين (١٨), حتى ضرب بهم المثل، فقيل : أقـــرش من المجبرين. والقــــرش : الجمع والتجارة، والتقرش : التجمـــع والمجبرون هـــم الأربعــة المذكورون (١٩).
وفي روايــة أخرى أن "المطلب" هــو الــــذي عقــــد الحلف لقــــريش مـــن النجاشي في متجرها إلى أرضه، وأن هاشمًا، هو الذي عقـــد الحلف لقريش مـــن "هــرقل" لأن تختلف إلى الشام آمنــــة. ولو أخذنا بهذه الرواية وجب أن يكون هاشم قد أدرك أيام "هرقل" "610-641" "Heracleous l"، وهــو أمــر غير ممكن؛ لأن معنى ذلك أنـــه عــــاش في أيــــام الرسول ﷺ
وأدرك رسالتــه، ولا يهـــم ورود اسم "هـــــرقل" في هـــذه الرواية؛ فأهــل الأخبار لا يميزون بين ملــــوك الــروم ويـــذكرون اسم "هـــرقل"؛ لأنه حكم في أيـــام الـــرسول ﷺ وفي أيــــام الخلفاء الــــراشدين الأُوَل.
وإذا صحت الـرواية، يكـــون "آل عبد مناف" قــد احتكروا التجارة وصاروا مـــن أعظم تجار مكــــة. وقـد وزعوا التجارة فيما بينهم، وخصوا كـل بيت من بيوتهم الكبيرة بالاتجار مع مكان من أمكنة الاتجار المشهورة في ذلك العهد، وأنهــم تمكنوا بهـــذه السياسة من عقد عقــــود تجارية ومواثيق مع السلطات الأجنبية التي تاجــروا معها لنيل حظــــوة عنــــدها، ولتسهيل معاملاتها التجارية؛ فجنوا من هـــذه التجارة أرباحًــــا كبيــــرة....
فما كـــان في استطاعة "قــــريش" إرسال "عيــــرها" إلى بـــلاد الشام أو العـــراق أو اليمن أو العربية الجنوبية بغير رضاء وموافقة سادات القبائـــل التي تمــــر قــــوافل قـــريش بأرضها ورضـــاء هــــؤلاء السادات بالنسبــــة لقــــريش هـــو أهــم جـــدًّا من رضاء حكومات بــــلاد الشام أو العـــراق أو اليمن عـــن مجيء تجــــار مكـــة إلى بــــلادها للاتجـــار في أسواقها, فمــا الفائـــدة مــن مــوافقة حكومات تلك البلاد على مجيء تجــــار مكــة للبيع والشراء في أسواقها, إن لم يكن في وســـع أولئك التجار تــأمين وصـــول تجارتهــــم إليها، أو تأمين سلامة مــا يشرونه مـــن أسواقها لإيصالــــه إلى مكـــة أو إلى الأسواق الأخرى؟!. لهذا كــان من أهــم ما فعله تجار مكة في هــــذا الباب، هــــو عقدهم "حبــــالًا" و"عصمًا" وعهودًا مــع رؤساء القبائل لترضيتهم بدفع جعالات معينة لهــــم أو تقديـــم هـــدايا وألطاف مناسبــة مغرية لهـــم، أو اشتراكهم معهــم في تجارتهم, يقــــول الجاحظ في بـــاب "فضل هاشم على عبد شمس":
"وشرك في تجارتـــه رؤساء القبائـــل مــــن العــــرب.....
وجُعــــل لهــــم معــــه ربــــح"(٢٠).
وبهــذه العقــود المتنوعة سيطر تجار قــريش على الأعراب، وحافظوا على أموالهم، وحَدُّوا من شره فقـراء أبناء الباديــــة إلى الغنائــــم, وصــــار في إمكانهم الخروج بكل حرية من مكــة ومـن الأسواق القريبة منها بتجارتهم نحــــو الأماكــــن المذكورة بكل أمــن وسلام...
ولما كان البحث في هذا الموضع، هـو في تأريخ مكــــة بصورة عامـة؛ لذلك فسأترك الكــــلام عن "الإيـــلاف" إلى الموضــع المناسب الخاص بــــه، وهو التجـــارة والاتجـــار، وعندئذ سأتكلم عنــــه بما يتمم هــــذا الكــــلام العام.
ويذكــــر أهــل الأخبار أن عبد شمس وهاشمًا تـــوءمان، وقــد وقــع بينهما تحاسد، وانتقل هذا التحاسد إلى ولد الأخــــوين، حتى في الإســــلام.
وذكــــروا أن "أميـــة بن عبد شمس" حسد عمه هاشمًا، وكــان أمية ذا مال فـــدعا عمه إلى المنافرة, فرضي عمه بـــذلك مكـــرهًا، على أن يتحاكما إلى الكاهن "الخـزاعي"، فنفَّر هاشمًا عليه فأخذ هاشم الإبل التي نافر عليها من أميـــة، فنحرها وأطعمها من حضــره وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، بحسب حُكـــم الكاهن، وكــان هاشم قــد نافر على الجــلاء عن مكة عشر سنين.
فكانت هـــذه أول عـداوة وقعت بين "هاشــــم" و "أميــــة" (٢١).....•
ويذكر أهــــل الأخبار أن أمية بن عبد شمس كــان من جملة من ذهـــب من رجال مكــــة إلى "سيف بن ذي يزن" لتهنئته بانتصــار اليمــن على الحبش وطردهــم لهـــم، وقــد دخل عليه مع وفد مكــة في "قصر غمدان", وكــان مثل أبيه عبـــد شمس حامـــل لـــواء قــــريش، أي : إنـــه كــان يحملها في الحــــرب (٢٢)...
وكـــان هاشم أول من مات من ولـــد عبد مناف، مات بغـزة فعرفت بـ"غزة هاشم"، وكــان قد وفــد بتجارة إليها فمات بها، ومــات عبد شمس بمكــــة فقبر بأجياد، ثم مــــات نوفل بسلمان من طريق العــراق، ثــم مات المطلب بــردمان من أرض اليمــــن (٢٣)...
ويتبين مـــن ذلك أن جميــع هــــؤلاء الإخوة، ما خلا عبدَ شمس, ماتوا في أرض غـــريبة، ماتــــوا تجارًا في تلك الــــديار.
وورد في روايــــة أخــــرى، أن هاشمًا خــــرج هــــو وعبد شمس إلى الشام فماتا جميعًا بغــــزة في عـــام واحــد وبقي مالهما إلى أن جــــاء الإسلام (٢٤).
وأجياد : جبل مكة على رأي، وموضع مـــرتفع في الــذرا غربيّ "الصفا" كما ورد ذلك في شعر للأعشى؛ ذكــــر أن "مضاضًا" ضــرب في ذلك الموضــــع أجياد مائة رجل من العمالقة، فسمي الموضع بــــذلك "أجيــــاد" (٢٥).
ويذكــــر الإخباريون :
أن هاشمًا كـــان قـــد خـــرج في عير لقريش فيها تجارات، وكــان طريقهم على المدينة، فنـــزلوا بـ"سوق النبط" فصادفـــوا سوقًا مقامــــة، فباعــــوا واشتروا، ونظــــروا إلى امــــرأة على موضـــع مشرف مــن السوق تأمر بما يشترى ويباع لها, وهي حازمة جلدة مع جمال، فسأل هاشــــم عنها : أَأَيِّم هي، أم ذات زوج؟ فقيل لــه : أيــــم، كــانت لا تنكـــح الرجــال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمــــرها بيــــدها : فإذا كرهت رجــلًا، فارقته، وهي "سلمى بنت عمــرو بن زيــد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنيم بن عــــدي بن النجار"، وهو "تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج"، فخطبها، فـــزوجته نفسها ودخــــل بها، وصنع طعامًا، دعا إليه من كان معه من أهل مكـــة، ودعا من الخزرج رجالا، وأقام بأصحابه أيامًا، وعلقت "سلمى" بعبد المطلب (٢٦).
وكــــانت "سلمى"، قـــد تزوجت مــن "أُحَيْحَة بن الجُـــلَّاح بن الحريش بن جَحْجَبَا الأوسي"، وهــــو مـــن المعروفين في قــــومه كــذلك (٢٧).
ويذكر أهل الأخبار، أن عمر هاشم لما تـــوفي، كان عشرين سنة، ويقــــال : خمسًا وعشرين (٢٨). وهــو عمــــر قصيـــر إذا قِيسَ بما يذكــــره أهــــل الأخبار ويوردونه عنــــه مــن اتجـــار وأعمال, أعمال لا تتناسب مــــع تلك السن.
ومـــن سادات مكــة في هـــذه الأيام "قيس بن عـــدي بن سهم" مـــن بني هصيص بن كعب، قد تكاثروا بمكــــة حتى كادوا يعدلون بعبد مناف. وهو الذي منع "عدي بن كعب" و"زهرة بن كلاب" من "بني عبد مناف"، ومنــــع "بني عـــدي" أيضا من "بني جمح". وكــــان "عبد المطلب بن هاشم" ينفر ابنــــه "عبد المطلب" وهــــو صغيـــر ويقــــول :
كأنــــه في العز قيس بن عديّ ... في دار قيس ينتدى أهــــل النــــدى (٢٩)
تابــــع الجــــزء السابع 》》
======================
(١) الطبري "2/ 252" "دار المعارف بمصر".
وهو الذي سن الرحيل لقومه ... رحل الشتاء ورحلة الأصياف
البلاذري، أنساب "1/ 58", ابن سعد، طبقات "1/ 75".
(٢) النويري، نهاية الأرب "16/ 34".
(٣) ابن سعد، الطبقات "1/ 78".
(٤) ابن سعد، الطبقات "1/ 75", الأزرقي، أخبار مكة "1/ 67", تاج العروس "3/ 36", "بذر".
(٥) ابن سعد، الطبقات "1/ 78" النويري، نهاية الأرب "16/ 35".
(٦) تاج العروس "10/ 181", "سقى".
(٧) نسب قريش "197".
(٨) الطبري "2/ 252", "دار المعارف بمصر".
وهو الذي سن الرحيل لقومه ... رحل الشتاء ورحلة الأصياف
البلاذري، أنساب "1/ 58", ابن سعد، الطبقات "1/ 75", تفسير القرطبي "20/ 205", "سورة قريش".
(٩) نهاية الأرب "16/ 33".
(١٠) القالي، ذيل الأمالي والنوادر "ص199", الثعالبي, ثمار القلوب "1/ 8 وما بعدها",
Caetani, Annali, i, 109, "90", M.J. Kister, P. 116.
(١١) المحبر "162".
(١٢) ابن سعد، الطبقات "1/ 75 وما بعدها", نهاية الأرب "16/ 33", البلاذري, أنساب "1/ 58".
(١٣) رسائل الجاحظ "70"، "السندوبي" Kister, p. 143.
(١٤) رسائل "70", "السندوبي" "70", الثعالبي، ثمار القلوب "115 وما بعدها".
(١٥) الثعالبي، ثمار القلوب "115 وما بعدها".
(١٦) الثعالبي، ثمار القلوب "116".
(١٧) العِصَم، بكسر ففتح.
(١٨) الطبري "2/ 252"، اليعقوبي "1/ 200", ذيل الأمالي "ص199", أمالي المرتضى "2/ 268".
(١٩) مجمع الأمثال "2/ 72", البلاذري، أنساب "1/ 59".
(٢٠) الجاحظ، رسائل "70", "السندوبي".
(٢١) الطبري "2/ 252 وما بعدها"، ابن الأثير، الكامل "2/ 9", "الطباعة المنيرية"، ابن سعد، طبقات "1/ 76", نهاية الأرب "16/ 34"، أنساب العيون "1/ 40", سيرة ابن دحلان "1/ 15 وما بعدها".
(٢٢) الاشتقاق "ص103"، دائرة المعارف الإسلامية "1/ 324".
(٢٣) الطبري "2/ 254", ابن الأثير "2/ 7", شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد "1/ 83", ذيل الأمالي "ص199", البلاذري, أنساب "1/ 63"، ابن سعد، طبقات "1/ 79".
(٢٤) نهاية الأرب "16/ 37"، الكامل لابن الأثير "2/ 4 وما بعدها"، الطبري "2/ 176".
(٢٥) تاج العروس "2/ 330"، "الجيد".
(٢٦) ابن سعد، الطبقات "1/ 76"، ابن هشام، السيرة "1/ 144"، نهاية الأرب "16/ 36 وما بعدها"، المحبر "ص398"، الطبري "2/ 246 وما بعدها"، "دار المعارف".
(٢٧) المحبر "ص456"، البلاذري، أنساب "1/ 64".
(٢٨) البلاذري، أنساب "1/ 63".
(٢٩) نسب قريش "400".