تاريــــخ العــــرب قبــــل الاســــلام
【 المجتمع العربي 】
《الهجــن》
وتزوج العــــرب من الإمـاء, وذلك أن من الإمــــاء من كانت جميلة الصورة حلـوة المنظر والكلام ؛ ولهذا تــــزوج ساداتهن منهن ، فوُلد لهم نسل ، قيل للــــواحد منه : الهجين.
والهجين : ولــــد العــــربي من غيــــر العربية وقيل له ذلك؛ لأن الغالب على ألــــوان العــــرب الأدمة (١).
ويقال للــــزواج الذي يقــع بين عربي وأعجميـة : "مهاجنة", وقــد عــــابته العــــرب وعـدت الهجين دون العربي الصــــريح ، لوجــود دم أعجمي فيه. والأعــــاجم هم ، مهما كانوا عليه من منــــزلة ، دون العرب في نظر العرب (٢).
ويظهر من تعريف علماء اللغة للفظة "الهجين"، أنها خصصت بمن يــــولد
《الجوار》
وللجـوار حرمة كبيرة عند الجاهليين. فــإذا استجار شخص بشخص آخــــر وقبــل ذلك الشخص أن يجعله جــارًا ومستجيرًا بــه وجبت عليه حمــايته وحق على المجار الدفــاع عن مجيره والذب عنه وإلا عد ناقضًا للعهد ناكثًا للــــوعد ، مخالفًا...
《العصبية》
وأساس النظـام القبلي هــــو العصبية العصبيـــة للأهــــل والعشيــرة وسائر متفرعات الشعب أو الجـذم أو القبيلة أو العشيرة.
ومــن شروطها أن يدعـــو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على مـن يناوئهم ، ظالمين كانــوا أو مظلومين وليس له أن يتساءل : أهــــو ظالم أم مظلــــوم؟ (٣).
وهي ضــــرورية للقبــــائل ؛ لأنهــــا لا تستطيع أن تــــدافع عن نفسها إلا إذا كـــانت ذات عصبيــة ونسب ، وبذلك تشتـد شوكتها ، ويخشى جانبها ، كما أنــه لا يمكن وقوع العدوان على أحد مــــع وجود العصبية.
وتقــــوم العصبية على النسب ، وهي تختلف لذلك باختلاف درجات تقارب الأنساب ، ولــــذلك نجـــد عصبيـــات مختلفة (٤).
وتشمل العصبية الصـــرحاء والموالي والجيــــران.
وتشمل العصبية أهــل المــــدر كـذلك فـــأهل المدر وإن تحضروا واستقروا وأقامــــوا في بيـــوت ثـــابتة ، إلا أن نظــامهم الاجتمــاعي والسياسي بني على العصبية أيضًا ، فتألفت المــــدن والقــــرى مــن "شعــاب" , وتكـــونت الشعاب من جماعات بينها روابط دم ووشائج قــــرابة.
والشِّعْب هــو وحــدة وهو الذي يأخذ بحق المظلوم من الظــــالم ، وبظلامة من تقع عليه ظلامة. وغالبًا ما تكــون بين الشعاب المتجاورة قرابة وصلة رحم، وإذا حدث حادث لهذه الشعاب، هبت للنظر فيه واتخاذ ما ينبغي اتخاذه من موقف، ثم تكون عصبية الشعاب للمدينة أو للقرية, ثم إن سكان هذه المدن وإن تحضروا واستقروا كانوا يُرجعون أنفسهم كأهل الوبر إلى قبائل وعشائر. فهم إذن أعراب من حيث التعصب والأخذ بالعصبية، واختلافهم عن الأعراب هو في استقرارهم وفي عيشهم في محيط ضيق محدود وفي خطط مثبتة مرسومة.
وفي المعنى المتقدم عن العصبية، ورد قول الشاعر:
إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم ... على القوم، لم أنصر أخي حين يُظلَم
فالعصبية: أن يدعو الرجل عصبته إلى نصرته, وهي: "النصرة على ذوي القربى وأهل الأرحام، أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة" (٥).
وفي هذا المعنى أيضًا ورد قول الشاعر، قريط بن أنيف، حيث يقول :
قوم إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زُرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا (٦)
فهو يهبُّ إذا سمع نداء العصبية حاملًا سيفه أو رمحه أو أي سلاح يملكه وبغير سلاح، لينصر أخاه، لا يسأله: لِمَ؟ فليس من العصبية والأخوة القبلية أن تسأل أخاك عما وقع له، بل عليك تلبية ندائه وتقديم العون له، معتديًا كان أو معتدًى عليه.
وللعصبية صلة كبيرة بالمسئولية وبالعقوبات, فعلى درجة العصبية تقع المسئولية. فأقرب الناس إلى الجاني، يكون أول من يتناوله الأخذ بالثأر، ثم الأبعد فالأبعد. ومن هنا كان الطالبون للثأر يبدءون بالجاني أولًا، فإن فاتهم أخذوا أقرب الناس رحمًا به, فإن فاتهم أخذوا الذي يليه أو من هو في درجته وهكذا.
وكلما بعدت العصبية عن دم الأبوين، خفت حدتها، وطبيعي ألا تكون العصبية إلى القبيلة مثل العصبية إلى الأهل في الشدة؛ ولهذا فإن العصبية ترتبط بدرجة الدم والتحام النسب ارتباطًا طرديًّا. وهذا شيء طبيعي، وهو حاصل هذه الحياة.
ولا تمنع العصبية بطون القبيلة من مخاصمة بعضها بعضًا ومن التقاتل فيما بينها؛ بسبب تغلب المصالح الشخصية على عاطفة "العصبية". ومتى اصطدمت المصالح بالعواطف، تغلبت المصلحة عليها. فالمصلحة حاجة وواقع عملي، والعصبية شعور, والحاجة أقوى منها؛ ولهذا نجد المصلحة تدفع بطون القبيلة المتخاصمة على الاستعانة ببطون غربية عنها، أو بقبائل بعيدة عنها في النسب لمقارعتها أخواتها وللتغلب عليها، مدفوعة إلى ذلك بدافع المصلحة وغريزة المحافظة على الحياة. فتقاتلت بطون من طيء وتحاربت فيما بينها، وتقاتلت قبائل بكر ووائل مع وجود النسب والدم، وتقاتل بنو جعفر والضباب (٧). تقاتلت لظهور مصالح تغلبت على العصبية وعلى الشعور بالأخوة. ومتى ظهرت المصالح المادية عجزت عاطفة النسب والعصبية عن التغلب عليها.
وجرثومة العصبية، العصبية للدم، وأقرب دم إلى إنسان هو دم أسرته، وعلى رأسها الأبوان والإخوة والأخوات ثم الأبعد فالأبعد, حتى تصل إلى العصبية للقبيلة. ولهذا تكون شدة العصبية وقوتها تابعة لدرجة قرب الدم والنسب وبعدهما, فإذا ما حل حادث بإنسان، فعلى أقرب الناس دمًا إليه أن يهب لإسعافه والأخذ بالثأر ممن ألحق الأذى بقريبه؛ ولهذا صارت درجات العصبية متفاوتة بحسب تفاوت الدم ومنازل النسب.
وآخر مرحلة من مراحل العصبية، العصبية للقبيلة، والعصبية للحلف، أو العصبية للنسب الأكبر، وذلك في حالة تكتل القبائل وتخاصمها كتلًا. وتكون العصبية للقبيلة أقوى من العصبية للحلف أو النسب الأكبر مثل معد أو نزار أو حمير أو ما شاكل ذلك؛ وذلك لشعور أبناء القبيلة بأن الرابطة التي تربطهم هي رابطة الدم، والدم أبرز وأظهر في القبيلة من رابطة الحلف أو رابطة النسب الأكبر, ولا سيما رابطة الحلف، فإنها رابطة مصلحة في الغالب لا رابطة دم، والشعور بروابط المصالح لا يكون مثل الشعور بروابط الدم.
وتدفع العصبية للحلف، قبائل الحلف على التناصر والتآزر والتكتل والوفاء بالعهد، وإلا لم تكن للمتحالفين فائدة ما من الحلف، وعلى أفراد الحلف أن ينصر بعضهم بعضًا، وعلى قبائل الحلف أن يتآزروا في دفع الديات أيضًا, وبالمطالبة بديات من يُقتل من قبائل الحلف، إذا عجز أهل القتيل أو قبيلة القاتل عن الأخذ بحقه.
وتشمل العصبية كل منتمٍ إلى القبيلة، تشمل أحرارها، أي: أبناءها الخلص الصرحاء، وتشمل الموالي أي: الرقيق وكل مملوك تابع لحر، كما تشمل أهل الولاء والجوار. فالعصبية لا تعرف تفريقًا في هذه الناحية، فعلى كل من ينتمي إلى قبيلة ويحمل اسمها أن يتعصب لقبيلته ويذود عنها، وإن كان عبدًا مملوكًا، ذلك قانون وأمر محتوم، لا جدال فيه ولا نقاش، من حيث وجود حقوق أو عدم وجودها، ومن حيث إن أصل هذا حر وأصل هذا عبد؛ لأن ما يصيب الحر يصيب المولى والجار، وما يصيب المولى والجار يؤثر على الحر؛ لأنه مسئول عن مولاه وعن جاره بحكم التملك والجوار، وعلى الرقيق والجار تبعة الدفاع عن الصريح وعن القبيلة التي ينتمي إليها الصريح.
وتلزم العصبية أبناء القبيلة بوجوب تحمل التبعة والقيام بواجبها وتلبية ندائها وإجابة الصارخ بالعصبية، ليس له أن يسأل عن السبب، ولا أن يعتذر عن تلبية النداء، وإنما عليه أن يعمل بقول الشاعر :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا (٨)
وإذا قتل قتيل لزم الأخذ بثأره، وإذا كان القتيل سيد قبيلة وجب على القبيلة الأخذ بثأر سيدها، وهيهات أن تسكت عن قتله، وعلى كل فرد من أفراد تلك القبيلة واجب الأخذ بثأره ممن قتله.
ويفرض قانون العصبية على القبيلة تحمل التبعة، إذ جعلها تبعة جماعية. فإذا جنى رجل جناية قتل، تكون قبيلته مسئولة عن جنايته، وعليها تقع تبعة قتل القاتل إذا تعذر الأخذ بالثأر منه أو تعذر تسليم القبيلة له, كما يقع على القبيلة دفع الدية إذا عجز القاتل أو آله عن دفعها، وذلك لتوزيعها على المتمكنين من أفرادها، أو بقيام ساداتها أو سيدها بدفعها كاملة أو بدفع ما تبقى منها.
ومن هنا خضعت فردية الأعرابي المتطرفة لقانون الجماعة، أي : لسلطان العصبية فصار واجبًا عليه أن يضع نفسه تحت إمرة القبيلة, وذلك بتلبية ندائها حين يبلغه ذلك النداء، وتقديم نفسه طائعًا مختارًا لإمرة القبيلة ليدافع عنها أو ليشترك معها في الغزو، ليس له أن يفر أو يعتزل أو يتلكأ، فهذا واجب مفروض عليه، إذا خالفه خالف جماعته وخسر حمايتها له، وصار مسبوبًا من الناس.
الحَمِيَّة:
ومن مظاهر العصبية: "الحميَّة", وهي الأنفة والغيرة والغضب، وذلك أن الشخص كان يأنف من عمل قبيح، وتأخذه حميته من أن يفعل شيئًا يعاب ويعار عليه (٩). وهو يغضب وتأخذه حميته من أن يترك سنة آبائه وأجداده, وقد نهى الإسلام عن الحمية, واعتبرها من أخلاق أهل الجاهلية والكفر.
ونزل الوحي يندد بها {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} (١٠) , وذلك حين جعل "سهيل بن عمرو" في قلبه الحمية فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين الرسول والمشركين: بسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب فيه: محمد رسول الله, وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله مكة عامه ذلك (١١), فوضع الإسلام "السكينة" في موضع حمية الجاهلية.
و"النعرة"، وهي الصياح ومناداة القوم بشعارهم طلبًا للغوث والاستعانة، أو لإهاجتهم ولتجمعهم في الحرب. ومن هنا ورد في الحديث: "ما كانت فتنة إلا نعر فيها فلان", أي: نهض فيها. وفي حديث الحسن: كلما نعر بهم ناعر اتبعوه، أي: ناهض يدعوهم إلى الفتنة ويصيح بهم إليها (١٢).
ولما كان العرب أصحاب حس مرهف، وعاطفة ذات حساسية شديدة؛ لذلك لعبت النعرات فيهم دورًا خطيرًا في إثارة الفتن بينهم، وكانت سببًا لحدوث حوادث مؤسفة عند الحضر وعند الأعراب.
وإذا أصيب شخص بضيم، أو نزلت به إهانة أو نازلة، نادى قومه بشعائر العصبية، وعلى قومه تلبيته ونصرته. وقد ينادي الإنسان شخصًا طالبًا منه العون والنصرة، فتلزمه مساعدته كأن ينادي: "يا لَفلان"، وهو شعار يستعمل عند التحزب والتعصب، ينادي به بصوت عالٍ مسموع، عند بيت المنادى أو في موضع عام أو في مكان مرتفع؛ ليصل الصوت إلى أبعد مكان (١٣).
《الإسلام والعصبية》
وقد تركت "العصبية" أثرا مهما في الحياة السياسية والاجتماعية عند العرب قبل الإسلام. وقد كانت إذ ذاك ضرورة من الضرورات اللازمة بالنسبة إلى الحياة في الجاهلية؛ لأنها الحائل الذي يحول بين الفرد وبين الاعتداء عليه، والرادع الذي يمنع الصعاليك والخلعاء والمستهترين بالسنن من التطاول على حقوق الناس، إذ لا حكومة قوية رادعة ولا هيئة حاكمة في استطاعتها الهيمنة على البوادي وعلى الأعراب المتنقلين. بل هنالك قبائل متناحرة وإمارات متنافرة، إذا ارتكب إنسان جريمة في أرضها، وفر إلى رض أخرى، نجا بنفسه وأمن على حياته هناك, ولكنه كان يخشى من شيء واحد، لم يكن لأحد فيه عليه سلطان، وهو "العصبية" وسنة "الأخذ بالثأر"، وهي العصبية في ثوبها العملي. كان يخشى من سلطان الأخذ بالثأر، حيث يتعقبه أهل الثأر، فلا يتركون الجاني يهنأ بالحياة ولو بعد مضي عشرات من السنين، حتى يُقتل أو يقتل أقرب الناس إليه. وبذلك صارت العصبية ضرورة من ضرورات الحياة، بالنسبة لسكان جزيرة العرب؛ لحمايتهم وصيانتهم من عبث العابثين.
《من أعراف العرب》
وللأعراب بصورة خاصة أعراف أوجبت الطبيعة عليهم إطاعتها والعمل بها؛ لأن في تنفيذها مصلحة الجميع، وفي الخروج عليها ضررًا بالغًا. من ذلك وجوب الأخذ بالثأر، والبحث عن القاتل لقتله مهما طال من الزمن؛ لأن "الدم لا يغسل إلا بالدم". وقد أملت طبيعة المحيط الذي يعيش فيه العرب عليهم هذا العرف, فليس في البادية من يحول بين قتل الناس بعضهم بعضًا إلا الأخذ بالثأر، وقيام أهل القتيل والعصبية بالأخذ بدمه. ولولا الخوف من الأخذ بالثأر لَعَمَّ القتل الحياة, فالحياة في البوادي وفي أكثر أنحاء جزيرة العرب شدة ومحنة وفقر وقسوة, وليس في البادية أي خير كان مما يستمتع به أهل الحواضر، ولا سيما تلك التي امتازت بوفرة الماء فيها وبحسن جوها واعتداله. لذلك صارت حياة الأعراب ضنكًا في العيش وفقرًا مُرًّا، وصار كل شيء تقع عليه عين الأعرابي ذا قيمة وفائدة عنده مهما كان تافهًا، فيريد الاستيلاء عليه وسلبه من صاحبه؛ لأنه محتاج إليه وفقير، ويرى أن من حقه أن يستولي على كل ما يراه عند من هو أضعف منه، وإن أدى ذلك إلى إزهاق حياته. ولكن الطبيعة التي علمت الأعرابي هذا المنطق ودرَّسته هذا الدرس, درَّسته في الوقت نفسه أن الاستهتار بالسلب والنهب والقتل يؤذيه ويهلكه، وأنه لا بد له من الحد من غلوائه ومن اعتدائه على غيره, ووضعت له حدودا وقيودا من طبيعة هذه الحياة التي يحياها. منها عرف "العصبية"، والأخذ بالثأر, وغير ذلك من أعراف أملتها الطبيعة على سكان هذه البوادي، وصارت سننًا متبعة بعضها يتعلق بالأعراف التي تخص داخل القبيلة، وبعضها يتعلق بالأعراف التي تتعلق بالقبائل المتحالفة, ومنها ما يتعلق بالأعراف التي تكون بين القبائل المتعادية.
والقاعدة عند العرب: أن الدم -كما سبق أن قلت- لا يغسل إلا بالدم، وأن تعويض الدم بمال يرضى عنه "آل" القتيل، منقصة وذلة لا يقبل بها إلا ضعاف النفوس. أما أهل البيوت والحمولة، فلا يقبلون إلا بالقِصاص وبأخذ الثأر, وبقتل رجل كفء يكافئ المقتول في المنزلة والدرجة والمكانة، فإذا كان القتيل سيد قبيلة والقاتل من عامة الناس أو من عبيدهم، أبوا الاكتفاء بقتله به اقتصاصًا منه، إذ إنه دون القتيل في المنزلة والشرف والمكانة، بل لا بد عندهم من قتل سيد من سادات القبيلة التي يكون منها القاتل، على أن يكون مكافئًا للقتيل حتى يغسل الدم, وإن كان ذلك السيد بعيدًا عن القاتل ولا صلة له به, فالسيد سيد ولا يغسل دمه إلا بدم سيد مثله. ولعل الطبيعة وضعت لهم هذه السنة لتأديب سادات القبيلة, أو غيرهم ممن قد يحرضون العبيد أو غيرهم من السوقة على قتل خصومهم وأعدائهم, فإذا عرفوا أن أهل القتيل سينتقمون منهم بقتلهم، حاربوا سَفَكَة الدماء من أتباعهم ولاحقوهم, وبذلك ينظفون المجتمع منهم، ويخلصون الناس من سفاكي الدماء.
والأصل في القتل: القِصَاص وقتل القاتل بدل القتيل, فيطالب أهل المقتول بالقَوَد وهو قتل النفس بالنفس, وقد ورد ذكره في الحديث، إذ جاء: "من قتل عمدًا، فهو قود"(١٤). وإذا لم يتم القود، أو لم يحدث التراضي على الدية، أو إذا فر القاتل، فلا بد من الأخذ بالثأر, ولا يستقر لأهل القتيل قرار إلا بعد الأخذ بثأر القتيل. وقد يتركون الخمر والطيبات ولا يقربون النساء طيلة طلبهم للثأر. وقد يلبسون ألبسة الحزن ويجزُّون شعورهم، ولا يأكلون لحمًا، ولا يميلون إلى ضحك ولا سماع دعابة ولا إلى الاستراحة، حتى ينالوا منالهم من الأخذ بثأر القتيل, كالذي روي في قصة طلب امرئ القيس الكندي ثأر أبيه من بني أسد, وقد آلى على نفسه ألا يمس رأسه غسل ولا يشرب خمرًا حتى يثأر بأبيه. فلما ظفر ببني أسد قتلته وأدرك ثأره حل له ما حرم على نفسه (١٥).
وكالذي روي في قصة طلب قيس بن الخطيم ثأر أبيه (١٦), أو عن "يوم الأقطانيين"، إذ أقسموا ألا يغسلوا أجسامهم حتى يأخذوا بثأرهم (١٧).
وقد يستغرق طلب الأخذ بالثأر عشرات السنين، لا يكلّ خلال هذه المدة أصحاب القتيل عن إدراك الثأر. وينظر إلى الذين يتوانون عن إدراك الثأر نظرة ازدراء واحتقار، وقد يلحق بهم وبنسلهم العار من هذا الإهمال، وقد يلحق ذلك العشيرة أو القبيلة برمتها ويكون لها سُبَّة, إذا كان القتيل من أشرافها أو من سادتها.
لهذا لا يتهاون أهل القتيل عن تتبع آثار القاتل أو أقربائه أو أفراد قبيلته التي ينتمي إليها لغسل هذا العار، فإن الدم لا يغسل إلا بالدم. ومتى أدرك أهل الثأر ثأرهم, ووجدوا المقتول كفؤًا لدم القتيل ورضوا عن ذلك، قالوا لهذا النوع من الثأر: "الثأر المنيم"(١٨). وقد عرفه بعضهم: أنه الذي إذا أصابه الطالب رضي به فنام بعده, وقيل: هو الذي يكون كفؤًا لدم وليك. ويقال: أدرك فلان ثأرًا منيّمًا، إذا قتل نبيلًا فيه وفاءٌ لطلبته، وكذلك: أصاب الثأر المنيم. قال أبو جندب الهذلي:
دعوا مولى نفاثة ثم قالوا: ... لعلك لست بالثأر المنيم
أي: لست بالذي ينيم صاحبه، أي: إن قتلتك لم أنم حتى أقتل غيرك، أي: لست بالكفؤ فأنام بعد قتلك (١٩).
ومتى أخذ بثأر القتيل بكته النساء؛ لأن من عادة نساء الجاهليين ألا يبكين المقتول إلا أن يدرَك بثأره، وإذا أدرك بثأره بكينه (٢٠).
ويشبه الثأر أن يكون عقيدة من العقائد الدينية عند العرب؛ لما يكتنفه أحيانًا من "حلف" و"قسم" بوجوب الأخذ بالثأر, ولما تحوط به من شعائر يحافظ عليها من أخذ على نفسه القسم بوجوب الأخذ بالثأر. وهي من شعائر الدين عند الجاهليين، ولا يتركها حتى يبرَّ بقسمه (٢١).
وإذا عجز الإنسان عن أخذ ثأره بنفسه, استغاث بغيره لينجده على ثأره. وعلى من قبل نداء الاستغاثة ووافق على النجدة، مساعدة المستغيث في الأخذ بالثأر, وعدم تركه حتى يأخذ بثأره من طلبته.
وقد لعب الأخذ بالثأر دورًا خطيرًا في الإسلام كذلك, ولا سيما في الأحداث السياسية. فلما قُتِلَ "عثمان" ارتفع نداء: يا لثارات عثمان. قال حسان:
لتسمعن وشيكًا في ديارهم ... الله أكبر, يا ثارات عثمانا
ومن ذلك قولهم: "يا لثارات الحسين"، و"يا لثارات زيد" إلى غير ذلك (٢٢). وهو لا يزال يلعب دورًا خطيرًا في الحياة العربية إلى اليوم.
وقد عيَّر أحد الشعراء "بني وهب"؛ لأنهم أخذوا دية قتيل فاشتروا بها نخلًا، فقال لهم:
ألا أبلغْ بني وهب رسولًا ... بأن التمرَ حلو في الشتاء
أي: اقعدوا وكلوا التمر, ولا تطلبوا بثأركم (٢٣).
وهناك رجال ضُرب بهم المثل في إدراكهم الثأر, ويقال للواحد من هؤلاء: البيهس (٢٤).
《الوفاء》
وعلى الإنسان الوفاء لأهل عصبيته, ليس له مخالفتهم ولا معاكستهم مهما كانت درجه الخلاف بينه وبينهم؛ لأنه واحد وهم جماعة, إن أصابه ضيم فلا بد لجماعته من مواساته ومن الانتصار له مهما كانت أسباب الفرقة. وما يصيب جماعته سيصيبه، وما سيصيبه سيؤثر في جماعته حتمًا، فيجعلها إلى جانبه في الأخير.
وهل أنا إلا من غَزِيَّةَ إن غوت ... غَوَيْت وإن تَرْشُد غزيةُ أرشد (٢٥)
وهي في الأخير كما يقول الشاعر "المتلمِّس" لشخص ظن أنه منتقل عنهم لحلاف وقع بينه وبينهم:
أمنتقلًا من نصر بهثة خِلتي ... ألا إنني منهم, وإن كنت أينما
ألا إنني منهم وعرضيَ عرضهم ... كذي الأنف يحمي أنفه أن يصلّما (٢٦)
فإذا أعطى رجل رجلًا عهدًا، فلا يسعه أن يغدر به، ولا بد له من المحافظة على العهد وما برح العرب يحافظون على عهودهم حتى اليوم. وقد يضحي الإنسان بنفسه على أن يخدش سمعته فيوسم بالغدر, وكانوا في الجاهلية إذا غدر الرجل رفعوا له في سوق عكاظ لواء ليعرفوه الناس (٢٧).
وقد ورد: "إن لكل غدرة لواء", ونصبُ اللواء في المواضع العامة وفي المواسم للإشارة إلى غدر شخص بشخص آخر, من أشهر الأشياء عند العرب (٢٨).
وإلى هذا اللواء أشار "الحادرة" "قطبة بن أوس" إذ قال :
أسميَّ, ويحك هل سمعت بغدرةٍ ... رفع اللواء لنا بها في مجمع (٢٩)
وإذا غدر الرجل بجاره، أوقدوا النار بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين، ثم صاحوا: "هذه غدرة فلان" ليحذره الناس (٣٠).
وقد قيل لهذه النار: نار الغدر (٣١).
وربما جعلوا للغادر تمثالًا من طين، ينصبونه ليراه الناس، وكانوا يقولون: ألا إن فلانًا قد غدر فالعنوه. جاء في الشعر:
فلنقتلن بخالد سَرَوَاتكم ... ولنجعلن لظالمٍ تمثالَا
فهذا التمثال هو تمثال الغدر والخيانة، نصب ليقف الناس على خبر غدر الشخص الذي نصب له (٣٢).
وقد عاب الناس الغادر وعيروا به, فإذا شتموا شخصًا قالوا: يا غُدَر! وقد جعلوا الذئب من الحيوانات الغادرة، فقالوا: الذئب غادر، أي: لا عهد له, كما قالوا: الذئب فاجر (٣٣).
《أهل الغدر》
وقد حفظ أهل الأخبار أسماء رجال عرفوا بالغدر. وقد قال بعضهم: أعرف الناس بالغدر "آل الأشعث بن قيس بن معد يكرب", وذكر أن الغدر إرث فيهم انتقل بهم إلى الإسلام (٣٤).
وضربوا المثل بغدر الضيزن بأبيها صاحب الحصن (٣٥).
ومن الوفاء: الوفاء بالعهود والمواثيق, فلا يجوز لمن أعطى عهدًا وميثاقًا الغدر بهما والتنصل من الوفاء بهما. والوفاء من أنبل الخصال التي يتخلق بها إنسان, وهو من المثل العليا عند العرب ومن أخلاق "الإنسان الفاضل" عندهم. وقد أوفى "حنظلة الطائي" بعهده الذي أعطاه للملك "النعمان" يوم بؤسه بأن يعود إليه؛ ليرى الملك رأيه في قتله. فعاد وهو يعلم أن الملك سيقتله؛ لأنه أعطاه قولًا بالعودة، وجعل "شريكًا" نديم الملك ضامنًا له بالعودة. فلما عاد واستمع الملك إلى قصة وفائه, أبطل عادته في قتل أول من كان يظهر أمامه يوم بؤسه؛ إكرامًا لعمله (٣٦).
ورأى "السموءل"، ابنه وهو في أيدي أحد ملوك الغساسنة أو ملوك كندة، وهو يناديه بوجوب دفع ما عنده من دروع وأسلحة مودعة عنده، من دروع وأسلحة "امرئ القيس", فقال له: "ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي, فاصنع ما شئت". فذبح ولده واحتسب السموءل ذبح ولده وصبر محافظة على وفائه، ولم يسلم الوديعة إلا إلى ورثة امرئ القيس (٣٧).
وقد دون أهل الأخبار أسماء أناس عرفوا بالوفاء, منهم "أوفى بن مطر المازني"، جاوره رجل ومعه امرأة له، فأعجبت قيسًا أخاه، فقتل زوجها غيلة، فبلغ ذلك "أوفى" فقتل قيسًا بجاره (٣٨), و"الحارث بن عباد"، وكان من وفائه أنه أسر يوم "قضة" "عدي بن ربيعة" أخا مهلهل وهو لا يعرفه, فقال له: دلني على عدي, فقال له عدي: إن دللتك عليه فأنا آمن؟ فأعطاه ذلك. فقال له: فأنا عدي, فخلى سبيله (٣٩).
ومن أوفياء العرب "عوف بن محلم الشيباني"، وهو من مشاهير سادات العرب. وكان من وفائه أن "مروان بن زنباع العبسي" كان قد وتر "عمرو بن هند" فجعل على نفسه ألا يؤمنه حتى يضع يده في يده. وإن "مروان" غزا "بكر بن وائل" فأسر، ولم يكن آسره منيعًا، فطلب من أم آسره أن توصله إلى "عوف بن محلم"، ولها منه مائة بعير، فحمل إلى "عوف"، ولاذ بقبته، وبلغ "عمرو بن هند" مكانه، فبعث يطلبه، فأبى عوف أن يسلمه إلأ أن يؤمنه. ثم أخذه عوف إلى "عمرو بن هند"، وجعل يده بين يد عمرو ويد مروان، وأصلح بينهما, فعفا "عمرو" عنه وآمن مروان. فقال عمرو: "لا حر بوادي عوف"، فذهبت مثلًا (٤٠).
وعد "مروان بن زنباع" من أوفياء العرب؛ لأنه وفى بعهده الذي أعطاه لأم آسره، وكان قد أعطاه عودًا التقطه من الأرض ليكون رمز وفائه، على أن توصله إلى "محلم". فلما أوصلته دفع إليها المائة بعير، كما تعهد لها بذلك (٤١).
وضرب المثل بوفاء "عمير بن سلمى الحنفي"، وله قصة في الوفاء تشبه قصة "أوفى بن مطر المازني". وذكروا أن من وفائه أن رجلًا من "بني عامر بن كلاب" استجار بعمير وكانت معه امرأة جملية, فرآها "قرين بن سلمى الحنفي" أخو عمير، وصار يتحدث إليها حتى بلغ ذلك زوجها، فنهاها فخافته فانتهت. فلما رأى "قرين" ذلك وثب على زوجها فقتله, وعمير غائب, فأتى أخو المقتول قبر "سلمى" فعاذ به. فقدم "عمير بن سلمى"، فأخذ أخاه. وبلغ وجوه "بني حنيفة" الخبر، فأتوه فكلموه، فأبى إلا أن يقتله أو يعفو عنه جاره، وأبى أخو المقتول أخذ دية أخيه القتيل ولو ضُوعفت, فأخذ عندئذ "عمير" أخاه وقتله لغدره بجاره (٤٢).
ومن الأوفياء "أبو حنبل: جارية بن مر الطائي ثم الحنبلي". وكان من وفائه أن "امرأ القيس بن حجر الكندي" كان جارًا "لعامر بن جوين الطائي", فقبَّل "عامر" امرأة "امرئ القيس"، فأعلمته ذلك فارتحل إلى "جارية" ليستجير به. فلم يجده, ووجد ابنًا له أجاره، فلما جاء "جارية" ورأى كثرة أموال "امرئ القيس" طمع فيها، وعزم على الغدر بـ"امرئ القيس" ثم فكر في أمره ورأى أن الغدر عار، فعقد له جواره، ثم أخذه إلى "عامر بن جوين"، فقال لامرئ القيس: قبل امرأته كما قبل امرأتك, ففعل (٤٣).
ومنهم "المعلى الطائي"، أحد "بني تيم" من جديلة، وهم "مصابيح الظلام". وكان "المنذر" يطلب امرأ القيس، فلجأ إلى "المعلى" فأجاره، وبلغ المنذر مكان "امرئ القيس" فركب حتى أتى منزل المعلى، ولم يكن المعلى موجودًا، وأبى ابنه تسليم امرئ القيس إلى المنذر ومنعوه (٤٤).
ومن الأوفياء "عصيمة بن خالد بن سنان بن منقر"، وكان "النعمان" قد غضب على "بني عامر بن صعصعة"، فقتل منهم ناسًا وشردهم، فألجأهم "عصيمة" وأجارهم، فبعث إليه النعمان: "ابعث إليَّ بعبيدي" فأبى ونادى في قومه شعاره "كوثر"، وأقبل "النعمان" فأهوى "عصيمة" بالرمح إلى معرفة فرسه، ورجع الملك خائبًا. ثم كسا "عصيمة" "بني عامر" وبلغهم مأمنهم (٤٥).
وقد عد الوفاء محمدة وواجبًا، ولأجل توكيد الوفاء وترسيخه كانوا يضعون رهنًا، قد يكون ثمينًا مثل أبناء سادات القبائل.
《الحرية》
والعربي مجبول على الحرية، وهو لا يطيق الخضوع لأحد غير قبيلته, على ألا يؤثر ذلك في حريته الشخصية. وقد أعجب "هيرودوتس" وغيره من كتبة اليونان والرومان بحب العرب للحرية ولمقاومتهم للاسترقاق، فذكروا أنهم كانوا الشعب الوحيد من بين الشعوب الآسيوية الذي لم يخضع لحكم الفرس، فلم يتمكن ملوك الفرس من استعبادهم، وإنما اضطروا إلى معاملتهم معاملة أصدقاء حلفاء، فقاموا لهم بخدمات جليلة سهلت لهم فتح مصر، ولو كان العرب حربًا على الفرس لما تمكنوا قط من حملتهم على مصر.
والعربي من هذه الناحية شديد التعلق بالحرية، والأعرابي يشعر, وهو في الحضر بين سكان القرى أو المدن، أنه في سجن لا يطاق؛ لكثرة القيود التي تقتضيها عادات المتحضرين، ويسعى للعودة إلى وطنه حيث ينطلق حرًّا كما يشاء. والقبائل تشعر هذا الشعور نفسه، فهي تعيش متمتعة بأعظم قسط من الحرية، لا تضحي بها، إلا لمقتضيات المحافظة على الحياة, حيث ترتبط بواجبات التحالف مع القبائل الأخرى للدفاع عن النفس وضمان ضروريات الحياة.
ولما كان لكل شيء حد ونهاية، غدت هذه الحرية أنانية شديدة، وفردية مطلقة حالت دون تعاون الأفراد, ومنعت من مساعدة القبائل بعضها بعضًا مع وجود خطر أجنبي داهم، وحالت دون تكون المجتمعات الكبرى وهي الحكومات، واقتصرت التنظيمات السياسية على القبائل، وأصبحت العصبية للقبيلة تعني القومية. وزاد في حدة هذه الأنانية القبلية اعتقادهم بالرابطة الدموية التي تربط الأسر بالعشائر، والعشائر بالقبائل، وإرجاع ذلك إلى الأنساب فلا تتعصب القبائل إلا لتلك القبائل التي تعتقد أنها وإياها من شجرة واحدة وأصل واحد.
وإن الحياة الصحراوية التي طبعت أصحابها بطابع الإفراط في حب الحرية الفردية، قد أثرت كثيرًا في الحياة السياسية والتفكير السياسي في بلاد العرب، فاقتصرت الأفعال السياسية على أفعال القبيلة، وتراجع الفرد بل الأهل والعشيرة تجاه القبيلة، وأثرت في أِشكال الحكومات التي تكونت في الأماكن الخصبة وبين المتحضرين، فجعلت منها اتحادًا مع قبائل جمعت بينها مصالح متشابهة ومنافع مشتركة. فإذا ما شعرت بزوال مصلحتها أو أن من مصلحتها الانفصال عن هذا الاتحاد, فلا تتوانى عن تنفيذ رغباتها وتحقيقها بالقوة؛ ولهذا نجد القبائل تهيج وتثور على الحكومات التي تخضع لها، وتدين بالولاء لها؛ لأسباب تافهة منبعها ومبعثها هذه الأنانية الضيقة التي تدفع سادات القبائل إلى الانفصال والخروج من عبودية الخضوع لحاكم، عليهم تقديم واجب الإخلاص والطاعة له. حاكم يرون أنه لا يمتاز عنهم بشيء، بل يرى كل واحد منهم لأنانيته أنه أولى منه بالحكم وبتسلم القيادة، وأن من حقه الخروج عن طاعته إن وجد ظروفًا ملائمة متهيئة للانفصال عنه. فلما وجدت القبائل التي خضعت لحكم "ملوك كندة" ضعفًا في الأسرة الكندية الحاكمة، ثارت عليها وقتلت منهم من قتلت، وطردت من طردت، وكوَّن سادات القبائل إمارات عديدة حلت محل مملكة كندة. ولما كان سادات القبائل يجدون ضعفًا في العلاقات بين ملوك الحيرة والفرس، وبين ملوك الغساسنة والروم, كان يسارعون إلى الاتصال بالفرس وبالروم لتنصيبهم مكان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة، لا يرون في هذا العمل أي شين أو بأس.
ويصعب في الحقيقة التوفيق بين الفكرة القبلية الضيقة والفكرة القومية التي تسمو فوق القبائل، فالفكرة القبلية لا تعترف بوجود قومية غير قومية القبيلة، ولا ترى وجود وطن غير الوطن الذي تنزل فيه القبيلة. فإذا ارتحلت عنه وحلت في أرض أخرى, أصبحت هذه الأرض وطن القبيلة الجديد، الذي يجب أن يدافع عنه, وأما الأوطان الأخرى ومنها وطن القبيلة السابق، فليست بأوطانها. ومن هنا كان بون شاسع بين هذه الفكرة الوطنية الضيقة، وبين الفكرة القومية التي تدين بعقيدة الإيمان بالقوم, أي: الجنس الذي هو فوق القبائل والأمكنة، وبالوطن العام الذي يشمل كل الأرضين التي يستوطنها ذلك الجنس.
وقد جابهت الحكومات العربية في الجاهلية ثم في الإسلام متاعب كثيرة من الروح القبلية العنيفة، ومن الفردية المتطرفة. فكانت هذه من أهم عوامل هد المجتمعات السياسية الكبرى في بلاد العرب، وكانت من أعنف أعداء القومية العربية, لا في الجاهلية فحسب, بل في الجاهلية وفي الإسلام كذلك.
《الخلع》
ويبقى الفرد متمتعًا بعطف قبيلته عليه وبحمايتها له, ما دام قائمًا بواجباته المترتبة عليه، شاعرًا بعظم التبعة. فإذا أجرم، أو عمل عملًا ينافي شرفه أو شرف قبيلته، واستمر في غيه لا يسمع نصائح أهله وعشيرته، كاسرًا أعراف آله وقبيلته -فقد عصبية أهله وقبيلته له، وهام على وجهه طريدًا يلتمس مجاورة رجل من عشيرة أو قبيلة أخرى قريبة من موطنه أو بعيدة عنه. وتكون هذه الفترة من حياة الإنسان شرَّ فترة في حياته، ولا يهدأ للطريد بال إلا إذا وجد له حليفًا أو جارًا يتعهد له بحمايته وببذل "العصبية" له وبالدفاع عنه.
ويقال للرجل الذي تغضب عليه قبيلته وتحرمه عطفها وعصبيتها له: "الخليع", ويقال ذلك لمن يخلعه أهله أيضًا. وقد يقال له: "الرجل اللعين"، و"اللعين", واللعين هو المطرود؛ ولذلك يقال له: "الطريد", إلى غيرها من مصطلحات.
وربما خلعوا الرجل من القبيلة ولو كان من صميمها، ويسقط عن أهله وقبيلته كل واجب يترتب عليهم أو عليها إذا عمل عملًا يستوجب خلعه، كما تسقط عن القبائل التي قد تتعرض للخليع بشر كل تبعة تقع عليها من الاعتداء عليه، لخلع أهله أو قبيلته له، وتبرئهم أو تبرئها منه، فلا يطالبون بثأر.
ولا بد من إعلان خلع أهل "الخليع" أو خلع قبيلته له وتبرئها منه؛ ليكون ذلك معلومًا عند أفراد قبيلته أو القبائل الأخرى، فتسقط العصبية عندئذ عن "الخليع" عند إعلان قرار الخلع، وإلا بقيت في رقبة أولياء أمره وقبيلته، وذلك كأن يعلن الأب في المواضع العامة وفي المواسم أنه خلع ابنه، بأن يقول: ألا إني قد خلعت ابني هذا، فإن جَرَّ لم أضمن، وأن جُر عليه لم أطلب، أو يعلن قومه: إنما خلعنا فلانًا، فلا نأخذ أحدًا بجناية تجنى عليه، ولا نؤخذ بجناياته التي يجنيها.
وقد كان الحج من المواسم المناسبة لإعلان خلع الخلعاء، وكذلك كانت مواسم الأسواق كسوق عكاظ. فهي مواسم تجمُّع, ينادي فيها المنادي بخلع من يراد خلعه، وكان أهل مكة يكلفون مناديًا بالطواف بالأحياء، ينادي بأعلى صوته عن خلع الخليع. وقد يكتبون كتابًا يحفظونه عندهم أو يعلقونه في محل عام ليقف عليه الناس (٤٦).
وقد عاش الخلعاء عيشة صعبة، لا أحد يساعدهم أو يئويهم خشية أن ينزل بهم أذى، أو يترتب على قبول جوارهم تبعة تجاه من يقتص آثارهم طلبًا للثأر منهم؛ ولذلك تكتل الصعاليك أحيانًا وكونوا عصابات تغزو وتغير وتقطع الطريق. وكان الشاعر "عروة بن الورد" وهو منهم, يجمع حوله الصعاليك والفقراء في حظيرة ويغزو بهم ويرزقهم مما يغنمه؛ ولذلك سمي "عروة العصاليك" (٤٧).
ذكر أنه كان إذا شكا إليه فتى من فتيان قومه الفقر, أعطاه فرسًا ورمحًا، وقال له: إن لم تستغنِ بهما, فلا أغناك الله (٤٨).
والصعلوك: الفقير الذي لا مال له (٤٩).
ومن الصعاليك "السليك بن سلكة" الشاعر العدَّاء, وهو من العدائين الذين ضرب بهم المثل في العدْو (٥٠).
وكان "حاجز بن عوف بن الحارث"، وهو شاعر جاهلي مقل، أحد الصعاليك العدائين, كان يعدو على رجليه عدوًا يسبق به الخيل، وكان يغير على قبائل العرب (٥١).
وكان "قيس بن الحدادية" من الشعراء الصعاليك الفاتكين الشجعان, خلعته خزاعة بسوق عكاظ، وأشهدت على نفسها بخلعها إياه، فلا تحتمل جريرة له، ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه (٥٢).
ومن بقية الصعاليك "الشنفرى" و"تأبط شرًّا", غير أن أعرفهم وأشهرهم وحامل لواء الصعلكة فيهم، هو "عروة بن الورد" الذي نصب نفسه سيدًا على الصعاليك. فكان يجمعهم ويشركهم فيما يغنمه ويرزقهم من رزقه، ويبذل جهده لمواساتهم، فاجتمع حوله صعاليك "عبس"، وهو منهم واتخذ لهم حظائر آووا إليها؛ ولهذا نعت بـ"عروة الصعاليك". قال أهل الأخبار: إنما قيل له عروة الصعاليك مع أنه عروة بن الورد؛ لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة, فيرزقهم مما يغنمه (٥٣). فعروة لم يكن فقيرًا محتاجًا معدمًا، كما يفهم من لفظة "صعلوك", لقد كان في وسعه أن يجمع مالًا مما كان يغنمه من غاراته على العرب، فيكون حسن الحال غنيًّا, لكنه فضل الصعلكة على اكتناز المال، ورجَّح إشراك الفقراء فيما يغنمه على جمعه له واستئثاره له وحده؛ لأن له مروءة تأبى عليه أن ينام شبعان وجاره فقير جائع, فكان ينفق ما يغنمه على المحتاجين. فهو صاحب مذهب إنساني أحس بالألم، وأدرك ما أصابه يوم خلعه أهله من شدة وضنك، فأراد أن يخفف من آلام أمثاله ممن خلعهم مجتمعهم لعدم وقوفه على أسباب خروجهم عليه, فصار بذلك نصير الصعاليك. ولقد ذكره "عبد الملك بن مروان" فقال: "ما كنت أحب أن أحدًا ولدني من العرب إلا عروة بن الورد" (٥٤).
فعروة صعلوك فلسف الصعلكة بأن جعلها مثلًا من مُثُل الحياة, بينما كانت تعني فقرًا مدقعًا وجوعًا قتالًا وهيامًا على وجه الأرض للاستجداء.
وقد كون الصعاليك عصابات تنقلت من مكان إلى مكان, تسلب المارة وتغير على أحياء العرب؛ لترزق نفسها ومن يأوي إليها (٥٥) , انضم إليها الصعاليك من مختلف القبائل. ولكن أكثر الصعاليك من الشبان الطائشين الخارجين على أعراف قومهم, ومن الذين لا يبالون ولا يخشون أحدًا، صاروا قوة خشي منها، وحسب لها حساب، خاصة وفيها شعراء فحول، يحسنون الهجاء ويتقنون فن ثلب الأعراض، وفيها مقاتلون شجعان لا يعبئون بالموت، يفتكون بمن يريدون الفتك به. وخافهم الناس وامتنعوا جهد إمكانهم من التحرش بهم ومعاداتهم، ومنهم من قبل جوار الصعاليك وردَّ عنهم وأحسن إليهم، فاستفاد منهم واستفادوا منه.
وقد كان العرب ينفون الخلعاء إلى أماكن معينة مثل "حَضَوْضى"، وهو جبل في الجزيرة العربية, كان الناس في الجاهلية ينفون إليه خلعاءها (٥٦).
وقيل: جبل في البحر أو جزيرة فيه, كانت العرب تنفي إليه خلعاءها (٥٧).
==========
(١) اللسان "أ/ د/ م"، "13/ 431".
(٢) اللسان "أ/ د/ م"، "13/ 431".
(٣) "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، الأمثال "22"، لسان العرب "1/ 606"، قاموس المحيط "2/ 1405"، "للبستاني".
(٤) راجع بحث العصبية في مقدمة ابن خلدون "ص108 فما بعدها"، الحيوان "1/ 166".
(٥) اللسان "1/ 606"، "عصب"، ابن خلدون، مقدمة "138".
(٦) المرزوقي، شرح الحماسة "1/ 27 وما بعدها".
(٧) ابن الأثير "1/ 388"، البلدان "8/ 450"، العمدة "200 وما بعدها".
(٨) حماسة أبي تمام "1/ 16".
(٩) تاج العروس "10/ 99", "حمى", اللسان "18/ 216 وما بعدها".
(١٠) سورة الفتح, رقم 48، الآية 26.
(١١) تفسير الطبري "26/ 65"، تفسير القرطبي "16/ 288 وما بعدها".
(١٢) تاج العروس "3/ 577"، "نعر".
(١٣) الروض الأنف "1/ 93 وما بعدها"، الأغاني "15/ 71", شرح ديوان الحماسة "1/ 168",
Muh. Stud., I, S., 61 Kinship. 44.
(١٤) تاج العروس "2/ 478"، "قود".
(١٥) حلت له من بعد تحريم لها
أو أن يمس الرأس منه غسولا
شرح ديوان امرئ القيس "ص156".
(١٦) شعر قيس بن الخطيم "1، 15"، بلوغ الأرب "3/ 24".
(١٧) الفاخر "252 وما بعدها"، نهاية الأرب "17/ 70".
(١٨) اللسان "5/ 167"، المعاني الكبير "2/ 1018".
(١٩) تاج العروس "3/ 72"، "ثأر".
(٢٠) نهاية الأرب "3/ 122".
(٢١) حلفت فلم تأثم يميني لأثارن ... عديًّا ونعمان بن قيل وأيهما
تاج العروس "3/ 71"، "ثأر".
(٢٢) تاج العروس "3/ 71"، "ثأر".
(٢٣) المعاني الكبير "2/ 1019".
(٢٤) تاج العروس "4/ 113"، "البهس".
(٢٥) هذا البيت لدريد بن الصمة، حماسة أبي تمام "2/ 306"، شرح المرزوقي على الحماسة "2/ 815"، الأصمعيات "112".
(٢٦) نوادر أبي زيد "160"، الأصمعيات "286".
(٢٧) "إن لكل غادر لواء"، المفضليات "ص56".
(٢٨) إرشاد الساري "9/ 106".
(٢٩) المفضليات "56"، البحتري، حماسة "216".
(٣٠) وتوقد ناركم شررا ويرفع ... لكم في كل مجمعة لواء
(٣١) المفضليات "ص56"، تاج العروس "3/ 440"، بلوغ الأرب "2/ 162"، نهاية الأرب "1/ 111".
(٢٣) بلوغ الأرب "3/ 28".
(٣٣) اللسان "5/ 8"، "غدر".
(٣٤) نهاية الأرب "3/ 365".
(٣٥) نهاية الأرب "3/ 366".
(٣٦) المستطرف في كل فن مستظرف "1/ 199 وما بعدها", "عبد الحميد أحمد الحنفي".
(٣٧) المحبر "348 وما بعدها".
(٣٨) المحبر "348".
(٣٩) المحبر "348".
(٤٠) المحبر "349 وما بعدها"، الاشتقاق "215"، الأمثال للميداني "2/ 531".
(٤١) المحبر "351".
(٤٢) المحبر "ص352".
(٤٣) المحبر "352 وما بعدها".
(٤٤) المحبر "353 وما بعدها".
(٤٥) المحبر "354".
(٤٦) الأغاني "8/ 52".
(٤٧) اللسان "10/ 456"، "صعلك".
(٤٨) الثعالبي، ثمار القلوب "103".
(٤٩) اللسان "10/ 455 وما بعدها"، "صعلك".
(٥٠) الأغاني "18/ 133".
(٥١) الأغاني "12/ 47".
(٥٢) الأغاني "13/ 2".
(٥٣) تاج العروس "7/ 153"، "صعلك".
(٥٤) الأغاني "3/ 78"، ديوان عروة بن الورد "ص 138 وما بعدها"، العقد الفريد "1/ 191".
(٥٥) الأغاني "19/ 111".
(٥٦) البلدان "3/ 296".
(٥٧) تاج العروس "5/ 20"، "حَضَّ".