: وقفة اسلامية في الاحكام العشائرية..تاليف الشيخ كريم برهان الجنابي
لكننا كعرب كلما تندرس فضائلنا وتغور في محاجرها ويعسعس الغسق في مشارقها، يستنهض الصبح نوره، وتنبلج المكارم كالدرر في جيد الغسق..
ويبرز أجاويد العشائر وعلماء الدين لترميم ما انطمس من نقوش ، ورأب الصدع في النفوس ، وجلي سبائك الذهب لتضيىء من جديد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإهجاع فعل السيوف بالإحتكام الى القرآن المجيد والسُنَّة الشريفة وآثار الأولين الحميدة النافعة..
وهذا الإحتكام العشائري يتطلَّب وجود فريضه في العشيرة او في" السَلَفْ" المنطقة التي تسكنها عشيرة كبيرة " ليقوم بالتحكيم بالنزاعات الحاصلة بين الأفراد او العشائر .
ولا بدَّ ان يعتمد التحكيم العشائري على نزاهة المُحَكِّم " الفريضه" الذي يتم الإجماع عليه بما يضمن سلامة قراره من شُبهات الطعن والشك ، وقبول أطراف النزاع لقرار التحكيم ورضاهم به .
تشويق / 1
*إختصم اثنان من رعاة الجاموس في هور الحمّار الى الفريضة.
يدعي الأول ان خصمه قام بقتل جاموسته قبل احتراق بردي الهور.
ونفى المدعى عليه قيامه بقتل الجاموسة،إنما احترقت عندما ألتهمت النار بردي الهور .
أشار الفريضه لسحب الجاموسة من مكانها ومشاهدة البردي الذي تحتها .
فإذا كان أخضر فهذا يعني ان الجاموسة قُتلت قبل الحريق..!
واذا كان محترقاً فهذا يعني انَّ الجاموسة ماتت بعد الحريق .!!
وعلى هذا الأساس سطعت الحقيقة.
*ادعى رجل ان له بذمَّة رجل آخر ثلاثين ديناراً..
فقال القاضي : ومعك شهود؟
فقال: معي شاهد واحد.
فقال القاضي للمدعى عليه: ادفع له خمسة عشر ديناراً الى ان يقدم الشاهد الآخر .!.؟
*دخلت امرأة عجوز على السلطان سليمان القانوني تشكو اليه جنوده الذين سرقوا ماشيتها بينما كانت نائمة .
فقال لها السلطان:
كان عليكِ أن تسهري على مواشيكِ، لا أن تنامي .
فأجابت العجوز :
ظننتكَ ساهراً علينا يامولاي فنمتُ مطمئنة البال .
*سرق لصٌ ثوراً من أحد المتقين فزاره اولاده ووجدوه يبكي. فقالوا له: لاتبكي ياأبانا سنشتري لك غيره او اكثر. فقال لهم: لا ابكي على الثور ، إنما أبكي على اللص !! من أين سيأتيني بثور يوم يقوم الحساب ؟!
أهلية الفريضه
الفريضه أو " العارفه أو الفَتْوَهْ هو ذلك الرجل ،الشيخ الذي تُطرح عليه خصومات الأفراد أو العشائر ويقضي بالخصومة ويحق الحق ويدحض الباطل،ويقول قراره بأن الحق لفلان، وعلى الطرف الثاني الأداء بإحسان، أو على فلان يقع القَسَم ( اليمين)..
وهذا ما نسميه المُحَكِّم العشائري الذي يفرض حكمه على المتخاصمين ويدعوهم للصلح أولاً، ثم التفاهم ثم الإلتزام بالحل.
هناك صفات ينبغي توافرها في شخصية الفريضه كي يكون آهِلاً و أهلاً للفرض وإصدار القرار.
أول تلك الصفات مخافة الله،وإقامة القسطاس والعدل،وإزاحة مسببات الفساد من نفسه.
أن يكون حافظاً لبعض من آي كتاب الله لينتزع منه بعض الأحكام، وان يعرف كثيراً من السنة والأخبار والتواريخ والسِيَّر...ويعرف عادات وطباع العرب، وان يكون متواضع النفس ، مستكملاً فضائلها
(أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ)
،وان يكون متودداً الى الناس، مليح النادرة، لحقيق يتمثل الحق بكلمه وقلمه وفعله،يتجلى الإنصاف والصدق في يده وفمه،متحللاًمن قيود العاطفة، يرى الحق ضالته ،ينتظر آخرته في حُسن خاتمته.
لا يضجر من المتخاصمين، ومن أبناء عمومته.لمّاح الشاردة والواردة.
واذا كان ليس بالإمكان ان يحمل كل تلك المواصفات فليكن اعتداده النفسي ودواخله مركبة من حصيلة تفاعل تلك الصفات لتفيء بالخير على خدمة الإنسان ...
ويشترط في المحكم ـ الفريضه ـ ان يكون محيطاً بمختلف الأحكام ،والأعراف العشائرية ، مع ذكاء معترف به، وعدم تحيّزه في حكم سابق، وممن يعرف بالصلاح والتقوى والإستقامة والنزاهة.، وان يطمئن الناس لصفاته هذه.
وان يأخذالقرآن المجيد أول عدّة ، وأصدق منهل واعمق مغنى له...
على الَحكم ـ الفريضه ـ ان يهيىء أجواء التحكيم في ديوانه ـ مضيفه ـ وأن يحضّر أشخاصا من عشيرته أو ندمائه في جلسة الحكم ليتعلموا منه ويواصلوا سَيْرَه لأنَّ مضيفه لا يمكن ان يغلق أبوابه بعد مماته فهو مرتبط " بحظ وبخت العشيرة ".
ويُجلس طرفي النزاع متقابلين، ويجلس على مرآى ومسمع من جميع الأطراف،ويقوم بخدمة ضيوفه المتخاصمين،فيُحضر الماء والشاي أو القهوة ويكثر من عبارات الترحيب ...
يستمع بدقة للطرف المدعي|الأول|،ويستمع بدقة من المدعى عليه|الثاني|،ويستمع من كل شاهد، ـ وليس كل شاهد مقبول ـ، ويعتمد على مبدأ " البَيِّنَةُ على من إدعى ، واليمين على من أنكر ".
هنا يجمع الفريضة أدواته التحكيمية بعد اكتمال صورة الجريمة أو القضية، ويدخل بمليح النادرة..والعبارة.....،
والمبادرة لإجراء الصلح لتسهيل الحل،وتبديد زخم الغضب...
........ تبع.وقفة اسلامية في الاحكام العشائرية..تاليف الشيخ كريم برهان الجنابي
فيصدر قراره بالحل ويكتبه في سجل فض المنازعات لتثبيت السانية التي حكم وفقاً لأحكامها، والرجوع للحُكم ان دعت الحاجة اليه بعد سنين.
يتولى الطرف الباطل مهمة إرضاء الطرف الحق وفق سانية العشيرة المجني عليها.
على ان الفريضة لا يخطىء في الحكم وينظر في مسألة خطأ النبي داود عليه السلام حين أتاهُ متخاصماِن فأصدر حكمه ولم يسأل المدعي البينة على ادعائه.ولم يُقبل على المدعى عليه فيقول له : ماتقول ؟
فكان منه ماكان عليه السلام من رسم الحكم المتعجِّل.حيث قال لصاحب النعجة الواحدة " لقد ظلمك"...
قال الله تعالى:
| إذ دخلوا على داوُد ففزع منهم قالوا لا تخف خصمانِ بغى بعضُنا على بعضٍ فاحكم بيننا بالحقِ ولا تُشطِط وأهدنا الى سَواءٍ الصراط. انَّ هذا أخي لهُ تسعٌ وتِسعينَ نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ فقال اكفلنيها وعَزَّني في الخطابِ. قال لقد ظلمك بسؤال نعجتكَ الى نعاجهِ وان كثيراً من الخُلطاءِ ليبغي بعضُهم على بعضٍ إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وقليلٌ ماهُم وظنَّ داوُدُ انما فَتَنّاهُ فاستغفَرَ ربَّه وخرَّ راكعاً وأناب. فغفرنا لهُ ذلك وان لهُ عندنا لزُلفى وحُسنَ مآبٍ.\ص21ـ 26
تلك المسألة بين الله وملائكته ونبيه داوود عليهم السلام فوقع الحكم المتعجل وذهب الملائكة المتخاصمان واستغفر داود ربه وغفر الله له.
وكانَ قضاءً تقديرياً. حَكَمَ قبل ان يسأل الخصم عن دعواه...
كل ذلك ليعلم ولده سليمان ع من خلال استفزاز روح العدل ، وتوسيع أُفق النبوّة القادمة فيه...
وفي آداب القضاء ألاّ يحكم بشيء ولا يقول حتى يسأل خصمه عن دعوى خصمه.
والأمر يختلف عندنا الآن فالمتخاصمون أبناء عشائر ، والشهود بشر ربما لهم غايات ، والفريضة ليس نبياً ولا معصوماً، والحكم المتعجِّل تكون عواقبه عثرات وخيمة إن لم تكن على الأطراف فعلى الفريضه نفسه.
وعليه فلابد للفريضه من تبني الأحكام الثابتة بالأدلة الشرعية، ولا يتبنى بضرسٍ قاطع رأياً يجعله يحكم بسرعة وعجلة ويحسم به القضايا الشائكة والمسائل المعقدة ...ولابد من ارسال الجريمة الدينية مثلاً الى المرجع الديني لتبيان الحكم الشرعي في حَلِّها...فإنَّ ثمرة العجلة العثار.
ان الله غفور رحيم ، فقد غفر سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام ماالتبس عليه في الجَنَّةِ حيث لم تكن حين ذاك شريعة أو دين ..
فاقترابه من شجرة الخُلد استعجال لوظيفته في الأرض حصل عليه عتب رباني...وذلك الإقتراب من الشجرة لا ضَيْرَ فيه ما دامت القضية في عالم الرؤيا..أما عالمنا المشهود هو عالم المسؤولية والتكليف..!!
لقد أكَّدَ لنا المفسرون ان القسوة الملحوظة في الآيات القرآنية في الحديث مع النبي "ص" تمثل ظاهرة واضحة في أكثر الآيات التي تتصل بسلامة الدعوة الإسلامية واستقامة خطِّها.
وغير ذلك من المواطن والآيات التي ترقى فيها القضية الى المستوى الكبير من الأهمية بحيث لولاها لإنحرفت مسيرة الرسالة...وللإيحاء بأنَّ هذه القضية ـ الدعوة ـ لا تقبل التهاون حتى في الموارد المستبعَدة منها.وهي بهذا الشكل مع النبي فكيف ستكون مع غيره؟
ذلك من أجل ان يفهم الدُعاة من بعد النبي "ص" بأن عليهم ان يقفوا في خط الإستقامة...لأن الغفلة عن الخطوط الدقيقة في المسألة قد تجر الى الإنحراف بطريقة لا شعورية.
ذكر زين العابدين في كتابه مراجعات في عصمة الأنبياء: " ان الجريمة الدينية لخطيئة آدم ، وقتل النبي موسى عليه السلام للقبطي ـ حينما استغاث به شخص ٌمن شيعته على شخص من عدوِّهِ.ـ.. فقتلهُ.. واستغفر ربه.. فغفر له، هي مسائل بين الثبوت والإثبات...وتعبير عن الحالة الشعورية اكثر مما هي تعبير عن حالة المسؤولية .
والذي يقودنا لذكر هذا هو الإستغفار،والتعبير في موقف الرغبة في رحمة الله.
فكيف الحال مع الفريضة ؟ الذي عليه ان يعطي الكثير من نفسه كي يفتح قلوب الناس على فعل الخير وعلى الحق..
وبعد ان يحكم ويفرض حلاً يستغفر ربه وهو غير مذنب...لأن المسألة البشرية التي تختزنُ في داخلها نقاط الضعف التي قد توحي بالذنب، تجعل القضية في دائرة الفرضية الطبيعية تعبر عن حالة الشعور بالذنب والرغبة بالإستغفار.,.
أحياناً نرى شيخ العشيرة يظلم نفسه بتحمل أعباء المشكلة المطروحة |يضع نفسه موضع المدعي وليس في موقع يؤهله ان يكون إبن جواد | وهو بريءمنها...فيستغفر لذنبه اذاما ارتكب اخطاء من شأنها تأزيم الموقف...فذلك تعبير عن الحالة الشعورية اكثر مما هو تعبير عن القلق من النتائج الواقعية السلبية التي يمكن ان تترتب على ذلك في علاقته الإجتماعية بمحيطه فيما يحمله من أخطار مستقبلية على شخصه بالذات..فيتجه الى الخالق..
إذن لماذا لا يحكم بحكم الله وهدى القرآن المجيد ؟! قال العرب: إياكَ والكبر،والحسد،والغضب،والشهوة.
فالكِبَر يمنع من الإنقياد الى أوامر الشرع،والحسدُ يمنع من قبول النصيحة او بذلها،والغضب يمنع من العدل، والشهوة تمنع من التفرّغ لعبادة الله.
اذن على الفريضة ان يبتعد عن السهو والنسيان، وان يدري ان الإنفعالية الذاتية فرضيَّة قابلة للحدوث في النفس البشرية تجرَّهُ الى نسبة خاطئة في القرار، وان يدري ان تداخل الطِيبة والسذاجة والبراءة والبساطة امور لها تأثير على ميل الطبع ومنازعة الشهوة الطبيعية..
فَـلْيَـعِ مسؤوليته أمام الخالق الجبّار.
ولا يشترط أن يكون المُحَكِّم رئيساً لقبيلة أو عشيرة بل يجوز لمن توفرت فيه تلك الصفات من أفراد أي عشيرة ان يكون فريضه ـ حَكَمَاًـ مقبول الحكم مطاعاً من أطراف النزاع .
....... يتبع .......
لكننا كعرب كلما تندرس فضائلنا وتغور في محاجرها ويعسعس الغسق في مشارقها، يستنهض الصبح نوره، وتنبلج المكارم كالدرر في جيد الغسق..
ويبرز أجاويد العشائر وعلماء الدين لترميم ما انطمس من نقوش ، ورأب الصدع في النفوس ، وجلي سبائك الذهب لتضيىء من جديد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإهجاع فعل السيوف بالإحتكام الى القرآن المجيد والسُنَّة الشريفة وآثار الأولين الحميدة النافعة..
وهذا الإحتكام العشائري يتطلَّب وجود فريضه في العشيرة او في" السَلَفْ" المنطقة التي تسكنها عشيرة كبيرة " ليقوم بالتحكيم بالنزاعات الحاصلة بين الأفراد او العشائر .
ولا بدَّ ان يعتمد التحكيم العشائري على نزاهة المُحَكِّم " الفريضه" الذي يتم الإجماع عليه بما يضمن سلامة قراره من شُبهات الطعن والشك ، وقبول أطراف النزاع لقرار التحكيم ورضاهم به .
تشويق / 1
*إختصم اثنان من رعاة الجاموس في هور الحمّار الى الفريضة.
يدعي الأول ان خصمه قام بقتل جاموسته قبل احتراق بردي الهور.
ونفى المدعى عليه قيامه بقتل الجاموسة،إنما احترقت عندما ألتهمت النار بردي الهور .
أشار الفريضه لسحب الجاموسة من مكانها ومشاهدة البردي الذي تحتها .
فإذا كان أخضر فهذا يعني ان الجاموسة قُتلت قبل الحريق..!
واذا كان محترقاً فهذا يعني انَّ الجاموسة ماتت بعد الحريق .!!
وعلى هذا الأساس سطعت الحقيقة.
*ادعى رجل ان له بذمَّة رجل آخر ثلاثين ديناراً..
فقال القاضي : ومعك شهود؟
فقال: معي شاهد واحد.
فقال القاضي للمدعى عليه: ادفع له خمسة عشر ديناراً الى ان يقدم الشاهد الآخر .!.؟
*دخلت امرأة عجوز على السلطان سليمان القانوني تشكو اليه جنوده الذين سرقوا ماشيتها بينما كانت نائمة .
فقال لها السلطان:
كان عليكِ أن تسهري على مواشيكِ، لا أن تنامي .
فأجابت العجوز :
ظننتكَ ساهراً علينا يامولاي فنمتُ مطمئنة البال .
*سرق لصٌ ثوراً من أحد المتقين فزاره اولاده ووجدوه يبكي. فقالوا له: لاتبكي ياأبانا سنشتري لك غيره او اكثر. فقال لهم: لا ابكي على الثور ، إنما أبكي على اللص !! من أين سيأتيني بثور يوم يقوم الحساب ؟!
أهلية الفريضه
الفريضه أو " العارفه أو الفَتْوَهْ هو ذلك الرجل ،الشيخ الذي تُطرح عليه خصومات الأفراد أو العشائر ويقضي بالخصومة ويحق الحق ويدحض الباطل،ويقول قراره بأن الحق لفلان، وعلى الطرف الثاني الأداء بإحسان، أو على فلان يقع القَسَم ( اليمين)..
وهذا ما نسميه المُحَكِّم العشائري الذي يفرض حكمه على المتخاصمين ويدعوهم للصلح أولاً، ثم التفاهم ثم الإلتزام بالحل.
هناك صفات ينبغي توافرها في شخصية الفريضه كي يكون آهِلاً و أهلاً للفرض وإصدار القرار.
أول تلك الصفات مخافة الله،وإقامة القسطاس والعدل،وإزاحة مسببات الفساد من نفسه.
أن يكون حافظاً لبعض من آي كتاب الله لينتزع منه بعض الأحكام، وان يعرف كثيراً من السنة والأخبار والتواريخ والسِيَّر...ويعرف عادات وطباع العرب، وان يكون متواضع النفس ، مستكملاً فضائلها
(أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ)
،وان يكون متودداً الى الناس، مليح النادرة، لحقيق يتمثل الحق بكلمه وقلمه وفعله،يتجلى الإنصاف والصدق في يده وفمه،متحللاًمن قيود العاطفة، يرى الحق ضالته ،ينتظر آخرته في حُسن خاتمته.
لا يضجر من المتخاصمين، ومن أبناء عمومته.لمّاح الشاردة والواردة.
واذا كان ليس بالإمكان ان يحمل كل تلك المواصفات فليكن اعتداده النفسي ودواخله مركبة من حصيلة تفاعل تلك الصفات لتفيء بالخير على خدمة الإنسان ...
ويشترط في المحكم ـ الفريضه ـ ان يكون محيطاً بمختلف الأحكام ،والأعراف العشائرية ، مع ذكاء معترف به، وعدم تحيّزه في حكم سابق، وممن يعرف بالصلاح والتقوى والإستقامة والنزاهة.، وان يطمئن الناس لصفاته هذه.
وان يأخذالقرآن المجيد أول عدّة ، وأصدق منهل واعمق مغنى له...
على الَحكم ـ الفريضه ـ ان يهيىء أجواء التحكيم في ديوانه ـ مضيفه ـ وأن يحضّر أشخاصا من عشيرته أو ندمائه في جلسة الحكم ليتعلموا منه ويواصلوا سَيْرَه لأنَّ مضيفه لا يمكن ان يغلق أبوابه بعد مماته فهو مرتبط " بحظ وبخت العشيرة ".
ويُجلس طرفي النزاع متقابلين، ويجلس على مرآى ومسمع من جميع الأطراف،ويقوم بخدمة ضيوفه المتخاصمين،فيُحضر الماء والشاي أو القهوة ويكثر من عبارات الترحيب ...
يستمع بدقة للطرف المدعي|الأول|،ويستمع بدقة من المدعى عليه|الثاني|،ويستمع من كل شاهد، ـ وليس كل شاهد مقبول ـ، ويعتمد على مبدأ " البَيِّنَةُ على من إدعى ، واليمين على من أنكر ".
هنا يجمع الفريضة أدواته التحكيمية بعد اكتمال صورة الجريمة أو القضية، ويدخل بمليح النادرة..والعبارة.....،
والمبادرة لإجراء الصلح لتسهيل الحل،وتبديد زخم الغضب...
........ تبع.وقفة اسلامية في الاحكام العشائرية..تاليف الشيخ كريم برهان الجنابي
فيصدر قراره بالحل ويكتبه في سجل فض المنازعات لتثبيت السانية التي حكم وفقاً لأحكامها، والرجوع للحُكم ان دعت الحاجة اليه بعد سنين.
يتولى الطرف الباطل مهمة إرضاء الطرف الحق وفق سانية العشيرة المجني عليها.
على ان الفريضة لا يخطىء في الحكم وينظر في مسألة خطأ النبي داود عليه السلام حين أتاهُ متخاصماِن فأصدر حكمه ولم يسأل المدعي البينة على ادعائه.ولم يُقبل على المدعى عليه فيقول له : ماتقول ؟
فكان منه ماكان عليه السلام من رسم الحكم المتعجِّل.حيث قال لصاحب النعجة الواحدة " لقد ظلمك"...
قال الله تعالى:
| إذ دخلوا على داوُد ففزع منهم قالوا لا تخف خصمانِ بغى بعضُنا على بعضٍ فاحكم بيننا بالحقِ ولا تُشطِط وأهدنا الى سَواءٍ الصراط. انَّ هذا أخي لهُ تسعٌ وتِسعينَ نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ فقال اكفلنيها وعَزَّني في الخطابِ. قال لقد ظلمك بسؤال نعجتكَ الى نعاجهِ وان كثيراً من الخُلطاءِ ليبغي بعضُهم على بعضٍ إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وقليلٌ ماهُم وظنَّ داوُدُ انما فَتَنّاهُ فاستغفَرَ ربَّه وخرَّ راكعاً وأناب. فغفرنا لهُ ذلك وان لهُ عندنا لزُلفى وحُسنَ مآبٍ.\ص21ـ 26
تلك المسألة بين الله وملائكته ونبيه داوود عليهم السلام فوقع الحكم المتعجل وذهب الملائكة المتخاصمان واستغفر داود ربه وغفر الله له.
وكانَ قضاءً تقديرياً. حَكَمَ قبل ان يسأل الخصم عن دعواه...
كل ذلك ليعلم ولده سليمان ع من خلال استفزاز روح العدل ، وتوسيع أُفق النبوّة القادمة فيه...
وفي آداب القضاء ألاّ يحكم بشيء ولا يقول حتى يسأل خصمه عن دعوى خصمه.
والأمر يختلف عندنا الآن فالمتخاصمون أبناء عشائر ، والشهود بشر ربما لهم غايات ، والفريضة ليس نبياً ولا معصوماً، والحكم المتعجِّل تكون عواقبه عثرات وخيمة إن لم تكن على الأطراف فعلى الفريضه نفسه.
وعليه فلابد للفريضه من تبني الأحكام الثابتة بالأدلة الشرعية، ولا يتبنى بضرسٍ قاطع رأياً يجعله يحكم بسرعة وعجلة ويحسم به القضايا الشائكة والمسائل المعقدة ...ولابد من ارسال الجريمة الدينية مثلاً الى المرجع الديني لتبيان الحكم الشرعي في حَلِّها...فإنَّ ثمرة العجلة العثار.
ان الله غفور رحيم ، فقد غفر سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام ماالتبس عليه في الجَنَّةِ حيث لم تكن حين ذاك شريعة أو دين ..
فاقترابه من شجرة الخُلد استعجال لوظيفته في الأرض حصل عليه عتب رباني...وذلك الإقتراب من الشجرة لا ضَيْرَ فيه ما دامت القضية في عالم الرؤيا..أما عالمنا المشهود هو عالم المسؤولية والتكليف..!!
لقد أكَّدَ لنا المفسرون ان القسوة الملحوظة في الآيات القرآنية في الحديث مع النبي "ص" تمثل ظاهرة واضحة في أكثر الآيات التي تتصل بسلامة الدعوة الإسلامية واستقامة خطِّها.
وغير ذلك من المواطن والآيات التي ترقى فيها القضية الى المستوى الكبير من الأهمية بحيث لولاها لإنحرفت مسيرة الرسالة...وللإيحاء بأنَّ هذه القضية ـ الدعوة ـ لا تقبل التهاون حتى في الموارد المستبعَدة منها.وهي بهذا الشكل مع النبي فكيف ستكون مع غيره؟
ذلك من أجل ان يفهم الدُعاة من بعد النبي "ص" بأن عليهم ان يقفوا في خط الإستقامة...لأن الغفلة عن الخطوط الدقيقة في المسألة قد تجر الى الإنحراف بطريقة لا شعورية.
ذكر زين العابدين في كتابه مراجعات في عصمة الأنبياء: " ان الجريمة الدينية لخطيئة آدم ، وقتل النبي موسى عليه السلام للقبطي ـ حينما استغاث به شخص ٌمن شيعته على شخص من عدوِّهِ.ـ.. فقتلهُ.. واستغفر ربه.. فغفر له، هي مسائل بين الثبوت والإثبات...وتعبير عن الحالة الشعورية اكثر مما هي تعبير عن حالة المسؤولية .
والذي يقودنا لذكر هذا هو الإستغفار،والتعبير في موقف الرغبة في رحمة الله.
فكيف الحال مع الفريضة ؟ الذي عليه ان يعطي الكثير من نفسه كي يفتح قلوب الناس على فعل الخير وعلى الحق..
وبعد ان يحكم ويفرض حلاً يستغفر ربه وهو غير مذنب...لأن المسألة البشرية التي تختزنُ في داخلها نقاط الضعف التي قد توحي بالذنب، تجعل القضية في دائرة الفرضية الطبيعية تعبر عن حالة الشعور بالذنب والرغبة بالإستغفار.,.
أحياناً نرى شيخ العشيرة يظلم نفسه بتحمل أعباء المشكلة المطروحة |يضع نفسه موضع المدعي وليس في موقع يؤهله ان يكون إبن جواد | وهو بريءمنها...فيستغفر لذنبه اذاما ارتكب اخطاء من شأنها تأزيم الموقف...فذلك تعبير عن الحالة الشعورية اكثر مما هو تعبير عن القلق من النتائج الواقعية السلبية التي يمكن ان تترتب على ذلك في علاقته الإجتماعية بمحيطه فيما يحمله من أخطار مستقبلية على شخصه بالذات..فيتجه الى الخالق..
إذن لماذا لا يحكم بحكم الله وهدى القرآن المجيد ؟! قال العرب: إياكَ والكبر،والحسد،والغضب،والشهوة.
فالكِبَر يمنع من الإنقياد الى أوامر الشرع،والحسدُ يمنع من قبول النصيحة او بذلها،والغضب يمنع من العدل، والشهوة تمنع من التفرّغ لعبادة الله.
اذن على الفريضة ان يبتعد عن السهو والنسيان، وان يدري ان الإنفعالية الذاتية فرضيَّة قابلة للحدوث في النفس البشرية تجرَّهُ الى نسبة خاطئة في القرار، وان يدري ان تداخل الطِيبة والسذاجة والبراءة والبساطة امور لها تأثير على ميل الطبع ومنازعة الشهوة الطبيعية..
فَـلْيَـعِ مسؤوليته أمام الخالق الجبّار.
ولا يشترط أن يكون المُحَكِّم رئيساً لقبيلة أو عشيرة بل يجوز لمن توفرت فيه تلك الصفات من أفراد أي عشيرة ان يكون فريضه ـ حَكَمَاًـ مقبول الحكم مطاعاً من أطراف النزاع .
....... يتبع .......