العز بن عبد السلام السُّلمي القدوة والمثل ل( باحث البادية العبيدي السلمي):
========================
تمهيـــــــد:
إنه لمن دواعي الفخر والشرف أن يكون سلطان العلماء وبائع الملوك والأمراء العز بن عبدالسلام السُّلمي (المغربي الدمشقي المصري) يمثل الشخصية السُّلمية العربية الإسلامية خير تمثيل, كما يمثل القدوة والمثل بالنسبة لنا شخصيا، نتيجة لقدرته الفائقة على وضع كل شئ في موضعه الصحيح، وتمهيد الطريق أمام العلماء والقضاة لكي يصيروا درعاً للحق وسيفاً على الباطل, وأن يكونوا منارة ومنهاجاً لكل من أراد أن ينهض بهذه الأمة في مواجهة غيرها من الأمم, حيث تعددت مساهماته العلمية في العديد من الجوانب, كالإفتاء والخطابة والقضاء والتدريس والتأليف، بكل أمانة ومصداقية وشفافية ووضوح, إلى الحد الذي جعل رياسة الشافعية تنتهي اليه في عصره، كما جعل مؤلفاته تزيد على الأربعين مؤلفًا، مما يدل على نبوغه الفذ وقدرته العالية على الجمع بين التأليف وباقي الأعمال الأخرى التي تستنفد الجهد وتفنى الأعمار، لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، فاجتمع له من الفضل ما لم يجتمع إلا للأفذاذ النابغين من علماء الأمة, حيث تنوعت مؤلفاته ما بين التفسير وعلوم القرآن, والحديث والسيرة النبوية، وعلم التوحيد، والفقه وأصوله والفتوى.
======================================================
أصله ونسبه ومولده ونشأته:
---------------------------
أولاً: أصله ومولده: قد أجمعت الروايات التاريخية على أن نسب (العز) يرجع إلى بني سُليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وأن سلسلة نسبه هي: (أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن مهذّب السُّلمي) دون أن ترفع نسبه إلى أي من الفروع التي تتفرع من (بهثة) بن سليم بن منصور، كما أجمعت كذلك على أنه (مغربي الأصل) أي ينتسب إلى قبائل بني سليم التي تنتشر في مصر وبلاد الشمال الإفريقي, وأنه (دمشقي المولد) أي ولد بمدينة دمشق السورية, وذلك عام ( ٥٧٧ هـ ) وقيل ( ٥٧٨ هـ) كما أجمعت كذلك على أنه (مصري الوفاة) أي أنه أكمل مسيرة جهاده من أجل تحرير الذات العربية والإسلامية في البلاد المصرية، وتوفي ودفن في أرض الكنانة عام (660هـ) وأنه (شافعي المذهب) أي على مذهب الإمام الشافعي.
======================================================
نشـــــأتـــــه:
------------
لقد حان الوقت لإبلاغ رسالة هامة إلى كل من يهمه الأمر, وبخاصة من يدَّعون أنهم أصحاب العظمة والفخامة والسيادة؛ نتيجة لحصول أحد أجدادهم على (عمدية) أو (مشيخة) أو منحة أو هبة من يد أحد الحكام الأتراك, أو المماليك (الأرقاء) أو الأغاوات الكافالية القوللية الألبانيين ـ محمد علي وباقي أفراد أسرته ـ فيتعالون بها علي العامة من أحرار قبائل العرب ممن لم ينالهم مثل هذا الحظ التعيس, ناسين ما يحمله مضمون هذا البيت الشعري الحكيم الذي يقول:
ليس الفتى من قال كان أبي ** ولكن الفتى من قال هأنذا
ضاربين لهم أروع المثل من خلال شخصية ذلك الغلام السُّلمي (العز بن عبد السلام) الذي فتح عينيه على حياة الحرمان. فلم يكن أبوه باشا أوعمدة أوشيخاً, ولم يتسول تركياً ولا شركسياً ولا مملوكياً ولا أغوياً ألبانياً, ليحصل منه على مال أو جاه أو سلطان, بل كان فقيرا إلى أقصى درجات الفقر، عفيفاً إلى أقصى مراتب العفة والطهارة والنقاء, إلى الحد الذي جعله لا يفتر يوماً عن التجول في الأسواق والطرقات بحثاً عن عمل شريف يصرفه عن تكفف الناس, كما لم يتمكن ابنه الصغير من أن ينل حظه من التدليل والترفيه, بل بدأ حياته شقياً بائساً يعيش على الكفاف. فما إن شب ذلك الطفل واشتد عوده حتى صحبه أبوه ليساعده في بعض الأعمال الشاقة, كإصلاح الطرق وحمل الأمتعة، والتنظيف أمام محلات التجار, غير أن قسوة الحياة لم تشأ أن يستمر هذا الحال طويلاً, كما لم يمهل القدر أباه حتى يصل ولده المسكين إلى سن البلوغ, بل عجَّل بوفاته ورحيله عن عالم الأحياء, ليظل ذلك الصغير البائس يتيماً لا يجد من يطعمه أو يؤويه, كما لا يجد في نفسه القدرة على القيام بتلك الأعمال الشاقة التي كان يؤديها أبوه، بل لا يجد مكانا يأوي إليه، وكأن إرادة الله قد شاءت أن تقرن حاله بحال عظيم أمة العروبة والإسلام, ورسولها وشفيعها يوم الزحام, وابن جداته العواتك السلميات، فتتم تربيته وتأديبه وتهذيبه على يد الله جل جلاله, كما تتم تهيئته لقيادة هذه الأمة في أحلك ظروف حياتها وأشد لحظات مآسيها, فأرسل إليه شيخاً فاضلاً ليتوسط له للعمل في رابع أشهر مسجد في العالم, بعد المكي والنبوي والأقصى, وهو (الجامع الأموي) بمدينة دمشق السورية، والذي يعد من عجائب الإسلام السبعة, في وظيفة مساعدة الصبي للكبار في أعمال النظافة، وفي حراسة نعال المصلين وأهل الحلقات, التي يتركونها عند أحد أبواب الجامع، ونتيجة لحرمانه من وجود مسكن يؤيه, فقد سُمح له بأن ينام الليل في زاوية بأحد دهاليز الجامع، على الرخام.
======================================================
حرمانه من التمتع بحقه في طلب للعلم منذ طفولته:
-----------------------------------------------
لقد حالت رقة الحال وشدة الفقر دون تمتع العز بن عبد السلام بحقه في طلب العلم منذ بداية نشأته، غير أن إرادة الله قد شاءت بأن تجعل العلم هو الذي يطلبه فتدخله إليه من أوسع أبوابه, بل تجعله يتخد من أكبر مدرسة علمية في دمشق ـ المسجد الأموي ـ مستقراً دائماً وملاذاً آمناً, بل تجمع له فيه ما بين عمله ومبيته في آن واحد، فكان يشاهد أقرانه يدرسون في حلق العلم نهاراً، متلهفاً على الوصول إليهم, ومتمنياً أن يكون معهم، كما يشاهد العلماء يتحلقون ليلاً فيتسلل إليهم ليسمع منهم من شتى فنون العلم, غير أن ذلك كان كثيراً ما يعرضه للطرد والإبعاد لعدم استكمال الشروط اللازمة لانضمامه, ولم يكن من بُدٍ, أمام هذا الحرمان الصارخ, سوى أن يأخذ جانباً ليبكي على حظه التعيس. غير أن عناية الله كانت تدركه من حين لآخر؛ لتحول دون اليأس والقنوط والإحباط والخمول. فما إن يرآه الشيخ الذي ألحقه بالجامع وهو (الفخر بن عساكر) صاحب حلقة الفقه الشافعي, على هذه الحال من البكاء والنحيب، حتى طيب خاطره ووعده أن يتعهده حتى ينهي تعليمه, ثم أخذه إلى مكتب ملحق بالمسجد وأوصى بأن يتعلم القراءة والكتابة والخط, وأن يحفظ القرآن الكريم _ كما فعل معي المرحومان: الشيخ عبدالعزيز صفي الدين, والأستاذ حلمي مبروك _ متعهداً إياه بالنفقة طوال فترة تعليمه, وما كان من (العز) إلا أن أقبل على الكتب وحفظ القرآن في شغف عظيم، وأن أتقن القراءة والكتابة والخط الحسن في أسرع وقت ممكن، تعويضاً عما فاته من سنوات الدرس, وشيئاً فشيئاً إلى أن اطمأن الشيخ فخر الدين إلى أن الصبي قد أتقن حفظ القرآن وجوَّده، وأنه قد أصبح يحذق القراءة والكتابة بخط جميل، فبشره بأنه سيضمه إلى الطلاب الذين يحضرون حلقته، وحتى لا تحول ردائة هيئته دون اعتزازه بذاته بين أقرانه, ودون إقباله على العلم بهمة ونشاط, قام الشيخ بمنحه ما يعينه على شراء ثوب صالح ليحضر به حلقات العلم.
=====================================================
دور الرؤيا في رفع ذلك الصبي إلى قمة المجد:
--------------------------------------------
وما إن يشعر ذلك الصبي (العز) بفتح الباب أمامه على مصراعيه لبلوغ غايته في تحصيل العلم, حتى أخذت تنهال عليه أحلام اليقظة فتسيطر على عقله ووجدانه ومشاعره, لتضعه أمام العديد من الاختيارات التي تتعلق بمصير حياته, كما تضعه أحلام النوم أمام الاختيار بين أمرين لا ثالث لهما, هما (العلم والعمل) ثم يضعه القدر أمام حادثة تعرض لها أثناء نومه لتنذره ببلوغه سن الرشد, تلك الحادثة التي يرويها السبكي في طبقاته بقوله:" كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيرا جداً، ولم يشتغل إلا على كبر، وسبب ذلك أنه كان يبيت في كلاسة جامع دمشق، فبات فيها ليلة ذات برد شديد فاحتلم. فقام مسرعاً ونزل في البركة فحصل له ألم شديد من البرد. وعاد فنام فاحتلم ثانية فنزل في البركة، لأن أبواب الجامع مغلقة. ولما طلع منها أغمي عليه من شدة البرد. ولما صحا سمع نداء يهتف به: يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل؟ فقال عز الدين: العلم، لأنه يهدي إلى العمل". ولما أصبح الفتى عز الدين، روى لشيخه ابن عساكر ما كان من أمر تلك الليلة, فقال الشيخ له:" لقد بلغت مبلغ الرجال. وهذا النداء هاتف من السماء يأمرك أن تهب نفسك للعلم" ثم أعطاه الشيخ كتاب ( التنبيه ) في الفقه الشافعي، كما أعطاه أسبوعين مهلة ليحسن قراءته واستيعابه. وما إن تمض ثلاثة أيام حتى يعود العز إلى الشيخ وقد استوعب الكتاب وحفظه عن ظهر قلب! فضمه الشيخ ابن عساكر إلى إحدى حلقه, ليعوض ما فاته من سنوات الدرس.
=======================================================
موقف العز بن عبدالسلام من الشيعة والتشع:
-----------------------------------------
ولد (العز) سنة (577هـ) أي بعد التغريبة بحوالي (136سنة) وبعد سقوط دولة الفاطميين ـ 567هـ ـ بحوالي عشر سنين, في الوقت الذي كان فيه التوتر قائماً على أشده بين السنة والشيعة, وبخاصة خلال حكم الفاطميين للبلاد المصرية, إلى أن سقطت دولتهم في النصف الثاني من القرن السادس, على أيدي أسد شيركوه, وابنِ أخيه صلاحِ الدين الأيوبي, واستيلائه على البلاد المصرية، بعد القضاء على العاضد آخر خلفاء الفاطميين, وما إن تول صلاح الدين حكم مصر، حتى أمر بقطع الخطبة للفاطميين وعودتها للخليفة العباسي, في آخر معقل للشيعة في العالم العربي, وذلك بعد أن كانت قد خفَّت حدة ذلك التوتر نسبياً نتيجة لكسر شوكتهم بزوال نجم دولهم المتعددة, كالبويهيين والحمدانيين والسامانيين، في الوقت الذي كانت تظهر فيه فئات أخرى من الشيعة بأرض الشام مثل: (النصيرية والدرزية والحشيشية) والذين كانوا سبباً في استيلاء الفرنجة على ساحل الشام بكامله, وتمكنهم من فرض سيطرتهم التامة على القدس الشريف, وفي تلك الأثناء كان سلطان العلماء وبائع الملوك والأمراء العز بن عبد السلام, يتزعم الأمة في مواجهة كل من الشيعة المجوسيين والفرنجة الصليبيين, حيث كان سنياً صحيح العقيدة من أبرز أئمة أهل السنة والجماعة, مترأساً المذهب الشافعي، كما كان السلطان صلاح الدين الأيوبي سنياً خالصاً, معتنقاً للمذهب الشافعي ملزماً الناس به, مما ترتب عليه توأمة القادة والعلماء والقضاة والحكام وتوحدهم في ميدان القتال من أجل تحقيق الذات العربية والإسلامية الخالصة, في مواجهة كل عدو ظالم مستبد.
=======================================================
ما أشبه الليلة بالبارحة:
---------------------
لقد حتمت الظروف أن نوجه رسالة هامة إلى كل من يدعي انتسابه إلى بني سليم ويتشدق باسمها, دون أن يضع نفسه موضع ذلك القائد العالم الثائر الفقية (العز بن عبدالسلام السُّلمي) سلطان العلماء وبائع الأمراء, الذي استطاع أن يسجل أروع ملحمة في تاريخ الأمة الإسلامية في مواجهة أعتى أعدائها من الصليبيين والمغول التتار الذين تسابقوا على النيل منها في عصر فسدت فيه قيادة الكثيرين من زعماء هذه الأمة وأئمتها, ولم تصلح فيه إلا قيادة القليلين منهم, في الوقت الذي لم يكن فيه ذلك (العز) مجرد شيخ عالم أو أمير حاكم, بل سلطان العلماء وبائع الأمراء, بل زعيماً ثائراً يحرك جموع أبناء هذه الأمة في ساحات ميادين القتال, مما قد ينطبق عليه قول: أول من قاتل عن دين الإسلام من بني سليم خلال المائة السادسة لظهور الدعوة الإسلامية, ليلتقي مع آخر من يقاتل عن دين الإسلام من بني سليم في آخر الزمان, حيث كان على رأس قائمة العلماء الدعاة الذين أخذوا بيد هذه الأمة في ظلام الليل البهيم, نتيجة لقيامه بواجبه المقدس في أداء الأمانة ونشر العلم، وتقويم الاعوجاج، ومواجهة الظلم، وتصويب الخطأ، إيماناً منه بدور العلماء الأفذاذ في القيام بالمسئولية، وتقديرهم للأمانة، وإدراكهم لعظم دورهم باعتبارهم طليعة الأمة، ولسان حالها، وروادها, انطلاقاً من القول الشهير:" الرائد لا يكذب أهله".
=======================================================
كما استطاع سلطان العلماء أن يضرب أروع المثل للرجل السلمي الحر الصادق الأمين، الذي لم يسع لتسول منصب أو تملق حاكم, أو التهافت على التقاط غنيمة، بل كان في طليعة العلماء الأفذاذ الذين لم تشغلهم مؤلفاتهم ووظائفهم عن الجهر بكلمة الحق، وتبصير الناس، ومحاربة البدع، ونصح الحكام، وخوض ميادين الجهاد، حتى طغى هذا النشاط على جهده العلمي الذي أبرز في علومه، إلى الحد الذي جعل اسمه يقترن بمواقفه العظيمة لا بمؤلفاته القديرة، فحمل التاريخ سيرته العطرة تسوق إلى الناس جلال الحق وعظمة الموقف، وابتغاء رضى الله، دون نظر إلى سخط حاكم أو تملق محكوم، فهو ينطق بما يعتقد أنه الصواب والحق، غير ملتفت إلى غضب هذا أو رضى ذاك, أما الذي ميز شخصيته وجعل لها رونقاً خاصاً, هو ظهوره في عصر قل فيه الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه, وهو عصر الحروب الصليبية الذي أصبحت فيه الدول ـ أو الإمارات ـ الإسلامية متقاتلة متعادية بعد انشقاقها عن الخلافة العباسية في أواخر عهدها, ذلك العهد الذي لم يعد فيه للخليفة العباسي السيطرة التامة على معظم البلاد الإسلامية، بعد انتقال هذه السيطرة إلى أيدي سلاطين الدويلات أو الإمارات الإسلامية, كإمارة السلاجقة والأيوبيين والمماليك والغزنويين والخوارزميين والغوريين والعبيديين، إضافة إلى دولة المرابطين ودولة الموحدين اللتين حكمتا المغرب, والتي كان تدين بعضها بالولاء للخليفة العباسي وتخطب باسمه, كدولة السلاجقة وآل زنكي والأيوبيين والمرابطين, كما يستقل بعضها الآخر بحكمها ولا تعترف بسلطة الخليفة العباسي عليها كدولة الموحدين في المغرب، ودولة العبيديين في مصر, واللافت للنظر أن موجات النزاع المتكرر بين الخليفة العباسي وهذه الإمارات، ثم بين الأمراء وإخوتهم داخل نطاق الأسرة الواحدة , وليس أدل على ذلك مما حدث سنة ( ٥٨٩ ) عقب موت صلاح الدين الأيوبي, واضطراب الأمور بين أبنائه وبين أخيه العادل وتفرق شملهم, مما ترتب عليه الانتصار الساحق لأعداء هذه الأمة من المغول، وتمكنهم من زلزلة عروش الخلافة الإسلامية بشكل غير مسبوق, وما إن يأت القرن السابع حتى يدب الضعف والانهيار في كافة أعضاء الخلافة العباسية, وبخاصة بعد أن تولى حكمها خليفة قبيح السيرة في رعيته ظالماً لهم، هو ( الناصر لدين الله) الذي ترتب على وجوده تدمير العراق في أيامه، وتفرق أهله في شتى أنحاء البلاد، ونهب أموالهم وأملاكهم, إلى الحد الذي جعل بغداد تصير, بعد وفاته, لقمة سائغة للمغول بعد سقوطها في أيديهم على يد هولاكو عام ٦٥٦ هـ، ليتم إسدال الستار على آخر فصل من فصول حكم الخلافة العباسية للبلاد الإسلامية, في الوقت الذي كان يقف فيه الشيخ القائد المجاهد (العز بن عبدالسلام) السُّلمي الحر منتصب القامة مرفوع الهامة لا يستذله حاكم ظالم, ولا ترهبه جحافل الصليبيين والمغول التتريين, وذلك على النحو التالي:
=======================================================
أما الصليبيون: فقد انطلقت حملاتهم العسكرية في عام ٤٨٩ هـ بدعوة من الكنيسة, واستمرت طوال القرنين السادس والسابع الهجريين فقاموا فيها باستخدام أبشع أنواع الجرائم البشرية ضد المسلمين، إلى الحد الذي جعلهم يطلقون عليها اسم الحملات أو الحروب الصليبية، والتي تمثلت في سبع حملات متتالية على فترات زمنية متعاقبة، حتى انتهت بانتصار دولة المماليك المسلمة، وخروج الصليبيين من آخر معقل لهم هو عكا سنة ٦٩٠ ه, في الوقت الذي كان يحرك فيه العز بن عبد السلام رحا القتال بكل شجاعة واقتدار, خلال الحملات الخمس الأخيرة التي عاصرها, فأبلى فيها بلاء حسناً, وبخاصة في الحملة السابعة، التي تجلت زعامته فيها في أبهى صورها, حين أفتى خلالها بتحريم التعامل مع الصليبيين وبيع السلاح لهم, إلى الحد الذي جعل هذه الفتوى لا تصير سبباً في عزله عن الخطابة فقط, بل في واعتقاله وعزله عن الجهاد، فلم يجد أمامه من سبيل سوى خروجه من الشام مهاجراً إلى أرض الكنانة, كما سيتم تفصيله فيما بعد.
======================================================
وأما المغول التتريين: فلم تقل قوتهم ووحشيتهم عن الصليبيين. فقد فعلوا في المسلمين ما لم تفعله أمة من الأمم أو شعب من الشعوب, حيث بدأ خطرهم في نهاية القرن السادس الهجري, الذي انطلقت فيه غزواتهم إلى بلاد المشرق الإسلامي، وتمكنهم من السيطرة على بلاد ما وراء النهر، ثم تدميرهم للعديد من المدن الإسلامية العريقة هناك، ثم استمرار زحفهم حتى وصل إلى (بغداد) عاصمة الخلافة العباسية وتمكنهم من الاستيلاء عليها، وإسقاط الخلافة العباسية سنة ٦٥٦ هـ، ثم ارتكاب أبشع الجرائم فيها، وممارسة أنواع الإبادة والتخريب, كما استمرت هجماتهم المتتالية واستيلائهم على بلاد المسلمين إلى نهاية القرن السابع الهجري, الذي تمكن فيه المسلمون من القضاء عليهم وطردهم بشكل تام، وذلك بعد أن تمكن سلطان العلماء من تزعم علماء الأمة في توحيد كلمتها وإعطاء أبنائها حقهم في الجهاد من أجل تحريرها، تحت قيادة أبطالها المخلصين من الأمراء والحكام المسلمين.
=======================================================
خلافه مع السلطان الصالح إسماعيل ومغادرته دمشق:
-------------------------------------------------
تولى العز الخطابة في الجامع الأموي ـ رابع أكبر مساجد العالم ـ في عصر الملك الصالح إسماعيل الأيوبي حاكم دمشق، ولكنه لم يستمر في الخطابة سوى سنة تقريبا, لقيام (الصالح) بعزله منها بعد أن تمكن الشيخ السُّلمي من افتضاح أمره؛ نتيجة لتحالفه مع الصليبيين على قتال ابن أخيه الصالح أيوب حاكم مصر، وكان ثمن هذا الحلف أن سلَّم لهم صيدا وشقيف وصفد، ولم يكتف (إسماعيل) بتصرفه الشائن, وإنما سمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح والطعام لقتال المسلمين في مصر. ولم يكن الشيخ ليسكت عن خطإ أو يسمح بتجاوز في حق من حقوق أمته، أو تفريط في ثابت من ثوابتها؛ فصعد المنبر وخطب في الناس خطبة عصماء، وأفتى بحرمة بيع السلاح للفرنجة، بعد أن ثبت أنه يستخدم في محاربة المسلمين. ثم أعقب ذلك بخطبة مدوية في الجامع الأموي قبَّح فيها الخيانة وغياب النجدة والمروءة، وذم ما فعله السلطان وقطع الدعاء له بالخطبة. وكان ذلك بمثابة إعلان للعصيان العام وقال في آخر خطبته: "اللهم أبرم أمر رشد لهذه الأمة يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر بالمعروف وينهى فيه عن المنكر" ثم نزل. وما كان من الصالح إسماعيل إلا أن أقدم على عزل الشيخ الجليل عن الخطابة والإفتاء، وأمر باعتقاله، ثم اضطر بعد ذلك إلى أن يفك حبسه خوفًا من غضبة عامة الناس, فألزمه بيته، ليحول بينه وبين عامة الشعب بحرمانه من الخطابة والإفتاء.
======================================================
العالم الحر لا يمالئ الحكام ولا يسكت على ظلمهم:
-----------------------------------------------
لقد حرصنا أن نرسل رسالة هامة إلى كل من يطربهم الفخر, ويغريهم المنصب والمال أو الجاه والسلطان, الذي حصَّله أجدادهم مقابل خضوعهم المهين للملوك والأمراء وانحنائهم أمامهم وتقبيلهم أيديهم والتذلل لهم, دون أن يعلموا أن لكل أمة أجل": فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" صدق الله العظيم, ودون أن يعلموا كذلك أن أسلحة الدفاع عن الحق ـ سواء ما يتعلق منه بالفرد أو الأمة ـ تختلف طبقاً لسنة التدرج في تغيير المنكر كما وصفه الرسول محمد (ص) والذي يبدأ باليد مروراً باللسان وانتهاء بالقلب, وأن جدهم سلطان العلماء الفارس السُّلمي الحر (العز بن عبدالسلام) قد أصر على قيادة الأمة بأسرها في ملحمة تغيير شتى أصناف الظلم الذي تعرضت له على يد ذلك الحاكم الظالم العميل الخائن (الصالح إسماعيل) باللسان؛ ليدفع الجميع إلى ممارسة حقوقهم في التغيير الجذري لذلك الظلم المطبق, طبقاً لمنظومة أضلاع مثلث التغيير المشروع ما بين اليد واللسان والقلب, دون أن يخشى عاقبة هذا الإصرار, وشدة وقعه على نفس الحاكم الظالم المتغطرس, وذلك انطلاقاً من علمه أن التاريخ لا يرحم المتخاذلين, وأن عمر الضحية أطول من عمر جلادها, وأن إحراز لقب البطولة باهظ الثمن. فما إن تمكن (العز) من إشعال الثورة في نفوس أحرار هذه الأمة في البلاد السورية في مواجهة (الصالح إسماعيل) الذي أيقن صعوبة الحركة معه, لكثرة تفريطه في الحقوق، وإقدامه على الخيانة بنفس راضية، حتى أصر على إشعالها في بلد آخر أكثر صلاحية لممارسة دعوته, فقرر الخروج من دمشق ـ موطن المسجد الرابع ـ إلى بيت المقدس ـ ثاني الحرمين وأولى القبلتين ـ لاستكمال مهمته في الدفاع عن كيان أمة العروبة والإسلام قاطبة, وملاحقة أمثاله من الحكام الخونة المتآمرين على دماء أبناء هذه الأمة ومقومات حياتهم، إلى جانب رغبته في السماح له بالدعوة إلى الله على بصيرة، وهو عالي الجبين، مرفوع الهامة, دون أن يتذلل لخائن أو ينحني لظالم مقابل (ظل زائل وعارية مسترجعة)
وأمام هذه الإرادة القوية الصلبة والتصميم العنيف, لم يجد (الصالح إسماعيل) بداً من أن يرسل إليه رسولاً من بطانته, طالباً منه ملاطفة العز وملاينته بالكلام الحسن الجميل، و حاثاً له على أن يقدم للعز عرضاً مغرياً بأن يجعل اعتذاره للملك، مقابل عودته إلى ما كان عليه، فذهب الرجل إلى العز, وتقدم إليه قائلاً:" ليس بينك وبين أن تعود إلى منصبك وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه، إلا أن تأتي وتقَبّل يد السلطان لا غير" فضحك العز وقال قولته المشهورة: " يا مسكين، والله ما أرضى أن يقَبِّلَ الملك الصالح إسماعيل يدي فضلاً عن أن أقَبِّلَ يده، يا قوم أنا في واد، وأنتم في واد آخر، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به". فما كان من الملك إلا أن أمر بحبسه حتى جاءت الجيوش المصرية المنتصرة فحررته.
=====================================================
مغادرته بلاد الشام إلى أرض الكنانة:
----------------------------------
بعد أن فشل العز بن عبد السلام في تقويم سلوك ملك الشام, وتخليصه من التبعية المهينة لجيوش الصليبيين, قرر الاتجاه إلى مصر لما سمعه عن إخلاص ملكها الصالح أيوب لوطنه ودينه. وما إن تمكن من الوصول إلى القاهرة سنة ( ٦٣٩ هـ ـ ١٢٤١م) حتى استقبله (أيوب) عند وصوله بما يليق به من الإكرام والتبجيل, وأكرمه غاية الإكرام، وليس أدل على ذلك من تعيينه قاضي قضاة مصر, والإشراف على عمارة المساجد المهجورة بالقاهرة وكافة أنحاء مصر، تلك الأعمال التي تناط الآن بوزارة الأوق، ثم توليته خطابة جامع عمرو بن العاص (الجامع العتيق) فظل على هذه الحال حتى نهاية الدولة الأيوبية، كما ظلت مكانته في الارتفاع خلال قيام دولة المماليك, حيث كان الظاهر بيبرس يجله ويحترمه، ويعرف قدره، ويقف عند أقواله وفتاويه.
========================================================
قصة بيعه للأمراء وتلقينه درساً للقضاة والعلماء:
----------------------------------------------
لقد استطاع الشيخ السُّلمي الجليل أن يلقن كافة القضاة والعلما درساً لن ينسوه في كل زمان ومكان, فبعد أن كان منصب قاضي القضاة مشروطاً على القضاة من قبل الحكام, مقابل الحصول على الشهرة والجاه, أصبح مشروطاً على الحكام من قبل (العز بن عبدالسلام) لإصلاح المفاسد وتقويم المعوج، ورد الحقوق إلى أصحابها، وإنصاف المظلوم من الظالم، حتى ولو كان الظالم هو الحاكم نفسه, وليس أدل على ذلك من كسره الحاجز المنيع الذي كان يفرضه الحكام على القضاه والعلماء, والذي يتعلق بضرورة خضوعهم التام لإرادة الحكام وتنفيذهم لرغباتهم دون تجاوز الحدود المرسومة لهم, حيث بلغ الأمر غايته حين خرج على الجميع بقرار غاية في القوة والاندهاش, وهو حكمه بإسقاط الإمارة والقيادة عن كل من شملهم (الرق) من أمراء المماليك, الذين أكثر الملك الصالح من شرائهم وإسكانهم جزيرة الروضة, ثم الاعتماد عليهم في إقامة دولته وفي حروبه, دون أن تذهب عنهم صفة العبودية، إلى أن تمكنوا من القضاء على الدولة الأيوبية في مصر التي قامت بين عامي (٥٦٩ـ 648هـ) وأقاموا دولتهم التي عرفت بدولة المماليك, والتي استمرت ما بين عامي( ٦٤٨ ـ ٩٢٣ هـ(
=======================================================
الشيخ السُّلمي يصر على تنفيذ حكمه مفنداً حيثياته:
----------------------------------------------
وما إن تمكن (العز) من إصدار حكمه بعدم ثبوت ولاية الأمراء (الأرقاء) ونفاذ تصرفاتهم العامة والخاصة, ما لم يتم تحريرهم من رقهم وعبوديتهم، حتى بادر بإبلاغهم بذلك وإعلانه على الملأ، ثم أوقف تصرفاتهم في البيع والشراء والنكاح, وغير ذلك مما يثبت للأحرار من أهلية التصرف، مما ترتب عليه تعطيل مصالحهم العامة والخاصة، وبخاصة أنه كان من بينهم نائب السلطان نفسه, وأمام إصراره العنيف لم تفلح محاولات هؤلاء الأمراء مساومة ذلك الشيخ السُّلمي النبيل, بل زادت من إصراره على بيعهم علانية لصالح بيت المال، ثم عتقهم بعد ذلك ليصيروا أحرارا, تنفذ تصرفاتهم، قائلا لهم: نعقد لكم مجلسا، وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ليحصل بعد ذلك عتقكم بطرق شرعية، وما كان منهم سوى رفض هذا الحكم ورفع الأمر إلى السلطان الصالح أيوب، الذي قام بدوره بمراجعة الشيخ في قراره فأبى، مما اضطر السلطان إلى يتلفظ بكلمة خرجت عن حدود سيطرته على مشاعره, فأغضبت الشيخ غضباً شديداً، اضطره إلى أن ينسحب من هذه المهمة بعزل نفسه عن القضاء، نتيجة لعدم وجوب تنفيذ أحكامه بحذافيرها، في مواجهة إرادة أصحاب الجاه والسلطان.
=======================================================
الإرادة الشعبية ترغم الملك على استرضاء القاضي السُّلمي:
-------------------------------------------------------
لقد فرضت على الشيخ كرامته وشهامته, ألا يخضع إلى أي نوع من أنواع المساومة أو التهديد, وألا يصير عبداً للمال أو الجاه أو السلطان, وألا يحيد عن كلمة الحق مهما كلفه ذلك من الشقاء والعناء. فما إن تم اتخاذ قراره بعزل نفسه عن القضاء, حتى بادر بمغادرة القاهرة في الحال, تاركاً فخفخة الملك وعظمة السلطان خلف ظهره دون أن يلتفت إليها, ودون أن يخشى ما يمكن أن يحدث من ردة فعل الملك الذي خذله والأمراء الذين أعلن بيعهم بالمزاد العلني, وأمام هذه الإرادة الصلبة والنبل والشهامة واحترام الذات, هبت الأمة المصرية بالخروخ وراءه ومنع مغادرته البلاد. وما إن أدرك السلطان خطورة فعلته، حتى ركب من فوره في طلب الشيخ السُّلمي وبالغ في استرضائه وتطييب خاطره واستمالة قلبه، طالباً منه الرجوع معه، ولم يكن أمام ذلك القاضي العادل سوى أن يربط موافقته على العودة إلى القضاء بموافقة الملك على أن يتم بيع الأمراء بالمناداة عليهم علانية وبكل صراحة ووضوح. وما إن بدأ النداء بافتتاح جلسة البيع, حتى وقف الشيخ مهيبا جليلا, وهو ينادي على أمراء الدولة واحدا بعد واحد، ويغالي في ثمنهم حتى إذا ارتفع السعر إلى أقصى غايته وعجز المشترون عن الكلام, قام السلطان الصالح أيوب بدفع الثمن من ماله الخاص إلى يد الشيخ الشجاع, ليودع ثمنهم بيت مال المسلمين، وقد ترتب على هذه الواقعة الطريفة إطلاق اسم (بائع الأمراء) على ذلك الشيخ المهيب.
========================================================
ومما لاشك فيه أن إصرار (العز) على موقفه من بيع الأمراء لم يكن نابعاً من أفكار عنصرية خالصة, تسعى إلى تقديم العنصر العربي على غيره من العناصر الأخرى داخل الكيان العام للأمة الإسلامية, كما لم يكن نابعاً من رغبته في التعالي بتضخيم ذاته الشخصية في مواجهة الملوك والأمراء الذين يملكون زمام أمور هذه الأمة, وإنما كان بدافع رغبته في تحرير أبناء هذه الأمة من أدناها إعلى أعلاها, وإجراء الإصلاح الشامل لكل مقومات حياتهم, بغض النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم الفكرية والسياسية, كما لم يكن موقفنا ـ نحن السُّلميين ـ اليوم نابعاً من رغبتنا في الافتخار والتعالي على غيرنا, سواء من أبناء قبائل العرب أو البادية خاصة, أو باقي أبناء أمتنا الإسلامية عامة, بل نابعاً من رغبتنا الأكيدة في تقديم النموذج الأروع والأمثل الذي يضع الأمة العربية والإسلامية على قمة الأمم, حيث نقف اليوم في خضم الاضطراب الفكري والسياسي الهائل, الذي تعيشه قبائلنا العربية ـ بل أمتنا الإسلامية ـ بكل ثقة وأمانة ووضوح, في مواجهة الغزو الفكري (الصهيوني الصليبي الشيعي) كما وقف جدنا الفارس السُّلمي الحر (العز بن عبدالسلام) مجاهداً بقلمه ودرعه وسيفه, ومتقلداً زمام الدعوة لمواجهة الغزو الصليبي الغربي والمغولي التتري. فكما وقف في مواجهة الحكام الخونة المتآمرين أمثال (الصالح إسماعيل) وغيره, فقد وقف إلى جانب الحكام المخلصين الذين قادوا المقاومة والحرب الدفاعية ضد الغزاة الطغاة, أمثال السلطان قطز (المملوكي) وغيره, وبخاصة خلال الفترة التي قاد فيها قوات السلطان عز الدين أيبك, في ذلك الوقت الذي كانت تتعرض فيه أمة العروبة والإسلام لطوفان الهزائم, نتيجة لتخاذل حكامها وصراعهم على الدنيا من جهة، وبعد الناس عن الإسلام وغرقهم في الشهوات والمحرمات من جهة ثانية، وطبقاً للمثل القائل:" ما أشبه الليلة بالبارحة" فإن ما تمر به هذه الأمة اليوم من تخاذل الحكام والقادة والزعما عن دورهم المرجو, ثم خضوع العلماء وذلهم واستكانتهم وتخليهم عن الأمانة التي حملهم الله إياها, يشبه إلى حد بعيد ما حدث لهذه الأمة في عهد ذلك الفارس السلمي الحر, كما يشبه حال ذلك الجد (العز بن عبدالسلام) حال أحفاده من أبناء بني سليم اليوم, وبخاصة في بلادنا المصرية, وكذلك حالهم الذي تنبأ به النبي (ص) لأبناء هذه القبائل في آخر الزمان.
=======================================================
فارس بني سُليم يقتحم الأخطار في وسط المجازر:
----------------------------------------------
قد يظن البعض أن الشيخ السُّلمي (العز بن عبدالسلام) كان يجهل حجم الكوارث المأساوية والاضطرابات السياسية التي مُنيت بها الحقبة الزمنية التي عاصرها, وأن أمراء تلك الحقبة كانوا مسلوبي الإرادة مأموني الجانب, دون أن يدركوا حدود الطبيعة النفسية الشرسة لشخصية ذلك الشيخ المجاهد والقاضي المشاكس, والإنسان الخير التقي النقي, وليس أدل على ذلك من وقوفه فارساً مقاتلاً وشيخاً ناصحاً وقاضياً عادلاً, في أحرج اللحظات التي تعرضت لها أمة العروبة والإسلام في مواجهة الحملات الصليبية الشرسة, في الوقت الذي كان ينشغل فيه الملوك والأمراء بقتل بعضهم البعض, فاتحين المجال أمام أعدائهم الصليبيين لذبح أبناء هذه الأمة في وضح النهار. فما إن تتم تولية توران شاه ملك البلاد بعد موت الملك الصالح, حتى يبادر مماليك أبيه بقتله حرقاً وغرقاً. وما إن تتم تولية زوجة أبيه المملوكة شجر الدر من بعده، حتى يتم قتلها والتخلص منها، لتتوالى سلسلة القتل الذريع بين أمراء المماليك بعد سقوط بني أيوب, بسبب التكالب على الملك. فقد أخذ كل منهم على يقتل صاحبه ليتولى مكانه! إلى أن اجتمعوا في النهاية تحت قيادة الملك المظفر الظاهر بيبرس المملوكي.
=======================================================
وأمام القوة المملوكية الباطشة لأمراء, وذلك السيل الجارف من دماء الأمراء والقادة والزعماء, يقف ذلك الشيخ السُّلمي الشجاع دون أن تهتز في رأسه شعرة, أو تتلعثم على لسانه كلمة, أو ترتعش له يد, ليصل الأمر إلى أوج قمته حين تأتي اللحظة الحاسمة التي يتولى فيها (بيبرس) المُلك, فيعود إصرار (العز بن عبدالسلام) على استكمال مشروعه التاريخي لبيع الأمراء, دون أن يثنيه عن عزمه انتقال الملك من أيدي أصدقائه الأيوبيين الأحرار إلى أيدي ذلك الشتات المملوكي الذي لاهم له سوى الحيل والتآمر والخيانة والقتل. فما إن يقوم بيبرس باستدعاء الأمراء والعلماء لبيعته، حتى يفاجئه الشيخ العز والحاضرين بقوله:" يا ركن الدين أنا أعرفك مملوك البندقدار" أي لا تصح بيعته؛ لأنه ليس أهلا للتصرف, فما كان من الظاهر بيبرس إلا أن أحضر ما يثبت أن البندقدار, قد وهبه للملك الصالح أيوب الذي أعتقه. وما إن يتأكد ذلك الشيخ الجليل من صحة قوله حتى يقوم بمبايعته على الملك أمام الجميع, ضارباً أروع المثل للفارس السُّلمي الشهم النبيل, الذي يثق في نفسه إلى أبعد حد يتخيله العقل, كما يقف بمفرده وكأنه بين آلاف مؤلفة من الفرسان السلميين الأنجاد.
=======================================================
شهادات تقدير العلماء لسلطانهم العز بن عبدالسلام:
-------------------------------------------------
وإذا كان التاريخ هو النافذة التي يتم التعرف من خلالها على أحداث الماضي البعيد, ويرسم ملامحه بكل أبعادها, فإن العلماء هم المصابيح التي تضيء ذلك الماضي, حتى يظل صورة حية تهدي الحائرين وترشد التائهين, وتثري حياة والباحثين والدارسين, ولعل هذه الشهادات والتقديرات العلمية والأدبية والإنسانية من قبل هؤلاء العلماء لسلطانهم العز بن عبدالسلام, تكون خير شاهد على مكانته العلمية والأخلاقية والإنسانية, وذلك كما يلي:
التاج السبكي:
وصفه بانه شيخ الإسلام والمسلمين وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها، لم ير مثل نفسه ولا رأى من رآه مثله علما وورعا وقياما في الحق وشجاعة وقوة جنان
ابن قاضي شھبة:
عرفه بأنه الشيخ الإمام العلامة وحيد عصره سلطان العلماء, برع في المذهب وفاق فيه الأقران والأضراب, وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث والفقه والأصول والعربية, واختلاف أقوال الناس ومآخذهم, حتى قيل إنه بلغ رتبة الاجتهاد.
الحافظ السیوطي:
وصفه بأنه كان شيخاً للإسلام عالماً ورعاً زاهداً آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر.
الحافظ ابن كثیر: عرفه بقوله إنه شيخ المذهب ومفيد أهله وله مصنفات حسان ... وبرع في المذهب وجمع علوما كثيرة وأفاد الطلبة ودرس بعدة مدارس، وانتهت إليه رئاسة الشافعية وقصد بالفتاوى من الآفاق... وإنه كان لطيفا ظريفا يستشهد بالأشعار.
الإمام النووي:
شهد له بأنه الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته.
=======================================================
خــــــاتمـــــــة:
--------------
لقد حرصنا أن نبذل قصارى جهدنا من أجل الوصول إلى أهم الجوانب المضيئة في شخصية ذلك الرجل السُّلمي القيسي المضري العدناني الحر, الذي وجدنا العديد من القواسم المشتركة بين ملامح وسمات شخصيته المرموقة, وبين ملامح وسمات شخصيتنا المتواضعة, وبخاصة في ظروف نشأته وطرق تعليمه وصلابة مواقفه, إلى جانب قوة القلب وعفة النفس ونظافة اليد, وسلامة الضمير والاعتزاز بالذات, أما ظروف النشأة وطرق التعلم فقد يسأل عنها أهل قريتي ومسقط رأسي بمركز الفشن محافظة بني سويف, وأما باقي الجوانب فهي ظاهرة للعيان أمام الجميع, أما هدفنا من وراء ذلك فهو إبراز دور الرموز المشرفة لأبناء قبائل بني سليم في كل زمان ومكان, وفتح المجال أمام الشباب السلميين الأحرار, أن يتخذوا منها القدوة الصالحة والمثل المشرف, حتى يتمكنوا من النهوض بذواتهم وأهليهم وأوطانهم ودينهم في كل مكان من أرض الله.
-----------------
بعض المراجع والمصادر:
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
والله الموفق والمستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل.
ولايزال للحديث بقية: عبدالغفار العبيدي السلمي.