يرى البعض أن الصراع في دارفور، هو صراع بين عرب وأفارقة، ويرى البعض الآخر أنه صراع بين رعاة ومزارعين على الأرض والماء والكلأ، بينما يرى بعض المحللين أن الصراع هو تنافس سياسي داخلي على السلطة والثروة، بين تيارات وأحزاب وقوى مختلفة داخل النظام وخارجه. كما أن الكثير ممن يتابعون لعبة الأمم يدركون أن أزمة دارفور هي صراع استراتيجي دولي، يندرج ضمن لعبة الصراع على المصالح والموارد بين الدول الكبرى، والتنافس في ما بينها، وأخيراً يعتبر البعض ممن يؤيدون نظرية المؤامرة، أن الولايات المتحدة الأميركية هي المحرك الأساسي للأزمة، لتقسيم السودان، واستكمال بناء إمبراطوريتها، عبر تفتيت مكامن الخطر على أمنها القومي، والسيطرة على حوض النفط العالمي، الممتد من آسيا الوسطى وبحر قزوين، عبر الشرق الأوسط وانتهاءً بأفريقيا، وحتى شواطئها الغربية المطلة على المحيط الأطلسي، وقطع الطريق على الصين ومنعها من السيطرة على بترول السودان ودول أفريقية أخرى.
إن معرفة ما يجري في إقليم دارفور السوداني، ودراسة القضية من جوانبها المختلفة قد يقودنا إلى إدراك ماهية الأزمة الحالية، وذلك عبر تحليل مكوّنات تشكّلها تاريخياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، ومن ثَمَّ جيوبولتيكياً وجيوستراتيجياً.
أ - الموقع
يقع إقليم دارفور في أقصى غرب جمهورية السودان، بين خطّي العرض 9 و20 شمال خط الاستواء، وخطّي الطول 16 و28 شرقي غرينتش. تحدّه ليبيا من جهة الشمال، وجمهورية تشاد من جهة الغرب، وجمهورية أفريقيا الوسطى من جهة الجنوب الغربي، أما من جهة الجنوب فتحدّه ولايتا بحر الغزال الغربية والشمالية السودانيتان، ومن جهة الشرق تحدّه ولاية كردفان والولاية الشمالية السودانيتان أيضاً، وذلك وفق تقسيم السودان العام 1994 إلى 26 ولاية، تضم عدداً من المحافظات والمحليات(1). يمتد الإقليم من الشمال إلى الجنوب، إلى أكثر من 1000 كلم، ومن الشرق إلى الغرب بأكثر من 500 كلم في بعض المناطق، وهو بذلك يشبه مستطيلاً مساحته أكثر من 500 ألف كلم2، أي 5/1 مساحة السودان (2,5 مليون كلم2)، أو ما يزيد عن نصف مساحة مصر، وأكبر من مساحة العراق، ويقارب مساحة فرنسا.
إن أقرب نقطة من الإقليم تبعد عن العاصمة الخرطوم حوالى 600 كلم وأقصى نقطة تبعد أكثر من 1200 كلم.
ب - أقسام الإقليم وسكانه
قُسّم الإقليم العام 1994 بموجب المرسوم الدستوري العاشر، إلى ثلاث ولايات هي: شمال دارفور وعاصمتها الفاشر، وغرب دارفور، وعاصمتها الجنينة، ثم جنوب دارفور وعاصمتها نيالا.
يقدر عدد سكان الإقليم حالياً بحوالى 7 ملايين نسمة، ينتمون إلى أكثر من 100 قبيلة، يتكلمون أكثر من 14 لغة، ويدينون جميعهم بالإسلام، وأغلبهم على المذهب المالكي. ويمكن تقسيم هذه القبائل إلى قبائل ذات أصول عربية وأخرى ذات أصول أفريقية.
وأهم قبائل دارفور هي:الفور، وهي أكبر القبائل في الإقليم، وتعتبر مع فروعها ثاني أكبر إثنية في السودان بعد العرب ويشكلون 10% من سكان السودان البالغ 35 مليون نسمة، وقد أعطوا اسمهم للإقليم فأصبح يعرف بديار الفور أو دارفور ويتمركزون في جبال مرّا(2). وبعد الفور تأتي قبائل: الزغاوة - المساليت - البرتي - التاما - البرحق - الفلاتة - الميدون -التنجر - القِمَر - الداجو.
أما القبائل العربية فأهمها: الرزيقات - التعايشة - بنو فضل - الزيادية - المسيرية - الماهرية - بنو هلبة - المعاليا - المحاميد - الحوطية - الرطرية(3).
ونظراً إلى جغرافية الإقليم ومتاخمته لدول ثلاث(4) هي ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وكون الحدود مع هذه الدول منبسطة ولا حواجز طبيعية فيها تمنع حركة تنقل الناس، تقيم قبائل مشتركة بين دارفور وهذه الدول. وقد أسهم الانتماء لقبيلة تنتشر في عدة دول، في التأثير بتكوين أزمة دارفور
وتداعياتها اللاحقة.
ج - دارفور في التاريخ
يعتقد بعض المؤرخين أن الإقليم كان موطناً للعديد من القبائل الأفريقية، ومع مرور الزمن استقرت فيه مجموعات من الساميين، والحاميين، جاؤوا من الشمال والشرق والغرب، بحثاً عن المراعي لقطعانهم، والمياه المتوافرة في جباله، ومنحدراتها الغربية. وبعيد فتح مصر منتصف القرن السابع الميلادي إندفع قسم من العرب المسلمين نحو الإقليم واستقر حوالى ربع مليون نسمة منهم هناك، وتصاهروا مع السكان الموجودين(5)، ولما كان هؤلاء الوافدون الجدد أصحاب عقيدة وحضارة، فقد أثّروا في ثقافة الإقليم، ودين الأغلبية التي كانت تتشكل من العرب والبربر المتهوِّدين .
إستمرت الهجرات المختلفة عبر طريق القوافل الممتد من بحيرة تشاد ونهر النيجر نحو الشمال حتى تونس وليبيا، ومن الشرق عبر الطريق الممتد نحو الإقليم من مصر، عبر أسيوط وهو ما يعرف بطريق الأربعين، التي تصل مصر بعاصمة دارفور القديمة كوبي. وأشهر القبائل العربية التي استقرت وانتشرت في الإقليم هي بنو هلال وبنو حسين، وذلك في القرن الحادي عشر والثاني عشر للميلاد(6).
د - التاريخ المٌدَّون
يبدأ التاريخ المدوّن لدارفور في القرن الرابع عشر الميلادي مع تأسيس سلطنة التنجور التي جاء أتباعها عن طريق «واداي» في تشاد وأزاحوا أسرة الداجو وكان أول ملك منهم أحمد الماكور الذي تزوج من ابنة آخر حاكم في أسرة الداجو، وقد أخضع السلطان الجديد زعماء كثير من القبائل لسلطانه، وجعل الإسلام دين المملكة، وقد عرف عهده بالرخاء والازدهار.
ولما خلفه ابنه البكر المعروف بالسلطان دالي، عمل على التقرب من عامة الناس الذين يحكمهم، ذلك أن أمه كانت تنتسب لقبيلة الفور. وقد قسَّم دالي مملكته إلى مقاطعات، ووضع قانوناً جزائياً عرف باسم كتاب دالي، وهو مستوحى من القرآن الكريم، وما يزال محفوظاً حتى اليوم. ويعتبر ابنه سليمان، الذي يطلق الفور عليه لقب صولون وتعني العربي أو الأحمر مؤسس أسرة الكيرا الشهيرة، وكان محارباً عظيماً ومسلماً مخلصاً، وقد حكم من العام 1596 حتى العام 1637 م.
بعد سليمان جاء ابنه أحمد بكر (1682-1722) فجعل الإسلام دين الدولة الرسمي، وعمل على تنمية المملكة وازدهارها بتشجيع الهجرة إليها، خصوصاً من تشاد الحالية. وقد امتدت دولته شرقاً حتى تجاوزت نهر النيل إلى عطبرة. بعده دخلت المملكة في صراع على الوراثة بين عدة أبناء خَلّفَهم وراءه، مع أنه أوصاهم بأن يتداولوا الحكم دورياً، ولكن هذا لم يمنع من وقوع حروب أهلية بين أبنائه استمرت حتى العام 1786م. وهذا ما جعل دارفور تعيش حالة انحطاط وتدهور، وتصبح مطمعاً لجيرانها(7).
يعتبر السلطان محمد تراب أحد أبناء السلطان أحمد بكر أهم حاكم في هذه الفترة المضطربة من تاريخ دارفور، فقد قاد عدة حملات عسكرية ناجحة لم تتجاوز أم درمان ضد قبائل الفونج، ووقف عند نهر النيل.
بعده تولى السلطة شقيقه عبد الرحمن الملقب بالراشد أو العادل، والعام 1799 أرسل رسالة يهنىء فيها نابليون بونابرت عندما احتل مصر وقضى على المماليك، فرد عليه نابليون بطلب 2000 عبد أعمارهم فوق 16 سنة، وأن يكونوا أشداء وأقوياء، يرسلهم إليه مع القافلة القادمة. ويعتبر عبد الرحمن مؤسس عاصمته الملكية الجديدة الفاشر، وذلك بين العامين 1791-1792
بعد عبد الرحمن جاء ابنه محمد الفاضل الذي خضع لتأثير بعض القبائل العربية التي كانت تعيش في البلاد وتتمتع بشبه استقلال ذاتي، كالبقارة والرزيقات.
عندما اندفع الجيش المصري العام 1821 داخل السودان في عهد محمد علي باشا حاكم مصر، تصدَّى له جيش سلطان دارفور عند بارا فهُزم وفقد منطقة كردفان المجاورة نتيجة ذلك. وكان المصريون يخطِّطون لغزو منطقة دارفور نفسها وسلطنتها، ولكن انشغالهم بتثبيت الأمن في منطقة حوض النيل منعهم من ذلك. والمصريون هم الذين أسسوا مدينة الخرطوم في ذلك الوقت والتي أصبحت عاصمة السودان في ما بعد(
.
توفي الفاضل العام 1838تاركاً أربعين ابناً، وقد عيّن ثالثهم محمد حسن ليكون خليفته، وكان هذا ورعاً تقياً في مظهره ولكنه كان جشعاً. والعام 1856 أصيب بالعمى، فتولّت أخته زمزم قيادة البلاد بحكم الأمر الواقع.
في مطلع العام 1856 باشر رجل أعمال من الخرطوم يدعى الزبير رحمه بنشر مراكز تجارية (Trading posts) على طول جنوب دارفور وعززها بحماية قوى مسلحة جيداً. وسريعاً ما أصبح هذا الرجل يملك دولة تحت سلطته، وقد عرفت هذه المنطقة باسم بحر الغزال وقد كانت مصدر تجارة دارفور مع الشمال الأفريقي ومصر بالعاج وبالعبيد عبر الطريق القديمة. ولكن الزبير حوّل هذه التجارة نحو الخرطوم والنيل، ومن ثم إلى مصر.
توفي السلطان حسن العام 1873، فدخل ابنه ابراهيم في صراع مع الزبير الذي أصبح حليفاً للمصريين، واتفق معهم على غزو دارفور. وقد نتج عن هذه الحرب تدمير مملكة دارفور، ومقتل ابراهيم في معركة خريف العام 1874 ولما حاول عمه حسب الله استعادة استقلال مملكته، قُبض عليه العام 1875 من قبل قوات الخديوي المصري إسماعيل باشا ونُقل إلى القاهرة مع عائلته، وهكذا أُخضعت دارفور للحكم المصري .
ولكن الدارفوريين لم يستكينوا للحكم المصري، وقاموا بعدة ثورات ضده كانت تقمع من قبل المصريين والإنكليز الذين بدأوا يسيطرون على مصر والسودان في ذلك الوقت(9). والمؤكد أن الشعب السوداني لم يسكت على احتلال بلاده.
مَثَّلَتْ ثورة المهدي (محمد أحمد)، أحد أهم تجليات المقاومة ضد الحكم البريطاني- المصري الإستعماري الذي حاربهم في العديد من المعارك وأعلن دولة المهدي التي كانت تضم القسم الأكبر من السودان الحالي ودارفور، والتي كان يعتمد على قبائلها في تأليف جيشه ودعم دولته. ولكن بعض قبائل الإقليم انقلب على خليفته في ما بعد، وساعد في إسقاط دولة المهدي العام 1898 بمساعدة المصريين والإنكليز. والعام 1899 عيّنت الحكومة السودانية (الأنكلو- مصرية) الجديدة السلطان علي دينار، الإبن الأكبر للسلطان محمد الفاضل، سلطاناً على دارفور، على أن يدفع 500 ليرة استرلينية ضريبة للحكومة. وفي عهد علي دينار عرفت دارفور حكماً ذاتياً قانونياً وفترة سلام استمرت حتى الحرب العالمية الأولى، حيث تم اجتياحها من قبل الإنكليز وإلحاقها بالسودان الكبير، الذي بقي تحت سلطة الحكم الإنكليزي - المصري حتى تحقيق استقلال السودان العام 1956
من الملاحظ أنه خلال فترة الحكم الاستعماري البريطاني للسودان، كانت طاقات البلاد ومواردها كافة، توجَّه نحو الخرطوم ومقاطعات النيل الأزرق تاركة بقية أنحاء البلاد في حالة من التخلف النسبي، وهذا ما جعل سكان مناطق نهر النيل يطلقون على أنفسهم لقب أولاد البلد، تفاخراً بأهميتهم في البلاد، وتحقيراً للآخرين الذي يطلقون عليهم اسم أولاد الغرب أي الأفارقة ويسمونهم زرْقَا Zurga أي السود. كما يمكن ملاحظة أن 56% من الاستثمارات كانت من حصة الخرطوم وكسالا وولايات الشمال، مقابل 17% لدارفور وكردفان معاً، وهكذا يمكن إدراك حجم التخلف والتفاوت في التنمية داخل أقاليم السودان لحظة نال استقلاله(10).
هـ - بعد الاستقلال
كان لأهالي دارفور دور بارز في تحقيق الاستقلال السوداني وإنجازه عبر دعمهم لحزب الأمة السوداني الذي اضطلع بدور مركزي في ذلك، وهو كان بقيادة الصادق المهدي حفيد المهدي المعروف بمقاومته للإنكليز والمصريين.
ومنذ ستينيات القرن العشرين بدأت أصوات الدارفوريين ترتفع مطالبة حزب الأمة في السلطة بتصحيح نظرته إلى دارفور ورفع الإهمال والتخلف عنها، وتدعوه لعدم التمييز بين أقاليم السودان المختلفة. ولما جاء النميري بانقلاب 1969 وتسلّم السلطة، تابع سياسة إهمال الإقليم، وعدم مساواته بغيره من مناطق السودان، كما ساهمت سياسته الخارجية في تعميق خط الصدع الإثني في بنية مجتمع دارفور. وبعد عودة المهدي من منفاه العام 1985 بعد إطاحة نظام النميري، عقد صفقة مع الرئيس الليبي، «لم يعتزم التزامها، وهي تسليم دارفور إلى ليبيا في حال منحه القذافي الدعم اللازم للنجاح في الانتخابات القادمة»(11).
العام 1989 انقلب الفريق عمر البشير على حكومة المهدي وأصبح رئيساً للجمهورية، ووريثاً لحزمة من المشاكل في أنحاء مختلفة من السودان: قضية الجنوب وحركتها الانفصالية بقيادة العقيد جون غارانغ، قضية دارفور المجاورة للجنوب، وقضية الشرق المتاخمة لأريتريا، وقد حاولت الحكومة السودانية حلّ هذه المشاكل المستعصية واحدة بعد الأخرى، ولكن ذلك يبدو حتى الآن صعباً، مع أنها توصلت إلى حلحلة الكثير منها، إلا أن الصراع الداخلي مع الأحزاب والقوى المعارضة، والتدخلات الخارجية التي لا يصب بعضها في مصلحة السودان كدولة موحدة، تحول دون إنهاء الأزمات التي تعصف بهذا البلد، وأهمها اليوم أزمة دارفور.
2-مكوّنات الأزمة
يعتبر البعض أن أحداث دارفور تعود إلى سبب رئيس هو إهمال الإقليم وسوء تنميته، بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، من قبل السلطة الحاكمة، على مرّ الحقبات التاريخية التي تلت إلحاق الإقليم بالسودان العام 1916 تحت الحكم الإنكليزي-المصري، ثم في ظل حكومات الإستقلال بعيد العام .1956 إلا انه لا يمكن حصر أسباب الأزمة ومكوناتها ببعد واحد فقط، بل علينا النظر إليها والاقتراب منها عبر محورين يشكلان إطاراً للإحاطة بالعوامل التي أسست لانفجارها، وهذان المحوران هما: محور جيوبوليتيكي، ومحور جيوستراتيجي، قد يسهمان في تفسير ما حدث وما يحدث في السودان بشكل عام وفي دارفور بشكل خاص.
العوامل الجيوبوليتيكية
يمكن اعتبار الخصائص المعقَّدة للبيئة الجغرافية لإقليم دارفور على أنها شكلت أول العوامل البنيوية في أزمته السياسية والاقتصادية والأمنية.
أ - طبيعة الأرض
يمكن تقسيم إقليم دارفور إلى ثلاث مناطق رئيسة بارزة هي: منطقة شمالية شبه صحراوية، منطقة السافانا في الوسط وجبال مرّا -Marra (التي ترتفع حوالى 3000 متراً)، ومنطقة السهول الطينية والسافانا الغنية في الجنوب.
ويشكل جبل مرّا، على الرغم من موقعه في وسط الإقليم تقريباً، طبيعة مختلفة قائمة بذاتها، حيث نجد فيه مناخ البحر المتوسط، مع ما يستتبع ذلك من إنتاج زراعي متوسطي كالبرتقال والليمون والتفاح، إلى جانب الخضراوات المتوسطية المتنوّعة(12)، ويشكل بيئة صالحة للسكن والإقامة الدائمة، نظراً إلى توافر الماء والأنهار لري المزروعات وتربية الحيوانات المختلفة
ب - القبائل وأعراقها
هذه البيئة الجغرافية المعقدة والمتنوعة، والمناخ المتقلب وغير المتجانس في مناطق الإقليم المتعددة، أثرّت في تركيبة سكانه ووسائلهم في المعاش والحياة الاقتصادية. من هنا نجد قبائل تعتمد في حياتها اقتصاداً ينسجم مع البيئة التي تعيش فيها، فمنها التي تعتمد على الرعي وما يستتبع ذلك من الترحال طلباً للماء والكلأ، ومنها التي تعتمد الزراعة وحياة الإستقرار. لذلك يمكن تصنيف السكان وفق مجموعات رئيسة ثلاث، مع إمكان تداخلها في ما بينها في أحيان كثيرة:
ب 1 ـ المجموعة ذات النمط الحياتي المستقر مثل: قبائل الفور، والمساليت والداجو والتنجور والمعاليا وبني فضل، وهي في أغلبها إما غير عربية أو متحدرة من أصول عربية (بنو فضل والتنجور).
ب 2 ـ المجموعة ذات النمط الحياتي البدوي وشبه البدوي مثل: الزغاوة والميدوب والقريات والمسيرية. وهي من أصول عربية وغير عربية.
ب 3 ـ المجموعة ذات النمط الحياتي المعتمد على الرعي، وغالبيتها ذات أصول عربية، وهذه المجموعة تتفرع إلى فرعين :
ب 3 .1ـ رعاة الإبل (الإبالة) وتعتمد على رعي الإبل ومنها: الزيادية والعريقات والماهرية.
ب 3 .2ـ رعاة الأبقار (البقارة) وتعتمد على رعي الأبقار وبيعها واستثمارها ومنها: الرزيقات والمسيرية والهبانه والتعايشة وبنو هلبة.
وتعتبر قبيلة الرزيقات أقوى قبائل دارفور وأغناها، بينما تعتبر قبائل الفور أكثرها عدداً، ويأتي بعدهما الزغاوة والمساليت والزيادية والتعايشة والمسيرية(13).
ج - وسائل المعاش والمناخ والعلاقات الإجتماعية والإقتصادية داخل الإقليم
ذكرنا أن شعب دارفور يعتمد على وسيلتين لكسب المعاش هما الرعي والزراعة، وهاتان الوسيلتان تتأثران من دون شك بعاملين رئيسين أيضاً هما التربة والمناخ. ونظراً إلى اتساع الإقليم وتنوع طبيعته ومناخه، كان السكان منذ القدم وحتى اليوم يعتمدون على نمط من العلاقات التبادلية في حياتهم الاقتصادية والمعيشية مثل تبادل المزروعات بالحيوانات وبقية مستلزمات الحياة، حتى أن النقود بمعناها المادي الحسي، لا تكتسب أهمية بقدر احتساب الثروة على أساس ملكية أرض زراعية، أو ملكية الحيوانات المختلفة من الإبل والأبقار والأغنام وغيرها، وترتفع قيمة الإنسان وثروته كلما ازداد عدد الماشية التي يملكها، ومن خلال ذلك تتشكل مكانته الاجتماعية، سواء داخل القبيلة الواحدة أو بين مجموعة القبائل، حتى أن مهر الزواج يقدر ويدفع بكذا عدد من الأبقار أو الأغنام أو الإبل الخ...
كذلك، ونظراً إلى البيئة الصحراوية وشبه الصحراوية الشمالية، فقد عمدت قبائله التي تعتمد الرعي وسيلة للمعاش، إلى الترحال باتجاه الجنوب والمناطق الزراعية في مواسم الجفاف، واتفقت مع قبائل الوسط والجنوب الزراعية على نمط معين من خطوط للسير والانتقال عبر المناطق الزراعية للوصول إلى المراعي أو ينابيع المياه، ونظمت هذه العملية بشكل لا يؤذي المزروعات للقبائل الزراعية، ويسمح لقبائل الرعي بالانتقال وتأمين حياتها وحياة القطعان بالحصول على الماء والكلأ. وقد نشأ عن هذا النمط من المعاش علاقات اجتماعية واقتصادية كالتزاوج والمصاهرات بين القبائل المختلفة، وأسست لحياة اجتماعية مشتركة عمّقتها ثقافة دينية واحدة، ودين واحد تدين به جميع قبائل دارفور، وهو الإسلام، حتى أن إقليم دارفور يتميز بكثرة الخلاوي أو مراكز تدريس القرآن وتحفيظه. وقد شكَّلت دارفور عبر تاريخها خزاناً بشرياً «إسلامياً مؤمناً» دعم ثورة المهدي في القرن التاسع عشر، ثم دعم حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي حفيد المهدي القديم في الانتخابات والحكومة، وكذلك صهره الدكتور حسن الترابي بعد انشقاقه عن حزب الأمة في ما بعد، ولعل هذا العامل الديني السياسي هو أحد المؤثرات البارزة في تكوين أزمة دارفور واستمرارها حتى الآن.
إذاً، يمكن اعتبار البيئة الجغرافية والمناخ في دارفور وانعكاسهما على حياة سكانه، أحد أهم مكونات أزمته السياسية، ذلك أن هناك علاقة جدلية (14) بين هطول الأمطار والنزاعات القبلية. ففي مجتمع يعتمد الرعي والزراعة ويتشكل من قبائل تتمايز في ما بينها بانتماءاتها العرقية والإثنية، تتحول أزمة مناخه إلى صراع بين قبائله، بين من يملك قطعان الماشية، ومن يملك الأراضي الزراعية والماء، وهذا ما حدث بالفعل. فنتيجة لموجات الجفاف والتصحر المتعاقبة التي ضربت أنحاء واسعة من أفريقيا بشكل عام والسودان بشكل خاص، ظهرت اختلالات عميقة أثرت على البيئة المحلية في دارفور، ما اضطر الرعاة إلى الترحال بعيداً عن مناطقهم والمناطق الأخرى التي كانوا يرتادونها سابقاً، إلى مناطق جديدة بحثاً عن الكلأ والماء.
وهذا اضطرّهم إلى دخول مناطق القبائل الزراعية، ما أدى إلى وقوع احتكاكات تطورت إلى اشتباكات وعداوات ومعارك طاحنة، أزهق فيها الكثير من الأرواح، ولا سيّما منها تلك المعارك التي نشبت في نهاية سبعينات القرن الماضي وبداية ثمانيناته (1979-1984)، كما نجم عن تردي الحالة الاقتصادية في الإقليم، ظهور فريق استسهل النهب تحت وطأة الحاجة وصعوبة المعاش، فعمد إلى قطع طرق الشاحنات التجارية ومركبات المسافرين العابرة أو القادمة إلى دارفور(15). وقد تطورت هذه الأعمال إلى ظاهرة السطو والنهب المسلح التي شكلت صداعاً مستمراً للحكومة المركزية وحكومات الولايات، لم يتم القضاء عليه. واعتباراً من هذه الفترة بدأ ظهور ما يعرف بالجنجويد، كظاهرة قائمة بذاتها، في قلب المكونات الاقتصادية والسياسية لأزمة دارفور.
د - الجنجويد ( Janjaweed)
شاع استعمال هذه الكلمة وتردادها في وسائل الإعلام المختلفة حتى طغى على قضية دارفور، وباتت إسم علم يشير إلى الأزمة وتداعياتها وكأنه عنوان لها، أو تعبير عن غموضها، غموض معنى الكلمة و مصادرها. فما هو معنى الكلمة وعلى ماذا تدل؟
الجنجويد، وتلفظ باللغة الدارفورية الدارجة الجنجويت، ليست إسماً لقبيلة، بل هي تطلق على من يستخدمون روح الشرّ، أي الجنّ، لتحقيق أهدافهم، وينتقلون على ظهور الجياد والجمال، ولذلك يعتبر البعض أنهم: «جنٌّ على ظهر جواد»، وهذه الصفة تنطبق على اللصوص وقطّاع الطرق والخارجين على القانون (16).
ويرى البعض أنه اصطلاح يطلق على الجماعات المسلحة التي تتجوَّل في أنحاء دارفور على ظهور الخيل والجمال وتنتمي إلى القبائل العربية، وأيضاً إلى القبائل الأفريقية، وهي جماعة تمارس النهب والقتل، وليس لها تنظيم معروف أو قائد يقودها أو قبيلة تحتضنها (17). ويعتبر أهالي دارفور، أن هذه التسمية أطلقت على الذين كانوا يقومون بالسلب والقتل والإعتداء على الآمنين، بمعنى «روح الشرّ الجوّالة» أي «جنٌّ جَوَّاد» أي «الشيطان يمتطي جواداً» أو جملاً، ويرتكب فعل الشر بحق الناس، ويحمل أحياناً «جيم ثري»
وهي بندقية ألمانية كانت رائجة في تلك المنطقة في ثمانينات القرن الماضي، ويقولون اليوم إنه يحمل كلاشنيكوفاً، وربما صيني الصنع.
من أين جاء الجنجويد ؟
يرى بعض الباحثين(18) أن الجنجويد هم بقايا «الفيلق الإسلامي» الذي أسسه الرئيس الليبي معمر القذافي في ثمانينات القرن العشرين كرأس حربة في الاستراتيجيا الليبية لنشر القومية العربية والإسلامية في أفريقيا، وكانت ليبيا تدعمه بالمال والسلاح، وكان يعتمد على بعض القبائل العربية في دارفور. وعندما تخلّت ليبيا عن فكرة القومية العربية لصالح فكرة الإتحاد الأفريقي، حلّت هذه الميليشيات، ولما عاد أفرادها إلى مناطقهم، خرج منهم بعض عصابات السلب والنهب التي عُرفت في ما بعد باسم الجنجويد.
وتصف شهرية Le Monde Diplomatique الجنجويد بأنهم «ميليشيات تنحدر من قبائل عربية، وليس لها ارتباط حركي سياسي أو وحدة تنظيمية، بل هم إما عصابات أو قوى مساعدة مرتبطة ببعض وحدات الجيش السوداني النظامي» (19).
هـ - موقف حكومة السودان من الجنجويد
ترفض الحكومة السودانية كل الاتهامات التي تربط بينها وبين الجنجويد، وتنفي أي علاقة لها بما ترتكبه هذه العصابات من أفعال وجرائم في دارفور وغيرها، بل تعتبرها عصابات للنهب والقتل، وخارجة على القانون، كما ترفض اعتبارها عربية فحسب، إنما تنتمي إلى مختلف قبائل دارفور من عرب وأفارقة، ولكن بعض الكتّاب في شأن دارفور، يرى(20) أن الحكومة السودانية، وبعد هجوم المتمردين على قاعدة عسكرية في مدينة الفاشرفي 25/ 4/2003 عاصمة ولاية دارفور الشمالية ومقتل أكثر من 75 جنديا وطياراً، وأسر قائد القاعدة (برتبة لواء)، أصيب الجيش السوداني بضربة معنوية كبيرة، لذلك اعتمدت الحكومة استراتيجيا جديدة تقوم على ثلاثة عناصر هي: الإستخبارات العسكريه، سلاح الجو، الجنجويد، وذلك للرد على حرب العصابات التي يشنها المتمردون، والتي لم يتعوّد عليها الجيش النظامي، ولم يتدرب للرد على حرب مماثلة .
لذلك وُضع الجنجويد في قلب استراتيجيا الحكومة لاحتواء أعمال التمرّد ومحاربتها، وزوّدت الأسلحة والموارد العسكرية المناسبة من أجهزة اتصال ومدفعية ورشاشات حديثة. وبالفعل فقد حقق الجنجويد بسرعة تفوّقاً على المتمردين باستعمال وسائل الرد القاسية على عملهم وهجوماتهم، من قتل وتدمير قرى، وتهجير السكان المؤيدين للمتمردين، حتى أنهم اشتبكوا مرات عديدة مع المتمردين داخل حدود جمهورية تشاد المجاورة، كما اشتبكوا أحياناً مع الجيش التشادي الذي يعتقد أنه يدعم المتمردين، على خلفية دعم فرنسي موجود في تشاد ومعارض لحكومة السودان وسياساتها المحلية والخارجية.
و - سياسة المكان
قد تُعَرَّف الجغرافيا السياسية أو الجيوبوليتيك بأنها دراسة العلاقات القائمة بين حقائق المكان والعمليات السياسية(21).
إن التعقيد الذي يمثله إقليم دارفور في معطياته الجغرافية، من حيث المساحة ومجاورته لثلاث دول هي ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وبُعده عن مركز السلطة في الخرطوم (1000كلم)، وقربه من مصر وجنوب السودان، وفي معطياته البشرية من حيث عدد السكان وانقسامهم الإتني بين عربي وأفريقي، وفي معطياته الاقتصادية المتمثلة بثروة حيوانية ضخمة من الأبقار والماشية، وسهول زراعية، تتأثر كلّها بالمناخ والمطر والتصحُّر، وثروة بترولية واعدة، يضاف إليها خام الحديد النقي بكميات كبيرة، مع ثروة كبيرة من مادة اليورانيوم، إلى ثروة بشرية فكرية دينية سياسية تعتبر خزاناً لأهم أحزاب السودان، «حزب الأمة»، و«حزب الإتحاد الديمقراطي». ويقابل كل ذلك إهمال يكاد يبلغ حد التهميش من قبل الحكومة المركزية عبر حقبات طويلة. كل ذلك أفرز شعوراً بالنقمة لدى أهل الإقليم، عززه لجوء بعض الحكومات والأهالي والأحزاب إلى التمييز بين أهل الإقليم(22)، والتعامل الفوقي معهم من خلال مقولة «أولاد البلد» أي عرب وادي النيل، و«أولاد الغرب» أي الأفارقة السود، وحرمانهم من مكتسبات السلطة، سواء كان ذلك في توزيع المناصب أو توزيع الثروة أو التنمية، مع أن الإقليم شكّل ولا يزال دعامة أساسية لأكبر أحزاب السودان، وأسهم في إيصالها إلى السلطة، بالقوة حيناً أو بالانتخابات حيناً آخر.
و-1- الإدارة الأهلية
تعتبر آلية العمل السياسي ـ الاجتماعي التي عرفتها دارفور منذ القدم، والتي عُرفت لاحقاً بنظام الإدارة الأهلية، الراعي الأول للقيم الأخلاقية والاجتماعية، والإدارة التنظيمية الضابطة للاستقرار الاجتماعي، كونها ترعى الاتصالات لتنسيق هجرات القبائل التي تتأثر بعوامل المناخ والظروف الطبيعية، مع القبائل الأخرى التي يمكنها أن تقبل وفادتهم.
ولما ألغت حكومة الرئيس النميري هذا النظام العام 1971 واستبدلته بنظام الحكم الإقليمي (الذي شابته عيوب كثيرة عند التطبيق)، لم يستطع أن يحل محل النظام القديم، لا بل وسّع من الشرخ الاجتماعي بين قبائل دارفور. ذلك أن آلية انتخاب هذا النظام الإقليمي استنهضت المنافسة والنزاعات بين القبائل، وزاد من وتيرتها خصوصاً في ظلّ غياب النظام القديم، و لم تستطع مؤتمرات الصلح إيجاد آلية مستحدثة لاحتواء النزاعات، أو تحقيق أهدافها(23).
و-2- الأحزاب
إن حركة الاستقطاب السياسي خلال فترة حكومة الصادق المهدي(1986-1989) بعد إطاحة النميري، والتي خاضها الحزبان الكبيران في السودان، حزب الأمة الذي يعتمد في عضويته على طائفة أنصار المهدي والذي تعدّ منطقة غرب السودان عموماً قاعدته الأساسية، و حزب الإتحاد الديمقراطي الذي يمثل طائفة الختميّة(24) بزعامة محمد عثمان الميرغني. و قد نشط كل حزب لجذب قبائل دارفور إلى جانبه، فحزب الأمة استقطب القبائل العربية، وحزب الإتحاد الديمقراطي استقطب القبائل الأفريقية، وهكذا أسهم هذان الحزبان الكبيران في تأجيج النعرات بين قبائل دارفور، وزيادة حدة التوترات المتصاعدة في الإقليم.
و-3- الصراع على السلطة ومُهاجمة الفاشر(25)
يعتبر الهجوم على القاعدة العسكرية الجوية الحكومية في مدينة الفاشر عاصمة إقليم دارفور الشمالية من قبل المتمردين، الشرارة التي أشعلت الأزمة بين الطرفين وذلك في 25 نيسان 2003 ، و بذلك خرج الصراع عن إطاره السابق واتخذ طابعاً شبه منظم خارج إطار سيطرة الحكومة المركزية، وأصبح تمرداً عليها، واتخذ من جبال مرّا قاعدة لإدارة النشاطات المسلحة ضد السلطة، و قامت كل من حركة تحرير السودان SLM بزعامة عبد الواحد نور، وحركة العدل والمساواة بزعامة خليل ابراهيم، (الذي كان أحد معاوني الدكتور حسن الترابي زعيم حزب المؤتمر الشعبي الذي انشق عن الحزب الحاكم في السودان بقيادة الفريق عمر البشير). وقد اعتبرت الحكومة المركزية أن حزب الترابي يسهم في تأجيج أزمة دارفور. ولما حسم الرئيس عمر البشير الصراع على السلطة العام 1999 وأودع الترابي السجن، عمد أنصاره إلى تشكيل حركة ضد السلطة اتخذت من حركة العدل والمساواة ذراعاً عسكرية لها، وجعلت من دارفور قاعدة لخوض حربها ضد نظام السلطة الحاكمة. وهكذا نرى أن الإنشقاق الداخلي في النظام الحاكم، وانسلاخ الترابي وجماعته، في إطار الصراع على السلطة في المركز، أدّيا إلى تفاقم أزمة دارفور وانفجارها.
ويعتبر البعض أن بروز التمرّد في دارفور ما هو إلا الانعكاس المباشر للواقع السياسي العام في البلاد، وأن نشاطات هذا التمرد هي نوع من الرفض لهذا الواقع الذي لا يحقق الطموحات والمصالح، ويعتبر كذلك حركتي «تحرير السودان»، و«المساواة»، مرتبطتين بمخابرات أجنبية، ومن باب أولى المخابرات الإسرائيلية (26) .
3 - دارفور في قلب الصراع الدولي
رأينا مدى التعقيد الذي يختزنه إقليم دارفور في تشابك العوامل التي شكلت أزمتة الجيوبوليتيكية، و قد أدى تفاعل هذه العوامل إلى الوصول بالأزمة إلى حدّ الانفجار، ثم أسهمت العوامل الخارجية، و تداخلها في تفعيل العوامل الأخرى، في تفجير الأزمة، لأن هذه العوامل الخارجية هي الأكثر خطورة، لارتباطها بأطماع القوى الكبرى، وجيوستراتيجيتها في بسط سيطرتها ونفوذها في العالم، وخصوصًا الولايات المتحدة، ورؤيتها الاستراتيجية لإدارة مصالحها الجيوبولتيكية في الشرق الأوسط والعالم(27).
أ - رؤية الولايات المتحدة
لقد ظهر أن إقليم دارفور يتمتع بموقع جيوستراتيجي مميز، لأنه يقع على حدود أربع دول (مصر، ليبيا، تشاد، وأفريقيا الوسطى)، و يشكل منطقة عازلة بين النفوذ الفرنسي في تشاد وأفريقيا الوسطى، والنفوذ الأنكلوسكسوني، ونعرف أن القارة الأفريقية منقسمة عموماً بين هذين النفوذين منذ بداية فترة الاستعمار المنظّم في القرن التاسع عشر، وقد زادت حدة المنافسة بعد سيطرة الولايات المتحدة على النظام العالمي الجديد و سعيها إلى طرد فرنسا من الدول الفرنكوفونية التقليدية في أفريقيا منذ تسعينات القرن العشرين، وخصوصاً من تشاد، لأنها تشارك دارفور في حقولها النفطية الجوفية (منطقة الحدود).
يضطلع اكتشاف البترول في الإقليم، نهاية القرن المنصرم بدور محوري في الاهتمام الدولي بما يحدث في السودان. ولقد دلت الأبحاث الألمانية والأميركية منذ سبعينات القرن الماضي أن الإقليم يختزن بترولاً عالي الجودة، و بكميات كبيرة، ولذلك فقد تم وضع السودان على الخريطة الجيوستراتيجية للولايات المتحدة المعلنة العام 2001 ، والتي تقوم على الاستحواذ على بترول العالم ومنع الآخرين من الوصول إليه(28). وهي ترى أن بترول أفريقيا سيشكل بديلاً مؤقتاً عن بترول الشرق الأوسط، إذ يمكن الوصول إليه بسهولة في حال نشوء أزمات كبرى.
كذلك فإن الولايات المتحدة ترمي إلى إعاقة النفوذ الآسيوي المتزايد في السودان في مجال النفط الصيني والماليزي والهندي.
كما تهدف الولايات المتحدة إلى حصار مصر من الجنوب، حيث أصبح إقليم دارفور على حدود مصر بعد التعديلات التي أجريت على حدود الولايات الشمالية السودانية (درب الأربعين، وهي الطريق القديمة بين مصر و دارفور)، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ليبيا المتاخمة مباشرة لدارفور، خصوصاً وأن هناك قبائل مشتركة يمكن استخدامها إذا لزم الأمر.
اضطلعت وسائل الإعلام الأميركية والكثير من الجمعيات الأهلية، بدور بارز في تظهير أزمة دارفور وتصويرها في العالم على أنها إبادة جماعية Genocide تقوم بها قبائل عربية ضد قبائل أفريقية سوداء، واستغل ذلك في الانتخابات الرئاسية الأميركية لكسب أصوات السود فيها. واستغل الحزبان الجمهوري والديمقراطي العام 2004 تطوّر الأزمة لتحقيق مكاسب انتخابية، كما طالبت كتلة «السود» في الكونغرس، الرئيس بوش، بالعمل للضغط في مجلس الأمن بهدف استصدار قرار لتشكيل قوة متعددة الجنسية، لوقف ما اعتبروه «فظاعات تُرتكب ضد المدنيين الأفارقة». وبالفعل فقد أصدر مجلس الأمن حوالى نصف دزينة من القرارات لمعالجة أزمة دارفور، وذلك ما بين منتصف العام 2004 وحتى منتصف العام 2006(29).
ب - الصين
تعتبر الصين لاعباً جيوستراتيجياً رئيساً في جغرافيا السودان السياسية، فالسودان هي شريكها الثاني في الأهمية على أرض القارة السمراء في العلاقات التجارية، وقد مثل التبادل التجاري بينهما 3 مليارات من الدولارات العام 2006 (30). وتشتري الصين 65% من بترول السودان، كما تعتبر المورّد الأول للأسلحة إلى النظام السوداني، وتؤمن له نوعاً من الغطاء السياسي و الدبلوماسي خصوصاً في مجلس الأمن الدولي.
وتستثمر الصين حقول النفط في جنوب دارفور، و تؤمن حمايتها بواسطة عناصر صينيين (حوالى 5 آلاف صيني بثياب مدنية)، كما أنها تساعد في بناء السدود والطرق والبنية التحتية في المنطقة. ولا يمكن الصين اليوم التخلّي عن مصالحها، ولا سيّما حاجتها إلى الطاقة والموارد التي يعتبر السودان أحد أهم مصادرها.
ج - فرنسا
تضطلع فرنسا بدور خفي في دعمها للرئيس التشادي إدريس دبي وتأمين الدعم اللوجستي للجيش التشادي في مطاردته للميليشيات الدارفورية والجنجويد على الحدود بين البلدين، وتحاول مقاومة النفوذ الأميركي ومراقبته في دول غرب أفريقيا والاستحواذ على موارد هذه الدول. كما تسعى للمحافظة على النظام التشادي والنظام القائم في أفريقيا الوسطى نظراً إلى وجودها التاريخي فيهما على المستويين الاقتصادي والثقافي، ثم لمعرفتها بتوافر البترول واليورانيوم في حقول مشتركة بين دارفور و تشاد وأفريقيا الوسطى.
د - مواقف الدول الأفريقية
د.1 - مصر
أيدت مصر الحكومة السودانية منذ اندلاع الأزمة، كما أخذت على عاتقها قيادة الخط العربي في دعمها سياسياً و دبلوماسياً في المحافل الدولية، وقدمت دعماً لوجستياً ومالياً لتخفيف حدة الكارثة المتصاعدة.
كذلك فقد أبدت استعدادها مؤخراً للمشاركة في قوات الأمم المتحدة بموجب القرار 1706 و تقديم 1000 جندي وضابط ضمن المكوّن العسكري لحزمة الدعم الثقيلة المقدمة من الأمم المتحدة لقوات حفظ السلام الأفريقية في دارفور، بل أكثر من ذلك في حال طُلب منها (31).
د.2 - ليبيا
يبدو أن ليبيا تتجنب السياسات المضادة لمصالح الغرب في المنطقة عموماً ودارفور بوجه خاص، وهي تحاول المساعدة في حل النزاع بين الأفرقاء، بدعوتهم للاجتماع عندها، كما أنها تملك شبكة علاقات مع جميع الأطراف والميليشيات المحلية تعود إلى فترة الثمانينات من القرن الماضي، خصوصاً الحركات العسكرية، حتى أن أصل الجنجويد كما سبقت الإشارة، يعود إلى الفيلق الإسلامي الذي أنشأته ليبيا وسلّحته من أفراد قبائل دارفور في ثمانينات القرن الماضي. و لكن مصالح ليبيا واستثماراتها في السودان ومع حكومته، تجعلها تعمل بوحي مصالحها وتحاول المساعدة في حلّ الأزمة(32).
د.3 - تشاد
إضطلعت تشاد بدور مؤثر في أحداث دارفور والسودان منذ البدايات، وذلك نظراً إلى علاقات المصالح بين حكومتي البلدين من ناحية، وبين التشاد والقبائل الحدودية من ناحية أخرى، حتى أن الرئيس التشادي ينتمي إلى قبيلة الزغاوة الدارفورية. و قد شكل هذا النسيج الاجتماعي الدارفوري التشادي، دوراً محورياً في أزمة دارفور وتأجيجها، وفي التأثير في علاقات البلدين. يضاف إليه تأثير فرنسا في القرار التشادي وفقاً لمصلحتها وعلاقتها بحكومة السودان، والصراع الدامي النازف في دارفور، واتهام كل طرف للآخر بمحاولة إسقاط نظام الحكم عنده. لكن تشاد تسعى اليوم إلى الإسهام في وضع حد للنزاع، لا سيّما انها تستقبل حوالى 200 ألف نازح من دارفور في أراضيها، ولكن صراع القبائل الحدودية والذي يختزن تاريخاً من الحروب بينها حول الماء والكلأ، وضعفاً في الانتماء الوطني لصالح القبيلة، سيجر إلى مشاكل واشتباكات دائمة، على الرغم من تفاهم الحكومات، أو سعيها لإيقافه، مع الإشارة إلى ضعف هذه الحكومات وعدم مقدرتها على تعزيز الانتماء إلى الوطن لدى هذه القبائل التي قسّمتها حدود جغرافية مصطنعة لا تعني أمام العصبية القبلية شيئاً. ويحاول بعض الدول العربية، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، عقد مصالحة بين حكومتي تشاد والسودان، لحل المشاكل بينهما، وإعادة الأمور إلى طبيعتها، فهل تنجح ؟!..
خلاصة
صُوِّرت قضية دارفور في العالم على أنها صراع بين قبائل عربية و قبائل أفريقية، أو بين سلطة و نظام حكم مستبد يستخدم ميليشيات من القتلة (الجنجويد) للتطهير العرقي في الإقليم، والإبادة الجماعية بحق الأفارقة السود. إن هذه النظرة أو الصورة الإعلامية غير دقيقة وغير حقيقية، إنما تمّ توظيفها جيداً في صراع جيوستراتيجي دولي، تقوده الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، وقد جرّ المجتمع الدولي والأمم المتحدة إليه .
وحقيقة الأمر أن اتفاق حكومة السودان الحالية (إتفاق نيفاشا) مع حركة التمرد «المزمنة» في جنوب السودان، حول تقاسم السلطة والثروة والحكم الذاتي، أعطى مناطق أخرى في السودان الفرصة لرفع صوتها، ومن ثم سلاحها، من أجل تحقيق مطالبها للمساواة بالمركز (الخرطوم ووادي النيل) في المجالات المختلفة، من سلطة وثروة وتنمية، وهنا التقت مطالب الأقاليم الطَّرَفِيَّة المهمشة اقتصادياً وسياسياً، مع المطامع الدولية، في منطقة ذات موارد غنية ظاهرة وكامنة، وخصوصاً منها البترول واليورانيوم، يضاف إليها الموقع المتميز للإقليم. كذلك ساعدت الحكومة المركزية بسياستها المرتبكة وتنافس أقطابها وصراعهم على السلطة، وتحالفاتهم الداخلية والخارجية، لتحقيق مكاسب قد لا تصبّ في مصلحة الشعب السوداني ككل ولا في مصلحة السودان كدولة موحدة، بل في إذكاء نار الأزمة وخروجها من دائرة التحكّم الداخلي السوداني وتحوّلها إلى شأن داخلي في السياسة الأميركية والأوروبية والآسيوية والأفريقية. إلا أن هذا لا يغيّر حقيقة أن هناك أكثر من مليوني إنسان نزحوا من بيوتهم و مدنهم وقراهم، وأن هناك أكثر من400 ألف قتيل كما يقول أحدث تقارير الأمم المتحدة (33).
الهوامش
(1)- محمد الأمين النحاس أزمة دارفور، بداياتها وتطوراتها ، المستقبل العربي، بيروت، العدد 213، شباط 2005 ، ص 73.
(2)- سوسن أبو ظهر: دارفور، أرض الصراع القديم ، جريدة النهار. 21/10/2004 ، ص 18.
(3)- سناء حمد العوض : الخريطة الديموغرافية لإقليم دارفور ، السياسة الدولية ، دورية ، دار الأهرام ، مصر، العدد 168، أبريل 2007 ، ص 202 .
(4)- جرى مؤخراً تعديل حدود الولاية الشمالية بحيث أصبحت دارفور الشمالية متاخمة لحدود مصر الجنوبية. (شؤون عربية - خريف 2006 ، عدد 127 ، ص 102)
(5)- سناء حمد العوض: مرجع سابق ، ص 204
(6)- المرجع السابق ، ص 202
(7)، Prunier, Gerard: The Ambiguous Genocide, Cornell university press,2005، www.wikipedia.org/wiki/history،of،darfur
(
- المرجع السابق، ص202
(9)- المرجع السابق
(10)- History of Darfur المرجع السابق.
(11)- Prunier المرجع السابق.
(12)- سناء حمد العوض ؛ الخريطة الديموغرافية لدارفور ، مرجع سابق، ص 203 .
(13)- سناء حمد العوض ، مرجع سابق ، ص 204 .
(14)- احمد آدم بوش: جدلية العلاقات بين العوامل البيئية والنزاعات في دارفور: ملف السلام (2) ، مركز دراسات الشرق الأوسط وافريقيا تشرين ثاني/كانون أول 2003 ، ص 21.
(15)- محمد الأمين عباس النحاس: أزمة دارفور ، مرجع سابق ، ص 75.
(16)- سوسن أبو ظهر: دارفور، أرض الصراع القديم ، جريدة النهار ،21/10/2004 ، ص 18.
(17)- محمد الأمين عباس النحاس: أزمة دارفور ، المستقبل العربي، العدد 213 ، شباط 2005 ، ص 71 .
(18) - إ.د. إجلال رأفت: أزمة دارفور ، شؤون عربية ، الجامعة العربية ، عدد 721 ، العام 2006 (ص 106 )
(19)- - Darfur، La Chronique d'Un Genocide Ambigu . Le Monde Diplomatique par : Gerard prunier, Mars 2007, page 16
(20)- Julie Flint and Alex de Waal : Darfur : A short History of a long war, Zed books, London, March 2006 60، p: 101،301
(21)- الجغرافيا السياسية وعالمنا المعاصر ج1، عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت - عدد 282 - حزيران 2002 .
(22)- يتزوج الدارفوري العربي الذكر من دارفورية غير عربية ولكن لا يسمح بالعكس (مقابلة مع سوداني).
(23)- محمد الأمين عباس النحاس: مرجع سابق ، ص 79 ،80.
(24)- طريقة صوفية متفرعة من الشاذلية منتشرة في السودان (نسبة إلى أبي الحسن الشاذلي، صوفي مغربي عاش في القرن الثالث عشر، في تونس ).
(25)- Crisis ، Darfur : مرجع سابق
(26)- محمد النحاس ، مرجع سابق ، ص 18. كما يرى الباحث في الشؤون الافريقية سامي صبري عبد القوي: إن إسرائيل تلعب دوراً كبيراً في تقديم الدعم اللوجستي للمتمردين يتمثل بتدريبهم وتقديم السلاح لهم، كذلك في مدّ الجسور بين زعماء المتمردين وإسرائيل واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. ( أنظر.. السياسة الدولية ، العدد 167 ، يناير 2007 ص 200 وما بعدها.. )
(27)- زبغينيو بريجنيسكي ، رقعة الشطرنج الكبرى ، ترجمة أمل الشرقي ، المطبعة الأهلية ، عمّان، الطبعة الأولى 1999 ، ص 12.
(28)- د.إجلال رأفت ، أزمة دارفور ، مرجع سابق ، ص 102 ، كذلك، هانيء، رسلان، السياسة الأميركية تجاه مستقبل السودان/ السياسة الدولية، مرجع سابق، العدد 156 ، أبريل 2004 .
(29)- القرارات 1556، 1564 ، 1593 ، 1679 ،1706 ( أزمة دارفور ، CD هدية السياسة الدولية / يناير 2006).
(30) - Le monde Diplomatique ، Darfur ، مرجع سابق ، ص 17.
(31) - قضية دارفور ، جريدة الحياة ، بيروت ، الأحد 29 نيسان 2007 ، ص 5.
(32) - د. إجلال رأفت ، أزمة دارفور ، مرجع سابق ، ص 106 .
ا