اللغة
العربيَّة (اللغة الرسميَّة)
التُركيَّة (لُغة الجيش)
لُغات أُخرى: السُريانيَّة، القبطيَّة، العبرانيَّة
الديانة
الإسلام: المذهب السُني الحنفي (مذهب الدولة العبَّاسيَّة الرسمي)
المذهب الشيعي الجعفري (أقليَّة).
أقليَّات كُبرى وصُغرى: المسيحيَّة، واليهوديَّة
الأمير
أحمد بن طولون
868–884 (الأوَّل)
شيبان بن أحمد بن طولون
904 - 905 (الأخير)
التاريخ
التأسيس
868
الزوال
905
بيانات أخرى
العملة
الدينار
اليوم جزء من
7 دُول˂
تعديل طالع توثيق القالب
الدَّولةُ الطُّولُونِيَّة أو الإِمَارَةُ الطُّولُونِيَّة أو دَوْلَةُ بَنِي طُولُون، وتُعرفُ اختصارًا وفي الخِطاب الشعبي باسم الطولونيُّون، هي إمارة إسلاميَّة أسَّسها أحمد بن طولون التغزغزي التُركي في مصر،[ْ 1] وتمدَّدت لاحقًا باتجاه الشَّام، لِتكون بِذلك أول دُويلة تنفصل سياسيًّا عن الدولة العبَّاسيَّة وتتفرَّد سُلالتها بِحُكم الديار المصريَّة والشَّاميَّة. قامت الدولة الطُولونيَّة خِلال زمن تعاظم قُوَّة التُرك في الدولة العبَّاسيَّة وسيطرة الحرس التُركي على مقاليد الأُمور، وهو ذاته العصر الذي كان يشهد نُموًا في النزعة الشُعوبيَّة وتغلُّب نزعة الانفصال على شُعوب ووُلاة الدولة مُترامية الأطراف، فكان قيام الدولة الطولونيَّة إحدى النتائج الحتميَّة لِتنامي هذا الفكر.
نشأ مُؤسس هذه السُلالة، أحمد بن طولون، نشأةً عسكريَّةً في سامرَّاء التي كانت حاضرة الخِلافة الإسلاميَّة حينها، ولمَّا عيَّن الخليفة أبو عبد الله المُعتز بالله الأمير بايكباك التُركي واليًا على مصر في سنة 254هـ المُوافقة لِسنة 868م، وقع اختيار بايكباك على ابن زوجته أحمد بن طولون لِيكون نائبًا عنهُ في حُكم الولاية.[1] ومُنذُ أن قدم ابن طولون مصر، عمل على ترسيخ حُكمه فيها. وكان يتخلَّص من سُلطة الوالي الأصيل بِإغرائه بالمال والهدايا التي كان يُرسلها إليه. وعندما طلب إليه الخليفة أبو إسحٰق مُحمَّد المُهتدي بالله أن يتولَّى إخضاع عامل فلسطين المُتمرِّد على الدولة، سنحت لهُ الفُرصة التي كان ينتظرُها، فقد أنشأ ابن طولون جيشًا كبيرًا من المماليك التُرك والرُّوم والزُنوج ودعم حُكمه به. وقد أخذ من الجُند والنَّاس البيعة لِنفسه على أن يُعادوا من عاداه ويُوالوا من والاه.[1] وبِفضل هذا الجيش استطاع أن يقضي على الفتن الداخليَّة التي قامت ضدَّه، واستطاع أن يرفض طلب وليُ عهد الخليفة أبا أحمدٍ طلحة بن جعفر المُوفَّق بالله الذي كان يستعجله إرسال المال لِيستعين به على القضاء على ثورة الزُنج بالبصرة. ومُنذُ ذلك الوقت أصبحت دولة ابن طولون مُستقلَّة سياسيًّا عن الخِلافة العبَّاسيَّة.[1] وعندما طلب الخليفة إلى ابن طولون أن يتخلَّى عن منصبه إلى «أماجور» والي الشَّام، رفض ابن طولون ذلك، وتوجَّه إلى الشَّام وضمَّها إلى مصر.[1]
لم يُفكِّر ابن طولون بعد استقلاله السياسي عن الخِلافة، بالانفصال الديني عنها لأنَّ الخِلافة مثَّلت في نظره وفي نظر جمهور المُسلمين ضرورة دينيَّة لاستمرار الوحدة الإسلاميَّة، ولِأنَّها تُشكِّلُ رمزًا يربط أجزاء العالم الإسلامي المُختلفة، فحرص على أن يستمرَّ الدُعاء للخليفة العبَّاسي على منابر المساجد في مصر والشَّام، واعترف بسُلطته الروحيَّة والدينيَّة.[2] وشرع أحمد بن طولون في القيام بِأعمالٍ عُمرانيَّة تُعبِّرُ عن مدى اهتمامه الشديد بِمصر، وتعكس تطلُّعاته إلى إقامة إمارته الخاصَّة، فأسس ضاحيةً لِلفسطاط هي القطائع اتخذها عاصمةً لِإمارته، وبنى فيها مسجده المشهور، وقوَّى الجبهة الدَّاخليَّة من خِلال تنمية موارد الثروة، ومُضاعفة الدخل في ميادين الإنتاج، وأصلح أقنية الري، والسُدود الخرِبة. وبعد وفاة ابن طولون جاء ابنه خُمارويه الذي لم تُفلح دولة الخِلافة في أن تُزيح حُكمه عن الشَّام، فاضطرَّت إلى أن تعقد معهُ مُعاهدة صُلح ضمنت للدولة الطولونيَّة حُكم مصر والشَّام مُقابل جزية تؤديها. وبعد خُمارويه الذي مات اغتيالًا في دمشق، تولَّى الحُكم ولداه أبو العساكر جيش ثُمَّ هٰرون. ولم يكن هٰرون قادرًا على مُقاومة هجمات القرامطة الذين أخذوا يُغيرون على المُدن الشَّاميَّة، فاضطرَّ الخليفة أبو أحمد علي المُكتفي بِالله إلى أن يُنقذ دمشق من القرامطة بِجُيوشٍ يُرسلها من العراق. وكان انتصار المُكتفي على القرامطة تجربةً ناجحةً دفعتهُ إلى أن يتخلَّص من الحُكم الطولوني العاجز، فوجَّه قُوَّاته البحريَّة والبريَّة إلى مصر، فدخلت الفسطاط وأزالت الحُكم الطولوني الذي دام 37 سنة، وأعادت مصر إلى كنف الدولة العبَّاسيَّة.[ْ 2]
محتويات [أخف]
1 خلفيَّة تاريخيَّة 1.1 ظُهور الشُعوبيَّة في الدولة العبَّاسيَّة
1.2 استخدام التُرك في أجهزة الدولة العبَّاسيَّة
1.3 ازدياد نُفوذ التُرك وأثره على الخِلافة
1.4 أوضاع مصر الداخليَّة قُبيل قيام الإمارة الطولونيَّة
2 التاريخ 2.1 ظُهور أحمد بن طولون
2.2 تولية أحمد بن طولون الديار المصريَّة
2.3 الحركات المُعارضة التي قامت في وجه ابن طولون
2.4 التمدُّد الطولوني باتجاه الشَّام
2.5 الاضطرابات في الشَّام ضدَّ الحُكم الطولوني
2.6 اعتلاء خُمارويه السُلطة
2.7 تصدُّع الإمارة الطولونيَّة وزوالها
3 الثقافة والمظاهر الحضاريَّة 3.1 الإنشاءات العُمرانيَّة
3.2 الاقتصاد
3.3 الدين
3.4 العُلوم والآداب
4 الجيش
5 العلاقة مع دُول الجوار 5.1 مع الخِلافة العبَّاسيَّة
5.2 مع الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة
6 قائمة الأُمراء الطولونيين
7 المراجع 7.1 هوامش
7.2 باللُغة العربيَّة
7.3 بلُغاتٍ أجنبيَّة
8 وصلات خارجيَّة
خلفيَّة تاريخيَّة[عدل]
ظُهور الشُعوبيَّة في الدولة العبَّاسيَّة[عدل]
Crystal Clear app kdict.png مقالة مفصلة: شُعوبيَّة
خارطة الدولة العبَّاسيَّة بعد استقلال المغرب الأقصى والأندلُس عنها، وقُبيل ظُهور الحركات الانفصاليَّة والشُعوبيَّة في المشرق.
«الشُّعوبيَّة» نزعةٌ ترمي إلى تفضيل «الشُعوب» الأعجميَّة على «القبائل» العربيَّة. ولعلَّ أصل هذه التسمية يعود إلى ما فهمه بعض المُفسرين من الآية القُرآنيَّة: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، فقالوا أنَّ «شُعوبًا» تعني «الشُعوب المُتحضرة».[3] وقد ظهرت هذه النزعة في الدولة العبَّاسيَّة لِأسبابٍ كثيرة أبرزها التنوع العرقي في الدولة العبَّاسيَّة مُتناثرة الأطراف، واستخدام الخُلفاء العبَّاسيين للعجم في قُصورهم وفي أجهزة الدولة. فقد اعتمد العبَّاسيُّون في تأسيس دولتهم على الفُرس النَّاقمين على الأُمويين، بعد أن كان الأُمويّون يعتمدون على العُنصر العربي في إدارة دولتهم وقيادة جُيوشهم.[4] وقد كافأ الخُلفاء العبَّاسيُّون الأولون أنصارهم من الفُرس فجعلوهم وُزراء وقادة. ولكن هؤلاء الخُلفاء لم يلبثوا أن أدركوا أنَّ نُفوذ الوُزراء الفُرس قد فاق نُفوذهم، فتخلَّصوا منهم: هكذا فعل أبو جعفر المنصور عندما قتل وزيره أبا مُسلم الخُراساني، وهكذا فعل هٰرون الرشيد عندما فتك بِوزيره جعفر بن يحيى البرمكي ونكَّل بِأُسرته.[4] وقد غذَّى هذا الصراع السياسي بين الفُرس والعرب في مطلع العهد العبَّاسي نزعةٌ «شُعوبيَّة» ترمي إلى تفضيل الشُعوب غير العربيَّة على العرب، وتقول إنَّ هذه الشُعوب تتفوَّق على العرب في الحضارة، وفي الأدب، والشعر. وقام جدالٌ طويلٌ بين طرفيّ النزاع، وانتصر لِكُلِّ فريقٍ أبناؤه من الشُعراء والمُؤلفين والساسة. وهذا الانشقاق بين رعايا الدولة أدَّى إلى ولادة أولى الحركات الانفصاليَّة عن الدولة العبَّاسيَّة، بِقيادة القائد العسكري طاهر بن الحُسين الذي أنشأ الدولة الطاهريَّة في خُراسان سنة 821م.[4]
الدُّول الإسلاميَّة المُتعددة التي نشأت بعد ضعف الدولة العبَّاسيَّة وزوال هيبة الخلِافة في بغداد.
ومن العوامل الدَّاخليَّة التي شجَّعت على انتشار الحركات الانفصاليَّة، اتساع رقعة الدولة العبَّاسيَّة، حتَّى غدت إمبراطوريَّة تبسطُ جناحيها على كافَّة أنحاء المنطقة المُمتدَّة من حُدود الصين وُصولًا إلى المغرب الأوسط في شمال أفريقيا. ولكن هذا الاتساع في المساحة، بدلًا من أن يكون عامل قُوَّةٍ في كيان الدولة، انقلب إلى عامل ضعفٍ فساعد على تفسُّخها وتفكُّكها، ذلك أنَّ بُعد المسافة بين أجزاء الدولة وبين عاصمتها، وصُعوبة المُواصلات في ذلك الزمن، جعلا الوُلاة في البلاد النائية يتجاوزون سُلطاتهم ويستقلُّون بِشُؤون ولاياتهم دون أن يخشوا الجُيوش القادمة من عاصمة الخِلافة لِإخماد حركاتهم الانفصاليَّة، والتي لم تكن تصل إلَّا بعد فوات الأوان.[5] وساعد ضُعف الخُلفاء العوامل السَّابقة على أن تبرز وتقوى وتعمل عملها في إضعاف الدولة، فاستغلَّ الوُلاة هذا الضعف، وقد بلغ الأمر ببعضهم أن أقاموا في بغداد وأوفدوا نُوَّابًا عنهم لِإدارة ولاياتهم، ولم يلبث هؤلاء النُوَّاب أن تطلَّعوا إلى الاستقلال بِهذه الولايات، وجعلوا مناصبهم وراثيَّة في أبنائهم. وهكذا نشأت دُويلات لا يربطها بالخِلافة العبَّاسيَّة إلَّا تبعيَّة اسميَّة.[5]
استخدام التُرك في أجهزة الدولة العبَّاسيَّة[عدل]
مملوكٌ تُركيٌّ من مدينة حلب. استخدم الخُلفاء العبَّاسيُّون التُرك في أجهزة دولتهم، وبالأخص في الحجابة والحراسة والجيش.
كان الأُمويّون أوَّل من استقدم التُرك من بلادهم بعد اعتناقهم الإسلام، واستخدموهم في الجُيوش وأجهزة الدولة.[6] وبعد سُقوط الدولة الأُمويَّة وقيام الدولة العبَّاسيَّة على أنقاضها واستقرار دعائمها في عهد أبي جعفر المنصور، برز عددٌ من الشخصيَّات التُركيَّة الذين كان عددهم يزدادُ شيءًا فشيءًا بِتوافُدهم على دار الخِلافة، فاستخدمهم الخُلفاء العبَّاسيّون في العصر العبَّاسي الأوَّل في قُصورهم وائتمنوهم على أسرارهم، وأسندوا إليهم أمر سلامتهم الشخصيَّة. وكان أبو جعفر المنصور أوَّل خليفةٍ عبَّاسيّ اتخذ التُرك بطانة ومُوظفين، فقرَّب حمَّادًا التُركي ووثق به وجعلهُ من خاصَّته وأُمناء سرِّه. وبلغت ثقته به حدًا أنَّهُ كان لا يأمن أحدًا على أسرار سجلَّات الدولة غيره، وكان يُصرُّ المفتاح في كُمِّ قميصه.[7] ونفر أبو جعفر المنصور من استخدام العرب في قُصوره، ولم يرضَ بأن يعمل في خدمة قصره أو حرمه، أحدٌ من العرب،[8] وفضَّل عليهم عناصر أُخرى كالتُرك. وهو أوَّل من ولَّاهم الحجابة، فاختار حمَّادًا التُركي حاجبًا له بعد أن توطدت دعائم الدولة، كما ولَّاهُ السَّواد.[9] واستخدم أبو عبد الله مُحمَّد المهدي عددًا من التُرك في قُصوره مثل شاكر التُركي، وهو أحد قادة الجيش في فارس، وفرج الخادم الذي برز في عهد هٰرون الرشيد فيما بعد، ويحيى بن داود الخرسي الذي ولَّاه مصر في سنة 162هـ المُوافقة لِسنة 778م.[10] وأدَّى الجُند التُرك في عهده دورًا بارزًا في مُحاربة الخوارج عندما ثاروا بِقيادة عبد السلام اليشكري في سنة 160هـ المُوافقة لِسنة 776م في باجرما.[11] وتوسَّع هٰرون الرشيد في استخدام التُرك في قُصوره ودوائره وجيشه، فكان أبو سليم فرج الخادم التُركي أحد قادة جيشه، وقد طلب منه الخليفة تعمير مدينة طرسوس وإكمال بنائها وذلك في سنة 170هـ المُوافقة لِسنة 786م،[12] ومسرور الخادم الذي يُعدُّ بِحق من أقرب الناس إلى هٰرون الرشيد الذي وثق به ثقة تفوق الوصف، وقد أسند إليه مُهمَّة التخلُّص من أبرز شخصيَّة برمكيَّة في دار الخِلافة العبَّاسيَّة، وأقربها إلى نفس الخليفة، وهو جعفر بن يحيى البرمكي، فنفَّذ مسرور المُهمَّة بِدقَّة. وضمَّت حاشية الرشيد بعض التُرك، واستخدم الجواري من فرغانة وأشروسنة وغيرهما، وأضحى بعضهُنَّ محظيات، مثل ماردة بنت شبيب، أُم المُعتصم، التي تُعد من أحظى النساء لدى الرشيد، وهي تُركيَّة.[13]
وتوسَّع أبو جعفر عبدُ الله المأمون في استخدام التُرك في قُصوره وجُيوشه، واستقدمهم من بلاد ما وراء النهر بعد أن دخلوا في الإسلام. وازدحمت وُفودهم على بابه، وكان يُبالغ في إكرام من يردُ بابه من مُلوك التُرك.[14] ووصل بعض هؤلاء التُرك إلى مناصب قياديَّة، منهم طولون، والد أحمد مُؤسس الدولة الطولونيَّة، وكاوس وقد عيَّنهُ المأمون واليًا على أشروسنة، وابنه الأفشين حيدر الذي يُعدُّ من كبار قادة المأمون وأحد الذين قدَّموا خدمات جليلة للدولة بما قاموا به من قمع العديد من الثورات. ولمَّا بُويع للمُعتصم بالخِلافة، كان الصراع بين العرب والفُرس، الذين حظوا بِعطف المأمون خِلال السنوات الأولى من خِلافته، قد بلغ مبلغًا مُرتفعًا، واختلَّت التوازُنات بين العناصر التي تكوَّنت منها الدولة العبَّاسيَّة، وقامت حركاتٌ مُناهضة للدولة ذات خلفيَّات فارسيَّة، فبدأت ثقة المُعتصم بالفُرس تضعُف.[15] ومن جهةٍ أُخرى، لم يركن المُعتصم إلى العُنصر العربي، ولم يثق بالعرب نظرًا لِكثرة تقلُّبهم واضطرابهم وقيامهم ضدَّ الخُلفاء، بالإضافة إلى أنَّهم فقدوا كثيرًا من مُقومات قُوَّتهم السياسيَّة والعسكريَّة فأصبحوا أقل خُطورة وأضعف شأنًا.[15] حملت هذه المُعطيات المُعتصم على أن يُوكِّل أمر سلامته الشخصيَّة إلى فرقةٍ من العُنصر التُركي، لا سيَّما أنَّ طباع هؤلاء النفسيَّة والجسديَّة تتوافق مع مُهتمهم. وأضحى لِهذا العُنصر أثرٌ كبيرٌ في الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة، وأصبح الحرسُ التُركيّ دعامةً من دعائم الخلافة أيَّام حُكمه، من واقع الحِفاظ على دولته والإبقاء على خِلافته في ظل الصراع العربي - الفارسي، فاستخدم التُرك في الجيش على نطاقٍ واسعٍ وجعلهم تحت إمرة قادة منهم، مُسددًا بِذلك ضربة عنيفة لِلقادة والجُند العرب، ولِسياسة أبي جعفر المنصور التقليديَّة التي كانت تستهدف حفظ التوازن في الجيش بين الفرق العربيَّة والفرق الأعجميَّة،[16] وأسكن المُعتصم التُرك مدينة سامرَّاء التي بناها خصيصًا لهم.
ازدياد نُفوذ التُرك وأثره على الخِلافة[عدل]
خارطة لِمدينة سامرَّاء، حاضرة الخِلافة العبَّاسيَّة خِلال القرن التاسع الميلاديّ، وهي المدينة التي شهدت صُعود التُرك وتحكُّمهم بأجهزة الدولة العبَّاسيَّة وسيطرتهم على مقاليد الأُمور فيها.
انتقلت عاصمة الخِلافة إلى سامرَّاء التي ظلَّت ما يقرب من خمسين سنة حاضرة دولة الخِلافة العبَّاسيَّة، وأضحت مقرًّا للعصبيَّة التُركيَّة الجديدة. ومُنذُ عهد المُعتصم أخذت تظهر على مسرح الحياة السياسيَّة شخصيَّاتٌ تُركيَّة أدَّت دورًا كبيرًا في الحياة العامَّة، أبرزها الأفشين وأشناس وإيتاخ ووصيف وسيما الدمشقي، وقد خدموا الدولة وساندوها في حُروبها الداخليَّة ضدَّ الحركات المُناهضة التي نشبت في أجزائها المُختلفة، وفي حُروبها الخارجيَّة ضدَّ الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة. ومع مُرور الزمن أخذ هؤلاء التُرك يتجهون إلى تكوين كيانٍ خاصٍ بهم سواء في كنف الخِلافة أو مُنفصلًا عنها، كما طمع بعضهم في الاستئثار بِشُؤون الحُكم في العاصمة حين أدركوا أنَّ الخِلافة لا يُمكنها الاستغناء عن خدماتهم. وتُعدُّ خِلافة أبو جعفر هٰرون الواثق بالله مرحلة انتقالٍ بين عهدين: الأوَّل هو عهد سيطرة التُرك على مُقدرات الدولة مع بقاء هيبة الخِلافة، والثاني هو عهد سيطرة التُرك مع زوال هيبة الخِلافة وهُبوط مكانة الخُلفاء.[17] ثبَّت التُرك في عهد الواثق أقدامهم في الحُكم، وحصل رُؤساؤهم على نُفوذٍ كبيرٍ حتَّى اضطرَّ الخليفة أن يخلع على أشناس لقب «السُلطان» مُعترفًا لهُ بِحُقوقٍ تتجاوز نطاق المهام العسكريَّة، فكان بِذلك أوَّل خليفةٍ استخلف سُلطانًا،[18] وأسند إليه أعمال الجزيرة الفُراتيَّة والشَّام ومصر، كما عهد إلى إيتاخ بِولاية خُراسان والسند وكُور دجلة.[19] نتيجةً لِهذا التوسُّع في الصلاحيَّات ازداد نُفوذ التُرك داخل العراق وخارجه، فهيمنوا على دار الخِلافة وأحكموا سيطرتهم الفعليَّة على كافَّة أقاليمها، ثُمَّ خطوا خُطوة أُخرى حين اعتقدوا أنَّهُ لا بُدَّ من السيطرة على شخص الخليفة حتَّى يستمر سُلطانهم بوصفه مصدر هذا السُلطان، فأحاطوا به يُراقبون تحرُّكاته، ويُشاركون في المُناقشات السياسيَّة، ومن أجل ذلك، لم يذهبوا إلى ولاياتهم، وأنابوا فيها عُمَّالًا عنهم.[19] وقد شكَّل هذا التدبير خُطوةً سياسيَّةً على طريق انفصال الولايات عن الإدارة المركزيَّة، إذ طمع الوكلاء بِولاياتهم، واستقلَّوا بها مُنتهزين فُرصة ضعف السُلطة المركزيَّة، وعدم معرفة الخليفة بما يجري في الولايات لاطمئنانه إلى من ولَّاهم من التُرك.[20]
وخطا التُرك خُطوةً إضافيَّةً من أجل تشديد قبضتهم على الخِلافة، فأخذوا يتدخلون في اختيار الخُلفاء وتوليتهم، وكان الواثق هو آخر الخُلفاء الذين تمَّت توليتهم على التقليد الذي كان مُتبعًا من قبل، وعندما مات الواثق لم يعهد لِابنه مُحمَّد بِفعل صغر سنِّه، فنشب الصراع بين فئتين رئيسيَّتين بِشأن اختيار الخليفة. تألَّفت الفئة الأولى من كِبار رجال الدولة من أبناء البيت العبَّاسي والوزير مُحمَّد بن عبد الملك الزيَّات وقاضي القُضاة أحمد بن أبي دؤاد، وهُم أهل الحل والعقد في بيعة الخليفة، وقد رشَّحوا مُحمَّد بن الواثق. وتمثَّلت الفئة الثانية بِقُوَّة التُرك النامية، وقد رشَّحت هذه الفئة جعفر بن المُعتصم، ونجحت في فرضه، وتلقَّب «بالمُتوكِّل على الله».[21] شكَّلت هذه الحادثة سابقة خطيرة في تولية الخُلفاء بعد ذلك، إذ أضحى القادة التُرك أهل الحل والعقد، لا تتم الخِلافة إلَّا بِمُوافقتهم ورضاهم، يرفعون الرجل الذي يرتضونه، والعكس صحيح، فأحكموا بذلك قبضتهم على شُؤون الخِلافة، يُصرِّفون الأُمور بِإرادتهم.[20] وكان أن أدرك المُتوكِّل ومن بعده ابنه المُنتصر حقيقة موقف التُرك الضاغط على الخِلافة، وشعرا باستبدادهم بِشؤونها، وقلَّة احترامهم لِشخص الخليفة، فحاول كُلًا منهما التخلُّص منهم وتحجيمهم، فتنبَّه هؤلاء إلى الخطر المُحدق بهم، فتخلَّصوا من الخليفتين وقتلوهما.[22] وهكذا أصبح التُرك سادة الموقف بِحق في عاصمة الخِلافة، ولا يقوى على مُنازعتهم أحد.
أوضاع مصر الداخليَّة قُبيل قيام الإمارة الطولونيَّة[عدل]
Crystal Clear app kdict.png انظر أيضًا: تاريخ مصر الإسلاميَّة
نشطت الدعوة العلويَّة في مصر مُنذُ أيَّام أبي جعفر المنصور (136 - 158هـ \ 753 - 775م) واستمرَّت طيلة العصر العبَّاسي الأوَّل، وما حدث من اضطهاد العبَّاسيين للعلويين في المشرق الإسلامي، أجبرهم على الفرار إلى الجهات البعيدة عن مقر الخلافة العبَّاسيَّة، ومنها مصر. وسببُ الخلاف الشديد بين العلويين والعبَّاسيين هو بطبيعة الحال أنَّ العلويين اعتقدوا بأنَّ العبَّاسيين مُغتصبين للسُلطة مثل الأُمويين، على الرُغم من أنَّ بني العبَّاس من آل البيت، الذين اعتقد العلويين بِأحقيتهم بالخِلافة. ويبدو أنَّ الخُلفاء العبَّاسيين بعد أبي جعفر لم يتعرَّضوا للعلويين في مصر، ولعلَّ مردُ ذلك يعود إلى إخلادهم إلى الهُدوء من جهة ومُحاولة هؤلاء استقطابهم من جهةٍ أُخرى، وبقي الوضع على ذلك حتَّى اعتلاء المُتوكِّل سُدَّة الخِلافة، وهو الذي أبغض العلويين؛ فأرسل كتابًا إلى والي مصر إسحٰق بن يحيى يأمُره بِإخراج آل عليّ بن أبي طالب منها، فأُخرجوا من الفسطاط في شهر رجب سنة 236هـ المُوافق فيه شهر كانون الثاني (يناير) سنة 851م، إلى العراق ومن هُناك أُبعدوا إلى المدينة المُنوَّرة، واضطرَّ الذين بقوا في مصر إلى الاختفاء بِفعل أنهم أصبحوا غير آمنين على أنفُسهم،[23] واستأصل خلفه يزيد بن عبد الله شأفة هؤلاء وحمل منهم جماعة إلى العراق على أقبح وجه.[23][24] وأقرَّ الخليفة المُنتصر يزيد بن عبد الله على ولايته بِمصر، وأمرهُ بألَّا يُقبِّل - يلتزم - علويّ ضيعة، ولا يركب فرسًا، ولا يُسافر من الفسطاط إلى طرفٍ من أطرافها، وأن يُمنعوا من اتخاذ العبيد إلَّا العبد الواحد، وإن كانت بينه وبين أحدٍ من الطالبيين خُصومةٌ من سائر الناس، قُبل قول خصمه فيه ولم يُطالب بِبيِّنة.[25]
اضطربت أوضاعُ مصر على أثر خلع الخليفة أبو العبَّاس أحمد المُستعين بالله في شهر مُحرَّم سنة 252هـ المُوافق فيه شهر كانون الأوَّل (ديسمبر) سنة 856م، ومُبايعة الخليفة المُعتز وذلك بِفعل اضطراب الوضع في بغداد، وكانت فُرصةً للطامحين لِلقيام ضدَّ الحُكم العبَّاسي. فقد ثار جابر بن الوليد المدلجي في الإسكندريَّة في ربيع الآخر 252هـ المُوافق فيه آذار (مارس) 866م، فاشتدَّ أمره وقويت شوكته وبسط نُفوذه على منطقة واسعة في الدلتا، وجبى خراجها، ولم يستطع والي مصر يزيد بن عبد الله أن يقضي على حركته، فأرسل الخليفة المُعتز قُوَّةً عسكريَّةً بِقيادة مزاحم بن خاقان تمكَّنت من هزيمته، وقبض مزاحم عليه، فكافأهُ الخليفة بأن عيَّنهُ واليًا على مصر بدلًا من يزيد بن عبد الله وذلك في ربيع الأوَّل سنة 253هـ المُوافق فيه آذار (مارس) 867م.[26] وعلى هذا الشكل تتابعت الحركات العلويَّة في مصر مُنذُ عهد الخليفة العبَّاسي المُتوكِّل بِهدف القضاء على الحُكم العبَّاسي فيها وتأسيس دولة علويَّة في رُبوعها، وكان الذي شجَّعهم على الخُروج الأوضاع المُضطربة في المشرق الإسلامي بِعامَّة، حيثُ قامت الإمارات الانفصاليَّة، وفي بغداد بِخاصَّة حيثُ الصراع على النُفوذ بين الخِلافة والتُرك، وظلَّ الوضع على هذا الحال إلى أن جاء أحمد بن طولون إلى مصر وأسس إمارته.[27]
التاريخ[عدل]