القسم الأول من الطبقة الرابعة من الفرس و هم الساسانية و الخبر عن ملوكهم الأكاسرة إلى حين الفتح الإسلامي
هذه الدولة كانت من أعظم الدول في الخليقة و أشدها قوة و هي إحدى الدولتين اللتين صبحهما الإسلام في العلم و هما دولة فارس و الروم و كان مبدأ أمرها من توثب أردشير ابن بابك شاه ملك مرو و هو ساسان الأصغر ابن بابك بن سامان بن بابك بن هرمز بن ساسان الأكبر بن كي بهمن وقد تقدم ذكر كي بهمن و أن ابنه ساسان غضب لما توج للملك أخوه دارا و هو في بطن أمه و لحق بجبال إصطخر فأقام هنالك و تناسل ولده بها إلى أن كان ساسان الأصغر منهم فكان قيما على بيت النار لاصطخر و كان شجاعا و كانت امرأته من بيت ملك فولدت له ابنه بابك و ولد لبابك أردشير و ضبطه الدارقطني : بالراء المهملة و كان على اصطخر يومئذ ملك من ملوك الطوائف و له عامل على دار ابجرد خصي اسمه سري فلما أتت لأردشير سبع سنين جاء به جده ساسان إلى ملك إصطخر و سأله أن يضمه إلى عامل دار ابجرد الخصي يكفله إلى أن تتم تربيته و لما هلك عامل دار ابجرد أقام بأمره فيها أردشير هذا و ملكها كان له علم من المنجمين بأن الملك سيصير إليه فوثب على كثير من ملوك الطوائف بأرض فارس فاستولى عليهم و كتب إلى أبيه بذلك ثم وثب على عامل اصطخر فغلبه على ما بيده و ملك إصطخر و كثيرا من أعمال فارس
و كان زعيم الطوائف يومئذ أردوان ملك الأشكانيين فكتب إليه يسأله أن يتوجه فعنفه و كتب إليه بالشخوص فامتنع و خرج بالعساكر من اصطخر و قدم موبذان رورين فتوجه ثم فتح كرمان و بها ملك من ملوك الطوائف و ولى عليها ابنه و كتب إليه أردوان يتهدده و أمر ملك الأهواز من الطوائف أن يسير إليه فرجع مغلوبا ثم سار أردشير إلى أصبهان فقتل ملكها و استولى عليها ثم إلى الأهواز فقتل ملكها كذلك ثم زحف إليه أردوان عميد الطوائف فهزمه أردشير و قتله و ملك همذان و الجبل و أذربيجان و أرمينية و الموصل ثم السودان و بنى مدينة على شاطئ دجلة شرقي المدائن ثم رجع إلى إصطخر ففتح سجستان ثم جرجان ثم مرو و بلخ و خوارزم إلى تخوم خراسان و بعث بكثير من الرؤوس إلى بيت النيران ثم رجع إلى فارس و نزل صول و أطاعه ملك كوشان و مكران ثم ملك البحرين بعد أن حاصرها مدة و ألقى ملكها بنفسه في البحر ثم رجع فنزل المدائن و توجه ابنه سابور و لم يزل مظفرا و قهر الملوك حوله و أثخن في الأرض و مدن المدن و استكثر العمارة و هلك لأربع عشرة سنة من ملكه بإصطخر بعد مقتل أردوان
و قال هشام بن الكلبي : قام أردشير في أهل فارس يريد الملك الذي كان لآبائه قبل الطوائف و أن يجمعه لملك واحد و كان أردوان ملكا على الأردوانيين و هم أنباط السواد و كان بابا ملكا على الأرمانيين و هم أنباط الشام و بينهما حرب و فتنة فاجتمعا على قتال أردشير فحارباه مناوبة ثم بعث أردشير إلى بابا في الصلح على أن يدعه في الملك و يخلي باب بينه و بين أردوان فلم يلبث أن قتل أردوان و استولى على السواد فأعطاه بابا الطاعة بالشام و دانت له سائر الملوك و قهرهم ثم رجع إلى أمر العرب و كانت بيوتهم على ريف العراق ينزلون الحيرة و كانوا ثلاث فرق : الأولى تنوخ و منهم قضاعة الذين كنا قدمنا أنهم كانوا اقتتلوا مع ملك من التبابعة و أتى بهم و كانوا يسكنون بيوت الشعر و الوبر و يضعونها غربي الفرات بين الأنبار و الحيرة و ما فوقها فأنفوا من الإقامة في مملكة أردشير و خرجوا إلى البرية و الثانية العباد الذين كانوا يسكنون الحيرة و أوطنوها و الثالثة الأحلاف الذين نزلوا بهم من غير نسبهم و لم يكونوا من تنوخ الناكثين عن طاعة الفرس و لا من العباد الذين دانوا بهم فملك هؤلاء الأحلاف الحيرة و الأنبار و كان منهم عمرو بن عدي و قومه فعمروا الحيرة و الأنبار و نزلوا و خربوها و كانتا من بناء العرب أيام بختنصر ثم عمرها بنو عمرو بن عدي لما أصاروها نزلا لملكهم إلى أن صبحهم الإسلام و اختط العرب الإسلاميون مدينة الكوفة فدثرت الحيرة
و كان أردشير لما ملك أسرف في قتل الأشكانية حتى أفناهم لوصية جده و وجد بقصر أردوان جارية استملحها و دفعت عن نفسها القتل بإنكار نسبها فيهم فقالت أنا مولاة و بكر فواقعها و حملت و ظنت الأمن على نفسها فأخبرته بنسبها فتنكر و دفعها إلى بعض مرازبته ليقتلها فاستبقاها ذلك المرزبان إلى أن شكى إليه أردشير قلة الولد و الخوف على ملكه من الإنقطاع و ندم على ما سلف منه من قتل الجارية و إتلاف الحمل فأخبره بحياتها و أنها ولدت ولدا ذكرا و أنه سماه سابور و أنه قد كملت خصاله و آدابه فاستحضره أردشير و اختبره فرضيه و عقد له التاج
ثم هلك أردشير فملك سابور من بعده فأفاض العطاء في أهل الدولة و تخير العمال ثم شخص إلى خراسان فمهد أمورها ثم رجع فشخص إلى نصيبين فملكها عنوة فقتل و سبى افتتح من الشام مدنا و حاصر أنطاكية و بها من الملوك أريانوس فاقتحمها عليه و أسره و حمله إلى جنديسابور فحبسه بها إلى أن فاداه على أموال عظيمة و يقال على بناء شاذروان تستر و يقال جدع أنفه و أطلقه و يقال بل قتله و كان بجبال تكريت بين دجلة و الفرات مدينة يقال لها الحضر و بها ملك من الجرامقة يقال له الساطرون من ملوك الطوائف و هو الذي يقول فيه الشاعر :
( و أرىالموت قد تدلى من الحضر ... على رب أهله الساطرون )
( و لقد كان آمنا للدواهي ... ذا ثراء و جوهر مكنون )
و قال المسعودي : و هو الساطرون بن إستطرون من ملوك السريانيين قال الطبري : و تسميه العرب الضيزن و قال هشام بن محمد الكلبي : من قضاعة و هو الضيزن بن معاوية بن العميد بن الأجدم بن عمرو بن النخع بن سليم و سنذكر نسب سليم في قضاعة و كان بأرض الجزيرة و كان معه من قبائل قضاعة ما لا يحصى و كان ملكه قد بلغ الشام فحلف سابور في غزاته إلى خراسان و عاث في أرض السواد فشخص إليه سابور عند انقضاء غزاته حتى أناخ على حصنه و حاصره أربع سنين قال الأعشى :
( ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمة و هل خالد من نعم )
( أقام به سابور الجنود ... حولين يضرب فيه القمم )
ثم إن ابنه ساطرون و اسمها النضيرة و خرجت إلى ربض المدينة و كانت من أجمل النساء و سابور كان جميلا فأشرفت عليه فشغفت به و شغف بها و داخلته في أمر الحصن و دلته على عورته فدخله عنوة وقتل الضيزن و أباد قضاعة الذين كانوا معه و أكثرهم بنو حلوان فانقرضوا و خرب حصن الحضر و قال عدي بن زيد في رثائه :
( و أخو الحضر إذ بناه و إذ دجلة ... تجبى إليه و الخابور )
( شاده مرمرا و جلله كلسا ... فللطير في ذراه و كور )
( لم يهبه ريح المنون فبا ... د الملك عنه فبابه مهجور )
ثم أعرس بالنضيرة بعين النمر و باتت ليلها تتضور في فراشها و كان من الحرير محشو بالقز و القسي فإذا ورقة آس بينها و بين الفراش و تؤذيها فقال : ويحك ما كان أبوك يغذيك ؟ قالت الزبد و المخ و الشهد و صفو الخمر فقال : و أبيك لأنا أحداث عهدا و أبعد ودا من أبيك الذي غذاك بمثل هذا و أمر رجلا ركب فرسا جموحا و عصب غدائرها بذنبه و لم يزل يركض حتى تقطعت أوصالها
و عند ابن اسحق أن الذي فتح حصن الحضر و خربه و قتل الساطرون هو سابور ذو الأكتاف و قال السهيلي : لا يصح لأن الساطرون من ملوك الطوائف و الذي أزال ملكهم هو أردشير و ابنه سابور و سابور ذو الأكتاف بعدهم بكثير هو التاسع من ملوك أردشير قال السهيلي و أول من ملك الحيرة من ملوك الساسانية سابور بن أردشير و الحيرة وسط بلاد السواد و حاضرة العرب و لم يكن لأحد قبله من آل ساسان حتى استقام العرب على طاعته و ولى عليهم عمرو بن عدي جد آل المنذر بعده و أنزله الحيرة فجبى خراجهم و إتاوتهم و استعبدهم لسلطانه و قبض أيديهم عن الفساد بأقطار ملكه و ما كانوا يرومونه بسواد العراق من نواحي مملكته و ولى بعده ابنه امرأ القيس بن عمرو عدي و صار ذلك ملكا لآل المنذر بالحيرة توارثوه حسبما نذكر بعد
و هلك سابور لثلاثين سنة من ملكه و ولي بعده ابنه هرمز و يعرف بالبطل فملك سنة واحدة و ولي بعده ابنه بهرام بن هرمز و كان عامله على مذحج من ربيعة و مضر و سائر بادية العراق و الجزيرة و الحجاز امرؤ القيس بن عمرو بن عدي و هو أول من تنصر من ملوك الحيرة و طال أمد ملكه قال هشام بن الكلبي : ملك مائة و أربع عشرة سنة من لدن أيام سابور اهـ
و كان بهرام بن هرمز حليما وقورا و أحسن السيرة و اقتدى بآبائه و كان ماني الثنوي الزنديق صاحب القول بالنور و الظلمة قد ظهر في أيام جده سابور فاتبعه قليلا ثم رجع إلى المجوسية دين آبائه و لما ولي بهرام بن هرمز جمع الناس لامتحانه فأشادوا بكفره و قتله و قالوا زنديق قال المسعودي : و معناه أن من عدل عن ظاهر إلى تأويله ينسبونه إلى تفسير كتاب زرادشت الذي قدمنا أن اسمه زندة فيقولون زنديهء فعربته العرب فقالوا زنديق و دخل فيه كل من خالف الظاهر إلى الباطن المنكر ثم اختص في عرف الشرع بمن يظهر الإسلام و يبطن الكفر
ثم هلك بهرام بن هرمز لثلاث سنين و ثلاثة أشهر من دولته و ولي ابنه بهرام ثماني عشرة سنة عكف أولها على اللذات و امتدت أيدي بطانته إلى الرعايا بالجور و الظلم فخربت الضياع و القرى حتى نبهه الموبذان لذلك بمثل ضربه له و ذلك أنه سامره في ليلة فمر راجعا من الصيد فسمعا بومين يتحدثان في خراب فقال بهرام ليت شعري هل أحد فهم لغات الطير ؟ فقال له الموبذان : نعم إنا نعرف ذلك أيها الملك و إنهما يتحاوران في عقد نكاح و عن الأنثى اشترطت عليه إقطاع عشرين ضيعة من الخراب فقبل الذكر و قال : إذا دامت أيام بهرام أقطعتك ألفا فتفطن بهرام لذلك و أفاق من غفلته و أشرف على أحوال ملكه مباشرا و قابضا أيدي البطانة عن الرعية و حسنت أيامه إلى أن هلك و ولي بعده بهرام بن بهرام بن بهرام ثلاثة أسماء متشابهة و تلقب شاه و كان مملكا على سجستان و هلك لأربع سنين من دولته و ملك بعده أخوه قرسين بن بهرام تسع سنين أخرى و كان عادلا حسن السيرة و ملك بعده ابنه هرمز بن قرسين فوجل منه الناس لفظاظته ثم أبدل من خلقه الشر بالخير و سار فيهم بالعدل و الرفق و العمارة و هلك لسبع سنين من ولايته و كان هؤلاء كلهم ينزلون جند يسابور من خراسان و لما هلك و لم يترك ولدا شق ذلك على أهل مملكته لميلهم إليه و وجدوا ببعض نسائه حملا فتوجوه و انتظروا إتمامه و قيل بل كان هرمز أبوه أوصى بالملك لذلك الحمل فقام أهل الدولة بتدبير الملك ينتظرون تمام الولد
و شاع في أطراف المملكة أنهم يتلومون صبيا في المهد فطمع فيهم الترك و الروم و كانت بلاد العرب أدنى إلى بلادهم و هم أحوج إلى تناول الحبوب من البلاد لحاجتهم إليها بما هم فيه من الشظف و سوء العيش فسار منهم جمع من ناحية البحرين و بلاد القيس و وحاظة فأناخوا على بلاد فارس من ناحيتهم و غلبوا أهلها على الماشية و الحرث و المعايش و أكثر الفساد و مكثوا في ذلك حينا و لم يغزهم أحد من فارس و لا دافعوهم لصغر الملك حتى إذا كبر و عرضوا عليه الأمور فأحسن فيها الفصل و بلغ ست عشرة سنة من عمره ثم أطاق حمل السلاح نهض حينئذ للاستبداد بملكه و كان أول شيء ابتدأ به شأن العرب فجهز إليهم العساكر و عهد إليهم أن لا يبقوا على أحد ممن لقوا منهم ثم شخص بنفسه إليهم و غزاهم و هم غازون ببلاد فارس فقتلهم و أبرح القتل و هربوا أمامه و أجاز البحر في طلبهم إلى الخط و تعدى إلى بلاد البحرين قتلا و تخريبا ثم غزا بعدها رؤوس العرب من تميم و بكر و عبد القيس فأثخن فيهم و أباد عبد القيس و لحق فلهم بالرمال ثم أتى اليمامة فقتل و أسر و خرب ثم عطف إلى بلاد بكر و تغلب ما بين مملكة فارس و مناظر الروم بالشام فقتل من وجد هنالك من العرب وطم مياههم و أسكن من رجع إليه من بني تغلب دارين من البحرين و الخطو من بني تميم هجروا من بكر بن وائل كرمان و يدعون بكر إياد و من بني حنظلة الأهواز و بنى مدينة الأنبار و الكرخ و السوس
و فيما قاله غيره إن إيادا كان تشتو بالجزيرة و تصيف بالعراق و تشن الغارة و كانت تسمى طما لانطباقها على البلاد و سابور يومئذ صغير حتى إذا بلغ القيام على ملكه شرع في غزوهم و رئيسهم يومئذ الحرث بن الأغر الأيادي و كتب إليهم بالنذر بذلك رجل من إياد كان بين ظهراني الفرس فلم يقبلوا حتى واقعتهم العساكر فاستلحمهم و خرجوا إلى أرض الجزيرة و الموصل إجلاء و لم يعاودوا العراق و لما كان الفتح طلبهم المسلمون بالجزية مع تغلب و غيرهم فأنفوا و لحقوا بأرض الروم
و قال السهيلي : عند ذكر سابور بن هرمز إنه كان يخلع أكتاف العرب و لذلك لقبه العرب ذو الأكتاف و أنه أخذ عمرو بن تميم بأرضهم بالبحرين و له يومئذ ثلثمائة سنة و إنه قال : إنما أقتلكم معاشر العرب لأنكم تزعمون أن لكم دولة فقال له عمرو بن تميم : ليس هذا من الحزم أيها الملك فإن يكن حقا فليس قتلك إياهم بدافعة و تكون قد اتخذت يدا عندهم ينتفع بها ولدك و أعقاب قومك فيقال إنه استبقاه و رحم كبره
ثم غزا سابور بلاد الروم و توغل فيها و نازل حصونهم كان ملوك الروم على عصره قسطنطين و هو أول من تنصر من ملوكهم و هلك قسطنطين و ملك بعده إليانوس من أهل بيته و انحراف عن دين النصرانية و قتل الإساقفة و هدم البيع و جمع الروم و انحدار لقتال سابور و اجتمعت العرب معهم لثأرهم عند سابور بمن قتل منهم و سار قائد إليانوس و اسمه يوسانوس في مائة و سبعين ألفا من المقاتلة حتى دخل أرض فارس و بلغ خبره و كثرة جموعه إلى سابور فأحجم عن اللقاء و أجفل و صحبه العرب ففضوا جموعه و هرب في فل من عسكره و احتوى إليانوس على خزائنه و أمواله و استولى على مدينة طبسون من مدائن ملكه ثم استنفر أهل النواحي و اجتمعت إليه فارس و ارتجع مدينة طبسون و أقاما متظاهرين و هلك إليانوس بسهم أصابه فبقي الروم فوضى و فزعوا إلى يوسانوس القائد أن يملكوه فشرط عليهم الرجوع إلى دين النصرانية كما كان قسطنطين فقبلوا و بعث إليه سابور في القدوم عليه فسار إليه في ثمانين من أشراف الروم و تلقاه سابور و عانقه و بالغ في إكرامه و عقد معه الصلح على أن يعطي الروم قيمة ما أفسدوا من بلاده فارس و أعطوا بدلا عن ذلك نصيبين فرضي بها أهل فارس و كانت مما أخذه الروم من أيديهم فملكها سابور و شرد عنها أهلها خوفا من سطوته فنقل إليها من أهل اصطخر و أصبهان و غيرها و انصرف يوسانوس بالروم و هلك عن قرب و رجع سابور إلى بلاده
و فيما نقله الإخباريين إن سابور دخل بلاد الروم متنكرا و عثر عليه فأخذ و حبس في جلد ثور و زحف ملك الروم بعساكره إلى
جنديسابور فحاصرها و إن سابور هرب من حبسه و دخل
جنديسابور المدينة ثم خرج إلى الروم فهزمهم و أسر ملكهم قيصر و أخذه بعمارة ما خرب من بلاده و نقل التراب و الغروس إليها ثم قطع أنفه و بعث به على حمار إلى قومه و هي قصة واهية تشهد العادة بكذبها
ثم هلك سابور لاثنتين و سبعين سنة من ملكه و هو الذي بنى مدينة نيسابور و سجستان و بنى الإيوان المشهور لمقعد ملوكهم و ملك لعهده امرؤ القيس بن عدي و أوصى بالملك لأخيه أردشير بن هرمز وفتك في أشراف فارس و عظمائهم فخلعوه لأربعين سنة من دولته و ملكوا سابور بن ذي الأكتاف فاستبشر الناس برجوع ملك أبيه إليه و أحسن السيرة و رفق بالرعية و حمل على ذلك العمال و الوزراء و الحاشية و لم يزل عادلا و خضع له عمه أردشير المخلوع و كانت له حروب مع إياد و في ذلك يقول شاعرهم :
( على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قباب إياد حولها الخيل و النعم )
و قيل إن هذا الشعر إنما قيل في سابور ذي الأكتاف ثم هلك سابور لخمس سنين من دولته و ملك أخوه بهرام و يلقب
كرمان شاه و كان حسن السياسة و هلك لإحدى عشرة سنة من دولته رماه بعض الرماة بسهم في القتال فقتله و ملك بعده ابنه يزدجرد الأثيم و بعض نسابة الفرس يقول إنه أخوه ولي ابنه و إنما هو ابن ذي الأكتاف و قال هشام بن محمد : كان فظا غليظا كثير المكر و الخديعة يفرغ في ذلك عقله و قوة معرفته و كان معجبا برأيه سيء الخلق كثير الحدة يستعظم الزلة الصغيرة و يرد الشفاعة من أهل بطانته متهما للناس قليل المكافأة و بالجملة فهو سيء الأحوال مذمومها و استوزر لأول ولايته برسي الحكيم و يسمى فهر برشي و مهر مرسة و كان متقدما في الحكمة و الفضائل و أمل أهل المملكة أن تهرب من يزدجرد الأثيم فلم يكن ذلك و اشتد أمره على الأشراف بالإهانة و على من دونهم بالقتل و بينما هو جالس في مجلسه يوما إذا بفرس عابر لم يطق أحد إمساكه قد وقف ببابه فقام إليه ليتولى إمساكه بنفسه فرمحه فمات لوقته لإحدى و عشرين سنة من ملكه
و ملك بعده ابنه بهرام بن يزدجرد و يلقب ببهرام جور و كان نشوؤه ببلاد الحيرة مع العرب أسلمه أبوه إليهم فربي بينهم و تكلم بلغتهم و لما مات أبوه قدم أهل فارس رجلا من نسل أردشير ثم زحف بهرام جور بالعرب فاستولى على ملكه كما نذكر في أخبار آل المنذر و في أيام بهرام جور سار خاقان ملك الترك إلى بلاد الصغد من ممالكه فهزمه بهرام و قتله ثم غزا الهند و تزوج ابنه ملكهم فهابته ملوك الأرض و حمل إليه الروم الأموال على سبيل المهادنة و هلك لتسع و عشرين من دولته
و ملك ابنه يزدجرد بن بهرام جور و استوزر مهر برسي الحكيم الذي كان أبوه استوزره و جرى في ملكه بأحسن سيرة من العدل و الإحسان وهو الذي شرع في بناء الحائط بناحية الباب و الأبواب و جعل جبل الفتح سدا بين بلاده و ما وراءها من أمم الأعاجم و هلك لعشرين سنة من دولته
و ملك من بعده ابنه هرمز و كان ملكا على سجستان فغلب على الدولة و لحق أخوه فيروز بملك الصغد بمرو الروذ و هذه الأمم المعروفون قديما بالهياطلة و كانوا بين خوارزم و فرغانة فأمر فيروز بالعساكر و قاتل أخاه هرمز فغلبه و حبسه و كانت الروم قد امتنعت من حمل الخراج فحمل إليهم العساكر مع وزيره مهر برسي فأثخن في بلادهم حتى حملوا ما كان يحملونه و استقام أمره و أظهر العدل و أصابهم القحط في دولته سبع سنين فأحسن تدبير الناس فيها و كف عن الجباية و قسم الأموال و لم يهلك في تلك السنين أحد إتلافا و قيل أنه استسقى لرعيته من ذلك القحط فسقوا و عادت البلاد إلى أحسن ما كانت عليه و كان لأول ما ملك أحسن إلى الهياطلة جزاء بما أعانوه على أمره فقوي ملكهم أمره و زحفوا إلى أطراف ملكه و ملكوا طخارستان و كثيرا من بلاد خراسان و زحف هو إلى قتالهم فهزموه و قتلوه و أربعة بنين له و أربعة إخوة و استولوا على خراسان بأسرها و سار إليهم رجل من عظماء الفرس من أهل شيراز فغلبهم على خراسان و أخرجهم منها حتى ألقوا بجميع ما أخذوه من عسكر فيروز من الأسرى و السبي و كان مهالكه لسبع و عشرين من ملكه و بنى المدن بالري و جرجان و أذربيجان
و قال بعضهم : إن ملك الهياطلة الذي سار إلى فيروز اسمه خشتوا و الرجل الذي استرجع خراسان من يده هو خرسوس من نسل منوشهر و إن فيروز استخلفه لما سار إلى خشتوا و الهياطلة على مدينتي الملك و هما طبسون و نهرشير فكان من أمره مع الهياطلة بعد فيروز ما تقدم
و ملك بعد فيروز بن يزدجرد ابنه يلاوش بن فيروز و نازعه أخوه قباذ الملك فغلبه يلاوش و لحق قباذ بخاقان ملك الترك يستنجده و أحسن يلاوش الولاية و العدل و حمل أهل المدن على عمارة ما خرب من مدنهم و بنى مدينة ساباط بقرب المدائن و هلك لأربع سنين من دولته و ملك من بعده أخوه قباذ بن فيروز و كان قد سار بعساكر الترك أمده بها خاقان فبلغه الخبر بمهلك أخيه و هو بنيسابور من طريقه وقد لقي بها إبنا كان له هنالك حملت به أمه منه عند مروره ذلك إلى خاقان فلما أحل بنيسابور و معه العساكر سأل عن المرأة فأحضرت و معها الخبر و جاء الخبر هنالك بمهلك أخيه يلاوش بالمولود و سار إلى سرحد الذي كان أبوه فيروز استخلفه على المدائن و مال الناس إليه دون قباذ و استبد عليه فلما كبر و بلغ سن الاستبداد بأمره أنف من استبداد سرحد عليه فبعث إلى أصبهبذ البلاد و هو سابور مهران فقدم عليه و قبض على سرحد و حبسه ثم قتله و لعشرين من دولته حبس و خلع ثم عاد إلى الملك و صورة الخبر عن ذلك أن مردك الزنديق كان إباحيا و كان يقول باستباحة أموال الناس و أنها فيء و أنه ليس لأحد دون أحد و هو لمن اختاره فعثر الناس منه على متابعة مزدك في هذا الاعتقاد و اجتمع أهل الدولة فخلعوه وحبسوه و ملكوا جاماسات أخاه
و خرج رزمهر شاكيا داعيا لقباذ و يقرب إلى الناس بقتل المزدكية و أعاد قباذ إلى ملكه ثم سعت المزدكية عنده في رزمهر بإنكار ما أتى قبلهم فقبله و اتهمه الناس برأي مزدك فانتقضت الأطراف و فسد الملك و خلعوه و حبسوه و أعادوا جاماسات و فر قباذ من محبسه و لحق قباذ بالهياطلة و هم الصغد مستجيشا لهم و مر في طريقه بأبو شهر فتزوج بنت ملكها و ولدت له أنوشروان ثم أمده ملك الهياطلة فزحف إلى المدائن لست من مغيبه و غلب أخاه جاماسات و استولى على الملك ثم غزا بلاد الروم و فتح آمد و سبى أهلها و طالت مدته و ابتنى المدن العظيمة منها مدينة أرجان بين الأهواز و فارس ثم هلك لثلاث و أربعين سنة من ملكه في الكرة الأولى
و ملك ابنه أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد و كان يلي الأصبهبذ و هي الرياسة على الجنود و لما ملك فرق أصبهبذ البلاد على أربعة فجعل : أصبهبذ المشرق بخراسان و المغرب بأذربيجان و بلاد الخزر و استرد البلاد التي تغلب عليها جيران الأطراف من الملوك مثل السند و بست الرخج و زبلستان و طخارستان و دهستان و أثخن في أمة البازر و أجلى بقيتهم ثم أدهنوا و استعانوا بهم في حروبه و أثخن في أمة صول و استلحمهم و كذلك الجرامقة و بلنجر و اللان و كانوا يجاورون أرمينية و يتملأون على غزوها فبعث إليهم العساكر و استلحموهم و أنزل بقيتهم أذربيجان و أحكم بناء الحصون التي كان بناها قباذ و فيروز بناحية صول و اللان لتحصين البلاد و أكمل بناء الأبواب و السور الذي بناه جده بجبل الفتح بنوه على الأزماق المنفوخة تغوص في الماء كلما ارتفع البناء إلى أن استقرت بقعر البحر و شقت بالخناجر فتمكن الحائط من الأرض ثم وصل السور في البر ما بين جبل الفتح و البحر و فتحت فيه الأبواب ثم وصلوه في شعاب الجبل و بقي فيه إلى أن كمل قال المسعودي : إنه كان باقيا لعصره و الظن أن التتر خربوه بعد لما استولوا على ممالك الإسلام في المائة السابعة و مكانه اليوم بني ذو شيخان ملوك الشمال منهم و كان لكسرى أنوشروان في بنائه خبر ملوك الخزر
ثم استفحل ملك الترك زحف خاقان سيحور و قتل ملك الهياطلة و استولى على بلادهم و أطاعه أهل بلنجر و زحف إلى بلاد صول في عشرة آلاف مقاتل و بعث إلى أنوشروان يطلب منه ما أعطاه أهل بلنجر في الفداء وضبط أنوشروان أرمينية بالعساكر و امتنعت صول بملكها أنوشروان و الناحية الأخرى بسور الأبواب فرجع خاقان خائبا
و أخذ أنوشروان في إصلاح السابلة و الأخذ بالعدل و تفقد أهل المملكة و تخير الولاة و العمال مقتديا بسيرة أردشير بن بابك جده ثم سار إلى بلاد الروم و افتتح حلب و قبرص و حمص و أنطاكية و مدينة هرقل ثم الإسكندرية و ضرب الجزية على ملوك القبط و حمل إليه ملك الروم الفدية و ملك الصين و التبت الهدايا ثم غزا بلاد الخزر و أدرك فيهم بثأره و ما فعلوه ببلاده ثم وفد عليه ابن ذي يزن من نسل الملوك التبابعة يستجيشه على الحبشة فبعث معه قائدا من قواده في جند من الديلم فقتلوا مسروقا ملك الحبشة باليمن و ملكوها و ملك عليهم سيف بن ذي يزن و أمره أن يبعث عساكره إلى الهند فبعث إلى سرنديب قائدا من قواده فقتل ملكها و استولى عليها و حمل إلى كسرى أموالا جمة و ملك على العرب في مدينة الحيرة ثم سار نحو الهياطلة مطالبا بثأر جده فيروز فقتل ملكهم و استأصل أهل بيته و تجاوز بلخ و ما وراءها و أنزل عساكره فرغانة و أثخن في بلاد الروم و ضرب عليهم الجزى و كان مكرما للعلماء محبا للعلم و في أيامه ترجم كتاب كليلة و ترجمه من لسان اليهود و حله بضرب الأمثال و يحتاج إلى فهم دقيق و على عهده ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم لإثنتين و أربعين سنة من ملكه
هذه الدولة كانت من أعظم الدول في الخليقة و أشدها قوة و هي إحدى الدولتين اللتين صبحهما الإسلام في العلم و هما دولة فارس و الروم و كان مبدأ أمرها من توثب أردشير ابن بابك شاه ملك مرو و هو ساسان الأصغر ابن بابك بن سامان بن بابك بن هرمز بن ساسان الأكبر بن كي بهمن وقد تقدم ذكر كي بهمن و أن ابنه ساسان غضب لما توج للملك أخوه دارا و هو في بطن أمه و لحق بجبال إصطخر فأقام هنالك و تناسل ولده بها إلى أن كان ساسان الأصغر منهم فكان قيما على بيت النار لاصطخر و كان شجاعا و كانت امرأته من بيت ملك فولدت له ابنه بابك و ولد لبابك أردشير و ضبطه الدارقطني : بالراء المهملة و كان على اصطخر يومئذ ملك من ملوك الطوائف و له عامل على دار ابجرد خصي اسمه سري فلما أتت لأردشير سبع سنين جاء به جده ساسان إلى ملك إصطخر و سأله أن يضمه إلى عامل دار ابجرد الخصي يكفله إلى أن تتم تربيته و لما هلك عامل دار ابجرد أقام بأمره فيها أردشير هذا و ملكها كان له علم من المنجمين بأن الملك سيصير إليه فوثب على كثير من ملوك الطوائف بأرض فارس فاستولى عليهم و كتب إلى أبيه بذلك ثم وثب على عامل اصطخر فغلبه على ما بيده و ملك إصطخر و كثيرا من أعمال فارس
و كان زعيم الطوائف يومئذ أردوان ملك الأشكانيين فكتب إليه يسأله أن يتوجه فعنفه و كتب إليه بالشخوص فامتنع و خرج بالعساكر من اصطخر و قدم موبذان رورين فتوجه ثم فتح كرمان و بها ملك من ملوك الطوائف و ولى عليها ابنه و كتب إليه أردوان يتهدده و أمر ملك الأهواز من الطوائف أن يسير إليه فرجع مغلوبا ثم سار أردشير إلى أصبهان فقتل ملكها و استولى عليها ثم إلى الأهواز فقتل ملكها كذلك ثم زحف إليه أردوان عميد الطوائف فهزمه أردشير و قتله و ملك همذان و الجبل و أذربيجان و أرمينية و الموصل ثم السودان و بنى مدينة على شاطئ دجلة شرقي المدائن ثم رجع إلى إصطخر ففتح سجستان ثم جرجان ثم مرو و بلخ و خوارزم إلى تخوم خراسان و بعث بكثير من الرؤوس إلى بيت النيران ثم رجع إلى فارس و نزل صول و أطاعه ملك كوشان و مكران ثم ملك البحرين بعد أن حاصرها مدة و ألقى ملكها بنفسه في البحر ثم رجع فنزل المدائن و توجه ابنه سابور و لم يزل مظفرا و قهر الملوك حوله و أثخن في الأرض و مدن المدن و استكثر العمارة و هلك لأربع عشرة سنة من ملكه بإصطخر بعد مقتل أردوان
و قال هشام بن الكلبي : قام أردشير في أهل فارس يريد الملك الذي كان لآبائه قبل الطوائف و أن يجمعه لملك واحد و كان أردوان ملكا على الأردوانيين و هم أنباط السواد و كان بابا ملكا على الأرمانيين و هم أنباط الشام و بينهما حرب و فتنة فاجتمعا على قتال أردشير فحارباه مناوبة ثم بعث أردشير إلى بابا في الصلح على أن يدعه في الملك و يخلي باب بينه و بين أردوان فلم يلبث أن قتل أردوان و استولى على السواد فأعطاه بابا الطاعة بالشام و دانت له سائر الملوك و قهرهم ثم رجع إلى أمر العرب و كانت بيوتهم على ريف العراق ينزلون الحيرة و كانوا ثلاث فرق : الأولى تنوخ و منهم قضاعة الذين كنا قدمنا أنهم كانوا اقتتلوا مع ملك من التبابعة و أتى بهم و كانوا يسكنون بيوت الشعر و الوبر و يضعونها غربي الفرات بين الأنبار و الحيرة و ما فوقها فأنفوا من الإقامة في مملكة أردشير و خرجوا إلى البرية و الثانية العباد الذين كانوا يسكنون الحيرة و أوطنوها و الثالثة الأحلاف الذين نزلوا بهم من غير نسبهم و لم يكونوا من تنوخ الناكثين عن طاعة الفرس و لا من العباد الذين دانوا بهم فملك هؤلاء الأحلاف الحيرة و الأنبار و كان منهم عمرو بن عدي و قومه فعمروا الحيرة و الأنبار و نزلوا و خربوها و كانتا من بناء العرب أيام بختنصر ثم عمرها بنو عمرو بن عدي لما أصاروها نزلا لملكهم إلى أن صبحهم الإسلام و اختط العرب الإسلاميون مدينة الكوفة فدثرت الحيرة
و كان أردشير لما ملك أسرف في قتل الأشكانية حتى أفناهم لوصية جده و وجد بقصر أردوان جارية استملحها و دفعت عن نفسها القتل بإنكار نسبها فيهم فقالت أنا مولاة و بكر فواقعها و حملت و ظنت الأمن على نفسها فأخبرته بنسبها فتنكر و دفعها إلى بعض مرازبته ليقتلها فاستبقاها ذلك المرزبان إلى أن شكى إليه أردشير قلة الولد و الخوف على ملكه من الإنقطاع و ندم على ما سلف منه من قتل الجارية و إتلاف الحمل فأخبره بحياتها و أنها ولدت ولدا ذكرا و أنه سماه سابور و أنه قد كملت خصاله و آدابه فاستحضره أردشير و اختبره فرضيه و عقد له التاج
ثم هلك أردشير فملك سابور من بعده فأفاض العطاء في أهل الدولة و تخير العمال ثم شخص إلى خراسان فمهد أمورها ثم رجع فشخص إلى نصيبين فملكها عنوة فقتل و سبى افتتح من الشام مدنا و حاصر أنطاكية و بها من الملوك أريانوس فاقتحمها عليه و أسره و حمله إلى جنديسابور فحبسه بها إلى أن فاداه على أموال عظيمة و يقال على بناء شاذروان تستر و يقال جدع أنفه و أطلقه و يقال بل قتله و كان بجبال تكريت بين دجلة و الفرات مدينة يقال لها الحضر و بها ملك من الجرامقة يقال له الساطرون من ملوك الطوائف و هو الذي يقول فيه الشاعر :
( و أرىالموت قد تدلى من الحضر ... على رب أهله الساطرون )
( و لقد كان آمنا للدواهي ... ذا ثراء و جوهر مكنون )
و قال المسعودي : و هو الساطرون بن إستطرون من ملوك السريانيين قال الطبري : و تسميه العرب الضيزن و قال هشام بن محمد الكلبي : من قضاعة و هو الضيزن بن معاوية بن العميد بن الأجدم بن عمرو بن النخع بن سليم و سنذكر نسب سليم في قضاعة و كان بأرض الجزيرة و كان معه من قبائل قضاعة ما لا يحصى و كان ملكه قد بلغ الشام فحلف سابور في غزاته إلى خراسان و عاث في أرض السواد فشخص إليه سابور عند انقضاء غزاته حتى أناخ على حصنه و حاصره أربع سنين قال الأعشى :
( ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمة و هل خالد من نعم )
( أقام به سابور الجنود ... حولين يضرب فيه القمم )
ثم إن ابنه ساطرون و اسمها النضيرة و خرجت إلى ربض المدينة و كانت من أجمل النساء و سابور كان جميلا فأشرفت عليه فشغفت به و شغف بها و داخلته في أمر الحصن و دلته على عورته فدخله عنوة وقتل الضيزن و أباد قضاعة الذين كانوا معه و أكثرهم بنو حلوان فانقرضوا و خرب حصن الحضر و قال عدي بن زيد في رثائه :
( و أخو الحضر إذ بناه و إذ دجلة ... تجبى إليه و الخابور )
( شاده مرمرا و جلله كلسا ... فللطير في ذراه و كور )
( لم يهبه ريح المنون فبا ... د الملك عنه فبابه مهجور )
ثم أعرس بالنضيرة بعين النمر و باتت ليلها تتضور في فراشها و كان من الحرير محشو بالقز و القسي فإذا ورقة آس بينها و بين الفراش و تؤذيها فقال : ويحك ما كان أبوك يغذيك ؟ قالت الزبد و المخ و الشهد و صفو الخمر فقال : و أبيك لأنا أحداث عهدا و أبعد ودا من أبيك الذي غذاك بمثل هذا و أمر رجلا ركب فرسا جموحا و عصب غدائرها بذنبه و لم يزل يركض حتى تقطعت أوصالها
و عند ابن اسحق أن الذي فتح حصن الحضر و خربه و قتل الساطرون هو سابور ذو الأكتاف و قال السهيلي : لا يصح لأن الساطرون من ملوك الطوائف و الذي أزال ملكهم هو أردشير و ابنه سابور و سابور ذو الأكتاف بعدهم بكثير هو التاسع من ملوك أردشير قال السهيلي و أول من ملك الحيرة من ملوك الساسانية سابور بن أردشير و الحيرة وسط بلاد السواد و حاضرة العرب و لم يكن لأحد قبله من آل ساسان حتى استقام العرب على طاعته و ولى عليهم عمرو بن عدي جد آل المنذر بعده و أنزله الحيرة فجبى خراجهم و إتاوتهم و استعبدهم لسلطانه و قبض أيديهم عن الفساد بأقطار ملكه و ما كانوا يرومونه بسواد العراق من نواحي مملكته و ولى بعده ابنه امرأ القيس بن عمرو عدي و صار ذلك ملكا لآل المنذر بالحيرة توارثوه حسبما نذكر بعد
و هلك سابور لثلاثين سنة من ملكه و ولي بعده ابنه هرمز و يعرف بالبطل فملك سنة واحدة و ولي بعده ابنه بهرام بن هرمز و كان عامله على مذحج من ربيعة و مضر و سائر بادية العراق و الجزيرة و الحجاز امرؤ القيس بن عمرو بن عدي و هو أول من تنصر من ملوك الحيرة و طال أمد ملكه قال هشام بن الكلبي : ملك مائة و أربع عشرة سنة من لدن أيام سابور اهـ
و كان بهرام بن هرمز حليما وقورا و أحسن السيرة و اقتدى بآبائه و كان ماني الثنوي الزنديق صاحب القول بالنور و الظلمة قد ظهر في أيام جده سابور فاتبعه قليلا ثم رجع إلى المجوسية دين آبائه و لما ولي بهرام بن هرمز جمع الناس لامتحانه فأشادوا بكفره و قتله و قالوا زنديق قال المسعودي : و معناه أن من عدل عن ظاهر إلى تأويله ينسبونه إلى تفسير كتاب زرادشت الذي قدمنا أن اسمه زندة فيقولون زنديهء فعربته العرب فقالوا زنديق و دخل فيه كل من خالف الظاهر إلى الباطن المنكر ثم اختص في عرف الشرع بمن يظهر الإسلام و يبطن الكفر
ثم هلك بهرام بن هرمز لثلاث سنين و ثلاثة أشهر من دولته و ولي ابنه بهرام ثماني عشرة سنة عكف أولها على اللذات و امتدت أيدي بطانته إلى الرعايا بالجور و الظلم فخربت الضياع و القرى حتى نبهه الموبذان لذلك بمثل ضربه له و ذلك أنه سامره في ليلة فمر راجعا من الصيد فسمعا بومين يتحدثان في خراب فقال بهرام ليت شعري هل أحد فهم لغات الطير ؟ فقال له الموبذان : نعم إنا نعرف ذلك أيها الملك و إنهما يتحاوران في عقد نكاح و عن الأنثى اشترطت عليه إقطاع عشرين ضيعة من الخراب فقبل الذكر و قال : إذا دامت أيام بهرام أقطعتك ألفا فتفطن بهرام لذلك و أفاق من غفلته و أشرف على أحوال ملكه مباشرا و قابضا أيدي البطانة عن الرعية و حسنت أيامه إلى أن هلك و ولي بعده بهرام بن بهرام بن بهرام ثلاثة أسماء متشابهة و تلقب شاه و كان مملكا على سجستان و هلك لأربع سنين من دولته و ملك بعده أخوه قرسين بن بهرام تسع سنين أخرى و كان عادلا حسن السيرة و ملك بعده ابنه هرمز بن قرسين فوجل منه الناس لفظاظته ثم أبدل من خلقه الشر بالخير و سار فيهم بالعدل و الرفق و العمارة و هلك لسبع سنين من ولايته و كان هؤلاء كلهم ينزلون جند يسابور من خراسان و لما هلك و لم يترك ولدا شق ذلك على أهل مملكته لميلهم إليه و وجدوا ببعض نسائه حملا فتوجوه و انتظروا إتمامه و قيل بل كان هرمز أبوه أوصى بالملك لذلك الحمل فقام أهل الدولة بتدبير الملك ينتظرون تمام الولد
و شاع في أطراف المملكة أنهم يتلومون صبيا في المهد فطمع فيهم الترك و الروم و كانت بلاد العرب أدنى إلى بلادهم و هم أحوج إلى تناول الحبوب من البلاد لحاجتهم إليها بما هم فيه من الشظف و سوء العيش فسار منهم جمع من ناحية البحرين و بلاد القيس و وحاظة فأناخوا على بلاد فارس من ناحيتهم و غلبوا أهلها على الماشية و الحرث و المعايش و أكثر الفساد و مكثوا في ذلك حينا و لم يغزهم أحد من فارس و لا دافعوهم لصغر الملك حتى إذا كبر و عرضوا عليه الأمور فأحسن فيها الفصل و بلغ ست عشرة سنة من عمره ثم أطاق حمل السلاح نهض حينئذ للاستبداد بملكه و كان أول شيء ابتدأ به شأن العرب فجهز إليهم العساكر و عهد إليهم أن لا يبقوا على أحد ممن لقوا منهم ثم شخص بنفسه إليهم و غزاهم و هم غازون ببلاد فارس فقتلهم و أبرح القتل و هربوا أمامه و أجاز البحر في طلبهم إلى الخط و تعدى إلى بلاد البحرين قتلا و تخريبا ثم غزا بعدها رؤوس العرب من تميم و بكر و عبد القيس فأثخن فيهم و أباد عبد القيس و لحق فلهم بالرمال ثم أتى اليمامة فقتل و أسر و خرب ثم عطف إلى بلاد بكر و تغلب ما بين مملكة فارس و مناظر الروم بالشام فقتل من وجد هنالك من العرب وطم مياههم و أسكن من رجع إليه من بني تغلب دارين من البحرين و الخطو من بني تميم هجروا من بكر بن وائل كرمان و يدعون بكر إياد و من بني حنظلة الأهواز و بنى مدينة الأنبار و الكرخ و السوس
و فيما قاله غيره إن إيادا كان تشتو بالجزيرة و تصيف بالعراق و تشن الغارة و كانت تسمى طما لانطباقها على البلاد و سابور يومئذ صغير حتى إذا بلغ القيام على ملكه شرع في غزوهم و رئيسهم يومئذ الحرث بن الأغر الأيادي و كتب إليهم بالنذر بذلك رجل من إياد كان بين ظهراني الفرس فلم يقبلوا حتى واقعتهم العساكر فاستلحمهم و خرجوا إلى أرض الجزيرة و الموصل إجلاء و لم يعاودوا العراق و لما كان الفتح طلبهم المسلمون بالجزية مع تغلب و غيرهم فأنفوا و لحقوا بأرض الروم
و قال السهيلي : عند ذكر سابور بن هرمز إنه كان يخلع أكتاف العرب و لذلك لقبه العرب ذو الأكتاف و أنه أخذ عمرو بن تميم بأرضهم بالبحرين و له يومئذ ثلثمائة سنة و إنه قال : إنما أقتلكم معاشر العرب لأنكم تزعمون أن لكم دولة فقال له عمرو بن تميم : ليس هذا من الحزم أيها الملك فإن يكن حقا فليس قتلك إياهم بدافعة و تكون قد اتخذت يدا عندهم ينتفع بها ولدك و أعقاب قومك فيقال إنه استبقاه و رحم كبره
ثم غزا سابور بلاد الروم و توغل فيها و نازل حصونهم كان ملوك الروم على عصره قسطنطين و هو أول من تنصر من ملوكهم و هلك قسطنطين و ملك بعده إليانوس من أهل بيته و انحراف عن دين النصرانية و قتل الإساقفة و هدم البيع و جمع الروم و انحدار لقتال سابور و اجتمعت العرب معهم لثأرهم عند سابور بمن قتل منهم و سار قائد إليانوس و اسمه يوسانوس في مائة و سبعين ألفا من المقاتلة حتى دخل أرض فارس و بلغ خبره و كثرة جموعه إلى سابور فأحجم عن اللقاء و أجفل و صحبه العرب ففضوا جموعه و هرب في فل من عسكره و احتوى إليانوس على خزائنه و أمواله و استولى على مدينة طبسون من مدائن ملكه ثم استنفر أهل النواحي و اجتمعت إليه فارس و ارتجع مدينة طبسون و أقاما متظاهرين و هلك إليانوس بسهم أصابه فبقي الروم فوضى و فزعوا إلى يوسانوس القائد أن يملكوه فشرط عليهم الرجوع إلى دين النصرانية كما كان قسطنطين فقبلوا و بعث إليه سابور في القدوم عليه فسار إليه في ثمانين من أشراف الروم و تلقاه سابور و عانقه و بالغ في إكرامه و عقد معه الصلح على أن يعطي الروم قيمة ما أفسدوا من بلاده فارس و أعطوا بدلا عن ذلك نصيبين فرضي بها أهل فارس و كانت مما أخذه الروم من أيديهم فملكها سابور و شرد عنها أهلها خوفا من سطوته فنقل إليها من أهل اصطخر و أصبهان و غيرها و انصرف يوسانوس بالروم و هلك عن قرب و رجع سابور إلى بلاده
و فيما نقله الإخباريين إن سابور دخل بلاد الروم متنكرا و عثر عليه فأخذ و حبس في جلد ثور و زحف ملك الروم بعساكره إلى
جنديسابور فحاصرها و إن سابور هرب من حبسه و دخل
جنديسابور المدينة ثم خرج إلى الروم فهزمهم و أسر ملكهم قيصر و أخذه بعمارة ما خرب من بلاده و نقل التراب و الغروس إليها ثم قطع أنفه و بعث به على حمار إلى قومه و هي قصة واهية تشهد العادة بكذبها
ثم هلك سابور لاثنتين و سبعين سنة من ملكه و هو الذي بنى مدينة نيسابور و سجستان و بنى الإيوان المشهور لمقعد ملوكهم و ملك لعهده امرؤ القيس بن عدي و أوصى بالملك لأخيه أردشير بن هرمز وفتك في أشراف فارس و عظمائهم فخلعوه لأربعين سنة من دولته و ملكوا سابور بن ذي الأكتاف فاستبشر الناس برجوع ملك أبيه إليه و أحسن السيرة و رفق بالرعية و حمل على ذلك العمال و الوزراء و الحاشية و لم يزل عادلا و خضع له عمه أردشير المخلوع و كانت له حروب مع إياد و في ذلك يقول شاعرهم :
( على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قباب إياد حولها الخيل و النعم )
و قيل إن هذا الشعر إنما قيل في سابور ذي الأكتاف ثم هلك سابور لخمس سنين من دولته و ملك أخوه بهرام و يلقب
كرمان شاه و كان حسن السياسة و هلك لإحدى عشرة سنة من دولته رماه بعض الرماة بسهم في القتال فقتله و ملك بعده ابنه يزدجرد الأثيم و بعض نسابة الفرس يقول إنه أخوه ولي ابنه و إنما هو ابن ذي الأكتاف و قال هشام بن محمد : كان فظا غليظا كثير المكر و الخديعة يفرغ في ذلك عقله و قوة معرفته و كان معجبا برأيه سيء الخلق كثير الحدة يستعظم الزلة الصغيرة و يرد الشفاعة من أهل بطانته متهما للناس قليل المكافأة و بالجملة فهو سيء الأحوال مذمومها و استوزر لأول ولايته برسي الحكيم و يسمى فهر برشي و مهر مرسة و كان متقدما في الحكمة و الفضائل و أمل أهل المملكة أن تهرب من يزدجرد الأثيم فلم يكن ذلك و اشتد أمره على الأشراف بالإهانة و على من دونهم بالقتل و بينما هو جالس في مجلسه يوما إذا بفرس عابر لم يطق أحد إمساكه قد وقف ببابه فقام إليه ليتولى إمساكه بنفسه فرمحه فمات لوقته لإحدى و عشرين سنة من ملكه
و ملك بعده ابنه بهرام بن يزدجرد و يلقب ببهرام جور و كان نشوؤه ببلاد الحيرة مع العرب أسلمه أبوه إليهم فربي بينهم و تكلم بلغتهم و لما مات أبوه قدم أهل فارس رجلا من نسل أردشير ثم زحف بهرام جور بالعرب فاستولى على ملكه كما نذكر في أخبار آل المنذر و في أيام بهرام جور سار خاقان ملك الترك إلى بلاد الصغد من ممالكه فهزمه بهرام و قتله ثم غزا الهند و تزوج ابنه ملكهم فهابته ملوك الأرض و حمل إليه الروم الأموال على سبيل المهادنة و هلك لتسع و عشرين من دولته
و ملك ابنه يزدجرد بن بهرام جور و استوزر مهر برسي الحكيم الذي كان أبوه استوزره و جرى في ملكه بأحسن سيرة من العدل و الإحسان وهو الذي شرع في بناء الحائط بناحية الباب و الأبواب و جعل جبل الفتح سدا بين بلاده و ما وراءها من أمم الأعاجم و هلك لعشرين سنة من دولته
و ملك من بعده ابنه هرمز و كان ملكا على سجستان فغلب على الدولة و لحق أخوه فيروز بملك الصغد بمرو الروذ و هذه الأمم المعروفون قديما بالهياطلة و كانوا بين خوارزم و فرغانة فأمر فيروز بالعساكر و قاتل أخاه هرمز فغلبه و حبسه و كانت الروم قد امتنعت من حمل الخراج فحمل إليهم العساكر مع وزيره مهر برسي فأثخن في بلادهم حتى حملوا ما كان يحملونه و استقام أمره و أظهر العدل و أصابهم القحط في دولته سبع سنين فأحسن تدبير الناس فيها و كف عن الجباية و قسم الأموال و لم يهلك في تلك السنين أحد إتلافا و قيل أنه استسقى لرعيته من ذلك القحط فسقوا و عادت البلاد إلى أحسن ما كانت عليه و كان لأول ما ملك أحسن إلى الهياطلة جزاء بما أعانوه على أمره فقوي ملكهم أمره و زحفوا إلى أطراف ملكه و ملكوا طخارستان و كثيرا من بلاد خراسان و زحف هو إلى قتالهم فهزموه و قتلوه و أربعة بنين له و أربعة إخوة و استولوا على خراسان بأسرها و سار إليهم رجل من عظماء الفرس من أهل شيراز فغلبهم على خراسان و أخرجهم منها حتى ألقوا بجميع ما أخذوه من عسكر فيروز من الأسرى و السبي و كان مهالكه لسبع و عشرين من ملكه و بنى المدن بالري و جرجان و أذربيجان
و قال بعضهم : إن ملك الهياطلة الذي سار إلى فيروز اسمه خشتوا و الرجل الذي استرجع خراسان من يده هو خرسوس من نسل منوشهر و إن فيروز استخلفه لما سار إلى خشتوا و الهياطلة على مدينتي الملك و هما طبسون و نهرشير فكان من أمره مع الهياطلة بعد فيروز ما تقدم
و ملك بعد فيروز بن يزدجرد ابنه يلاوش بن فيروز و نازعه أخوه قباذ الملك فغلبه يلاوش و لحق قباذ بخاقان ملك الترك يستنجده و أحسن يلاوش الولاية و العدل و حمل أهل المدن على عمارة ما خرب من مدنهم و بنى مدينة ساباط بقرب المدائن و هلك لأربع سنين من دولته و ملك من بعده أخوه قباذ بن فيروز و كان قد سار بعساكر الترك أمده بها خاقان فبلغه الخبر بمهلك أخيه و هو بنيسابور من طريقه وقد لقي بها إبنا كان له هنالك حملت به أمه منه عند مروره ذلك إلى خاقان فلما أحل بنيسابور و معه العساكر سأل عن المرأة فأحضرت و معها الخبر و جاء الخبر هنالك بمهلك أخيه يلاوش بالمولود و سار إلى سرحد الذي كان أبوه فيروز استخلفه على المدائن و مال الناس إليه دون قباذ و استبد عليه فلما كبر و بلغ سن الاستبداد بأمره أنف من استبداد سرحد عليه فبعث إلى أصبهبذ البلاد و هو سابور مهران فقدم عليه و قبض على سرحد و حبسه ثم قتله و لعشرين من دولته حبس و خلع ثم عاد إلى الملك و صورة الخبر عن ذلك أن مردك الزنديق كان إباحيا و كان يقول باستباحة أموال الناس و أنها فيء و أنه ليس لأحد دون أحد و هو لمن اختاره فعثر الناس منه على متابعة مزدك في هذا الاعتقاد و اجتمع أهل الدولة فخلعوه وحبسوه و ملكوا جاماسات أخاه
و خرج رزمهر شاكيا داعيا لقباذ و يقرب إلى الناس بقتل المزدكية و أعاد قباذ إلى ملكه ثم سعت المزدكية عنده في رزمهر بإنكار ما أتى قبلهم فقبله و اتهمه الناس برأي مزدك فانتقضت الأطراف و فسد الملك و خلعوه و حبسوه و أعادوا جاماسات و فر قباذ من محبسه و لحق قباذ بالهياطلة و هم الصغد مستجيشا لهم و مر في طريقه بأبو شهر فتزوج بنت ملكها و ولدت له أنوشروان ثم أمده ملك الهياطلة فزحف إلى المدائن لست من مغيبه و غلب أخاه جاماسات و استولى على الملك ثم غزا بلاد الروم و فتح آمد و سبى أهلها و طالت مدته و ابتنى المدن العظيمة منها مدينة أرجان بين الأهواز و فارس ثم هلك لثلاث و أربعين سنة من ملكه في الكرة الأولى
و ملك ابنه أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد و كان يلي الأصبهبذ و هي الرياسة على الجنود و لما ملك فرق أصبهبذ البلاد على أربعة فجعل : أصبهبذ المشرق بخراسان و المغرب بأذربيجان و بلاد الخزر و استرد البلاد التي تغلب عليها جيران الأطراف من الملوك مثل السند و بست الرخج و زبلستان و طخارستان و دهستان و أثخن في أمة البازر و أجلى بقيتهم ثم أدهنوا و استعانوا بهم في حروبه و أثخن في أمة صول و استلحمهم و كذلك الجرامقة و بلنجر و اللان و كانوا يجاورون أرمينية و يتملأون على غزوها فبعث إليهم العساكر و استلحموهم و أنزل بقيتهم أذربيجان و أحكم بناء الحصون التي كان بناها قباذ و فيروز بناحية صول و اللان لتحصين البلاد و أكمل بناء الأبواب و السور الذي بناه جده بجبل الفتح بنوه على الأزماق المنفوخة تغوص في الماء كلما ارتفع البناء إلى أن استقرت بقعر البحر و شقت بالخناجر فتمكن الحائط من الأرض ثم وصل السور في البر ما بين جبل الفتح و البحر و فتحت فيه الأبواب ثم وصلوه في شعاب الجبل و بقي فيه إلى أن كمل قال المسعودي : إنه كان باقيا لعصره و الظن أن التتر خربوه بعد لما استولوا على ممالك الإسلام في المائة السابعة و مكانه اليوم بني ذو شيخان ملوك الشمال منهم و كان لكسرى أنوشروان في بنائه خبر ملوك الخزر
ثم استفحل ملك الترك زحف خاقان سيحور و قتل ملك الهياطلة و استولى على بلادهم و أطاعه أهل بلنجر و زحف إلى بلاد صول في عشرة آلاف مقاتل و بعث إلى أنوشروان يطلب منه ما أعطاه أهل بلنجر في الفداء وضبط أنوشروان أرمينية بالعساكر و امتنعت صول بملكها أنوشروان و الناحية الأخرى بسور الأبواب فرجع خاقان خائبا
و أخذ أنوشروان في إصلاح السابلة و الأخذ بالعدل و تفقد أهل المملكة و تخير الولاة و العمال مقتديا بسيرة أردشير بن بابك جده ثم سار إلى بلاد الروم و افتتح حلب و قبرص و حمص و أنطاكية و مدينة هرقل ثم الإسكندرية و ضرب الجزية على ملوك القبط و حمل إليه ملك الروم الفدية و ملك الصين و التبت الهدايا ثم غزا بلاد الخزر و أدرك فيهم بثأره و ما فعلوه ببلاده ثم وفد عليه ابن ذي يزن من نسل الملوك التبابعة يستجيشه على الحبشة فبعث معه قائدا من قواده في جند من الديلم فقتلوا مسروقا ملك الحبشة باليمن و ملكوها و ملك عليهم سيف بن ذي يزن و أمره أن يبعث عساكره إلى الهند فبعث إلى سرنديب قائدا من قواده فقتل ملكها و استولى عليها و حمل إلى كسرى أموالا جمة و ملك على العرب في مدينة الحيرة ثم سار نحو الهياطلة مطالبا بثأر جده فيروز فقتل ملكهم و استأصل أهل بيته و تجاوز بلخ و ما وراءها و أنزل عساكره فرغانة و أثخن في بلاد الروم و ضرب عليهم الجزى و كان مكرما للعلماء محبا للعلم و في أيامه ترجم كتاب كليلة و ترجمه من لسان اليهود و حله بضرب الأمثال و يحتاج إلى فهم دقيق و على عهده ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم لإثنتين و أربعين سنة من ملكه