الخبر عن قريش من هذه الطبقة و ملكهم بمكة و أولية أمرهم و كيف صار الملك إليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة
قد ذكروا عند الطبقة الأولى أن الحجاز و أكناف العرب كانت ديار العمالقة من ولد عمليق بن لاوذ و أنهم كان لهم ملك هنالك و كانت جرهم أيضا من تلك الطبقة من ولد يقطن بن شالخ بن أرفخشد و كانت ديارهم اليمن مع إخوانهم حضرموت و أصاب اليمن يومئذ قحط ففروا نحو تهامة يطلبون الماء و المرعى و عثروا في طريقهم بإسمعيل مع أمه هاجر عند زمزم و كان من شأنه وشأنهم معه ما ذكرناه عند ذكر إبراهيم عليه السلام و نزلوا على قطورا من بقية العمالقة و عليهم يومئذ السميدع بن هوثر بثاء مثلثة ابن لاوي بن قطورا بن ذكر بن عملاق أو عمليق و اتصل خبر جرهم من ورائهم من قومهم باليمن و ما أصابوا من النجعة بالحجاز فلحقوا بهم و عليهم مضاض بن عمرو بن سعيد بن الرقيب بن هنء بن نبت بن جرهم فنزلوا على مكة بقعيقعان و كانت قطورا أسفل مكة و كان مضاض يعشر من دخل مكة من أعلاها و السميدع من أسفلها هكذا عند ابن اسحق و المسعودي أن قطورا من العمالقة و عند غيرهما أن قطورا من بطون جرهم و ليسوا من العمالقة ثم افترق أمر قطورا و جرهم و تنافسوا الملك و اقتتلوا و غلبهم المضاض و قتل السميدع و انقضت العرب العاربة قال الشاعر :
( مضى آل عملاق فلم يبق منهمو ... حقير ولاذ و عزة متشاوس )
( عتوا فأدال الدهر منهم و حكمه ... على الناس هذا واغذ و مبايس )
و نشأ إسمعيل صلوات الله عليه بين جرهم و تكلم بلغتهم و تزوج منهم حرا بنت سعد بن عوف بن هنء بن نبت بن جرهم و هي المرأة التي أمره أبوه بتطليقها لما زاره و وجده غائبا فقال لها : قولي لزوجك فليغير عتبته فطلقها و تزوج بنت أخيها مامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف ذكر هاتين المرأتين الواقدي في كتاب انتقال النور و تزوج بعدهما السيدة بنت الحرث بن مضاض بن عمرو بن جرهم و لثلاثين سنة من عمر إسمعيل قدم أبوه الحجاز فأمر ببناء الكعبة البيت الحرام و كان الحجر زربا لغنم إسمعيل فرفع قواعدها مع ابنه إسمعيل و صيرها خلوة لعبادته و جعلها للناس كما أمره الله و انصرف إلى الشام فقبض هنالك كما مر و بعث الله إسمعيل إلى العمالقة و جرهم و أهل اليمن فآمن بعض و كفر بعض إلى أن قبضه الله و دفن بالحجر مع أمه هاجر و يقال آجر و كان عمره فيما يقال مائة و ثلاثين سنة و عهد بأمره لابنه قيذار : و معنى قيذار صاحب الإبل و ذلك لأنه كان صاحب إبل أبيه إسمعيل كذا قال السهيلي قال غيره معناه الملك و يقال : إنما عهد لابنه نابت فقام ابنه بأمر البيت و وليها و كان ولده فيما ينقل أهل التوراة كما نقل اثني عشر : قيذار ينابوت أدبيبل مبسام مشمع دوما مسا حدد ديمايطور ياقيس قدما أمهم السيدة بنت مضاض قاله السهلي و هكذا وقعت أسماؤهم في الإسرائيليات و الحروف مخالفة للحروف العربية بعض الشيء باختلاف المخارج فلهذا يقع الخلاف بين العلماء في ضبط هذه الألفاظ و قد ضبط ابن إسحق تيما منهم بالطاء والياء و ضبطه الدارقطني بالضاد المعجمة و الميم قبل الياء كأنها تأنيث آضم و ذكر ابن إسحق ديما و قال البكري به سمين دومة الجندل لأنه نزلها و ذكر ان الطور بيطون ابن إسمعيل
ثم هلك نابت بن إسمعيل و ولى أمر البيت جده الحرث بن مضاض و قيل وليها مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هنء ابن نبت بن جرهم ثم ابنه الحرث بن عمرو ثم قسمت الولاية بين ولد إسمعيل بمكة و أخوالهم من جرهم ولاة البيت لا ينازعهم ولد إسمعيل إعظاما للحرم أن يكون به بغي أو قتال ثم بغت جرهم في البيت و وافق بغيهم تفرق سبأ و نزول بني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر أرض مكة فأرادوا المقام مع جرهم فمنعوهم و اقتتلوا فغلبهم بنو حارثة و هم فيما قيل خزاعة و ملكوا البيت عليهم و رئيسهم يومئذ عمرو بن لحي و شرد بقية جرهم و لحي هذا هو ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقيا بن عامر و قيل : إنما ثعلبة بن حارثة بن عامر و في الحديث [ رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ] يعني أحشاءه أنه الذي بجر البحيرة و سيب السائبة و حمى الحامي و غير دين إسمعيل و دعا إلى عبادة الأوثان و في طريق آخر رأيت عمرو بن عامر قال عياض المعروف في نسب أبي خزاعة هذا هو عمرو محمد لحي بن قمعة بن إلياس و إنما عامر اسم أبيه أخو قمعة و هو مدركة بن إلياس و قال السهيلي : كان حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر خلف على أم لحي بعد أبيه قمعة و لحي تصغير و اسمه ربيعة تبناه حارثة و انتسب إليه فالنسب صحيح بالوجهين و أسلم بن أفصى بن حارثة أخو خزاعة
و عن ابن إسحق أن الذي أخرج جرهم من البيت ليست خزاعة وحدها و إنما تصدى للنكير عليهم خزاعة و كنانة و تولى كبره بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة و بنو غبشان بن عبد عمرو بن بوى بن ملكان بن أفصى بن حارثة فاجتمعوا لحربهم و اقتتلوا و غلبهم بنمو بكر و بنو غبشان بن كنانة و خزاعة على البيت و نفوهم من مكة فخرج عمرو و قيل عامر بن الحرث بن مضاض الأصغر بمن معه من جرهم إلى اليمن بعد أن دفن حجر الركن و جميع أموال الكعبة بزمزم ثم أسفوا على ما فارقوا من أمر مكة و حزنوا حزنا شديدا و قال عمرو بن الحرث و قيل عامر :
( كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس و لم يسمر بمكة سامر )
( بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي و الجدود العواثر )
( و كنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف فما تحظى لدنيا المكاثر )
( ملكنا فعززنا فأعظم ملكنا ... فليس لحي عندنا ثم فاخر )
( ألم تنكحوا من خير شخص علمته ... فأبناؤنا منا و نحن الأصاهر )
( فأن تنثني الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا و فيها التشاجر )
( فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للناس تجري المقادر )
( أقول إذا نام الخلي و لم أنم ... أذا العرش لا يبعد سهيل و عامر )
( و بدلت منها أوجها لا أحبها ... قبائل منها حمير و بحائر )
( و صرنا أحاديثا و كنا بغطة ... بذلك عضتنا السنون الغوابر )
( فساحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن و فيها المشاعر )
( و نبكي لبيت ليس يؤذي حمامه ... يظل بها أمنا و فيها العصافر )
( و فيه و حوش لا ترام أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادر )
ثم غلبت بنو حبشية على أمر البيت بقومهم من خزاعة و استقلوا بولايتها دون بني بكر عبد مناة و كان الذي يليها لآخر عهدهم عمرو بن الحرث و هو غبشان
و ذكر الزبير : أن الذين أخرجوا جرهم من البيت من ولد إسمعيل من ولد إياد بن نزار و من بعد ذلك وقعت الحرب بين مضر و إياد فأخرجتهم مضر و لما خرجت إياد قلعوا الحجر الأسود و دفنوه في بعض المواضع و رأيت ذلك امرأة من خزاعة فأخبرت قومها فاشترطوا على مضر إن دولوهم عليه أن لهم ولاية البيت دونهم فوفوا لهم بذلك و صارت ولاية البيت لخزاعة إلى أن باعها أبو غبشان لقصي و يذكر أن من وليها منهم عمرو بن لحي و نصب الأصنام و خاطبه رجل من جرهم :
( يا عمرو لا تظلم بمكة إنها بلد حرام )
( سائل بعاد أين هم ـ و كذاك تحترم الأنام )
( و هي العماليق الذين لهم بها كان السوام )
و كانت ولاية البيت لخزاعة و كان لمضر ثلاث خصال : الإجازة بالناس يوم عرفة لبني الغوث بن مرة إخوتهم و هو صوفة و الإفاضة بالناس غداة النحر من جمع إلى منى لبني زيد بن عدي و انتهى ذلك منهم إلى أبي سيارة عميرة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحرث بن كانس بن زيد فدفع من مزدلفة أربعين سنة علىحمار و نسء الشهور الحرم كان لبني مالك بن كنانة و انتهى إلى القلمس كما مر و كان إذا أراد الناس الصدور من مكة قال : اللهم إني أحللت أحد الصغرين و نسأت الآخر للعام المقبل قال عمرو بن قيس من بني فراس :
( و نحن الناسئون على معد ... شهور الحل نجعلها حرما )
قال ابن إسحق : فأقام بنو خزاعة و بنو كنانة على ذلك مدة الولاية لخزاعة دونهم كما قلناه و في أثناء ذلك تشعبت بطون كنانة و من مضر كلها و صاروا جرما و بيوتات متفرقين في بطن قومهم من بني كنانة و كلهم إذ ذاك أحياء حلول بظواهرها و صارت قريش على فرقتين : قريش البطاح و قريش الظاهر فقريش البطاح ولد قصي بن كلاب و سائر بني كعب بن لؤي و قريش الظواهر من سواهم و كانت خزاعة بادية لكنانة ثم صار بنو كنانة لقريش ثم صارت قريش الظواهر بادية لقريش البطاح و قريش الظواهر من كان على الأقل من مرحلة و من الضواحي ما كان على الأكثر من ذلك و صار من سوى قريش و كنانة من قبائل مضر في الضواحي أحياء بادية و ظعونا ناجعة من بطون قيس و خندق من أشجع و عبس و فزارة و مرة و سليم و سعد بن بكر و عامر بن صعصعة و ثقيف و من تميم و الرباب و ضبعي بني أسد و هذيل و القارة و غير هؤلاء من البطون الصغار و كان التقدم في مضر كلها لكنانة ثم لقريش و التقدم في قريش لبني لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر و كان سيدهم قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي كان له فيهم شرف و قرابة و ثروة و ولد و كان له في قضاعة ثم في بني عروة بن سعد بن زيد من بطونهم نسب ظئر و رحم كلالة كانوا أجلها فيه شيعة و ذلك بما كان ربيعة بن حرام بن عذرة قدم مكة قبل مهلك كلاب بن مرة و كان كلاب خلف قصيا في حجر أمه فاطمة بنت سعد بن باسل بن خثعمة الأسدي من اليمن فتزوجها ربيعة و قصي يومئذ فطيم فاحتملت إلى بلاد بني عذرة و تركت ابنها زهرة بن كلاب لأنه كان رجلا بالغا و ولدت لربيعة بن حزام رزاح بن ربيعة و لما شب قصي و عرف نسبه رجع إلى قومه و كان الذي يلي أمر البيت لعهده من خزاعة حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو فأصهر إلى قصي في ابنته حبى فأنكحه إياها فولدت له عبد الدار و عبد مناف و عبد العزى و عبد قصي و لما انتشر ولد قصي و كثر ماله و عظم شرفه هلك حليل فرأى قصي أنه أحق بالكعبة و بأمر مكة و خزاعة و بني بكر لشرفه في قريش و لما كثرت قريش سائر الناس و اعتزت عليهم و قيل أوصى له بذلك حليل و لما بدا له ذلك مشى في رجالات قريش و دعاهم إلى ذلك فأجابوه و كتب إلى أخيه زاح في قومه عذرة مستجيشا بهم فقدم مكة في إخوته من ولد ربيعة و من تبعهم من قضاعة في جملة الحاج مجمعا نصر قصي
قال السهيلي : و ذكر غير ابن إسحق أن حليلا كان يعطي مفاتيح البيت بنته حبى حين كبر و ضعف فكانت بيدها و كان قصي ربما أخذها يفتح البيت للناس و يغلقه فلما هلك حليل أوصى بولاية البيت إلى قصي و أبت خزاعة أن يمضي ذلك لقصي فعند ذلك هاجت الحرب بينه و بين خزاعة و أرسل إلى رزاح أخيه يستنجده عليهم
و قال الطبري : لما أعطى حليل مفاتيح الكعبة لابنته حبى لما كبر و ثقل قالت : إجعل ذلك لرجل يقوم لك به فجعله إلى أبي غبشان سليمان بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن قصي و كانت له ولاية الكعبة و يقال : إن أبا غبشان هو ابن حليل باعه من قصي بزق خمر قيل فيه أخسر من صفقة أبي غبشان فكان من أول ما بدؤا به نقض ما كان لصوفة من إجازة الحاج و ذلك أن بني سعد بن زيد مناة بن تميم كانوا يلون الإجازة للناس بالحج من عرفة ينفر الحاج لنفرهم و يرمون الجمار لرميهم و رثوا ذلك من بني الغوث بن مرة كانت أمه من جرهم و كانت لا تلد فنذرت إن ولدت أن تتصدق به على الكعبة عبدا يخدمها فولدت الغوث و خلى أخواله من جرهم و بينه و بين من نافسه بذلك فكان له و لولده و كان يقال لهم صوفة
و قال السهيلي : عن بعض الإخباريين : إن ولاية الغوث بن مرة كانت من قبل ملوك كندة ولما انقرضوا و رث بالتعدد بنو سعد بن زيد مناة و لما جاء الإسلام كانت تلك الإجازة منهم لكرب بن صفوان بن حتات بن سجنة و قد مر ذكره في بطون تميم فلما كان العام الذي أجمع فيه قصي الإنفراد بولاية البيت و حضر إخوته من عذرة تعرض لبني سعد أصحاب صوفة في قومهم من قريش و كنانة و قضاعة عند الكعبة فلما وقفوا للأجازة و قال : لا نحن أولى بهذا منكم فتناجزا و غلبهم قصي على ما كان بأيديهم و عرفت خزاعة و بنو بكر عند ذلك أنه سيمنعهم من ولاية البيت كما منع الآخرين فانجازوا لحربه و تناجزوا و كثر القتل ثم صالحوه على أن يحكموا من أشرف العرب و تنافروا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عمرو بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة فقضى لقصي عليهم فولى قصي البيت و قر بمكة و جمع قريشا من منازلهم بين كنانة إليها و قطعها أرباعا بينهم فأنزل كل بطن منهم بمنزلة الذي صحبهم به الإسلام و سمي بذلك مجمعا قال الشاعر :
( قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر )
فكان أول من أصاب من بني لؤي بن غالب ملكا أطاع له به قومه فصار له لواء الحرب و حجابة البيت و تيمنت قريش برأيه فصرفوا مشورتهم إليه في قليل أمورهم و كثيرها فاتخذوا دار الندوة إزاء الكعبة في مشاوراتهم و جعل بابها إلى المسجد فكانت مجتمع الملاء من قريش في مشاوراتهم و معاقدهم ثم تصدى لإطعام الحاج و سقايته لما رأى أنهم ضيف الله و زوار بيته و فرض على قريش خراجا يؤدونه إليه زيادة على ذلك كانوا يردفونه به فحاز شرفهم كله و كانت الحجابة و السقاية و الرفادة و الندوة و اللواء له و لما أسن قصي وكان بكره عبد الدار و كان ضعفا و كان أخوه عبد مناف شرف عليه في حياة أبيه فأوصى قصي لعبد الدار بما كان له من الحجابة و اللواء و الندوة و الرفادة و السقاية يجبر له بذلك ما نقصه من شرف عبد مناف و كان أمره في قومه كالدين المتبع لا يعدل عنه ثم هلك و قام بأمره في قومه بنوه من بعده و أقاموا على ذلك مدة و سلطان مكة لهم و أمر قريش جميعا ثم نفس بنو عبد مناف على بني عبد الدار ما بأيديهم و نازعوهم فافترق أمر قريش و صاروا في مظاهرة بني قصي بعضهم على بعض فرقتين و كان بطون قريش قد اجتمعت لعهدها ذلك اثني عشر بطنا : بنو الحرث بن فهر و بنو محارب بن فهر و بنو عامر بن لؤي و بنو عدي بن كعب و بنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب و بنو جمح بن عمرو بن هصيص و بنو تيم بن مرة و بنو مخزوم بن يقظة بن مرة و بنو زهرة بن كلاب و بنو أسد بن عبد العزى بن قصي و بنو عبد الدار و بنو عبد مناف بن قصي
فأجمع بنو عبد مناف انتزاع ما بأيدي بني عبد الدار مما جعل لهم قصي و قام بأمرهم عبد شمس أسن ولده و اجتمع له من قريش : بنو أسد بن عبد العزى و بنو زهرة و بنو تيم و بنو الحرث و اعتزل بنو عامر و بنو المحارب الفريقين و صار الباقي من بطون قريش مع بني عبد الدار و هم : بنو سهم و بنو جمح و بنو عدي و بنو مخزوم ثم عقد كل من الفريقين على أحلافه عقدا مؤكدا و أحضر بنو عبد مناف و حلف قومهم عند الكعبة جفنة مملؤة طيبا غمسوا فيها أيديهم تأكيدا للحلف فسمي حلف المطيبين و أجمعوا للحرب و سووا بين القبائل و أن بعضها إلى بعض فعبت بنو عبد دار لبني الأسد و بنو جمح لبني زهرة و بنو مخزوم لبني تيم و بنو عدي لبني الحرث ثم تداعوا للصلح على أن يسلموا لبني عبد مناف السقاية و الرفادة و يختص بنو عبد الدار بالحجابة و اللواء فرضي الفريقان و تحاجز الناس
و قال الطبري قيل ورثها من أبيه ثم قام بأمر بني عبد مناف هاشم ليساره و قراره بمكة و تقلب أخيه عبد شمس في التجارة إلى الشام فأحسن هاشم ما شاء في إطعام الحاج و إكرامهم وفدهم و يقال : إنه أول من أطعم الثريد الذي كان يطعم فهو ثريد قريش الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم : [ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ] و الثريد لهذا العهد ثريد الخبز بعد أن يطبخ في المقلاة و التنور و ليس من طعام العرب إلا أن عندهم طعاما يسمونه البازين يتناوله الثريد لغة و هو ثريد الخبز بعد أن يطبخ في الماء عجينا رطبا إلى أن يتم نضجه ثم يدلكونه بالمغرفة حتى تتلاحم أجزاؤه و تتلازج و ما أدري هل كان ذلك الطعام كذلك أو لا إلا أن لفظ الثريد يتناوله لغة
و يقال : إن هاشم بن عبد المطلب أول من سن الرحلتين في الشتاء و الصيف للعرب ذكره ابن إسحق و هو غير صحيح لأن الرحلتين من عوائد العرب في كل جيل لمراعي إبلهم و مصالحها لأن معاشهم فيها و هذا معنى العرب و حقيقتهم أنه الجيل الذي معاشهم في كسب الإبل و القيام عليها في ارتياد المرعى وانتجاع المياه و النتاج والتوليد و غير ذلك من مصالحها و الفرار بها من أذى البرد عند التوليد إلى القفار و دفئها و طلب التلول في المصيف للحبوب و برد الهواء و تكونت على ذلك طباعهم فلابد لهم منها ظعنوا أو أقاموا و هو معنى العروبية و شعارها أن هاشما لما هلك و كان مهلكه بغزة من أرض الشام تخلف عبد المطلب صغيرا بيثرب فأقام بأمره من بعده بعده ابنه المطلب و كان ذا شرف و فضل و كانت قريش تسمية الفضل لسماحته و كان هاشم قدم يثرب فتزوج في بني عدي و كانت قبلة عند أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبا بن كلفه بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك سيد الأوس لعهده فولدت عمرو بن أحيحة و كانت لشرفها تشترط أمرها بيدها في عقد النكاح فولت عبد المطلب فسمته شيبة و تركه هاشم عندها حتى كان غلاما و هلك هاشم فخرج إليه أخوه المطلب فأسلمته إليه بعد تعسف و اغتباط به فاحتمله و دخل مكة فرفده على بعيره فقالت قريش : هذا عبد ابتاعه المطلب فسمي شيبة عبد المطلب من يومئذ
ثم أن المطلب بردمان من اليمن فقام بأمر بني هاشم بعده عبد المطلب بن هاشم و أقام الرفادة و السقاية للحاج على أحسن ما كان قومه يقيمونه بمكة من قبله و كانت له وفادة على ملوك اليمن من حمير و الحبشة و قد قدمنا خبره مع ابن ذي يزن و مع أبرهة و لما أراد حفر زمزم للرؤيا التي رآها اعترضته قريش دون ذلك ثم حالوا بينه و بين ما أراد منها فنذر لئن ولد له عشرة من الوالد ثم يبلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم قربانا لله عند الكعبة فلما كملوا عشرة ضرب عليهم القداح عند هبل الصنم العظيم الذي كان في جوف الكعبة على البئر التي كانوا ينحرون فيها هدايا الكعبة فخرجت القداح على ابنه عبد الله والد النبي صلى الله عليه و سلم وتحير في شأنه ومنعه قومه من ذلك و أشار بعضهم و هو المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بسؤال العرافة التي كانت لهم بالمدينة على ذلك فألفوها بخيبر و سألوها فقالت : قربوه و عشرا من الإبل و أجيلوا القداح فإن خرجت على الإبل فذلك و إلا فزيدوا في الإبل حتى تخرج عليها القداح و انحروها حينئذ فهي الفدية عنه و قد رضي إلهكم ففعلوا و بلغت الإبل مائة فنحرها عبد المطلب و كانت من كرامات الله به و عليه قوله صلى الله عليه و سلم [ أنا ابن الذبيحين ] يعني عبد الله أباه و إسمعيل بن إبراهيم جده اللذين قربا للذبح ثم فديا بذبح الأنعام
ثم إن عبد المطلب زوج ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فدخل بها وحملت برسول صلى الله عليه و سلم و بعثه عبد المطلب يمتار لهم تمرا فمات هنالك فلما أبطأ عليهم خبره بعث في إثره و قال الطبري : عن الواقدي : الصحيح أنه أقبل من الشام في حي لقريش فنزل بالمدينة و مرض بها و مات أقام عبد المطلب في رياسة قريش بمكة و الكون يصغي لملك العرب و العالم يتمخض بفصال النبوة إلى أن وضح نور الله من أفقهم و سرى خبر السماء إلى بيوتهم و اختلفت الملائكة إلى أحيائهم و خرجت الخلافة في أنصبائهم و صارت العزة لمضر و لسائر العرب بهم و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و عاش عبد المطلب مائة و أربعين سنة و هو الذي احتفر زمزم
قال السهيلي : و لما حفر عبد المطلب زمزم استخرج منه تمثالي غزالين من ذهب و أسيافا كذلك كان ساسان ملك الفرس أهداها إلى الكعبة و قيل سابور و دفنها الحرث بن مضاض في زمزم لما خرج بجرهم من مكة فاستخرجها عبد المطلب و ضرب الغزالين حليه للكعبة فهو أول من ذهب حلية الكعبة بها و ضرب من تلك الأسياف باب حديد و جعله للكعبة و يقال : إن أول من كسى الكعبة و اتخذا لها غلقا تبع إلى أن جهله لها عبد المطلب هذا الباب ثم اتخذا عبد المطلب حوضا لزمزم يسقي منه و حسده قومه على ذلك و كانوا يخرجون بالليل فلما غمه ذلك رأى في النوم قائلا يقول : قل لا أحلها لمغتسل و هي لشارب حل و بل فإذا قلتها فقد كفيتهم فكان بعد إذا أرادها أحد بمكروه رمى بداء في جسده ولما علموا بذلك تناهوا عنه و قال السهيلي : أول من كسا البيت المسوح و الخصف و الأنطاع تبع الحميري و يروى أنه لما كساها انتقض البيت فزال ذلك عنه و فعل ذلك حين كساه الخصف فلما كساه الملاء و الوصائل قبلة و سكن و ممن ذكر هذا الخبر قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل و قال ابن إسحق : أول من كسا البيت الديباج الحجاج و قال الزبير بن بكار بل عبد الله بن الزبير أول من كساها ذلك و ذكر جماعة منهم الدارقطني : أن نتيلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب كانت أضلت العباس صغيرا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة و كانت من بيت مملكة فوفت بنذرها
هذه أخبار قريش و ملكهم بمكة و كانت ثقيف جيرانهم بالطائف يساجلونهم في مذاهب العروبية و ينازعونهم في الشرف و كانوا من أوفر قبائل هوزان لأن ثقيفا هو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن و كانت الطائف قبلهم لعدوان الذين كان فيهم حكيم العرب عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن بكر بن عدوان و كثر عددهم حتى قاربوا سبعين ألفا ثم بغى بعضهم على بعض فهلكوا و قل عددهم و كان قسي بن منبه صهرا لعامر بن الظرب و كان بنوه بينهم فلما قل عدد عدوان تغلب عليهم ثقيف و أخرجهم من الطائف و ملكوه إلى أن صبحهم الإسلام به على ما نذكره و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين و البقاء لله وحده و صلى الله على سيدنا محمد
قد ذكروا عند الطبقة الأولى أن الحجاز و أكناف العرب كانت ديار العمالقة من ولد عمليق بن لاوذ و أنهم كان لهم ملك هنالك و كانت جرهم أيضا من تلك الطبقة من ولد يقطن بن شالخ بن أرفخشد و كانت ديارهم اليمن مع إخوانهم حضرموت و أصاب اليمن يومئذ قحط ففروا نحو تهامة يطلبون الماء و المرعى و عثروا في طريقهم بإسمعيل مع أمه هاجر عند زمزم و كان من شأنه وشأنهم معه ما ذكرناه عند ذكر إبراهيم عليه السلام و نزلوا على قطورا من بقية العمالقة و عليهم يومئذ السميدع بن هوثر بثاء مثلثة ابن لاوي بن قطورا بن ذكر بن عملاق أو عمليق و اتصل خبر جرهم من ورائهم من قومهم باليمن و ما أصابوا من النجعة بالحجاز فلحقوا بهم و عليهم مضاض بن عمرو بن سعيد بن الرقيب بن هنء بن نبت بن جرهم فنزلوا على مكة بقعيقعان و كانت قطورا أسفل مكة و كان مضاض يعشر من دخل مكة من أعلاها و السميدع من أسفلها هكذا عند ابن اسحق و المسعودي أن قطورا من العمالقة و عند غيرهما أن قطورا من بطون جرهم و ليسوا من العمالقة ثم افترق أمر قطورا و جرهم و تنافسوا الملك و اقتتلوا و غلبهم المضاض و قتل السميدع و انقضت العرب العاربة قال الشاعر :
( مضى آل عملاق فلم يبق منهمو ... حقير ولاذ و عزة متشاوس )
( عتوا فأدال الدهر منهم و حكمه ... على الناس هذا واغذ و مبايس )
و نشأ إسمعيل صلوات الله عليه بين جرهم و تكلم بلغتهم و تزوج منهم حرا بنت سعد بن عوف بن هنء بن نبت بن جرهم و هي المرأة التي أمره أبوه بتطليقها لما زاره و وجده غائبا فقال لها : قولي لزوجك فليغير عتبته فطلقها و تزوج بنت أخيها مامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف ذكر هاتين المرأتين الواقدي في كتاب انتقال النور و تزوج بعدهما السيدة بنت الحرث بن مضاض بن عمرو بن جرهم و لثلاثين سنة من عمر إسمعيل قدم أبوه الحجاز فأمر ببناء الكعبة البيت الحرام و كان الحجر زربا لغنم إسمعيل فرفع قواعدها مع ابنه إسمعيل و صيرها خلوة لعبادته و جعلها للناس كما أمره الله و انصرف إلى الشام فقبض هنالك كما مر و بعث الله إسمعيل إلى العمالقة و جرهم و أهل اليمن فآمن بعض و كفر بعض إلى أن قبضه الله و دفن بالحجر مع أمه هاجر و يقال آجر و كان عمره فيما يقال مائة و ثلاثين سنة و عهد بأمره لابنه قيذار : و معنى قيذار صاحب الإبل و ذلك لأنه كان صاحب إبل أبيه إسمعيل كذا قال السهيلي قال غيره معناه الملك و يقال : إنما عهد لابنه نابت فقام ابنه بأمر البيت و وليها و كان ولده فيما ينقل أهل التوراة كما نقل اثني عشر : قيذار ينابوت أدبيبل مبسام مشمع دوما مسا حدد ديمايطور ياقيس قدما أمهم السيدة بنت مضاض قاله السهلي و هكذا وقعت أسماؤهم في الإسرائيليات و الحروف مخالفة للحروف العربية بعض الشيء باختلاف المخارج فلهذا يقع الخلاف بين العلماء في ضبط هذه الألفاظ و قد ضبط ابن إسحق تيما منهم بالطاء والياء و ضبطه الدارقطني بالضاد المعجمة و الميم قبل الياء كأنها تأنيث آضم و ذكر ابن إسحق ديما و قال البكري به سمين دومة الجندل لأنه نزلها و ذكر ان الطور بيطون ابن إسمعيل
ثم هلك نابت بن إسمعيل و ولى أمر البيت جده الحرث بن مضاض و قيل وليها مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هنء ابن نبت بن جرهم ثم ابنه الحرث بن عمرو ثم قسمت الولاية بين ولد إسمعيل بمكة و أخوالهم من جرهم ولاة البيت لا ينازعهم ولد إسمعيل إعظاما للحرم أن يكون به بغي أو قتال ثم بغت جرهم في البيت و وافق بغيهم تفرق سبأ و نزول بني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر أرض مكة فأرادوا المقام مع جرهم فمنعوهم و اقتتلوا فغلبهم بنو حارثة و هم فيما قيل خزاعة و ملكوا البيت عليهم و رئيسهم يومئذ عمرو بن لحي و شرد بقية جرهم و لحي هذا هو ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقيا بن عامر و قيل : إنما ثعلبة بن حارثة بن عامر و في الحديث [ رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ] يعني أحشاءه أنه الذي بجر البحيرة و سيب السائبة و حمى الحامي و غير دين إسمعيل و دعا إلى عبادة الأوثان و في طريق آخر رأيت عمرو بن عامر قال عياض المعروف في نسب أبي خزاعة هذا هو عمرو محمد لحي بن قمعة بن إلياس و إنما عامر اسم أبيه أخو قمعة و هو مدركة بن إلياس و قال السهيلي : كان حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر خلف على أم لحي بعد أبيه قمعة و لحي تصغير و اسمه ربيعة تبناه حارثة و انتسب إليه فالنسب صحيح بالوجهين و أسلم بن أفصى بن حارثة أخو خزاعة
و عن ابن إسحق أن الذي أخرج جرهم من البيت ليست خزاعة وحدها و إنما تصدى للنكير عليهم خزاعة و كنانة و تولى كبره بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة و بنو غبشان بن عبد عمرو بن بوى بن ملكان بن أفصى بن حارثة فاجتمعوا لحربهم و اقتتلوا و غلبهم بنمو بكر و بنو غبشان بن كنانة و خزاعة على البيت و نفوهم من مكة فخرج عمرو و قيل عامر بن الحرث بن مضاض الأصغر بمن معه من جرهم إلى اليمن بعد أن دفن حجر الركن و جميع أموال الكعبة بزمزم ثم أسفوا على ما فارقوا من أمر مكة و حزنوا حزنا شديدا و قال عمرو بن الحرث و قيل عامر :
( كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس و لم يسمر بمكة سامر )
( بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي و الجدود العواثر )
( و كنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف فما تحظى لدنيا المكاثر )
( ملكنا فعززنا فأعظم ملكنا ... فليس لحي عندنا ثم فاخر )
( ألم تنكحوا من خير شخص علمته ... فأبناؤنا منا و نحن الأصاهر )
( فأن تنثني الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا و فيها التشاجر )
( فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للناس تجري المقادر )
( أقول إذا نام الخلي و لم أنم ... أذا العرش لا يبعد سهيل و عامر )
( و بدلت منها أوجها لا أحبها ... قبائل منها حمير و بحائر )
( و صرنا أحاديثا و كنا بغطة ... بذلك عضتنا السنون الغوابر )
( فساحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن و فيها المشاعر )
( و نبكي لبيت ليس يؤذي حمامه ... يظل بها أمنا و فيها العصافر )
( و فيه و حوش لا ترام أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادر )
ثم غلبت بنو حبشية على أمر البيت بقومهم من خزاعة و استقلوا بولايتها دون بني بكر عبد مناة و كان الذي يليها لآخر عهدهم عمرو بن الحرث و هو غبشان
و ذكر الزبير : أن الذين أخرجوا جرهم من البيت من ولد إسمعيل من ولد إياد بن نزار و من بعد ذلك وقعت الحرب بين مضر و إياد فأخرجتهم مضر و لما خرجت إياد قلعوا الحجر الأسود و دفنوه في بعض المواضع و رأيت ذلك امرأة من خزاعة فأخبرت قومها فاشترطوا على مضر إن دولوهم عليه أن لهم ولاية البيت دونهم فوفوا لهم بذلك و صارت ولاية البيت لخزاعة إلى أن باعها أبو غبشان لقصي و يذكر أن من وليها منهم عمرو بن لحي و نصب الأصنام و خاطبه رجل من جرهم :
( يا عمرو لا تظلم بمكة إنها بلد حرام )
( سائل بعاد أين هم ـ و كذاك تحترم الأنام )
( و هي العماليق الذين لهم بها كان السوام )
و كانت ولاية البيت لخزاعة و كان لمضر ثلاث خصال : الإجازة بالناس يوم عرفة لبني الغوث بن مرة إخوتهم و هو صوفة و الإفاضة بالناس غداة النحر من جمع إلى منى لبني زيد بن عدي و انتهى ذلك منهم إلى أبي سيارة عميرة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحرث بن كانس بن زيد فدفع من مزدلفة أربعين سنة علىحمار و نسء الشهور الحرم كان لبني مالك بن كنانة و انتهى إلى القلمس كما مر و كان إذا أراد الناس الصدور من مكة قال : اللهم إني أحللت أحد الصغرين و نسأت الآخر للعام المقبل قال عمرو بن قيس من بني فراس :
( و نحن الناسئون على معد ... شهور الحل نجعلها حرما )
قال ابن إسحق : فأقام بنو خزاعة و بنو كنانة على ذلك مدة الولاية لخزاعة دونهم كما قلناه و في أثناء ذلك تشعبت بطون كنانة و من مضر كلها و صاروا جرما و بيوتات متفرقين في بطن قومهم من بني كنانة و كلهم إذ ذاك أحياء حلول بظواهرها و صارت قريش على فرقتين : قريش البطاح و قريش الظاهر فقريش البطاح ولد قصي بن كلاب و سائر بني كعب بن لؤي و قريش الظواهر من سواهم و كانت خزاعة بادية لكنانة ثم صار بنو كنانة لقريش ثم صارت قريش الظواهر بادية لقريش البطاح و قريش الظواهر من كان على الأقل من مرحلة و من الضواحي ما كان على الأكثر من ذلك و صار من سوى قريش و كنانة من قبائل مضر في الضواحي أحياء بادية و ظعونا ناجعة من بطون قيس و خندق من أشجع و عبس و فزارة و مرة و سليم و سعد بن بكر و عامر بن صعصعة و ثقيف و من تميم و الرباب و ضبعي بني أسد و هذيل و القارة و غير هؤلاء من البطون الصغار و كان التقدم في مضر كلها لكنانة ثم لقريش و التقدم في قريش لبني لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر و كان سيدهم قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي كان له فيهم شرف و قرابة و ثروة و ولد و كان له في قضاعة ثم في بني عروة بن سعد بن زيد من بطونهم نسب ظئر و رحم كلالة كانوا أجلها فيه شيعة و ذلك بما كان ربيعة بن حرام بن عذرة قدم مكة قبل مهلك كلاب بن مرة و كان كلاب خلف قصيا في حجر أمه فاطمة بنت سعد بن باسل بن خثعمة الأسدي من اليمن فتزوجها ربيعة و قصي يومئذ فطيم فاحتملت إلى بلاد بني عذرة و تركت ابنها زهرة بن كلاب لأنه كان رجلا بالغا و ولدت لربيعة بن حزام رزاح بن ربيعة و لما شب قصي و عرف نسبه رجع إلى قومه و كان الذي يلي أمر البيت لعهده من خزاعة حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو فأصهر إلى قصي في ابنته حبى فأنكحه إياها فولدت له عبد الدار و عبد مناف و عبد العزى و عبد قصي و لما انتشر ولد قصي و كثر ماله و عظم شرفه هلك حليل فرأى قصي أنه أحق بالكعبة و بأمر مكة و خزاعة و بني بكر لشرفه في قريش و لما كثرت قريش سائر الناس و اعتزت عليهم و قيل أوصى له بذلك حليل و لما بدا له ذلك مشى في رجالات قريش و دعاهم إلى ذلك فأجابوه و كتب إلى أخيه زاح في قومه عذرة مستجيشا بهم فقدم مكة في إخوته من ولد ربيعة و من تبعهم من قضاعة في جملة الحاج مجمعا نصر قصي
قال السهيلي : و ذكر غير ابن إسحق أن حليلا كان يعطي مفاتيح البيت بنته حبى حين كبر و ضعف فكانت بيدها و كان قصي ربما أخذها يفتح البيت للناس و يغلقه فلما هلك حليل أوصى بولاية البيت إلى قصي و أبت خزاعة أن يمضي ذلك لقصي فعند ذلك هاجت الحرب بينه و بين خزاعة و أرسل إلى رزاح أخيه يستنجده عليهم
و قال الطبري : لما أعطى حليل مفاتيح الكعبة لابنته حبى لما كبر و ثقل قالت : إجعل ذلك لرجل يقوم لك به فجعله إلى أبي غبشان سليمان بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن قصي و كانت له ولاية الكعبة و يقال : إن أبا غبشان هو ابن حليل باعه من قصي بزق خمر قيل فيه أخسر من صفقة أبي غبشان فكان من أول ما بدؤا به نقض ما كان لصوفة من إجازة الحاج و ذلك أن بني سعد بن زيد مناة بن تميم كانوا يلون الإجازة للناس بالحج من عرفة ينفر الحاج لنفرهم و يرمون الجمار لرميهم و رثوا ذلك من بني الغوث بن مرة كانت أمه من جرهم و كانت لا تلد فنذرت إن ولدت أن تتصدق به على الكعبة عبدا يخدمها فولدت الغوث و خلى أخواله من جرهم و بينه و بين من نافسه بذلك فكان له و لولده و كان يقال لهم صوفة
و قال السهيلي : عن بعض الإخباريين : إن ولاية الغوث بن مرة كانت من قبل ملوك كندة ولما انقرضوا و رث بالتعدد بنو سعد بن زيد مناة و لما جاء الإسلام كانت تلك الإجازة منهم لكرب بن صفوان بن حتات بن سجنة و قد مر ذكره في بطون تميم فلما كان العام الذي أجمع فيه قصي الإنفراد بولاية البيت و حضر إخوته من عذرة تعرض لبني سعد أصحاب صوفة في قومهم من قريش و كنانة و قضاعة عند الكعبة فلما وقفوا للأجازة و قال : لا نحن أولى بهذا منكم فتناجزا و غلبهم قصي على ما كان بأيديهم و عرفت خزاعة و بنو بكر عند ذلك أنه سيمنعهم من ولاية البيت كما منع الآخرين فانجازوا لحربه و تناجزوا و كثر القتل ثم صالحوه على أن يحكموا من أشرف العرب و تنافروا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عمرو بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة فقضى لقصي عليهم فولى قصي البيت و قر بمكة و جمع قريشا من منازلهم بين كنانة إليها و قطعها أرباعا بينهم فأنزل كل بطن منهم بمنزلة الذي صحبهم به الإسلام و سمي بذلك مجمعا قال الشاعر :
( قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر )
فكان أول من أصاب من بني لؤي بن غالب ملكا أطاع له به قومه فصار له لواء الحرب و حجابة البيت و تيمنت قريش برأيه فصرفوا مشورتهم إليه في قليل أمورهم و كثيرها فاتخذوا دار الندوة إزاء الكعبة في مشاوراتهم و جعل بابها إلى المسجد فكانت مجتمع الملاء من قريش في مشاوراتهم و معاقدهم ثم تصدى لإطعام الحاج و سقايته لما رأى أنهم ضيف الله و زوار بيته و فرض على قريش خراجا يؤدونه إليه زيادة على ذلك كانوا يردفونه به فحاز شرفهم كله و كانت الحجابة و السقاية و الرفادة و الندوة و اللواء له و لما أسن قصي وكان بكره عبد الدار و كان ضعفا و كان أخوه عبد مناف شرف عليه في حياة أبيه فأوصى قصي لعبد الدار بما كان له من الحجابة و اللواء و الندوة و الرفادة و السقاية يجبر له بذلك ما نقصه من شرف عبد مناف و كان أمره في قومه كالدين المتبع لا يعدل عنه ثم هلك و قام بأمره في قومه بنوه من بعده و أقاموا على ذلك مدة و سلطان مكة لهم و أمر قريش جميعا ثم نفس بنو عبد مناف على بني عبد الدار ما بأيديهم و نازعوهم فافترق أمر قريش و صاروا في مظاهرة بني قصي بعضهم على بعض فرقتين و كان بطون قريش قد اجتمعت لعهدها ذلك اثني عشر بطنا : بنو الحرث بن فهر و بنو محارب بن فهر و بنو عامر بن لؤي و بنو عدي بن كعب و بنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب و بنو جمح بن عمرو بن هصيص و بنو تيم بن مرة و بنو مخزوم بن يقظة بن مرة و بنو زهرة بن كلاب و بنو أسد بن عبد العزى بن قصي و بنو عبد الدار و بنو عبد مناف بن قصي
فأجمع بنو عبد مناف انتزاع ما بأيدي بني عبد الدار مما جعل لهم قصي و قام بأمرهم عبد شمس أسن ولده و اجتمع له من قريش : بنو أسد بن عبد العزى و بنو زهرة و بنو تيم و بنو الحرث و اعتزل بنو عامر و بنو المحارب الفريقين و صار الباقي من بطون قريش مع بني عبد الدار و هم : بنو سهم و بنو جمح و بنو عدي و بنو مخزوم ثم عقد كل من الفريقين على أحلافه عقدا مؤكدا و أحضر بنو عبد مناف و حلف قومهم عند الكعبة جفنة مملؤة طيبا غمسوا فيها أيديهم تأكيدا للحلف فسمي حلف المطيبين و أجمعوا للحرب و سووا بين القبائل و أن بعضها إلى بعض فعبت بنو عبد دار لبني الأسد و بنو جمح لبني زهرة و بنو مخزوم لبني تيم و بنو عدي لبني الحرث ثم تداعوا للصلح على أن يسلموا لبني عبد مناف السقاية و الرفادة و يختص بنو عبد الدار بالحجابة و اللواء فرضي الفريقان و تحاجز الناس
و قال الطبري قيل ورثها من أبيه ثم قام بأمر بني عبد مناف هاشم ليساره و قراره بمكة و تقلب أخيه عبد شمس في التجارة إلى الشام فأحسن هاشم ما شاء في إطعام الحاج و إكرامهم وفدهم و يقال : إنه أول من أطعم الثريد الذي كان يطعم فهو ثريد قريش الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم : [ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ] و الثريد لهذا العهد ثريد الخبز بعد أن يطبخ في المقلاة و التنور و ليس من طعام العرب إلا أن عندهم طعاما يسمونه البازين يتناوله الثريد لغة و هو ثريد الخبز بعد أن يطبخ في الماء عجينا رطبا إلى أن يتم نضجه ثم يدلكونه بالمغرفة حتى تتلاحم أجزاؤه و تتلازج و ما أدري هل كان ذلك الطعام كذلك أو لا إلا أن لفظ الثريد يتناوله لغة
و يقال : إن هاشم بن عبد المطلب أول من سن الرحلتين في الشتاء و الصيف للعرب ذكره ابن إسحق و هو غير صحيح لأن الرحلتين من عوائد العرب في كل جيل لمراعي إبلهم و مصالحها لأن معاشهم فيها و هذا معنى العرب و حقيقتهم أنه الجيل الذي معاشهم في كسب الإبل و القيام عليها في ارتياد المرعى وانتجاع المياه و النتاج والتوليد و غير ذلك من مصالحها و الفرار بها من أذى البرد عند التوليد إلى القفار و دفئها و طلب التلول في المصيف للحبوب و برد الهواء و تكونت على ذلك طباعهم فلابد لهم منها ظعنوا أو أقاموا و هو معنى العروبية و شعارها أن هاشما لما هلك و كان مهلكه بغزة من أرض الشام تخلف عبد المطلب صغيرا بيثرب فأقام بأمره من بعده بعده ابنه المطلب و كان ذا شرف و فضل و كانت قريش تسمية الفضل لسماحته و كان هاشم قدم يثرب فتزوج في بني عدي و كانت قبلة عند أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبا بن كلفه بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك سيد الأوس لعهده فولدت عمرو بن أحيحة و كانت لشرفها تشترط أمرها بيدها في عقد النكاح فولت عبد المطلب فسمته شيبة و تركه هاشم عندها حتى كان غلاما و هلك هاشم فخرج إليه أخوه المطلب فأسلمته إليه بعد تعسف و اغتباط به فاحتمله و دخل مكة فرفده على بعيره فقالت قريش : هذا عبد ابتاعه المطلب فسمي شيبة عبد المطلب من يومئذ
ثم أن المطلب بردمان من اليمن فقام بأمر بني هاشم بعده عبد المطلب بن هاشم و أقام الرفادة و السقاية للحاج على أحسن ما كان قومه يقيمونه بمكة من قبله و كانت له وفادة على ملوك اليمن من حمير و الحبشة و قد قدمنا خبره مع ابن ذي يزن و مع أبرهة و لما أراد حفر زمزم للرؤيا التي رآها اعترضته قريش دون ذلك ثم حالوا بينه و بين ما أراد منها فنذر لئن ولد له عشرة من الوالد ثم يبلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم قربانا لله عند الكعبة فلما كملوا عشرة ضرب عليهم القداح عند هبل الصنم العظيم الذي كان في جوف الكعبة على البئر التي كانوا ينحرون فيها هدايا الكعبة فخرجت القداح على ابنه عبد الله والد النبي صلى الله عليه و سلم وتحير في شأنه ومنعه قومه من ذلك و أشار بعضهم و هو المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بسؤال العرافة التي كانت لهم بالمدينة على ذلك فألفوها بخيبر و سألوها فقالت : قربوه و عشرا من الإبل و أجيلوا القداح فإن خرجت على الإبل فذلك و إلا فزيدوا في الإبل حتى تخرج عليها القداح و انحروها حينئذ فهي الفدية عنه و قد رضي إلهكم ففعلوا و بلغت الإبل مائة فنحرها عبد المطلب و كانت من كرامات الله به و عليه قوله صلى الله عليه و سلم [ أنا ابن الذبيحين ] يعني عبد الله أباه و إسمعيل بن إبراهيم جده اللذين قربا للذبح ثم فديا بذبح الأنعام
ثم إن عبد المطلب زوج ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فدخل بها وحملت برسول صلى الله عليه و سلم و بعثه عبد المطلب يمتار لهم تمرا فمات هنالك فلما أبطأ عليهم خبره بعث في إثره و قال الطبري : عن الواقدي : الصحيح أنه أقبل من الشام في حي لقريش فنزل بالمدينة و مرض بها و مات أقام عبد المطلب في رياسة قريش بمكة و الكون يصغي لملك العرب و العالم يتمخض بفصال النبوة إلى أن وضح نور الله من أفقهم و سرى خبر السماء إلى بيوتهم و اختلفت الملائكة إلى أحيائهم و خرجت الخلافة في أنصبائهم و صارت العزة لمضر و لسائر العرب بهم و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و عاش عبد المطلب مائة و أربعين سنة و هو الذي احتفر زمزم
قال السهيلي : و لما حفر عبد المطلب زمزم استخرج منه تمثالي غزالين من ذهب و أسيافا كذلك كان ساسان ملك الفرس أهداها إلى الكعبة و قيل سابور و دفنها الحرث بن مضاض في زمزم لما خرج بجرهم من مكة فاستخرجها عبد المطلب و ضرب الغزالين حليه للكعبة فهو أول من ذهب حلية الكعبة بها و ضرب من تلك الأسياف باب حديد و جعله للكعبة و يقال : إن أول من كسى الكعبة و اتخذا لها غلقا تبع إلى أن جهله لها عبد المطلب هذا الباب ثم اتخذا عبد المطلب حوضا لزمزم يسقي منه و حسده قومه على ذلك و كانوا يخرجون بالليل فلما غمه ذلك رأى في النوم قائلا يقول : قل لا أحلها لمغتسل و هي لشارب حل و بل فإذا قلتها فقد كفيتهم فكان بعد إذا أرادها أحد بمكروه رمى بداء في جسده ولما علموا بذلك تناهوا عنه و قال السهيلي : أول من كسا البيت المسوح و الخصف و الأنطاع تبع الحميري و يروى أنه لما كساها انتقض البيت فزال ذلك عنه و فعل ذلك حين كساه الخصف فلما كساه الملاء و الوصائل قبلة و سكن و ممن ذكر هذا الخبر قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل و قال ابن إسحق : أول من كسا البيت الديباج الحجاج و قال الزبير بن بكار بل عبد الله بن الزبير أول من كساها ذلك و ذكر جماعة منهم الدارقطني : أن نتيلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب كانت أضلت العباس صغيرا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة و كانت من بيت مملكة فوفت بنذرها
هذه أخبار قريش و ملكهم بمكة و كانت ثقيف جيرانهم بالطائف يساجلونهم في مذاهب العروبية و ينازعونهم في الشرف و كانوا من أوفر قبائل هوزان لأن ثقيفا هو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن و كانت الطائف قبلهم لعدوان الذين كان فيهم حكيم العرب عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن بكر بن عدوان و كثر عددهم حتى قاربوا سبعين ألفا ثم بغى بعضهم على بعض فهلكوا و قل عددهم و كان قسي بن منبه صهرا لعامر بن الظرب و كان بنوه بينهم فلما قل عدد عدوان تغلب عليهم ثقيف و أخرجهم من الطائف و ملكوه إلى أن صبحهم الإسلام به على ما نذكره و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين و البقاء لله وحده و صلى الله على سيدنا محمد