بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب المبين الذي جاء ذكره في بعض الآيات القرآنية هو خلق السموات والأرض
مثلُ القُرآنِ الكريمِ كَمَثلِ أرضٍ مُبَارَكَةٍ تُخفِي الحَياةَ في باطِنِهَا، وتؤتي أُكُلها عندما يرعاها الناسُ. فكلما كانت أساليبُ إحيائِها مُنظمةً، مُخلَصةً، صَادقةً، شامِلةً ومُتطورةً كان عطائُها وافراً مباركاً مُتنوعاً. وتكلمنا بالتفصيل في مقال آخر أنَّ كلمة "سُورةٍ" في القُرآنِ تحمل معنى "أرض" .... وهنا نكتفي بالقولِ أنَّه وكما تعطي الأرض ثمارها دوماً فإنّ القرآن الكريم يعطي ثماره وينبت من كُلِّ زوجٍ كريمٍ ...
إنَّ سيِّدنا محمداً عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام خاتم المرسلين، والشريعةُ الإسلاميَّةُ آخرُ الشرائعِ السماويةِ، والقُرآنُ آخرُ الكتبِ السماويَّةِ. لذا اقتضت الحِكْمةُ أنْ "يُحْفَظَ" القُرآنُ لمن سيأتي من الأُمَمِ، ولمن سيلحقُ من الأجيالِ إلى الأبد.
ولأنَّ الأُمَمَ تتغيرُ وتتطورُ بطبيعتِها، كانتِ الحِكْمةُ أنْ يُحْفظَ كتابُ الله تعالى، وفي نفس الوقتِ يكونُ قابلاً لعطاءِ الأُمَمِ المستقبليَّة كلٌ على حَسَبِ نِيَّتِه وقدرتِه العِلميَّةِ والفِكْريَّةِ والتقنيَّةِ للاستنباطِ. لذلك وجَبَ أنْ يكونَ القُرآنُ مُباركاً لا تنقضي عجائَبُه ولا ينتهي زمانُه ...
ومن المعْلُوم أنَّه بتقادمِ الزمانِ يكثرُ الناسُ وتتراكمُ العلومُ والخبراتُ والمداركُ وتزدادُ، مما يؤدي وبالتأكيدِ إلى التعمق في فَهمِ كلِّ شيءٍ من حولِنا بما في ذلك كلام الله تعالى وسُنَّة نبيهِ الكريم ... علينا إدراك أنْ القرآنَ كريمٌ، وأنَّ الكريمَ لا ينقضي عطائُه ... فكتابُ ربِّ العالمينَ للعالمينَ لجميع الأزمنةِ والأماكنِ.
فلا ينبغي حَصْر حِكْمة آيةٍ من المصحفِ في ظروفِ نُزُولِها، أو حَصْر تفسيرَها في أقوالٍ محددةٍ. فما دام الإنسان يكتشفُ كل يومٍ مخترعاتٍ جديدةٍ في الدنيا، فكيف يَعْجَزُ كلامُ الله تعالى عن الإتيان بمعارفَ جديدة؟
فعندما يتكلمُ أحدُنا نسمعُ له ونعطي كلامَهُ من الثِقلِ والمصداقيَّةِ ما يتناسبُ مع خِبرتِهِ وعِلمِهِ وحِكمتِهِ ومصداقيَّتهِ. فهناك نِسْبةٌ وتناسبٌ بين عِلمِ المُتكلمِ وحِكمتِهِ وبين العلمِ والحِكْمةِ والتناغمِ والتجانسِ والترابطِ المختزنِ في كلامِه أو في كتابِه! فما بالنا إذاً بما في كتابِ ربِّ العالمينَ من علومٍ وحِكَم؟
فالقدراتُ الإلهيةُ والترابطُ في كلامِهِ تعالى لا نهائيٌ في أبعادِه. فلو قدَّرنا ذلك كما ينبغي، أدركنا أنَّ كُلّ "كلمةٍ" في القُرآنِ تحوي من الحِكَمِ والعلومِ والترابطِ والتناغمِ ما لا يستطيعُ البشرُ كلُّهم إدراكَه وتقديرَه حقَّ قدره، ولو اجتمعوا له.
ولو كنَّا نحنُ المخلوقينَ نربِطُ كلامَنا ببعضِه البعضَ، فكلامُ ربِّ العالمينَ إذاً يرتبِطُ أوَّلُه بآخِره ... كُلُّ سُورةٍ ترتبِطُ بكُلِّ سُورةٍ فيه ... وكُلُّ آيةٍ بكُلِّ آيةٍ فيه ... وكُلُّ كلمةٍ بكُلِّ كلمةٍ فيه ... وكُلُّ حرفٍ يرتبِطُ بكُلِّ حرفٍ فيه ...
إنَّ تسخيرَ السَّمَواتِ والأرض وما فيهن ليس منحصرا في التسخير الماديِّ الحياتيِّ المعاشيِّ من أكلٍ وشربٍ وملذاتٍ.
تسخيرُ الخلق هو دراستُه والبحثُ في إعجازاته وإبداعاته لمعرفة الخالق تبارك وتعالى وأسمائه الحسنى وَمِنْ ثَمَّ الاصطباغُ والاتصافُ بها وإظهارُها في حياتِنا وأنفسِنا وأخلاقِنا لنكونَ مثلاً ومَظهراً لله تعالى فنستحقَ أنْ نكونَ خُلفاءَهُ في الأرض. فالتسخيرُ فكريٌ عقليٌ وليس مادياً استهلاكياً وحسب. ولاحظِ العلاقةَ بين التسخيرِ والعقل في الآيات التالية:
إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلفِ الَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ التى تَجْرى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الريح وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأرْضِ لآيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {البقرة: 164}
وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيل وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ
إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (النحل : 12)
إنَّ خلقَ السَّمواتِ والأرضِ لهُو الكتابُ المُبينُ الذي جاءَ ذِكْرُهُ في بعض آيات القرآن الكريم ... وهو كتابٌ بمعنى الكلمة. فكتابُ القرآنِ الكريمِ يشرحُ لنا بالكلامِ والأمثلةِ أسماءَ الله تعالى الحُسنى بكتابةٍ على ورق، أمَّا كتابُ الخلقِ المبين فهو يُكْمِلُ شرحَ الأسماءِ الحُسنى التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، ليس عن طريق الكلام، بل عن طريق الفعل والمعاينة واللمسِ والإحساس والمشاهدة والحياة والواقع ...
فهو عوالمٌ من إبداعه وإتقانِه وجمالِه تعالى، لا يَقرؤها إلَّا العالمُون ... وهؤلاءِ العالمُونَ هم الذين يُقدِرونَ اللهَ حقَّ قدرِه .... فخلقُ الله تباركَ وتعالى بسَمَاواتِه وأراضِيه وما عليهِما وما بينهُما كتابٌ مُبينٌ معروضٌ مفتوحٌ مُفعمٌ زاخرٌ بالحياةِ ناطقٌ نابضٌ ... أبطنَ مِلءَ ما أظهرَ ... وأظهرَ مِلءَ ما أبطنَ ... ذلكم هو كِتابُ الله ربِّ العالمينَ ... العزيزِ العليمِ ...
إنَّ كتابَ الخلقِ المبين كتابٌ عظيمٌ بديعٌ مُهِيبٌ غنيٌ كريمٌ زاخرٌ مُفعمٌ بالحياةِ، يحملُ صفاتَ خالقِه الكريم ... فمن كتابِه هذا نتعرفُ على أسمائه الحُسنى ... فنعرفُ صبرَهُ من عُمرِ هذا الكون العتيقِ المديدِ الذي يعودُ تاريخُ أصلِه إلى بلايين السنوات من التطور والتغيّرِ والبناءِ ...
ونشاهدُ وحدانيتَه وتسبيحَ الخلق بحمده عندما نجدُ أنَّ كلَّ خلقٍ من خلقه يدور ويَسْبَحُ في فلكه حول مركزٍ واحد ... ونُدركُ كَرَمَه وغِناهُ من مُشاهدةِ ودراسةِ عشراتِ الملايينِ من أنواع الخلائقِ الحيَّةِ والميِّتةِ والفصائلِ من الحاضر ومن الدهور السحيقةِ البائدةِ التي عاشت وازدهرت بها الأرض ومن ثمّ ماتت وانقرضت، فاندثرت ... ونعلمُ شيئاً من سعةِ عِلمهِ بالتأملِ وبالبحثِ والاكتشافِ والتنقيبِ في ملكوته ...
ونشعرُ بمقدارِ رحمتهِ وحبِّه وحنانِه ورأفتهِ وَوِدِّهِ من منظرٍ الأمَّهات الوالهات تبكي وتشقى من فراق فلذات أكبادهن ... ونعلمُ قوَّتَه وجَبَروتَه وبطشَهُ من الزلازل والبراكين والانفجارات، ومن الحرارات والطاقاتِ الكامنات داخلَ الأرض والنجوم والشموسِ ... ونعلم عظمتَهُ وكُبْرَهُ من عظمةِ وكِبَرِ هذا الخلق المُهيبِ الرهيبِ وما يحويه من مجراتٍ وأجرام هائلةٍ لا يتخيلُ أبعادها عقلٌ ولا بال ...
ونرى جمالَه في بديع صنعه وتصويره للخلائِق من حولنا ... ونشعرُ بمغفرتِه وتوبتِه وعفوهِ وستره وبرِّهِ وحفظه، وسمعه وبصره وقدرتِه وتقديره ... ونتعلمُ بنوره وهداهُ من علمِه ورُشده وحكمتِه وخبرته وإحصاءِه وحسابِه وخلقِه ... ونحيا برزقِه وعطاءِه ورُبُوبيتِه وإلوهيته وعدلِه وملكِه وإبدائه وإنهائه وإحياءِه وإماتِته وإظهارِه وإبطانِه وتوقيته ورقابته ... وما إلى ذلك من أسمائه تعالى وصفاته التي نقرؤها من الكتاب المبين ...
في هذا الكتابِ المُبينِ كُلُّ ما دَبَّ على هذه الأرضِ وكُلُّ ما يراهُ ويستشعرُه الإنسانُ بحواسِّه ابتداءً من أصغرِ مُكوناتِ المادةِ وأقربِها إليه، وانتهاءً بأعظمِ الحشودِ المجريَّةِ وأبعدِها عنه ... من أبسطِ الكائناتِ الحيَّةِ الوحيدةِ الخليَّةِ، إلى الإنسانِ أكثرِها تعقيداً وتنظِيماً ... من أقدمِ المخلوقاتِ وأغْربِها من العصورِ السحيقةِ البائدةِ، إلى أحدثِها وحاضِرِها ... بمعنى آخر فإنَّ "الكتابَ المبينَ" في بعض الآيات القرآنية هو خلقُ الله تبارك وتعالى الذي سَخَّرَهُ للإنسان ...
ولقد وردت كلمة "مبين" عدة مراتٍ في المصحف كصفةٍ للكتاب، ولكن نشيرُ هنا إلى أنَّ كلمة "مبين" تعني ببساطةٍ أنَّ الشيءَ المُبينَ واضحٌ جلي ظاهر. فعندما أشيرُ إلى جبلٍ عظيمٍ أمامكَ فهو "مبينٌ إذ يَبَانُ" أمامَ عينك. ولكن من الغريب أنْ أُشيرَ إلى السماء بإصبعي وأقول: أنظر إلى الجبل المُبينِ في الكوكب! لأنَّه غير مُبينٍ، وإنْ كان موجوداً!
وكذلك عندما يُكَلِمُنا الله عزَّ وجلَّ عن "الكتاب المبين" فينبغي أنْ يكونَ هذا الكتابُ مُبيناً وظاهراً وواضحاً لنا نحن الناس إذ إنَّ الكلامَ لنا! فلو كان هذا الكتابُ موجوداً بعيداً عنا في السماء أو في عِلْمِ الغيب عنده فلماذا وصفه تعالى بـ "المبين" ولمْ يصفه بـ "المختفي" أو "الغيبي" مثلاً؟ بل ولِمَ يذكُرُه الله تعالى أصلاً إنْ كان بعيداً ولن نراه ولن يؤثر في أعمالنا بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ؟ فالله تعالى حكيمٌ ولا يخلو كلامُهُ من الحِكَمِ البليغة ...
كتابُ الخلقِ المُبين هذا هو خلقُه تبارك وتعالى المتميزُ بالبساطةِ والتناغم والجمالِ في الظاهِرِ وبالتعقيدِ والنظامِ المحكمِ في الباطِن. وذلك ظاهِرٌ في جميع مشاهدِ الخلقِ صَغُرَ أو كَبُر، قَرُبَ أو بَعُد، حياً كان أو ميِّتاً. فمن النظرة الأولى إلى أيِّ مشهدٍ فإنَّنا نرى البساطةَ والجمالَ دون سواهِما وكلما تعمقنا داخل هذا المشهدِ فإنَّنا نرى عوالمَ وطبقاتٍ من الإعجازِ والإبداعِ نُظِّمت بحيث يتصلُ صَغِيرُها بمثيلهِ بعلاقاتٍ مُحكمةٍ من جِهَةٍ وبِكبيرها من جِهَةٍ أخرى في علاقاتٍ لا يأتيها الخللُ ولا الضمور ولا الفُطورُ ...
فهي مشاهدٌ لا نهائيَّةٌ وكُلُّ مشهدٍ غنىٌ بإبداعاتٍ وإعجازاتٍ لا نهائيَّة ... إنَّه خلقٌ بسيطٌ مُعقدٌ مُتفاصلٌ مُتكاملٌ ... فيه خلقُ ذرةٍ أصعبُ من خلقِ كونٍ ... وخلقُ كونٍ أصعبُ من خلقِ ذرةٍ! فسُبحَانَ من أعجزَ فأبدعَ ... وأبدعَ فأعجزَ ... أكرمَ فأغنىَ ... وأغنىَ فأكرمَ ...
هذا الخلقُ الكونيُّ بسماواتِه وأراضِيه "كتابٌ" كما يتوافق مع سياق النصِّ القُرآنيِّ:
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أمثالُكُم، مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىءٍ، ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ {الأنعام:38}
مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىءٍ ، أي :
مَّا فَرَّطْنَا فِى الخلق مِن شَىءٍ.
فلو كان المقصود بـ الكِتَابِ في الآيةِ أعلاهُ أنَّه كتابٌ في علمِ الله تبارك وتعالى فيه أخبارُ وإحْصاءُ كُلِّ شَيءٍ مخلُوقٍ ومُقدرٍ ... ما كان وما سيكون ... فكيف نفهم حاجة الله تعالى إلى كتاب إحصاء؟
فاللهُ تعالى أعلمُ وأقْدَرُ وأحفظُ من أنْ يحتاجَ إلى كتابِ إحصاءٍ كي لا تضيعَ منه الأشياءُ، سبحانه وتعالى. بل إنَّ كلَّ الخلقِ هو بِحدِّ ذاتِهِ كتابٌ، وهذا الكتاب كامل لا تفريط فيه ولا نُقصان، وهو ما تنصُّ عليه الآيةُ الشريفةُ ذاتُها .... فيكونُ معنى الآيةِ: مَّا فَرَّطْنَا فِى (( الخَلقِ )) مِن شَىءٍ .... وهذا التأويلُ أقربُ إلى سياقِ الآيةِ والعقلِ.
بل هو أقربُ إلى معنى العديدِ من الآيات القرآنيةِ ذاتها التي تنصُّ على أنَّ كلَّ ما في الخلق مُقدرٌ مَوزون لا إفراطَ فيه ولا تفريط. فعلى سبيل المثال ما جاء في سورة الحجر:
وَالأرْضَ مَدَدْنها وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِى وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىءٍ مَّوْزُونٍ {19} وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازقينَ {20} وَإِن مِّن شىءٍ إِلا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ {21}
فكلمةُ "كتاب" في عدةِ مواضعَ في المصحفِ الشريف (في عدة مواضع فقط وهي التي سيأتي ذكرها في هذا المقال) هي خلقُ السموات والأرض على سبيل المجاز والاستعارة. ولقد استخدم القرآن الكريم المجاز والاستعارة كثيراً كما نستعملها نحن البشرَ.
وكذلك:
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإيمن لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ الله إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (الروم : 56)
ونحن نعلمُ أننا لبثنا أي عِشنا حياتنا في "خلق الله" والآيةُ يمكن فهمها على أنَّ هذا الخلقَ هو كتابُ الله تعالى ...
لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ الله أي
لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى خَلْقِ الله ...
وكذلك:
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرْضِ إِلا عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ {هود: 6}
فأين تعيشُ وتستقرُ الكائناتُ الحيةُ؟ أليس في الأرض! ومن أين تُرزق؟ أليس من هذه الأرض!
فيمكن فهم عبارة:
كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ
كُلٌّ فِى خَلْقٍ مُّبِينٍ ...
وكذلك:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِى كتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأرْضَ ... {التوبة: 36}
ألا نرى اثني عَشَرَ شهرا (بدرا) في السماءِ في السنة الواحدة؟
فيمكن فهم عبارة:
فِى كِتَابِ الله أي
فِى خَلْقِ الله ...
وكذلك:
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ {ق : 4}
و الخلقُ كتابٌ محفوظٌ بنواميسَ وقوانينَ وضعها العزيز القدير، كما هو معلومٌ للدارسين في العلوم الطبيعية من قوانين حِفْظِ المادة والطاقة، فكلُّ شيءٍ محفوظ. ومعنى "وَعِندَنَا" أي "بِمُلْكِنا" فبطبيعةِ الحالِ كلُّ الخلقِ مُلْكٌ لله إذ لا ينبغي فَهمُ "وَعِندَنَا" بمعنى الموقعِ المكانيِّ إذ ليس اللهُ عزّ وجلّ مُجسداً ليكون له موقعٌ محددٌ مُجَسدٌ، فكُلُّ شيءٍ إنما هو "عِندَه" أي "بمُلكِهِ" ...
وتأمل في قوله تعالى:
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ، وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ {الأنعام :59}
أليستِ الورقةُ والحبَّةُ والرطبُ واليابسُ في الأرض التي نراها، فهي مُبينة واضحة؟
فكلُّ الخلق
في كِتَابٍ مُّبِينٍ ، أي
في خَلْقٍ مُّبِينٍ ...
وأخيراً تأمل قول الشاعر:
هذِهِ الدُّنْيا كِتابٌ أنتَ فيهِ الفِكْرُ
فعبارة "كتاب" لا ينبغي حصرها على معنى أحرفٍ وكلماتٍ تكتب على ورق أو لوحٍ. فنحن نعلم الآن أنَّه يمكن وضع الكتاب على جهاز حاسوب أو شريط مُمَغنط أو شريط كاسيت أو ما إلى ذلك من وسائل. لماذا لا يكون أكثر دقةً فيكونُ ثلاثيَّ الأبعاد حياً زاخراً تتفاعل مكوناته مع بعضها البعض؟
فمن الدارج عند الناس إنَّ صورة واحدة خيرٌ من ألف كلمة. فلو كتبت لك في ورقة: طيرٌ على الغصن، فستتخيلُ طيراً وغصناً من عندك ولكن لو أعطيتك صورةَ طير على غصن، فستعلم مباشرة وبالتحديد جميع مواصفات الطير والغصن. فالصورةُ أيضاً كتاب تقرؤه بعينك ولكنها تعطيك معلومات لا تقارن في كميتها ونوعيتها بتلك التي تعطيك الكتابة الخطية على الورقة.
أمَّا لو وضعتك في منظرٍ طبيعي حقيقي ثلاثيَّ الأبعاد فيه طيرٌ على الغصن، فلا بد وأنَّك ستعلم الكثير مما يتجاوز القراءة. إذ ستبصرُ بعينك المشهد مجسماً بما في ذلك المحيط البيئي كاملاً، وستستعملُ جميعَ حواسكَ الأخرى مثل الشمِّ والحسِّ بالحرارةِ والبرودةِ والطقس لتدرك الواقعَ تماماً، وبأدقِ تفاصيله.
لموضوع المقال:
http://alraqeem3.blogspot.com/2013/01/blog-post_27.html
لفلم المقال:
https://www.youtube.com/watch?v=cuoZvIy_NaQ
سبحانه وتعالى عما نقول علوا كبيرا
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على آخر المرسلين سيدنا محمد المصطفى الأمين
وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين
التأويل الواقعي المنظور للقرآن الكريم: الكتاب المبين في بعض الآيات القرآنية هو خلق السموات والأرض