تاريخ الحروب الصليبية ... (133)
The History Of The Crusades
------------------------------------------------------------------
مع أحداث الأيام الأخيرة من حياة البطل الفذ نور الدين محمود زنكي رحمه الله ؛ وعودة أولا إلى مستر استيفن رانسيمان ؛ ثم نكمل حديثنا من مصادرنا الإسلامية .
️ كيليكية
نشبت الحرب من جديد في الشمال في عام (568هـ/ 1173م)، ذلك أن الأمير الأرمني مليح استرسل فغزا أراضي الدولة البيزنطية في كيليكية، وانتزع من الحاميات البيزنطية المصيصة وأذنة وطرسوس، وهاجم الداوية(فرسان المعبد) في بغراس، وهدد الصليبيين في أنطاكية .
................
* إقليم كيليكيا : في شمال أقصى شرق المتوسط كان تابعا للدولة البيزنطية في ذلك الوقت (قيليقية) وعرف بأرمينية الصغرى.
* قلعة بغراس : هي قلعة أثرية تقع في جبال الأمانوس في لواء الإسكندرون جنوب تركيا. بُنيت القلعة على يد الإمبراطور البيزنطي نقفور الثاني فوكاس في العام 965 م، وقد تم إعادة بناءها على يد فرسان المعبد في العام 1153 م قبل أن يدخلها صلاح الدين الأيوبي في العام 1189 م.
* مليح : تحدثنا عنه الفقرة 127 ؛ يقول الذهبي : قال العماد الكاتب : كانت هذه البلاد يحميها متملك الروم (يقصد الإمبراطور البيزنطي مانويل كومنين) ويحفظها، فاستولى عليها مليح بن لاون النصراني.
قال: وذلك لأن السلطان نور الدين محمود بن زنكي كان يشد منه ويقوي جأشه، وكان كما يقال: قد سلط الكفرة على الفجرة. ..
فلما تقوى مليح بن لاون وجه صاحب الروم جيشا، فكسرهم ابن لاون، وأسر من مقدميهم ثلاثين نفسا. وذلك في ربيع الآخر سنة ثمان وستين وخمسمائة.
فبلغ ذلك نور الدين، فأرسل خلعا عليه، وكتب إلى الخليفة يعظم أمره ويقول: إن مليح بن لاون الأرمني من جملة غلمانه، وأنه كسر الروم، ويمن على الديوان بهذا. ومن هذا الوقت تملك هذا النكفور* هذه البلاد نيابة عن نور الدين لا غير، واستمر على ذلك.. (*يقصد مليح لأنه ينتمي لأسرة نيكفور التي صعدت لحكم بيزنطة عدة مرات)
وبلاد سيس هذه تعرف بالدروب، وتعرف بالعواصم، وبها كان الرباط والمثاغرة، وكان أمرها مضافا إلى مملكة مصر.
ويقول ابن العديم :
و كان نور الدّين قد استخدم مليح بن لاون، ملك الأرمن، و أقطعه أقطاعا من بلاد الإسلام، و حضر معه حروبا متعدّدة فأنجده في هذه السّنة بطائفة من عسكره، فدخل مليح إلى أذنه و طرسوس و المصّيصة، و فتحها من يد ملك الرّوم، و أرسل إلى نور الدّين كثيرا من غنائمهم و ثلاثين أسيرا من أعيانهم .
*سيس أو سيسية (بالأرمنية: Սիս) كانت مدينة تاريخية في قيليقيا اشتهرت في العصور الوسطى كعاصمة لمملكة قيليقيا الأرمينية. تقع أطلالها حاليا في بلدة قوزان بمحافظة أضنة بتركيا
* انظر الذهبي تاريخ الإسلام ج50 ص14؛ وابن الأثير الكامل ج9ص 380 وابن العديم زبدة الحلب ج2 ص507؛ وليم الصوري ص962-963. وانظر الويكيبيديا لمواقع البلاد.
...................
لم يكن باستطاعة الصليبيين أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام تهديدات مليح، فالتمس بوهيموند الثالث صاحب أنطاكية المساعدة من الملك عموري الأول، الذي شعر من الاطمئنان ما يكفي لأن يحمله على السير نحو الشمال إلى كيليكية لإنزال
العقاب بالأمير الأرمني لاعتدائه على ستيفن شامبين*، وأيضا للوفاء بما بذله من وعد للإامبراطور البيزنطي، وأعاد فيما يبدو الحكم البيزنطي، ولكن لبعض الوقت، كما منع الزعيم الأرمني من المضي في التوسع.
.......
(* استيفن شامبين : هذا الذي استدعوه من فرنسا ليتزوج بنت عموري سيبيلا و لم تعجبه، ورجع برا فجرده مليح من كل مايملك !!)
.......
إغتنم نور الدين محمود فرصة ابتعاد الملك عموري الأول عن مملكته بصحبة مايلز بلانسي صاحب الكرك، فأغار على إقليم الأردن، ودعا صلاح الدين إلى النهوض لمساعدته، فحاصر هذا حصن الكرك، ولما علم باقتراب نور الدين، فك الحصار عن الحصن وعاد أدراجه إلى القاهرة، كما ذكرنا .
وعسكر نور الدين محمود أمام الحصن، ولم تستطع ستيفاني ميللي، زوجة مايلز، الدفاع عنه، فالتمست المساعدة من بوهيموند الثاني صاحب تبنين فلم يسع نور الدين محمود عندئذ إلا الانسحاب ..
و إلتفت نور الدين محمود في هذا الوقت إلى العمل على توسيع نطاق الوحدة الإسلامية، ولم يشأ أن يضعف جبهة السلطان قلج أرسلان الثاني صاحب قونية، وهي جبهة إسلامية، وكان يأمل بمساعدة هذا الأخير في شن هجوم على أنطاكية ومضايقة البيزنطيين، فدعاه إلى الإنضمام إليه
لجهاد الصليبيين والبيزنطيين،...
لكن السلطان قلج ارسلان الثاني كان مرتبطاً بمعاهدة الدولة البيزنطية مع مانويل كومنين ، فخشي أن يعرضه التحالف مع نور الدين محمود لانتقام الإمبراطور، ولذلك أعرض عن طلبه، وأظهر معارضة لسياسته، ثم التقى بالامبراطور في عام (568 هـ/1172م) وأكد له حرصه على ما بينهما من الموادعة .
........
كان السلطان قلج أرسلان الثاني مرتبطاً بمعاهدة عدم اعتداء وتعاون مع مانويل كومنين، وقد أبرمت هذه المعاهدة في عام (558هـ/ ١١٦٢م) على إثر الزيارة المشهورة التي قام بها السلطان إلى العاصمة البيزنطية. انظر فيما يتعلق بهذه الزيارة والنتائج التي ترتبت عليها. ابن العبري: ص175 ؛وانظر:
Michel le Syrien: III p319.& Nicetas: pp156, 185. Kinnamos
........
وتجاه هذا الرفض السلجوقي لم يجد نور الدين محمود مخرجاً لإخضاع السلطان قلج أرسلان الثاني سوى الضغط عليه من واقع مهاجمة أملاكه، وجاء إلحاح حليفيه مليح الأرمني وذي النون الدانشمندي، لمهاجمة أراضيه، ما دفعه إلى ترؤسهم،..
وراح يهاجم الممتلكات السلجوقية، فانتزع بهسنا ومرعش وما بينهما من الحصون التابعة لقلج أرسلان الثاني، ثم أرسل قوة عسكرية إلى سيواس عاصمة آل دانشمند فدخلتها وثبتت حكم ذي النون فيها، ولم يجرؤ السلطان قلج أرسلان الثاني على التصدي لها .
وأخيراً التقى الجانبان في قيصرية، فعسكر الحلفاء على مشارف نهر بیراموس، في حين عسكر السلطان قلج أرسلان الثاني على الضفة الأخرى للنهر، وظلا متواجهين مدة ستة أشهر من دون قتال ..
وعندما رأى السلطان السلجوقي مدى قوة أعدائه، مال إلى الصلح إذ رأى فيه المخرج الوحيد من المأزق، فراسل نور الدين محمود من أجل هذه الغاية، وتوقفت الأعمال العسكرية خلال ذلك .
وكان الذي دفع نور الدين محمود إلى قبول التفاوض، وهو الأقوى على الساحة ، هو اشتداد الضغط الصليبي على ممتلكاته في بلاد الشام حيث نزل الصليبيون آنذاك في مدينة حمص"، بالإضافة إلى تحقق هدفه بضم السلطان قلج أرسلان الثاني إلى الجبهة الإسلامية المتحدة.
وقد أورد ابن الأثير جانباً من الاتفاق والمطالب التي أصر نور الدين محمود على تنفيذها، وهي :
︎ـ أن يجدد السلطان السلجوقي إسلامه على يد رسوله الذي أرسله له للتفاوض، علماً بأن نور الدين محمود لم يعتقد بإيمان السلطان السلجوقي المتهم باعتناقه مذهب الفلاسفة .
︎ـ أن يقدم له قوة عسكرية عند الحاجة لأنه ملك طرفاً كبيراً من بلاد الإسلام، وترك جهاد الروم وهادنهم، وخيره إما أن ينجده بعسكره لقتال الصليبيين وإما أن يجاهد الروم .
︎ـ أن يزوج السلطان السلجوقي ابنته من سيف الدين غازي، ابن أخي نور الدين ..
فلما علم السلطان قلج بمضمون الرسالة قال : «ما قصد نور الدين إلا الشناعة ، علي بالزندقة وقد أجبته إلى ما طلب أنا أجدد إسلامي على يد رسوله » .
نلاحظ مما ورد أعلاه، بشأن بنود الاتفاق، أن ابن الأثير اكتفى بذكر الأمور المتعلقة بجهاد المسيحيين وتخص نور الدين محمود في الوقت نفسه، ...
ولم يذكر الأمور الأخرى المتعلقة بأوضاع الأمراء المسلمين في آسيا الصغرى ومنطقة الفرات وكيفية ترتيب شؤونهم، سوى إشارة عابرة وردت في سياق الرواية، عندما ذكر أنه بعد إقرار الصلح « عاد نور الدين وترك عسكره في سيواس مع فخر الدين عبد المسيح في خدمة ذي النون الدانشمندي، فبقي العسكر بها إلى أن توفي نور الدين، فرحل العسكر عنها، وعاد قلج أرسلان وملكها » .
إلا أننا نستطيع استكمال صورة المفاوضات والمطالب مما أوردته المصادر المسيحية وهي على الشكل التالي :
على قلج أرسلان أن :
︎- يطلق سراح الأسرى الذين أسرهم أثناء محاولته اقتحام ملطية .
︎ـ يعيد المقاطعات الخاصة بكل من شاهنشاه وذي النون إليهما .
︎- يطلق سراح أولاد أخيه شاهنشاه الأربعة المعتقلين عنده .
قبل السلطان قلج أرسلان الثاني تنفيذ البند الأول، ورفض تنفيذ البندين الآخرين، عند ذلك شدد الحلفاء الضغط عليه، فهدد بقتل أولاد أخيه، وأخيراً تم الاتفاق على ما يلي :
︎ـ إعادة قيصرية إلى ذي النون وتثبيته في سيواس .
︎- تثبيت شاهنشاه في أنقرة .
*شاهنشاه : أخو قلج الثاني
.........
* طبعا مصدره هنا وليم الصوري ؛ ونعتقد أن نقطة تهديد قلج بقتل أولاد أخيه انفرد بها الصوري ولا سند له. وقد علق د. الصلابي على موقف نور الدين قائلا :
{وفي هذا الموقف يجعل نور الدين من نفسه مسؤولاً عن جميع المسلمين وعن بلادهم، ويتوجب عليه بناءً على هذه المسؤولية ألا يسمح بتولي حاكم غير مؤمن على بلاد المسلمين ؛ إن نور الدين تولد لديه إحساس بالمسؤولية بناء عن فهمه الصحيح للشريعة الإسلامية، فهو يعتبر نفسه جندياً في خدمة الدين، وروي عنه قوله : نحن شحنٌ لها " للشريعة " نمُضي أوامراها .
........
️ مؤامرة الحشيشية وعموري لاغتيال نور الدين
ارتاح الملك عموري الأول لارتداد نور الدين محمود عن حصن الكرك وتوجهه إلى الشمال بعيداً عن ممتلكاته، وتجدد الأمل لديه بالتخلص من الخطر المحدق به من جانب المسلمين عندما تناهى إلى أسماعه خبر وقوع الوحشة بينه وبين صلاح
الدين، وأتيحت له الفرصة للاتصال بفرقة الحشيشية الإسماعيلية في بلاد الشام، وقد جمعت الطرفان مصلحة مشتركة هي العداء لنور الدين محمود .
كانت هذه الطائفة تمتلك حصوناً عدة مهمة في بلاد الشام، مثل القدموس والعليقة والكهف ومصياف وغيرها، والواضح أن أفرادها ارتاعوا لزوال الدولة الفاطمية وانتصار المذهب السني في مصر، وشعروا بالخطر يتهددهم في بلاد الشام،
وبخاصة أن نور الدين محمود قيد توسعهم على الطرف الشرقي، غير أنه لم يستطع أن يقمعهم، وإذ عثر على خنجر ذات ليلة على وسادته، كان ذلك نذيراً بألا يتمادى في مناوأتهم .
واتصلت فرقة الحشيشية بالملك عموري الأول للتنسيق معه على مواجهة نور الدين محمود، وأرسلت قيادتها في ألموت بفارس في عام (564هـ/1169م) حاكماً جديداً ليتولى إقليم النصيرية يدعى رشيد الدين سنان البصري، واشتهر عند الصليبيين باسم شيخ الجبل، فاتصل بالملك الصليبي وعرض عليه إقامة تحالف مناهض لنور الدين محمود مقابل إعفاء الحشيشية من الضريبة التي فرضتها عليهم الداوية في
أنطرسوس.
ونتيجة للنظرة السياسية التقليدية المعادية لنور الدين محمود، فرح الملك عموري الأول بتشجيع الصداقة مع شيخ الجبل في أشد الأوقات حرجاً ورحب بعرضه، آملاً بما لدى الحشيشية من خبرة بأوضاع البلاد الإسلامية وحكامها، أن تكون هذه الطائفة ذات فائدة كبيرة للصليبيين، فكتب إلى الداوية يأمرهم بقبول العرض،..
لكن العداء القديم بين الطرفين(*الحشيشة والداوية) وغضب الداوية من حرمانها من الضريبة(*بقرار عموري) التي اعتادت جبايتها ؛ دفعت أفرادها إلى الإجهاز على سفارة رشيد الدين سنان أثناء اجتيازها أراضي إمارة طرابلس .
وهكذا حال الداوية بين تحالف القوتين الصليبية والحشيشية لمناواة نور الدين محمود ، وكان طبيعياً أن يغضب الملك عموري الأول، إذ تعرضت سياسته للدمار، وأثار نزاعاً بينه وبين مقدم الداوية "أودو سانت أماند" استوجب رفعه إلى البابا للفصل فيه . (☆1)
--------------------------------------------------------------------
️ نعود إلى مصادرنا الإسلامية لنؤكد على ما قلناه في الفقرة السابقة عن الخلاف بين صلاح الدين و قائده نور الدين و هذه المرة الرأي للدكتور أحمد الشامي (☆2) يقول :
على أن وحشة ( جفوة ) حدثت بين صلاح الدين ونور الدين محمود ، كان من أسبابها ان صلاح الدين بعث برسول له الى الخليفة العباسي ليبشره بعودة مصر الى حكمه وانتهاء الخلافة الفاطمية ؛ فاعتبر نور الدين محمود هذا التصرف إهانه له ، واهمالا لشأنه خاصة وان صلاح الدين الأيوبي يحكم في مصر باسمه ، باعتباره نائبا له ، وكان يكتب اليه: "الأمير الأسفهسلار صلاح الدين وكافة الامراء بالديار المصرية يفعلون كذا "
ومن ناحية أخرى كان نور الدين محمود متخوفا من أن يستقل صلاح الدين بحكم مصر ، فتضيع جهوده التي بذلها ليضم مصر إلى نفوذه ليستكمل تكوين الجبهة الإسلامية
المتحدة لضرب الصليبيين وطردهم من أرض المسلمين .
ويرى ابن الاثير ان السبب الرئيسي لهذه الوحشة ( الجفوة ) بين الرجلين ، هو :
{ أن صلاح الدين خرج في صفر سنة 568ھ / سبتمبر 1172م ، وحاصر حصن الشوبك ، وأطبق على ما به من الصليبيين حتى طلبوا الأمان وأمهلة عشرة أيام لتسليم الحصن ، وانتهز نور الدين محمود فرصة وجود صلاح الدين على حصن الشوبك ، وأراد أن ينتزع حصن الكرك من الصليبيين وكان يبعد مسيرة يوم من الشوبك ، فخرج على رأس قواته متجها الى الكرك .
فلما سمع صلاح الدين بتحرك نور الدين محمود وقواته ، فك الحصار عن حصن الشوبك ، ورجع قافلا مع قواته الى مصر ، وكتب ألى نور الدين محمود يعتذر إليه بأن بقايا الفاطميين على وشك اشعال ثورة بها ، وأن الامور مضطربة فيها ، مما يتطلب عودته فورا اليها }...*الكامل، ابن الأثير ج11 ص371- 372
{ويبدو أن صلاح الدین خشى أن يقبض عليه نور الدين محمود اذا رآه ، وأن يعزله ويعين على مصر أميرا من أتباعه} *الكامل ج11،ص398-399
ويعلق د. أحمد في الهامش قائلا :
"هناك آراء تصف ابن الاثير بالمبالغة فيما ذكره عن هذه الوحشة. راجع جيب اليسار العربي لحياة الصلاحين ، سبوكولم ، 1950 ، ص. 58-72."
ثم يشرح تفصيلا :
ومع كل ما ذكر من أسباب يبقى الرأي الأول مرجحا على غيره من الآراء(*أي انصرافه لقلقه الشديد على مصر و مرض والده أيوب) ، والدليل على ذلك المؤامرة الكبرى التي دبرها مؤتمن الخلافة جوهر ومن معه من الفاطميين مما سنذكره بالتفصيل لإعادة مصر الى حكم الفاطميين .
ثم إن صلاح الدين كان ملزما بالزحف بقواته إلى حصن الأكراد لمساعدة نور الدين محمود ، وكان من الممكن جدا أن يتمرد الصليبيون في حصـن الشوبك ، ولا يسلموا الحصن لصلاح الدين حسب تعهدهم له ، وما أكثر ما ضرب الصليبيون باتفاقاتهم مع المسلمين وغيرهم عرض الحائط ، ..
وفي هذه الحالة لن يستطيع صلاح الدين التوجه الى حصن الكرك لمساعدة نور الدين محمود لأن هذين الحصنين ممتنعان ومحصنان ، ويحتاج كل منهما الى زمن طويل ، وجهد عظيم للاستيلاء عليه ، لانه سيكون مجبرا اما لمواصلة الحصار على
الشوبك ، أو فك الحصار والعودة الى مصر ، وهذا ما حدث .
ويذكر العماد الأصفهاني وابن واصل وغيرهما من المؤرخين أن صلاح الدين عندما خرج لغزو الفرنجة في الشوبك والكرك بعث الى سيده وقائده نور الدين محمود بالهدايا التي جمعها من قصور الخلافة الفاطمية وكان من ضمن هذه الهدايا فيل وحمار وحشى (عتابية) وذخائر ومتعة ومجوهرات غالية مثل الميشم ، وبلخش(*أحجار كريمة) واللؤلؤ والطيب والعطر وغرائب المصنوعات وستون ألف دينار ذهبا ..
فلما وصل صلاح ألى بلاد الكرك والشوبك اغار عليهما ، وخرب أراضيهما وعماراتهما ، وشن الغارات على أعمالهما وكانت هذه أول اغارات صلاح الدين على الفرنجة من مصر في أوائل سنة 568ھ/1172م ، وقد بدأ بهذين الحصنين لقربهما من مصر ، وفي طريقها ، وكان الصليبيون المقيمون فيهما يتصدون للقوافل القادمة الى مصر فيمنعونها ويغيرون عليها .
وكان صلاح الدين يخرج إلى كل قافلة قادمة ليحميها حتى تعبر طريق هذين الحصنين فأراد من الإغارة والإستيلاء عليهما إزالة مخاطرهما من طـريق القوافل، وإشاعة الطمأنينة والأمان للقادمين من الشام والمغادرين مصر ومع ذلك استعصى كل من الحصنين عليه .
وقد أرسل صلاح الدين هذه الهدايا كلها الى نور الدين محمود وبعث بكتاب رقيق من انشاء القاضي الفاضل عبد الرحيم ، يشرح فيه أسباب خروجه لمهاجمة الكرك والشوبك ، ويمدح فيه سيده وقائده لجهاده ضد هؤلاء الفرنجة..الخ ..
... وعندما وصلت هذه الهدايا الى نور الدين محمود سنة 568هـ وهو.بحلب استقلها ولم تقع منه بموقع ، ومع ذلك أبدي شكره لصلاح الدين عليها .
ونحن نستدل على عدم رضاء نور الدين عن هذه الهدايا بما ورد في المصادر التاريخية :
︎أولا ـ قول نور الدين : « ما كان بنا حاجة الى هذا المال ، وهو - يقصد صلاح الدين - يعلم أنا ما أنفقنا الذهب في ملك مصر وبنا فقر إلى هذا الذهب ، وإن هذا المحمول - الهدايا - لا توازي ولا تساوى ما جدنا به من مقدار ، وهو يعلم ان ثغور الشام تحتاج الى عدد وفير من الجند ، فقد عم البلاء بالفرنج ، وينبغي أن يسارع صلاح الدين بتقديم المساعدات والمعونات » . *ابن واصل : مفرج الكروب ج ۱ ص ٢٢٦
وواضح أن نور الدين محمود كان يريد أن يقوى جبهة الشام بالجنود والذخيرة من جانب صلاح الدين بعد أن تم له ملك مصر ، وقد أوضح نور الدين غرضه فهو يريد ان ينتهز هذه الفرصة التي أصيب الفرنج فيها بالبلاء والضعف والتفكك لينزل بهم ضربة قاسمة ويتوج جهاده بالانتصار عليهم وازالة موضعهم من بلاد المسلمين . *بارك الله فيك يا دكتور
︎ثانيا - الدليل على استهانة نور الدين محمود بالهدايا التي أرسلت إليه وعدم قبوله إياها انه أخذ يوزعها فأهدى الفيل الى ابن أخيه سيف الدين غازی² بن قطب الدين مودود ـ صاحب الموصل - مع شيء من الثياب والعـود..إلخ ، كما بعث نور الدين بالحمار الوحشي الى الخليفة العباسي ؛ والعنبر ومعه شيء من الهدايا الأخرى كذلك .
︎ثالثا ـ كان نور الدين يأمل أن يرسل صلاح الدين الأيوبي اليه ما يستعين به على مواصلة الجهاد من تلقاء نفسه ، خصوصا وانه من المقربين إلى نور الدين محمود ، ويعرف تماما ماذا ينفق على أمور الجهاد واعداد الجيوش وامدادها بالذخيرة والمال ،
ولكن عندما تباطا صلاح الدين وأرسل الهدايا التي استقلها نور الدين ولم ترقه ، حينئذ كلف نور الدین متولی ديوان الاستيفاء وهو موفق الدين خالد بن القيسراني بالذهاب إلى مصر وأن يقيم أعمال مصر ودخلها ويكتب ذلك في أوراقه حتى يمكن له تقـرير المال الذي يرسله اليه صلاح الدين •
* ابن واصل : المصدر نفسه ، ص ۲۳۲
.......
*وفعلا يادكتور استقبله صلاح الدين بالترحاب و سمح له بممارسة عمله والقيام بمهمته التي أسندها إليه نور الدين .
........
وإذا أمعنا النظر إلى ما قاله نور الدين محمود فانه يريد إمدادات عسكرية من صلاح الدين ، فإذا ارسلها الأخير فسوف يتناقص عدد جنوده ، وتضعف إمكاناته في هذا الوقت الذي يحتاج فيه إلى كامل قوته ، وسوف يصبح هدفا سهلا لهجمات الصليبيين أو الغارات أتباع الدولة الفاطمية الذين يتربصون به ليتخلصوا منه ومن دولته في مصر .
وهذا في رأينا ما دفع صلاح الدين إلى العودة إلى مصر لكي يحتفظ بملكه الجديد . (☆2)
---------------------
*ونضيف إلى كلامك يا دكتور أحمد ما كتبه د. محمد سهيل :
{ وعندما أرسل إليه صلاح الدين بعض الهدايا والأموال التي حازها بعد وضع يده على قصور الفاطميين قال :
(ما كانت بنا حاجة إلى هذا المال، ولا نسد به خلة الإقلال، فهو يعلم أنا ما أنفقنا الذهب في ملك مصر وبنا إلى الذهب فقر، وما لهذا المحمول في مقابلة ما جدنا به قدر . . . ولكنه يعلم أن ثغور الشام مفتقرة إلى السواد ، ووفور الأعداد من الأجناد، وقد عم بالفرنج بلاء البلاد، فيجب أن يقع التعاقد على الإمداد بالمعونة ، والمعونة بالإمداد).
وفي هذا القول تلخيص رائع لخطته، وأمله ،وحقه، والمرارة، والخيبة، التي كان يشعر بها .
أما صلاح الدين فقد كان مقتنعاً، نتيجة للصراع بين القوى الثلاث في الشرق الأدنى، الإسلامية والصليبية والبيزنطية، حول مصر؛ بأن هذا البلد يشكل في الوقت الراهن مركز الثقل في العمليات العسكرية، كما كان أكثر وعياً من نور الدين محمود للأخطار الناجمة عن عداء الفاطميين، واستعداد قواتهم السابقة للانضمام إلى الصليبيين.
ويتجلى مدى جدية هذا الخطر بنظره في حقيقة كون الدفاع عن مصر ضد هجوم مفاجيء قد بقي واحداً من اهتماماته الدائمة حتى آخر حياته .
غير أن الامتداد المتواصل لنفوذه وقوته التي كانت في عام (566 هـ/ ١١۷١ م) تضاهي القوات الموجودة بتصرف نور الدين محمود، ربما جعلت هذا الأخير قلقاً ..
نتيجة لهذا الاختلاف في وجهات النظر السياسية، كانت تصرفات أحد الرجلين تفسّر على أنها موجهة ضد الرجل الآخر. "
"وتناهت إلى مسامع صلاح الدين، في هذه الأثناء، أنباء قيام
ثورة السودانيين في مصر، فخشي العاقبة وضياع فخشي العاقبة وضياع الأمور من يده . عندئذ رفع الحصار عن الحصن وانسحب عائداً إلى مصر، وكتب إلى نور الدين محمود يعتذر باختلال أوضاع مصر، واتجاه بعض الشيعة إلى القيام بثورة على حكمه، واضطراره إلى مساعدة أخيه الذي يحارب بقايا الفاطميين في الصعيد } *ص٣٨-٣٩
" انسحب بجيشه عائداً إلى مصر متذرعاً بمرض والده إذ يخاف أن تحدث عليه علة الموت فتخرج البلاد من أيديهم .
والواضح أن هذه الحجة كانت صحيحة، وصدق صلاح الدين في قوله، فقد اشتدت العلة على والده بعد سقوطه عن فرسه، فخشي إن توفي أن يتزعزع مركزه في مصر . وتوفي نجـم الـديـن أيـوب في (شهر ذي الحجة عام 568 هـ/ شهر آب عام
۱۱۷۳ م) قبل أن يعود صـلاح الـديـن إلى القاهرة"} . *ص٤٠
*انظر : تاريخ الأيوبيين (☆3)
---------------------------------------------------------------------
وفاة نور الدين محمود 15 مايو 1174م
قال العماد الأصفهاني : وأمر نور الدين رحمه الله تعالى بتطهير (ختان) ولده الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر، واحتفلنا لهذا الأمر، وغُلقَّت محالُّ دمشق أياما.
قال : وفي يوم العيد يوم الأحد ركب نور الدين على الرّسم المعتاد محفوفاً من الله بالإسعاد، مكنوفاً من السماء والأرض بالأجناد، والقدر يقول له : هذا آخر الأعياد !!
ووقف في الميدان الأخضر الشمالي لطعن الحلق، ورمي القبق وكان قد ضرب خيمته في الميدان القبلي الأخضر، وأمر بوضع المنبر.
وخطب له القاضي شمس الدين ابن الفَّراش قاضي العسكر، بعد أن صلَّى به وذكَّر، وعاد القلعة، طالع البهجة بهيج الطلعة، وأنهب سِماطه العام على رَسْم الأتراك، وأكابر الأملاك، ثم حضرنا على خوانه الخَاص، وله عقد كمال مصون من الانتقاض والانتقاص ...
وفي يوم الاثنين ثاني العيد بكَّر وركب وجمَّل الموكب ... ودخل الميدان والعظماء يسايرونه، والفهماء يحاورونه، وفيهم همام الدَّين مودود، وهو في الأكابر معدود، وكان قديماً في أوّل دولته وإلى حلب وقد جّرب الدهر بحنتكه..
فقال لنور الدين في كلامه عظة لمن يغتر بأيامه :
هل نكون ههنا في مثل هذا اليوم في اليوم في العام القابل ؟
فقال نور الدين : قل هل نكون بعد شهر، فإنَّ السِنة بعيدة، فجرى على منطقها ما جرى به القضاء السَّابق، فإن نور الدين لم يصل إلى الشهر والهمام لم يصل إلى العام، ثم شرع نور الدين في اللغب بالكُرة مع خّواصه، ..
فاعترضه في حاله أمير آخر اسمه يَرَنْقُشى وقال له : ياش ، فأحدث له الغيط والاستيحاش، واغتاظ على خلاف مذهبه الكريم، وخلقه الحليم، فزجره وزبره ونهاه ونهره، وساق ودخل القلعة ونزل، واحتجب واعتزل،...
فبقي أسبوعاً في منزله، مشغولاً بنازله، مغلوباً عن عاجلة بحديث آجله والنَّاس من الختان لا هون بأوطارهم في الأوطان، فهذا يروح بجوده، وذاك يجود بروحه، فما انتهت تلك الأفراج إلاَّ بالأتراح، وما صلح الملك بعده إلا بملك الصالح ...
قال : واتصل مرض نور الدين وأشار عليه الأطباء بالقصد فامتنع، وكان مهيباً فما روجع، وانتقل حادي عشر شوال يوم الأربعاء من مربع الفناء إلى مرتع البقاء ولقد كان من أولياء الله المؤمنين وعباده الصالحين .
، وكانت وفاة نور الدين رحمه الله تعالى بسبب خوانيق اعتزته عجز الأطباء عن علاجها .
" وقد توفي يوم الأربعاء الحادي عشر من شّوال سنة تسع وستين وخمسة مئة" ودفن بقلعة دمشق ثم نقل إلى تربة تجاور مدرسته التي بناها لأصحاب أبي حنيفة رحمه الله جوار الخوَّاصين في الشارع الغربي رحمه الله تعالى .
وكان رحمه الله حريصاً على الشهادة وكان يقول : طالماً تعرضت للشهادة فلم أدرك .
وقال الذهبي : نور الدين الشهيد ..
، وقد رثاه الشعراء بقصائد رائعة من أحسنها ما قاله العماد الأصفهاني :
الدَّين في ظُلم لغيبة نوره
والدهُر في غُمم لفقد أميره
فليندُبِ الإسلامُ حامَي أهله
والشام حافظ ملكه وثغوره
من للمساجد والمدارس بايناً
لله طوعاً عن خُلُوصِ ضَمِيره
من للفرنج ومن لأسر ملوكها
من للهُدى يبغي فكاك أسيره
من للبلاد ومن لنصر جيوشها
من للجهاد ومن لحفظ أمُوره
من للفتوح محاولاً أبكارها
برواحه في غزوه وبكوره
أوَمَا وعدت القُدْسَ أنك منُجِزٌ
ميعاده في فتحه وظهوره
فمتى تجير القُدْسَ من دَنسِ العِدَى
وتقِدَّس الرحمن في تطهيره
حَيَّاك مُعْتلُّ الصَّبا بنسيمه
وسقاك مُنْهَلُ الحيا بدروره
ولبسْتَ رضوان المهيمن ساحِباً
أذيال سُندس خزَّه وحريره
وسكنت علَّيَّين في فِرْدَوْسِهِ
حِلفَ المسَرَّة ظافراً بأجوره
وبعد وفاة نور الدين حمل راية الجهاده تلميذه الذكي وجنديه المخلص صلاح الدين الأيوبي الذي بنى جهاده على ما أسَّسه نور الدين من جهاد المشركين وقام بذلك على أكمل الوجوه وأتمها.
رحم الله البطل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكى بن آق سنقر الحاجب التركماني قسيم الدولة أميرحلب فيى عهد ملكشاه بن ألب أرسلان رحمهم الله . (☆4)
---------------------------------------------------------------------
الفقرة القادمة إن شاء الله : الحروب الصليبية في عهد :
الناصر صلاح الدين الأيوبي
--------------------------------------------------------------------
(☆1) تاريخ الحملات الصليبية استيفن رانسيمان ج2
(☆2) صلاح الدين و الصليبيون د. أحمد الشامي
(☆3) تاريخ الأيوبيين في مصر و بلاد الشام والجزيرة ، محمد سهيل طقوش .
(☆4)الدولة الزنكية د. علي محمد الصلابي
---------------------------------------------------------------------
تابعوا #الحروب_الصليبية_جواهر
The History Of The Crusades
------------------------------------------------------------------
مع أحداث الأيام الأخيرة من حياة البطل الفذ نور الدين محمود زنكي رحمه الله ؛ وعودة أولا إلى مستر استيفن رانسيمان ؛ ثم نكمل حديثنا من مصادرنا الإسلامية .
️ كيليكية
نشبت الحرب من جديد في الشمال في عام (568هـ/ 1173م)، ذلك أن الأمير الأرمني مليح استرسل فغزا أراضي الدولة البيزنطية في كيليكية، وانتزع من الحاميات البيزنطية المصيصة وأذنة وطرسوس، وهاجم الداوية(فرسان المعبد) في بغراس، وهدد الصليبيين في أنطاكية .
................
* إقليم كيليكيا : في شمال أقصى شرق المتوسط كان تابعا للدولة البيزنطية في ذلك الوقت (قيليقية) وعرف بأرمينية الصغرى.
* قلعة بغراس : هي قلعة أثرية تقع في جبال الأمانوس في لواء الإسكندرون جنوب تركيا. بُنيت القلعة على يد الإمبراطور البيزنطي نقفور الثاني فوكاس في العام 965 م، وقد تم إعادة بناءها على يد فرسان المعبد في العام 1153 م قبل أن يدخلها صلاح الدين الأيوبي في العام 1189 م.
* مليح : تحدثنا عنه الفقرة 127 ؛ يقول الذهبي : قال العماد الكاتب : كانت هذه البلاد يحميها متملك الروم (يقصد الإمبراطور البيزنطي مانويل كومنين) ويحفظها، فاستولى عليها مليح بن لاون النصراني.
قال: وذلك لأن السلطان نور الدين محمود بن زنكي كان يشد منه ويقوي جأشه، وكان كما يقال: قد سلط الكفرة على الفجرة. ..
فلما تقوى مليح بن لاون وجه صاحب الروم جيشا، فكسرهم ابن لاون، وأسر من مقدميهم ثلاثين نفسا. وذلك في ربيع الآخر سنة ثمان وستين وخمسمائة.
فبلغ ذلك نور الدين، فأرسل خلعا عليه، وكتب إلى الخليفة يعظم أمره ويقول: إن مليح بن لاون الأرمني من جملة غلمانه، وأنه كسر الروم، ويمن على الديوان بهذا. ومن هذا الوقت تملك هذا النكفور* هذه البلاد نيابة عن نور الدين لا غير، واستمر على ذلك.. (*يقصد مليح لأنه ينتمي لأسرة نيكفور التي صعدت لحكم بيزنطة عدة مرات)
وبلاد سيس هذه تعرف بالدروب، وتعرف بالعواصم، وبها كان الرباط والمثاغرة، وكان أمرها مضافا إلى مملكة مصر.
ويقول ابن العديم :
و كان نور الدّين قد استخدم مليح بن لاون، ملك الأرمن، و أقطعه أقطاعا من بلاد الإسلام، و حضر معه حروبا متعدّدة فأنجده في هذه السّنة بطائفة من عسكره، فدخل مليح إلى أذنه و طرسوس و المصّيصة، و فتحها من يد ملك الرّوم، و أرسل إلى نور الدّين كثيرا من غنائمهم و ثلاثين أسيرا من أعيانهم .
*سيس أو سيسية (بالأرمنية: Սիս) كانت مدينة تاريخية في قيليقيا اشتهرت في العصور الوسطى كعاصمة لمملكة قيليقيا الأرمينية. تقع أطلالها حاليا في بلدة قوزان بمحافظة أضنة بتركيا
* انظر الذهبي تاريخ الإسلام ج50 ص14؛ وابن الأثير الكامل ج9ص 380 وابن العديم زبدة الحلب ج2 ص507؛ وليم الصوري ص962-963. وانظر الويكيبيديا لمواقع البلاد.
...................
لم يكن باستطاعة الصليبيين أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام تهديدات مليح، فالتمس بوهيموند الثالث صاحب أنطاكية المساعدة من الملك عموري الأول، الذي شعر من الاطمئنان ما يكفي لأن يحمله على السير نحو الشمال إلى كيليكية لإنزال
العقاب بالأمير الأرمني لاعتدائه على ستيفن شامبين*، وأيضا للوفاء بما بذله من وعد للإامبراطور البيزنطي، وأعاد فيما يبدو الحكم البيزنطي، ولكن لبعض الوقت، كما منع الزعيم الأرمني من المضي في التوسع.
.......
(* استيفن شامبين : هذا الذي استدعوه من فرنسا ليتزوج بنت عموري سيبيلا و لم تعجبه، ورجع برا فجرده مليح من كل مايملك !!)
.......
إغتنم نور الدين محمود فرصة ابتعاد الملك عموري الأول عن مملكته بصحبة مايلز بلانسي صاحب الكرك، فأغار على إقليم الأردن، ودعا صلاح الدين إلى النهوض لمساعدته، فحاصر هذا حصن الكرك، ولما علم باقتراب نور الدين، فك الحصار عن الحصن وعاد أدراجه إلى القاهرة، كما ذكرنا .
وعسكر نور الدين محمود أمام الحصن، ولم تستطع ستيفاني ميللي، زوجة مايلز، الدفاع عنه، فالتمست المساعدة من بوهيموند الثاني صاحب تبنين فلم يسع نور الدين محمود عندئذ إلا الانسحاب ..
و إلتفت نور الدين محمود في هذا الوقت إلى العمل على توسيع نطاق الوحدة الإسلامية، ولم يشأ أن يضعف جبهة السلطان قلج أرسلان الثاني صاحب قونية، وهي جبهة إسلامية، وكان يأمل بمساعدة هذا الأخير في شن هجوم على أنطاكية ومضايقة البيزنطيين، فدعاه إلى الإنضمام إليه
لجهاد الصليبيين والبيزنطيين،...
لكن السلطان قلج ارسلان الثاني كان مرتبطاً بمعاهدة الدولة البيزنطية مع مانويل كومنين ، فخشي أن يعرضه التحالف مع نور الدين محمود لانتقام الإمبراطور، ولذلك أعرض عن طلبه، وأظهر معارضة لسياسته، ثم التقى بالامبراطور في عام (568 هـ/1172م) وأكد له حرصه على ما بينهما من الموادعة .
........
كان السلطان قلج أرسلان الثاني مرتبطاً بمعاهدة عدم اعتداء وتعاون مع مانويل كومنين، وقد أبرمت هذه المعاهدة في عام (558هـ/ ١١٦٢م) على إثر الزيارة المشهورة التي قام بها السلطان إلى العاصمة البيزنطية. انظر فيما يتعلق بهذه الزيارة والنتائج التي ترتبت عليها. ابن العبري: ص175 ؛وانظر:
Michel le Syrien: III p319.& Nicetas: pp156, 185. Kinnamos
........
وتجاه هذا الرفض السلجوقي لم يجد نور الدين محمود مخرجاً لإخضاع السلطان قلج أرسلان الثاني سوى الضغط عليه من واقع مهاجمة أملاكه، وجاء إلحاح حليفيه مليح الأرمني وذي النون الدانشمندي، لمهاجمة أراضيه، ما دفعه إلى ترؤسهم،..
وراح يهاجم الممتلكات السلجوقية، فانتزع بهسنا ومرعش وما بينهما من الحصون التابعة لقلج أرسلان الثاني، ثم أرسل قوة عسكرية إلى سيواس عاصمة آل دانشمند فدخلتها وثبتت حكم ذي النون فيها، ولم يجرؤ السلطان قلج أرسلان الثاني على التصدي لها .
وأخيراً التقى الجانبان في قيصرية، فعسكر الحلفاء على مشارف نهر بیراموس، في حين عسكر السلطان قلج أرسلان الثاني على الضفة الأخرى للنهر، وظلا متواجهين مدة ستة أشهر من دون قتال ..
وعندما رأى السلطان السلجوقي مدى قوة أعدائه، مال إلى الصلح إذ رأى فيه المخرج الوحيد من المأزق، فراسل نور الدين محمود من أجل هذه الغاية، وتوقفت الأعمال العسكرية خلال ذلك .
وكان الذي دفع نور الدين محمود إلى قبول التفاوض، وهو الأقوى على الساحة ، هو اشتداد الضغط الصليبي على ممتلكاته في بلاد الشام حيث نزل الصليبيون آنذاك في مدينة حمص"، بالإضافة إلى تحقق هدفه بضم السلطان قلج أرسلان الثاني إلى الجبهة الإسلامية المتحدة.
وقد أورد ابن الأثير جانباً من الاتفاق والمطالب التي أصر نور الدين محمود على تنفيذها، وهي :
︎ـ أن يجدد السلطان السلجوقي إسلامه على يد رسوله الذي أرسله له للتفاوض، علماً بأن نور الدين محمود لم يعتقد بإيمان السلطان السلجوقي المتهم باعتناقه مذهب الفلاسفة .
︎ـ أن يقدم له قوة عسكرية عند الحاجة لأنه ملك طرفاً كبيراً من بلاد الإسلام، وترك جهاد الروم وهادنهم، وخيره إما أن ينجده بعسكره لقتال الصليبيين وإما أن يجاهد الروم .
︎ـ أن يزوج السلطان السلجوقي ابنته من سيف الدين غازي، ابن أخي نور الدين ..
فلما علم السلطان قلج بمضمون الرسالة قال : «ما قصد نور الدين إلا الشناعة ، علي بالزندقة وقد أجبته إلى ما طلب أنا أجدد إسلامي على يد رسوله » .
نلاحظ مما ورد أعلاه، بشأن بنود الاتفاق، أن ابن الأثير اكتفى بذكر الأمور المتعلقة بجهاد المسيحيين وتخص نور الدين محمود في الوقت نفسه، ...
ولم يذكر الأمور الأخرى المتعلقة بأوضاع الأمراء المسلمين في آسيا الصغرى ومنطقة الفرات وكيفية ترتيب شؤونهم، سوى إشارة عابرة وردت في سياق الرواية، عندما ذكر أنه بعد إقرار الصلح « عاد نور الدين وترك عسكره في سيواس مع فخر الدين عبد المسيح في خدمة ذي النون الدانشمندي، فبقي العسكر بها إلى أن توفي نور الدين، فرحل العسكر عنها، وعاد قلج أرسلان وملكها » .
إلا أننا نستطيع استكمال صورة المفاوضات والمطالب مما أوردته المصادر المسيحية وهي على الشكل التالي :
على قلج أرسلان أن :
︎- يطلق سراح الأسرى الذين أسرهم أثناء محاولته اقتحام ملطية .
︎ـ يعيد المقاطعات الخاصة بكل من شاهنشاه وذي النون إليهما .
︎- يطلق سراح أولاد أخيه شاهنشاه الأربعة المعتقلين عنده .
قبل السلطان قلج أرسلان الثاني تنفيذ البند الأول، ورفض تنفيذ البندين الآخرين، عند ذلك شدد الحلفاء الضغط عليه، فهدد بقتل أولاد أخيه، وأخيراً تم الاتفاق على ما يلي :
︎ـ إعادة قيصرية إلى ذي النون وتثبيته في سيواس .
︎- تثبيت شاهنشاه في أنقرة .
*شاهنشاه : أخو قلج الثاني
.........
* طبعا مصدره هنا وليم الصوري ؛ ونعتقد أن نقطة تهديد قلج بقتل أولاد أخيه انفرد بها الصوري ولا سند له. وقد علق د. الصلابي على موقف نور الدين قائلا :
{وفي هذا الموقف يجعل نور الدين من نفسه مسؤولاً عن جميع المسلمين وعن بلادهم، ويتوجب عليه بناءً على هذه المسؤولية ألا يسمح بتولي حاكم غير مؤمن على بلاد المسلمين ؛ إن نور الدين تولد لديه إحساس بالمسؤولية بناء عن فهمه الصحيح للشريعة الإسلامية، فهو يعتبر نفسه جندياً في خدمة الدين، وروي عنه قوله : نحن شحنٌ لها " للشريعة " نمُضي أوامراها .
........
️ مؤامرة الحشيشية وعموري لاغتيال نور الدين
ارتاح الملك عموري الأول لارتداد نور الدين محمود عن حصن الكرك وتوجهه إلى الشمال بعيداً عن ممتلكاته، وتجدد الأمل لديه بالتخلص من الخطر المحدق به من جانب المسلمين عندما تناهى إلى أسماعه خبر وقوع الوحشة بينه وبين صلاح
الدين، وأتيحت له الفرصة للاتصال بفرقة الحشيشية الإسماعيلية في بلاد الشام، وقد جمعت الطرفان مصلحة مشتركة هي العداء لنور الدين محمود .
كانت هذه الطائفة تمتلك حصوناً عدة مهمة في بلاد الشام، مثل القدموس والعليقة والكهف ومصياف وغيرها، والواضح أن أفرادها ارتاعوا لزوال الدولة الفاطمية وانتصار المذهب السني في مصر، وشعروا بالخطر يتهددهم في بلاد الشام،
وبخاصة أن نور الدين محمود قيد توسعهم على الطرف الشرقي، غير أنه لم يستطع أن يقمعهم، وإذ عثر على خنجر ذات ليلة على وسادته، كان ذلك نذيراً بألا يتمادى في مناوأتهم .
واتصلت فرقة الحشيشية بالملك عموري الأول للتنسيق معه على مواجهة نور الدين محمود، وأرسلت قيادتها في ألموت بفارس في عام (564هـ/1169م) حاكماً جديداً ليتولى إقليم النصيرية يدعى رشيد الدين سنان البصري، واشتهر عند الصليبيين باسم شيخ الجبل، فاتصل بالملك الصليبي وعرض عليه إقامة تحالف مناهض لنور الدين محمود مقابل إعفاء الحشيشية من الضريبة التي فرضتها عليهم الداوية في
أنطرسوس.
ونتيجة للنظرة السياسية التقليدية المعادية لنور الدين محمود، فرح الملك عموري الأول بتشجيع الصداقة مع شيخ الجبل في أشد الأوقات حرجاً ورحب بعرضه، آملاً بما لدى الحشيشية من خبرة بأوضاع البلاد الإسلامية وحكامها، أن تكون هذه الطائفة ذات فائدة كبيرة للصليبيين، فكتب إلى الداوية يأمرهم بقبول العرض،..
لكن العداء القديم بين الطرفين(*الحشيشة والداوية) وغضب الداوية من حرمانها من الضريبة(*بقرار عموري) التي اعتادت جبايتها ؛ دفعت أفرادها إلى الإجهاز على سفارة رشيد الدين سنان أثناء اجتيازها أراضي إمارة طرابلس .
وهكذا حال الداوية بين تحالف القوتين الصليبية والحشيشية لمناواة نور الدين محمود ، وكان طبيعياً أن يغضب الملك عموري الأول، إذ تعرضت سياسته للدمار، وأثار نزاعاً بينه وبين مقدم الداوية "أودو سانت أماند" استوجب رفعه إلى البابا للفصل فيه . (☆1)
--------------------------------------------------------------------
️ نعود إلى مصادرنا الإسلامية لنؤكد على ما قلناه في الفقرة السابقة عن الخلاف بين صلاح الدين و قائده نور الدين و هذه المرة الرأي للدكتور أحمد الشامي (☆2) يقول :
على أن وحشة ( جفوة ) حدثت بين صلاح الدين ونور الدين محمود ، كان من أسبابها ان صلاح الدين بعث برسول له الى الخليفة العباسي ليبشره بعودة مصر الى حكمه وانتهاء الخلافة الفاطمية ؛ فاعتبر نور الدين محمود هذا التصرف إهانه له ، واهمالا لشأنه خاصة وان صلاح الدين الأيوبي يحكم في مصر باسمه ، باعتباره نائبا له ، وكان يكتب اليه: "الأمير الأسفهسلار صلاح الدين وكافة الامراء بالديار المصرية يفعلون كذا "
ومن ناحية أخرى كان نور الدين محمود متخوفا من أن يستقل صلاح الدين بحكم مصر ، فتضيع جهوده التي بذلها ليضم مصر إلى نفوذه ليستكمل تكوين الجبهة الإسلامية
المتحدة لضرب الصليبيين وطردهم من أرض المسلمين .
ويرى ابن الاثير ان السبب الرئيسي لهذه الوحشة ( الجفوة ) بين الرجلين ، هو :
{ أن صلاح الدين خرج في صفر سنة 568ھ / سبتمبر 1172م ، وحاصر حصن الشوبك ، وأطبق على ما به من الصليبيين حتى طلبوا الأمان وأمهلة عشرة أيام لتسليم الحصن ، وانتهز نور الدين محمود فرصة وجود صلاح الدين على حصن الشوبك ، وأراد أن ينتزع حصن الكرك من الصليبيين وكان يبعد مسيرة يوم من الشوبك ، فخرج على رأس قواته متجها الى الكرك .
فلما سمع صلاح الدين بتحرك نور الدين محمود وقواته ، فك الحصار عن حصن الشوبك ، ورجع قافلا مع قواته الى مصر ، وكتب ألى نور الدين محمود يعتذر إليه بأن بقايا الفاطميين على وشك اشعال ثورة بها ، وأن الامور مضطربة فيها ، مما يتطلب عودته فورا اليها }...*الكامل، ابن الأثير ج11 ص371- 372
{ويبدو أن صلاح الدین خشى أن يقبض عليه نور الدين محمود اذا رآه ، وأن يعزله ويعين على مصر أميرا من أتباعه} *الكامل ج11،ص398-399
ويعلق د. أحمد في الهامش قائلا :
"هناك آراء تصف ابن الاثير بالمبالغة فيما ذكره عن هذه الوحشة. راجع جيب اليسار العربي لحياة الصلاحين ، سبوكولم ، 1950 ، ص. 58-72."
ثم يشرح تفصيلا :
ومع كل ما ذكر من أسباب يبقى الرأي الأول مرجحا على غيره من الآراء(*أي انصرافه لقلقه الشديد على مصر و مرض والده أيوب) ، والدليل على ذلك المؤامرة الكبرى التي دبرها مؤتمن الخلافة جوهر ومن معه من الفاطميين مما سنذكره بالتفصيل لإعادة مصر الى حكم الفاطميين .
ثم إن صلاح الدين كان ملزما بالزحف بقواته إلى حصن الأكراد لمساعدة نور الدين محمود ، وكان من الممكن جدا أن يتمرد الصليبيون في حصـن الشوبك ، ولا يسلموا الحصن لصلاح الدين حسب تعهدهم له ، وما أكثر ما ضرب الصليبيون باتفاقاتهم مع المسلمين وغيرهم عرض الحائط ، ..
وفي هذه الحالة لن يستطيع صلاح الدين التوجه الى حصن الكرك لمساعدة نور الدين محمود لأن هذين الحصنين ممتنعان ومحصنان ، ويحتاج كل منهما الى زمن طويل ، وجهد عظيم للاستيلاء عليه ، لانه سيكون مجبرا اما لمواصلة الحصار على
الشوبك ، أو فك الحصار والعودة الى مصر ، وهذا ما حدث .
ويذكر العماد الأصفهاني وابن واصل وغيرهما من المؤرخين أن صلاح الدين عندما خرج لغزو الفرنجة في الشوبك والكرك بعث الى سيده وقائده نور الدين محمود بالهدايا التي جمعها من قصور الخلافة الفاطمية وكان من ضمن هذه الهدايا فيل وحمار وحشى (عتابية) وذخائر ومتعة ومجوهرات غالية مثل الميشم ، وبلخش(*أحجار كريمة) واللؤلؤ والطيب والعطر وغرائب المصنوعات وستون ألف دينار ذهبا ..
فلما وصل صلاح ألى بلاد الكرك والشوبك اغار عليهما ، وخرب أراضيهما وعماراتهما ، وشن الغارات على أعمالهما وكانت هذه أول اغارات صلاح الدين على الفرنجة من مصر في أوائل سنة 568ھ/1172م ، وقد بدأ بهذين الحصنين لقربهما من مصر ، وفي طريقها ، وكان الصليبيون المقيمون فيهما يتصدون للقوافل القادمة الى مصر فيمنعونها ويغيرون عليها .
وكان صلاح الدين يخرج إلى كل قافلة قادمة ليحميها حتى تعبر طريق هذين الحصنين فأراد من الإغارة والإستيلاء عليهما إزالة مخاطرهما من طـريق القوافل، وإشاعة الطمأنينة والأمان للقادمين من الشام والمغادرين مصر ومع ذلك استعصى كل من الحصنين عليه .
وقد أرسل صلاح الدين هذه الهدايا كلها الى نور الدين محمود وبعث بكتاب رقيق من انشاء القاضي الفاضل عبد الرحيم ، يشرح فيه أسباب خروجه لمهاجمة الكرك والشوبك ، ويمدح فيه سيده وقائده لجهاده ضد هؤلاء الفرنجة..الخ ..
... وعندما وصلت هذه الهدايا الى نور الدين محمود سنة 568هـ وهو.بحلب استقلها ولم تقع منه بموقع ، ومع ذلك أبدي شكره لصلاح الدين عليها .
ونحن نستدل على عدم رضاء نور الدين عن هذه الهدايا بما ورد في المصادر التاريخية :
︎أولا ـ قول نور الدين : « ما كان بنا حاجة الى هذا المال ، وهو - يقصد صلاح الدين - يعلم أنا ما أنفقنا الذهب في ملك مصر وبنا فقر إلى هذا الذهب ، وإن هذا المحمول - الهدايا - لا توازي ولا تساوى ما جدنا به من مقدار ، وهو يعلم ان ثغور الشام تحتاج الى عدد وفير من الجند ، فقد عم البلاء بالفرنج ، وينبغي أن يسارع صلاح الدين بتقديم المساعدات والمعونات » . *ابن واصل : مفرج الكروب ج ۱ ص ٢٢٦
وواضح أن نور الدين محمود كان يريد أن يقوى جبهة الشام بالجنود والذخيرة من جانب صلاح الدين بعد أن تم له ملك مصر ، وقد أوضح نور الدين غرضه فهو يريد ان ينتهز هذه الفرصة التي أصيب الفرنج فيها بالبلاء والضعف والتفكك لينزل بهم ضربة قاسمة ويتوج جهاده بالانتصار عليهم وازالة موضعهم من بلاد المسلمين . *بارك الله فيك يا دكتور
︎ثانيا - الدليل على استهانة نور الدين محمود بالهدايا التي أرسلت إليه وعدم قبوله إياها انه أخذ يوزعها فأهدى الفيل الى ابن أخيه سيف الدين غازی² بن قطب الدين مودود ـ صاحب الموصل - مع شيء من الثياب والعـود..إلخ ، كما بعث نور الدين بالحمار الوحشي الى الخليفة العباسي ؛ والعنبر ومعه شيء من الهدايا الأخرى كذلك .
︎ثالثا ـ كان نور الدين يأمل أن يرسل صلاح الدين الأيوبي اليه ما يستعين به على مواصلة الجهاد من تلقاء نفسه ، خصوصا وانه من المقربين إلى نور الدين محمود ، ويعرف تماما ماذا ينفق على أمور الجهاد واعداد الجيوش وامدادها بالذخيرة والمال ،
ولكن عندما تباطا صلاح الدين وأرسل الهدايا التي استقلها نور الدين ولم ترقه ، حينئذ كلف نور الدین متولی ديوان الاستيفاء وهو موفق الدين خالد بن القيسراني بالذهاب إلى مصر وأن يقيم أعمال مصر ودخلها ويكتب ذلك في أوراقه حتى يمكن له تقـرير المال الذي يرسله اليه صلاح الدين •
* ابن واصل : المصدر نفسه ، ص ۲۳۲
.......
*وفعلا يادكتور استقبله صلاح الدين بالترحاب و سمح له بممارسة عمله والقيام بمهمته التي أسندها إليه نور الدين .
........
وإذا أمعنا النظر إلى ما قاله نور الدين محمود فانه يريد إمدادات عسكرية من صلاح الدين ، فإذا ارسلها الأخير فسوف يتناقص عدد جنوده ، وتضعف إمكاناته في هذا الوقت الذي يحتاج فيه إلى كامل قوته ، وسوف يصبح هدفا سهلا لهجمات الصليبيين أو الغارات أتباع الدولة الفاطمية الذين يتربصون به ليتخلصوا منه ومن دولته في مصر .
وهذا في رأينا ما دفع صلاح الدين إلى العودة إلى مصر لكي يحتفظ بملكه الجديد . (☆2)
---------------------
*ونضيف إلى كلامك يا دكتور أحمد ما كتبه د. محمد سهيل :
{ وعندما أرسل إليه صلاح الدين بعض الهدايا والأموال التي حازها بعد وضع يده على قصور الفاطميين قال :
(ما كانت بنا حاجة إلى هذا المال، ولا نسد به خلة الإقلال، فهو يعلم أنا ما أنفقنا الذهب في ملك مصر وبنا إلى الذهب فقر، وما لهذا المحمول في مقابلة ما جدنا به قدر . . . ولكنه يعلم أن ثغور الشام مفتقرة إلى السواد ، ووفور الأعداد من الأجناد، وقد عم بالفرنج بلاء البلاد، فيجب أن يقع التعاقد على الإمداد بالمعونة ، والمعونة بالإمداد).
وفي هذا القول تلخيص رائع لخطته، وأمله ،وحقه، والمرارة، والخيبة، التي كان يشعر بها .
أما صلاح الدين فقد كان مقتنعاً، نتيجة للصراع بين القوى الثلاث في الشرق الأدنى، الإسلامية والصليبية والبيزنطية، حول مصر؛ بأن هذا البلد يشكل في الوقت الراهن مركز الثقل في العمليات العسكرية، كما كان أكثر وعياً من نور الدين محمود للأخطار الناجمة عن عداء الفاطميين، واستعداد قواتهم السابقة للانضمام إلى الصليبيين.
ويتجلى مدى جدية هذا الخطر بنظره في حقيقة كون الدفاع عن مصر ضد هجوم مفاجيء قد بقي واحداً من اهتماماته الدائمة حتى آخر حياته .
غير أن الامتداد المتواصل لنفوذه وقوته التي كانت في عام (566 هـ/ ١١۷١ م) تضاهي القوات الموجودة بتصرف نور الدين محمود، ربما جعلت هذا الأخير قلقاً ..
نتيجة لهذا الاختلاف في وجهات النظر السياسية، كانت تصرفات أحد الرجلين تفسّر على أنها موجهة ضد الرجل الآخر. "
"وتناهت إلى مسامع صلاح الدين، في هذه الأثناء، أنباء قيام
ثورة السودانيين في مصر، فخشي العاقبة وضياع فخشي العاقبة وضياع الأمور من يده . عندئذ رفع الحصار عن الحصن وانسحب عائداً إلى مصر، وكتب إلى نور الدين محمود يعتذر باختلال أوضاع مصر، واتجاه بعض الشيعة إلى القيام بثورة على حكمه، واضطراره إلى مساعدة أخيه الذي يحارب بقايا الفاطميين في الصعيد } *ص٣٨-٣٩
" انسحب بجيشه عائداً إلى مصر متذرعاً بمرض والده إذ يخاف أن تحدث عليه علة الموت فتخرج البلاد من أيديهم .
والواضح أن هذه الحجة كانت صحيحة، وصدق صلاح الدين في قوله، فقد اشتدت العلة على والده بعد سقوطه عن فرسه، فخشي إن توفي أن يتزعزع مركزه في مصر . وتوفي نجـم الـديـن أيـوب في (شهر ذي الحجة عام 568 هـ/ شهر آب عام
۱۱۷۳ م) قبل أن يعود صـلاح الـديـن إلى القاهرة"} . *ص٤٠
*انظر : تاريخ الأيوبيين (☆3)
---------------------------------------------------------------------
وفاة نور الدين محمود 15 مايو 1174م
قال العماد الأصفهاني : وأمر نور الدين رحمه الله تعالى بتطهير (ختان) ولده الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر، واحتفلنا لهذا الأمر، وغُلقَّت محالُّ دمشق أياما.
قال : وفي يوم العيد يوم الأحد ركب نور الدين على الرّسم المعتاد محفوفاً من الله بالإسعاد، مكنوفاً من السماء والأرض بالأجناد، والقدر يقول له : هذا آخر الأعياد !!
ووقف في الميدان الأخضر الشمالي لطعن الحلق، ورمي القبق وكان قد ضرب خيمته في الميدان القبلي الأخضر، وأمر بوضع المنبر.
وخطب له القاضي شمس الدين ابن الفَّراش قاضي العسكر، بعد أن صلَّى به وذكَّر، وعاد القلعة، طالع البهجة بهيج الطلعة، وأنهب سِماطه العام على رَسْم الأتراك، وأكابر الأملاك، ثم حضرنا على خوانه الخَاص، وله عقد كمال مصون من الانتقاض والانتقاص ...
وفي يوم الاثنين ثاني العيد بكَّر وركب وجمَّل الموكب ... ودخل الميدان والعظماء يسايرونه، والفهماء يحاورونه، وفيهم همام الدَّين مودود، وهو في الأكابر معدود، وكان قديماً في أوّل دولته وإلى حلب وقد جّرب الدهر بحنتكه..
فقال لنور الدين في كلامه عظة لمن يغتر بأيامه :
هل نكون ههنا في مثل هذا اليوم في اليوم في العام القابل ؟
فقال نور الدين : قل هل نكون بعد شهر، فإنَّ السِنة بعيدة، فجرى على منطقها ما جرى به القضاء السَّابق، فإن نور الدين لم يصل إلى الشهر والهمام لم يصل إلى العام، ثم شرع نور الدين في اللغب بالكُرة مع خّواصه، ..
فاعترضه في حاله أمير آخر اسمه يَرَنْقُشى وقال له : ياش ، فأحدث له الغيط والاستيحاش، واغتاظ على خلاف مذهبه الكريم، وخلقه الحليم، فزجره وزبره ونهاه ونهره، وساق ودخل القلعة ونزل، واحتجب واعتزل،...
فبقي أسبوعاً في منزله، مشغولاً بنازله، مغلوباً عن عاجلة بحديث آجله والنَّاس من الختان لا هون بأوطارهم في الأوطان، فهذا يروح بجوده، وذاك يجود بروحه، فما انتهت تلك الأفراج إلاَّ بالأتراح، وما صلح الملك بعده إلا بملك الصالح ...
قال : واتصل مرض نور الدين وأشار عليه الأطباء بالقصد فامتنع، وكان مهيباً فما روجع، وانتقل حادي عشر شوال يوم الأربعاء من مربع الفناء إلى مرتع البقاء ولقد كان من أولياء الله المؤمنين وعباده الصالحين .
، وكانت وفاة نور الدين رحمه الله تعالى بسبب خوانيق اعتزته عجز الأطباء عن علاجها .
" وقد توفي يوم الأربعاء الحادي عشر من شّوال سنة تسع وستين وخمسة مئة" ودفن بقلعة دمشق ثم نقل إلى تربة تجاور مدرسته التي بناها لأصحاب أبي حنيفة رحمه الله جوار الخوَّاصين في الشارع الغربي رحمه الله تعالى .
وكان رحمه الله حريصاً على الشهادة وكان يقول : طالماً تعرضت للشهادة فلم أدرك .
وقال الذهبي : نور الدين الشهيد ..
، وقد رثاه الشعراء بقصائد رائعة من أحسنها ما قاله العماد الأصفهاني :
الدَّين في ظُلم لغيبة نوره
والدهُر في غُمم لفقد أميره
فليندُبِ الإسلامُ حامَي أهله
والشام حافظ ملكه وثغوره
من للمساجد والمدارس بايناً
لله طوعاً عن خُلُوصِ ضَمِيره
من للفرنج ومن لأسر ملوكها
من للهُدى يبغي فكاك أسيره
من للبلاد ومن لنصر جيوشها
من للجهاد ومن لحفظ أمُوره
من للفتوح محاولاً أبكارها
برواحه في غزوه وبكوره
أوَمَا وعدت القُدْسَ أنك منُجِزٌ
ميعاده في فتحه وظهوره
فمتى تجير القُدْسَ من دَنسِ العِدَى
وتقِدَّس الرحمن في تطهيره
حَيَّاك مُعْتلُّ الصَّبا بنسيمه
وسقاك مُنْهَلُ الحيا بدروره
ولبسْتَ رضوان المهيمن ساحِباً
أذيال سُندس خزَّه وحريره
وسكنت علَّيَّين في فِرْدَوْسِهِ
حِلفَ المسَرَّة ظافراً بأجوره
وبعد وفاة نور الدين حمل راية الجهاده تلميذه الذكي وجنديه المخلص صلاح الدين الأيوبي الذي بنى جهاده على ما أسَّسه نور الدين من جهاد المشركين وقام بذلك على أكمل الوجوه وأتمها.
رحم الله البطل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكى بن آق سنقر الحاجب التركماني قسيم الدولة أميرحلب فيى عهد ملكشاه بن ألب أرسلان رحمهم الله . (☆4)
---------------------------------------------------------------------
الفقرة القادمة إن شاء الله : الحروب الصليبية في عهد :
الناصر صلاح الدين الأيوبي
--------------------------------------------------------------------
(☆1) تاريخ الحملات الصليبية استيفن رانسيمان ج2
(☆2) صلاح الدين و الصليبيون د. أحمد الشامي
(☆3) تاريخ الأيوبيين في مصر و بلاد الشام والجزيرة ، محمد سهيل طقوش .
(☆4)الدولة الزنكية د. علي محمد الصلابي
---------------------------------------------------------------------
تابعوا #الحروب_الصليبية_جواهر