في عام 1095م انعقد مجلس كبير داخل حدود بلاد الغال (فرنسا – بلجيكا - جزء من ألمانيا) ، في أوفيرني، وتحديدا في المدينة التي تدعي "كليرمون"، وقد ترأس البابا "أوربان الثاني" هذا المحفل مع أساقفة الروم والكرادلة، وكان هذا المجلس واحدا من أشهر المؤتمرات التي التقي فيها الأساقفة الفرنسيين والألمان والملوك.
وبعد أن تم ترتيب الأمور المتعلقة بالكنيسة ، ذهب البابا الرب إلي سهل فسيح محدد سلفا وخاليا من المباني ، كبيرا بما يكفي لاحتواء كافة الناس ، وألقي البابا في ذلك الحين بيانا بلاغيا جميلا ومقنعا للحضور قائلا :
" يا سلالة الألمان ، سلالة من الجانب الآخر للجبال ، يا أيتها الذرية التي اختارها الرب والمحببة إليه ، علي النحو الواضح في العديد من أعمالكم ، المتميزة عن جميع الأمم الأخرى بسبب مكانة بلدكم ، فضلا عن إيمانكم الكاثوليكي الذي أثري الكنيسة المقدسة :
لكم نوجه هذا الخطاب ، ولكم أعددنا هذه العظات ، ونتمني أن تعرفوا السبب الخطير الذي جاء بنا إلي بلدكم ، إنه الخطر الوشيك الذي يهددكم ويهدد كافة المؤمنين هو من جاء بنا إلي هنا .
من حدود أورشليم ( القدس ) ومن مدينة القسطنطينية تقرير خطير تكرر علي أذني مفاده أن عدوا من مملكة الفرس ، عدوا ملعونا ، عدوا ينفر من الرب كلية ، جيلا لم تُوجه قلوبهم علي أساس قويم وأرواحهم ليست مخلصة للرب ، هذا العدو غزا بعنف أراضي هؤلاء المسيحيين وأخلي منازلهم من سكانها بالنهب والحرق ، لقد قادوا جزءا من الأسرى إلى بلادهم ، وجزءا آخرا قتلوهم بالتعذيب القاسي ، وقاموا أيضا بتدمير كنائس الرب أو استولوا عليها لشعائر دينهم ، ويدمرون مذابح الكنيسة بعد أن يدنسوها بنجاستهم ، لقد قطعوا أوصال مملكة الإغريق واقتطعوا منها أراضي شاسعة لا يمكن أن تقطعها في أقل من شهرين .
"على من إذن تقع مهمة الانتقام من هذه المظالم واسترداد تلك المنطقة المحتلة إن لم يكن عليكم ، أنتم فوق كل الأمم الأخرى ، الرب يمنحكم مجدا ملحوظا في القتال ، وشجاعة كبيرة ، ونشاطا بدنيا ، وقوة لتذل لكم تلك الرؤوس التي تقاومكم .
دعوا مآثر أسلافكم تشجعكم وتحرض عقولكم لصنع إنجازات رجولية ، استحضروا عظمة الملك شارلمان وابنه لويس وكافة ملوككم الآخرين الذين دمروا ممالك الأتراك ومدوا سيطرة الكنيسة على أراضي كانت مملوكة للوثنيين .
دعوا القبر المقدس لربنا ومخلصنا والمملوك الآن لأمم نجسة يستحثكم ، دعوا الأماكن المقدسة والتي تُعامل الآن معاملة مهينة وتلوثها أيادي الأنجاس تحرضكم ، أيها الجنود البواسل وأبناء الأسلاف الذين لا يُقهرون ، لا تُفسدوا مجد أجدادنا ولكن تذكروا بسالتهم .
ولكن إذا امتنعت بسبب حب الأطفال أو الزوجة فتذكر قول الرب في الإنجيل :
" مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي" - ( متي 10: 37 )
" وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ" -متي (9 : 29)
لا تدع شيئا من ممتلكاتك يمنعك ، لا تجعل شئون الأسرة تثير اهتمامك .
إن هذه الأرض التي تعيش فيها مغلقة من كل جانب ، مغلقة بالبحار وقمم الجبال التي تحيط بها ، إنها أرض ضيقة للغاية بالنسبة لعدد كبير من شعبك وليست ذاخرة بالثروة ، فهي تمنح الطعام بشق الأنفس لزارعيها ، ولهذا أنتم تقتلون وتلتهمون بعضكم البعض ، وتشعلون الحروب فيما بينكم ، و الكثير جدا منكم يموت بسبب صراع الأمعاء .
دعوا أولئك الذين اعتادوا سابقا أن يخوضوا حربا خاصة شريرة ضد المؤمنين أن يحاربوا الكفار ليحققوا نهاية الانتصار في تلك الحرب التي وجب أن تبدأ الآن ، أولئك الذين كانوا حتى ذلك الحين لصوصا أن يتحولوا إلي جنود ، دعوا أولئك الذين ناضلوا سابقا ضد الإخوة والأقارب أن يحاربوا البربر كما ينبغي .
دعوا أولئك الذين كانوا سابقا عمالا مرتزقة بأجور زهيدة أن يربحوا الجوائز الأبدية ، أولئك الذين أرهقوا أنفسهم على حساب الجسد والروح أن يجاهدوا الآن للحصول على مكافأة مزدوجة .
دعوا الكراهية إذن تخرج من بينكم ، والنزاعات تنتهي ، والحروب تتوقف ، دعوا الخلافات في الرأي والمناظرات تغفوا ، أُدخلوا طريق القبر المقدس ، انتزعوا تلك الأراضي من العدو الشرير ، وضعوها تحت هيمنتكم ، تلك الأرض التي قال عنها الكتاب المقدس أنها " تفيض لبنا وعسلا " والتي أعطيت بسلطان الرب لنسل بني إسرائيل ، أورشليم ( القدس ) هي مركز الأرض ، وأرضها مثمرة فوق الجميع ، مثل الجنة المليئة بالمسرات . هذا المكان صنع فيه المسيح مخلص البشرية العجائب ذائعة الصيت بمجيئه ، وأكسبه جمالا بإقامته المؤقتة ، وقدسه بعاطفته ، وفداه بوفاته ، ومجده عندما دُفن فيه .
هذه المدينة الملكية التي تقع في مركز الأرض أسيرة الآن لدي أعداء المسيح ، وخاضعة لأولئك الذين لا يعرفون الله ويعبدون الأوثان ، إنها تسعى وترغب في التحرر ولا تتوقف عن التوسل إليكم لكي تأتوا لمساعدتها ، منكم أنتم خاصة تطلب الغوث ، لأنكم - وكما قلت لكم - أسبغ الرب عليكم فوق كل الأمم مجدا عظيما في القتال ، ومن ثم عليك أن تأخذ هذه الرحلة بشغف من أجل غفران خطاياك ، مع اليقين بالنعيم الأبدي في مملكة السماء .. "
عندما قال البابا أوربان حديثه السابق ، ركز في الحضور الذين صرخوا : " إنها إرادة الله " ، " إنها إرادة الله " وعندما لاحظ الحبر الروماني يهتف وعيونه مرفوعة إلى السماء ، أشار للحضور بالصمت وأكمل قائلا :
" كل الأُخُوة في الرب ظاهرة فيكم اليوم يقول الرب في الإنجيل :
`) لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ ).
إنجيل متى 18: 20
إذا لم يكن الرب حاضرا في أرواحكم ، لن تتلفظوا جميعا نفس الصيحة ؛ على الرغم من أنها صادرة من العديد من الأفواه ، وحتي لو كان أصل الصيحة واحدا ، لذلك أقول لكم اجعلوها صيحة الحرب الخاصة بكم في المعارك " إنها إرادة الله " ، فهي ممنوحة لكم من الله ، عندما تشنون هجوما مسلحا على العدو، فصيحوا : "هذه هي إرادة الله ! هذه هي إرادة الله ! " ، واجعلوها في أرواحكم .
لا تعطي أمرا أو نصيحة للكبار أو العاجزين عن حمل السلاح ليخوضوا هذه المعركة ، ولا تدع النساء يخرجون بدون أزواجهم أو إخوتهم أو محرمين معهم علي الإطلاق ، لأن هذه الفئات تمثل عبئا أكثر مما تمثل نفعا ، ولتسمح للأغنياء بمساعدة الفقراء وفقا لثرواتهم ، وحثهم علي أن يأخذوا معهم جنودا من ذوي الخبرة وكهنة وكتبة ، ولا تسمحوا للعامة أو الجنود بالذهاب دون موافقة مطرانهم لأن الرحلة لن تنفعهم شيئا إذا ذهبوا دون إذن ، كما أنه ليس من المناسب أن يحج عامة الناس دون الحصول على موافقة كهنتهم .
من سيعتزم هذا الحج المقدس لهذا الغرض ، ويجعل نذْره لله من أجل هذه الثمرة ، ويقدم نفسه قربانا له كأضحية حية مقدسة ومقبولة من الله ، سوف يرتدي لافتة صليب الرب على جبهته أو على صدره ، وعندما يعود من رحلته يكون بالفعل قد استوفي نذره ، وعليه أن يضع الصليب على ظهره بين كتفيه ، وبهذا العمل ذو الشقين تكون قد استوفيت وصية الرب وأمره في الإنجيل :
" وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي" -متي ( 10 : 38 )
انتهت خطبة البابا أوربان الثاني والتي ترجمتها لكم ترجمة دقيقة من واقع كتاب " قراءات في التاريخ الأوروبي " – المجلد لأول .
إنها خطبة مرجعية تكشف لنا أسباب الحروب الصليبية التي شنتها أوربا علي العالم الإسلامي في العصور الوسطي والتي امتدت أربعة قرون من القرن الحادي عشر حتي القرن الرابع عشر .
إنها تكشف لنا أسباب المخططات التي نفذها اليهود بقيادة " تيودور هرتزل " ومساعدة مسيحي الغرب لإقامة وطن لليهود علي أرض فلسطين .
إنها تكشف لنا أسباب احتلال الدول الغربية ( انجلترا – فرنسا – إيطاليا ) للعالم الإسلامي في العصر الحديث .
إنها تكشف لنا أسباب توحد اليهود والمسيحيين في حروبهم ضد العالم الإسلامي القديمة والحديثة .
إنها تكشف لنا أسباب الانقلاب الذي وقع في مصر بقصد القضاء علي الديمقراطية وحرمان الشعب من اختيار من يمثله علي النحو الذي يفرز لهم حكاما شرعيين قد يهددون احتلالهم للأماكن التي يرونها ملكا لبني إسرائيل وموضعا لمقدسات المسيحيين ، فهم لم ينسوا أن مصر بقيادة صلاح الدين الأيوبي هي التي أفسدت الحروب الصليبية الأولي التي وقعت في القرون الوسطي بعد أن استردت القدس في موقعة حطين ، ولم ينسوا الهزائم التي لحقت بهم من المصريين بقيادة الظاهر بيبرس والسلطان قلاوون وابنه السلطان الأشرف خليل الذين استردوا مدن عكا وبيروت وصور وصيدا وغيرهم ، وليس لديهم استعداد أن يقوم المصريون بتحرير المقدسات الإسلامية منهم للمرة الثانية ، بعد أن استقر لهم الأمر علي أرضها بإقامة دولة إسرائيل .
إنها تكشف لنا سر محاولة الانقلاب الفاشلة علي النظام الحاكم في تركيا بقيادة أردوغان ، فهو بالنسبة لهم نظام ذو مرجعية إسلامية يناهض إسرائيل بسبب احتلالها للأراضي العربية وحصارها لغزة ، ويمكن أن يمثل خطرا عليها في أي لحظة .
إنها تكشف لنا سر الحرب الطاحنة في سوريا لأنها ملاصقة للأراضي التي يرونها ملكا لهم تحوي مقدساتهم ، إن لم تكن سوريا جزءا منها كما كان في زمن الحروب الصليبية الأولي ، فلا بديل لديهم عن الحفاظ علي نظام عميل يطمئنون إلي عدم استعداده لخوض حروب ضد إسرائيل لتحرير مقدسات المسلمين ، وهو نفس سبب الحرب في العراق القريبة لإسرائيل والتي نصح نجيب ساويرس الغرب في صحيفة ديرشبيجل مبكرا جدا بضرورة الحرب علي العراق بعد أن تجرأ وأطلق صواريخ نحو إسرائيل ، والسعي لتمكين نظام شيعي موالي لأمريكا ويسمح لها بإنشاء قواعد عسكرية علي أرض العراق ، وهو نفس السبب للحرب التي يشنها الغرب علي ليبيا لمنع تولي أي نظام ديمقراطي للحكم ومحاولة تمكين العميل حفتر .
إنها تكشف لنا أيضا نعرة الكبرياء لدي الجنس الألماني والتي جعلتهم في حقبة من أحقاب الزمن يسعون لحكم العالم أجمع باعتبارهم الجنس السامي فوق أجناس الأرض مما تسبب في الحربين العالميتين الأولي والثانية والتي قتل فيها ملايين لا تحصي من البشر .
فها هي خطبة البابا " أوربان الثاني " تكشف لنا التوافق الكامل بين اليهود والمسيحيين في المواقف حيال العالم الإسلامي ، فلسطين من منظور الطرفين أرض اليهود التي وهبها إلههم لهم ، وهي أيضا أرض المقدسات المسيحية التي لا ينازع اليهود المسيحيين في التردد عليها ، وهي الأرض المليئة بالخيرات التي ينبغي أن يتخذها الطرفان وسيلة للتوسعة علي أنفسهم في الأرزاق ، وهي الأرض التي لا يجوز بحال من الأحوال أن تظل تحت يد المسلمين الكفرة الأنجاس ، وهذه المقررات تفسر لنا كافة سياسات الغرب تجاه العالم الإسلامي قديما وحديثا .