تدرج الصوم في الإسلام
عندما قدم الرسول صلَّى الله عليه وسَلَّم والمهاجرون معه، إلى المدينة، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فلما سأل عن السبب قيل له: إن هذا يوم صالح، نجّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، ولأن دين الإسلام يؤمن بكل الرسل ومنهم موسى فقد قال الرسول صلَّى الله عليه وسَلَّم إنه أحق بموسى من اليهود، فصام ذلك اليوم وأمر المسلمين بصيامه، مع زيادة يوم هو التاسع، فيكون صيام تاسوعاء وعاشوراء، مخالفة من المسلمين لليهود حتى لا يكونوا مثلهم، مثلما حدث وتغيرت القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، ومثلما حدث وشرع الأذان للصلاة مخالفة للنصارى بعد أن كاد المسلمون يستعملون الناقوس للإعلام عن الصلاة.
وليست مخالفة الإسلام لما سبقه من أديان في العبادات - طقوسها وشعائرها - مخالفة عناد بقدر ما هي مخالفة تدريب وتعليم للمسلمين بألا يكونوا إمعة، كما علمهم رسولهم وأمرهم أن يحسنوا إذا أحسن الناس وأن يتجنبوا إساءتهم إذا أساءوا.
ولا يحسنون إذا أحسن الناس فقط بل يزيدون في الإحسان حسنًا، ولأننا بصدد الحديث عن الصوم، فإن الرسول لما صام وأمر المسلمين أن يصوموا يوم عاشوراء الذي يصومه اليهود احتفالا بذكرى نجاة موسى وقومه من فرعون وعمله، وزاد على ذلك اليوم، يومًا آخر يصومه المسلمون.
وإذا كان الصوم عن الكلام قد عرفته الشريعتان المسيحية واليهودية، فإن الإسلام وإن لم يعرف الصوم عن الكلام وإن كان قد حرمه إذا استمر إلى الليل، فإن الرسول قد حبب صوم الصمت وحث عليه إن كان الكلام سيجر شرًّا ويؤدي إلى فساد، فقال صلَّى الله عليه وسَلَّم : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت))، وليس الصمت الذي يدعو إليه الرسول، هو صوم الصم البكم الذين لا يعقلون، بل هو صمت الفكر والتدبر والتأمل، وقد امتدح الله أصحاب العقول الذين يكون صمتُهم فكرًا فقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [آل عمران: 191].
إذن فحتى صوم الصمت عن الكلام جعله الإسلام صوم عبادة.
وأما الصوم عن العمل الذي رأيناه عند اليهود يوم السبت، فإن الإسلام لم يعترف بالصيام عن العمل إلا وقت صلاة الجمعة، وإلا بالقدر الذي لا يؤخر صلاة عن وقتها.
وكذلك الإسلام دين تصحيح واستكمال فيما يتصل بكل جوانب الحياة والعبادة، مما لا يوجد في الأديان والأمم السابقة، والدليل على أن الإسلام لا يخالف الأديان السابقة لمجرد المخالفة، هو أنه قد أقر الجيد والحسن من أخلاق الجاهلية مع أنها جاهلية، فلم ينكر كرم الضيافة، ولا نجدة الملهوف، ولا حلف نصرة المظلوم، بل أكد هذه الأخلاق المحمودة.
فإذا جاء الإسلام يفرض الصوم، فهو يفرض عبادة عرفتها أمم سابقة، ولأنه الدين الذي لا دين بعده فهو حينما يشرع فريضة فإن التدرج أساس من قواعد التشريع الإسلامي لتهيئة النفوس لاستقبال عبادة من العبادات، حتى إذا أحست النفس لها حلاوة واطمأنت بها، أكمل الله كل الأسس والقواعد التي تحكم العبادة التي شرعها، وهي هنا في هذا المقام، الصيام الذي بدأ بصوم عاشوراء وتاسوعاء كما بينا في بدء هذا الحديث، كما بدأ الصوم أيضًا في الإسلام، بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، حتى إذا كانت السنة الثانية من هجرة الرسول إلى المدينة نزل أمر الله قرآنًا بالصيام في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 183، 184].
ولكن هذا الصوم الذي فرضه الله كان "فرض تخيير"؛ من شاء صامه، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه، وذلك ما يوضحه القرآن: ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184].
ثم انتقل "صوم التخيير" إلى "صوم الفرض" مخصصًا ومحددًا ومبينًا فيه من يحق له بعذر أن يفطر ليقضي بعدها صومًا بعدد الأيام التي أفطر فيها، بعد أن يزول العذر، فيقول الحق: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].
فقد حدد الله شهر رمضان شهرًا للصيام، ولكن لماذا شهر رمضان بالذات دون غيره من الشهور؟
مع أنه من المسلّم به أن الله سبحانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فإنه جل عُلاه لم يحرم الاجتهاد، بل أعلى شأن العقل وميز به الإنسان على سائر مخلوقاته، وجعل أول آياته العلم قراءة وكتابة حين شرف القراءة وشرف القلم الذي يكتب به، وذلك في أول آيات أوحى بها الخالق الأعظم إلى خاتم رسله إذ يقول: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].
فعلم الله الإنسان ما لم يكن يعلم وذكر في قرآنه الحكمة من أشياء وسكت عن ذكر الحكمة في أشياء أخرى قد يكشف عنها العلم الذي ييسر الله كشفه للإنسان كلما أعمل عقله وفكر وتأمل وبحث واستكشف، ومن الأشياء التي ذكرت لنا الحكمة فيها، اختيار شهر رمضان، موعدًا يلتقي فيه المسلمون معه من كل عام لأداء إحدى الفرائض الخمس التي كتبها الله على المسلمين، تقربًا وعبادة ودوامًا للاتصال به، فهو شهر أنزل الله فيه القرآن جملة إلى السماء الدنيا، وتتابع نزوله على مدى ثلاث وعشرين سنة تبعًا للمواقف والأحداث التي مرت بها الدعوة الإسلامية، وليس القرآن وحده هو الذي شرف به رمضان، بل إن صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى قد شرف رمضان بنزولها فيها، مع اختلاف اسم رمضان من زمن إلى زمن.
وقد يكون لاختيار الله لرمضان شهرًا للصوم حكم أخرى اختص بها علمه غير ما علمنا به من قرآنه وأحاديث رسوله، تمامًا كما لم يعلم الناس في عصور سابقة تفاصيل أسرار حكمة الصوم نفسها التي بسطها لنا الطب الحديث وشاء الله لنا أن نعلمها زيادة يقين في أن الله ما فرض شيئًا إلا وفيه الخير لعباده المؤمنين، وليس معنى هذا أننا كنا نشك في هذه الحقيقة، ولكن نقول كما قال خليل الله لربه: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260].
وقد اطمأنت قلوب المسلمين الأوائل إيمانًا وتسليمًا لله الذي أراد بهم وبنا اليسر لا العسر، ولكن الملاحظ في تدرج فرض الصوم أنه بدأ اختياريًّا من شاء صامه ومن شاء أفطره وأطعم مسكينًا ولا شيء عليه، ثم نزل القرآن قاطعًا بصيام شهر رمضان، وكانت مدة الإفطار ومقاربة النساء محدودة من أذان المغرب إلى أذان العشاء، فمن تخيير إلى فرض وتحديد، فهل كان في ذلك تضييق على المسلمين بعد أن وسع عليهم؟ خاصة وأن أحد الأنصار وقع مغشيًّا عليه بعد أن فاته الإفطار حتى نام ومرت صلاة العشاء ولم يستطيع أن يأكل إلا بعد مغرب اليوم التالي حسب قواعد الصوم الأولى التي فرضها الله، بل إن عمر بن الخطاب نفسه الذي كان القرآن ينزل مصدقًا بعض ما يقول، قد اختان نفسه وجامع امرأته في الوقت المحظور، فلماذا لم يبح الله المفطرات من أذان المغرب إلى أذان الفجر كما نزلت الآيات بعد ذلك، خاصة وأن التخيير في بداية الصوم كان يجب أن يتبعه هذا التخفيف الأخير؟
إن الله أراد أن يدرب الفئة الأولى المسلمة في مجال العبادة - وهي هنا الصوم - تدريبًا عمليًّا لما سوف يلاقونه خلال مسيرة الدعوة الإسلامية، فهم وإن استراحوا في المدينة عن مكة وأصبح لهم من الأنصار إخوان وأعوان، فإن هذا اليسر وتلك السعة لا دوام لهما، فهم وإن كانوا سينتصرون في بدر، فسوف ينهزمون في أحد، وإن كانوا سيوقفون زحف قريش والأحزاب المتحالفة معها بحفر الخندق، فسوف يتعرضون لغدر اليهود في الداخل بجانب الحصار من الخارج، ثم بعد الضيق يأتي الفرج، وبعد العسر يأتي اليسر، ليلمس المسلمون فضل الله عليهم ويكونوا موصولين به، فلا تضعف صلتهم به بعد نصر أو فتح، فتأتي هزيمة أو شدة تجعلهم يعتصمون بحبل الله المتين فيكونون دائمًا في فضل الله، يحمدونه إن جعل لهم بعد العسر يسرًا، وبعد الهزيمة نصرًا، وبعد الضيق فرجا، ويتذكرون ماذا سيكون حالهم لو امتدت بهم هزيمة أكثر مما امتدت أو طال بهم عسر أكثر مما طال، فيسجدون الله شكرًا وامتنانًا.
وكذلك كانت فريضة الصيام يسرًا بالاختيار، ثم عسرًا بالفرض تضييقًا للزمن المباح فيه المفطرات حتى صلاة العشاء، ثم يسرًا بتوسيع الزمن حتى مطلع الفجر، ليعلم المسلمون علم يقين قائم على التجربة والدليل أن الله أراد بهم اليسر حقًّا ولم يرد بهم العسر، وليعلم كل من أراد أن يشدد على نفسه أنه لن يقدر مثلما حاول هؤلاء الرهط في عهد الرسول أن يلتزموا نظامًا في العبادة يشق عليهم فعزم أحدهم على أن يقوم الليل كله متعبدًا لا ينام، وعزم آخر على أن يصوم الدهر كله فلا يفطر يومًا، وعزم ثالث ألا يقرب النساء ولا يتزوج أبدًا تقربًا إلى الله، وكان هؤلاء المسلمون يريدون بذلك أن يدركوا مكانة الرسول عند ربه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، مسوغين بذلك في ظنهم قلة عبادة الرسول عندما أخبروا بها، فلما علم الرسول بأمرهم أنَّبهم إلى حد التبرؤ منهم إن لم يقلعوا عن تشددهم وقال: ((أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له، ولكني أصلى وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
وهؤلاء القوم الذين شددوا على أنفسهم وعدوا عبادة الرسول قليلة قياسًا إلى ما كانوا يتصورون، ثم أقنعوا أنفسهم بأن الرسول له عذره في ذلك وقد أخبره ربه ووعده وعدًا لا رجعه فيه: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [الفتح: 1، 2]
هؤلاء القوم يبدو أنهم لم يعلموا أن الرسول لم يستغل وعد ربه له بأن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فاتكل على هذا الوعد الذي لا رجعة فيه، ونسي حقوق ربه عليه، بل إن هذا الوعد الإلهي لرسوله كان أدعى لمزيد من العبادة والشكر لدرجة أن ابن مسعود كان يصلي مع النبي وحده فلم يطق، وكاد يجلس من طول قيام الرسول وهو يحكي عن ذلك فيقول: "صليت مع النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم ليلة فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به؛ قال: هممت أن أجلس وأدعه".
بل إن عائشة زوجة النبي الأثيرة لديه قد تعجبت من همة الرسول في عبادته وقالت له ما قاله الرهط الذين أرادوا التشديد على أنفسهم؛ تقول عائشة رضي الله عنها: "إن النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا".
وهكذا عندما يرى المسلمون أن الله قد خفف عنهم ويسر لهم أمور عباداتهم؛ فجعل فرض الصلاة من خمسين فرضًا إلى خمسة، وجعل الحج لمن استطاع إليه سبيلا، وجعل الصيام لمن استطاعه صحيحًا سليمًا مقيمًا بالغًا، وجعل المباحات حتى طلوع الفجر من رمضان، وجعل من يأكل أو يشرب ناسيًا لا شيء عليه وليتم صومه.
عندما يرى المسلمون ذلك التيسير، ألا يكون ذلك أدعى لمزيد من شكر الله صلاة أكثر مما افترضه سننا ونوافل، وصيامًا أكثر مما افترضه، كل يومي اثنين وخميس أو ثلاثة من كل شهر أو حسبما تيسر لكل مسلم، وهو شكر عبادة له أجره وثوابه الذي لا يضيع، ومن اكتفى بما فرضه الله عليه فحسبه ذلك وكفى.
ولكن هناك من يشددون على أنفسهم، حتى يندمون بعد ذلك، كما فعل عبد الله بن عمرو الذي يحكي للمتشددين من بعده قصته ليعتبر بها كل مبالغ متشدد في أمور الدين في كل عصر.
يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أُخبر رسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم أنى أقول: "لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت"، فقال رسول الله صلى الله عليهم وسلم: "أنت الذي تقول ذلك؟ فقلت: قد قلته يا رسول الله، فقال: إنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر"، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يوما وأفطر يومين"، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله، قال: صم يومًا وأفطر يومًا، وذلك صيام داود عليه السلام، وهو أعدل الصيام"، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك".
وذلك حتى يقطع الرسول على عبد الله تماديه في التشديد على نفسه، وقال له إن صيام يوم وإفطار يوم أفضل من صيام كل الأيام، حتى يكون ذلك وسيلة للقدرة على الدوام، وأفضل العبادة إلى الله تعالى أدْوَمُها وإن قل، ولذلك ندم عبد الله بن عمرو بعد أن كبرت سنه وضعف عن دوام العبادة التي تمسك بأدائها أمام رسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم وقال: "لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام صيامًا من كل شهر التي قال رسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم أحب إلي من أهلي ومالي، فندم لأنه لم يقبل إرشاد النبي ولم يسر في عبادته على هذه الرخصة السهلة التي يمكنه الدوام عليها، ولكنه لم يرض لنفسه أن يترك عبادة قال للنبي صلَّى الله عليه وسَلَّم إنه يطيقها، ولذلك ورد أنه كان يفطر أيامًا حتى يقوى، ثم يصوم ما فاته.
ولهذا أكد الرسول ضرورة الأخذ برخصة الله في العبادة؛ لأن الله أدرى بعباده منهم حينما أباح لهم ما أباح من تيسير، لذا قال صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((عليكم برخصة الله التي رخص لكم))، وإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وبلغ من تيسيرات الله أن من أفطر لعذر في رمضان، فليس عليه أن يقضي ما أفطر من أيام إلا بعد زوال العذر، ولا يجب عليه التتابع في القضاء.
وعلى المسلم أن يختار الأيسر؛ لأنه كما قال الرسول صلَّى الله عليه وسَلَّم : "إن خير دينكم أيسره"، وهذا اليسر الذي اتسم به الإسلام هو خير يسر وضعه الله في دين من الأديان السابقة، ومع هذا اليسر لم يحرم الإسلام على أتباعه أن يأخذوا بالعزم ويدربوا أنفسهم، منذ نعومة أظفارهم على العبادة حتى يألفوها إذا ما كبروا ولا تشق عليهم فيفاجأون حين يبلغون التكليف بالقيام بأعبائها فينفرون منها.
صحيح أن الصبيان غير مكلفين بصيام إلا حين يبلغون سن التكليف، إلا أن الإسلام أباح تدريبهم عليه، مما يدل عليه ما روته الصحابية الأنصارية الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ رضي الله عنها قالت: أرسل النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائمًا فليصم"، قالت: فكنا نصومه بعد ونُصوّم صبيانَنا، ونجعل لهم اللعبة من العهن - الصوف - فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك، حتى يكون عند الإفطار"، فمباح تعويد الأطفال على الصيام وشغلهم عن الطعام بأية وسيلة مسلية من لعبة أو غيرها، حتى يحين موعد الإفطار، وقياسًا على الصوم، يكون تدريب الأطفال على الصلاة باصطحابهم إلى المسجد، والصلاة أمامهم، لينشأ الأطفال على حب العبادة ويستمتعوا بحلاوة الإيمان حين يكبرون.
--------------------------------------------------------------------------------
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/3518/#ixzz5nToEjVFQ
عندما قدم الرسول صلَّى الله عليه وسَلَّم والمهاجرون معه، إلى المدينة، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فلما سأل عن السبب قيل له: إن هذا يوم صالح، نجّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، ولأن دين الإسلام يؤمن بكل الرسل ومنهم موسى فقد قال الرسول صلَّى الله عليه وسَلَّم إنه أحق بموسى من اليهود، فصام ذلك اليوم وأمر المسلمين بصيامه، مع زيادة يوم هو التاسع، فيكون صيام تاسوعاء وعاشوراء، مخالفة من المسلمين لليهود حتى لا يكونوا مثلهم، مثلما حدث وتغيرت القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، ومثلما حدث وشرع الأذان للصلاة مخالفة للنصارى بعد أن كاد المسلمون يستعملون الناقوس للإعلام عن الصلاة.
وليست مخالفة الإسلام لما سبقه من أديان في العبادات - طقوسها وشعائرها - مخالفة عناد بقدر ما هي مخالفة تدريب وتعليم للمسلمين بألا يكونوا إمعة، كما علمهم رسولهم وأمرهم أن يحسنوا إذا أحسن الناس وأن يتجنبوا إساءتهم إذا أساءوا.
ولا يحسنون إذا أحسن الناس فقط بل يزيدون في الإحسان حسنًا، ولأننا بصدد الحديث عن الصوم، فإن الرسول لما صام وأمر المسلمين أن يصوموا يوم عاشوراء الذي يصومه اليهود احتفالا بذكرى نجاة موسى وقومه من فرعون وعمله، وزاد على ذلك اليوم، يومًا آخر يصومه المسلمون.
وإذا كان الصوم عن الكلام قد عرفته الشريعتان المسيحية واليهودية، فإن الإسلام وإن لم يعرف الصوم عن الكلام وإن كان قد حرمه إذا استمر إلى الليل، فإن الرسول قد حبب صوم الصمت وحث عليه إن كان الكلام سيجر شرًّا ويؤدي إلى فساد، فقال صلَّى الله عليه وسَلَّم : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت))، وليس الصمت الذي يدعو إليه الرسول، هو صوم الصم البكم الذين لا يعقلون، بل هو صمت الفكر والتدبر والتأمل، وقد امتدح الله أصحاب العقول الذين يكون صمتُهم فكرًا فقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [آل عمران: 191].
إذن فحتى صوم الصمت عن الكلام جعله الإسلام صوم عبادة.
وأما الصوم عن العمل الذي رأيناه عند اليهود يوم السبت، فإن الإسلام لم يعترف بالصيام عن العمل إلا وقت صلاة الجمعة، وإلا بالقدر الذي لا يؤخر صلاة عن وقتها.
وكذلك الإسلام دين تصحيح واستكمال فيما يتصل بكل جوانب الحياة والعبادة، مما لا يوجد في الأديان والأمم السابقة، والدليل على أن الإسلام لا يخالف الأديان السابقة لمجرد المخالفة، هو أنه قد أقر الجيد والحسن من أخلاق الجاهلية مع أنها جاهلية، فلم ينكر كرم الضيافة، ولا نجدة الملهوف، ولا حلف نصرة المظلوم، بل أكد هذه الأخلاق المحمودة.
فإذا جاء الإسلام يفرض الصوم، فهو يفرض عبادة عرفتها أمم سابقة، ولأنه الدين الذي لا دين بعده فهو حينما يشرع فريضة فإن التدرج أساس من قواعد التشريع الإسلامي لتهيئة النفوس لاستقبال عبادة من العبادات، حتى إذا أحست النفس لها حلاوة واطمأنت بها، أكمل الله كل الأسس والقواعد التي تحكم العبادة التي شرعها، وهي هنا في هذا المقام، الصيام الذي بدأ بصوم عاشوراء وتاسوعاء كما بينا في بدء هذا الحديث، كما بدأ الصوم أيضًا في الإسلام، بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، حتى إذا كانت السنة الثانية من هجرة الرسول إلى المدينة نزل أمر الله قرآنًا بالصيام في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 183، 184].
ولكن هذا الصوم الذي فرضه الله كان "فرض تخيير"؛ من شاء صامه، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه، وذلك ما يوضحه القرآن: ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184].
ثم انتقل "صوم التخيير" إلى "صوم الفرض" مخصصًا ومحددًا ومبينًا فيه من يحق له بعذر أن يفطر ليقضي بعدها صومًا بعدد الأيام التي أفطر فيها، بعد أن يزول العذر، فيقول الحق: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].
فقد حدد الله شهر رمضان شهرًا للصيام، ولكن لماذا شهر رمضان بالذات دون غيره من الشهور؟
مع أنه من المسلّم به أن الله سبحانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فإنه جل عُلاه لم يحرم الاجتهاد، بل أعلى شأن العقل وميز به الإنسان على سائر مخلوقاته، وجعل أول آياته العلم قراءة وكتابة حين شرف القراءة وشرف القلم الذي يكتب به، وذلك في أول آيات أوحى بها الخالق الأعظم إلى خاتم رسله إذ يقول: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].
فعلم الله الإنسان ما لم يكن يعلم وذكر في قرآنه الحكمة من أشياء وسكت عن ذكر الحكمة في أشياء أخرى قد يكشف عنها العلم الذي ييسر الله كشفه للإنسان كلما أعمل عقله وفكر وتأمل وبحث واستكشف، ومن الأشياء التي ذكرت لنا الحكمة فيها، اختيار شهر رمضان، موعدًا يلتقي فيه المسلمون معه من كل عام لأداء إحدى الفرائض الخمس التي كتبها الله على المسلمين، تقربًا وعبادة ودوامًا للاتصال به، فهو شهر أنزل الله فيه القرآن جملة إلى السماء الدنيا، وتتابع نزوله على مدى ثلاث وعشرين سنة تبعًا للمواقف والأحداث التي مرت بها الدعوة الإسلامية، وليس القرآن وحده هو الذي شرف به رمضان، بل إن صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى قد شرف رمضان بنزولها فيها، مع اختلاف اسم رمضان من زمن إلى زمن.
وقد يكون لاختيار الله لرمضان شهرًا للصوم حكم أخرى اختص بها علمه غير ما علمنا به من قرآنه وأحاديث رسوله، تمامًا كما لم يعلم الناس في عصور سابقة تفاصيل أسرار حكمة الصوم نفسها التي بسطها لنا الطب الحديث وشاء الله لنا أن نعلمها زيادة يقين في أن الله ما فرض شيئًا إلا وفيه الخير لعباده المؤمنين، وليس معنى هذا أننا كنا نشك في هذه الحقيقة، ولكن نقول كما قال خليل الله لربه: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260].
وقد اطمأنت قلوب المسلمين الأوائل إيمانًا وتسليمًا لله الذي أراد بهم وبنا اليسر لا العسر، ولكن الملاحظ في تدرج فرض الصوم أنه بدأ اختياريًّا من شاء صامه ومن شاء أفطره وأطعم مسكينًا ولا شيء عليه، ثم نزل القرآن قاطعًا بصيام شهر رمضان، وكانت مدة الإفطار ومقاربة النساء محدودة من أذان المغرب إلى أذان العشاء، فمن تخيير إلى فرض وتحديد، فهل كان في ذلك تضييق على المسلمين بعد أن وسع عليهم؟ خاصة وأن أحد الأنصار وقع مغشيًّا عليه بعد أن فاته الإفطار حتى نام ومرت صلاة العشاء ولم يستطيع أن يأكل إلا بعد مغرب اليوم التالي حسب قواعد الصوم الأولى التي فرضها الله، بل إن عمر بن الخطاب نفسه الذي كان القرآن ينزل مصدقًا بعض ما يقول، قد اختان نفسه وجامع امرأته في الوقت المحظور، فلماذا لم يبح الله المفطرات من أذان المغرب إلى أذان الفجر كما نزلت الآيات بعد ذلك، خاصة وأن التخيير في بداية الصوم كان يجب أن يتبعه هذا التخفيف الأخير؟
إن الله أراد أن يدرب الفئة الأولى المسلمة في مجال العبادة - وهي هنا الصوم - تدريبًا عمليًّا لما سوف يلاقونه خلال مسيرة الدعوة الإسلامية، فهم وإن استراحوا في المدينة عن مكة وأصبح لهم من الأنصار إخوان وأعوان، فإن هذا اليسر وتلك السعة لا دوام لهما، فهم وإن كانوا سينتصرون في بدر، فسوف ينهزمون في أحد، وإن كانوا سيوقفون زحف قريش والأحزاب المتحالفة معها بحفر الخندق، فسوف يتعرضون لغدر اليهود في الداخل بجانب الحصار من الخارج، ثم بعد الضيق يأتي الفرج، وبعد العسر يأتي اليسر، ليلمس المسلمون فضل الله عليهم ويكونوا موصولين به، فلا تضعف صلتهم به بعد نصر أو فتح، فتأتي هزيمة أو شدة تجعلهم يعتصمون بحبل الله المتين فيكونون دائمًا في فضل الله، يحمدونه إن جعل لهم بعد العسر يسرًا، وبعد الهزيمة نصرًا، وبعد الضيق فرجا، ويتذكرون ماذا سيكون حالهم لو امتدت بهم هزيمة أكثر مما امتدت أو طال بهم عسر أكثر مما طال، فيسجدون الله شكرًا وامتنانًا.
وكذلك كانت فريضة الصيام يسرًا بالاختيار، ثم عسرًا بالفرض تضييقًا للزمن المباح فيه المفطرات حتى صلاة العشاء، ثم يسرًا بتوسيع الزمن حتى مطلع الفجر، ليعلم المسلمون علم يقين قائم على التجربة والدليل أن الله أراد بهم اليسر حقًّا ولم يرد بهم العسر، وليعلم كل من أراد أن يشدد على نفسه أنه لن يقدر مثلما حاول هؤلاء الرهط في عهد الرسول أن يلتزموا نظامًا في العبادة يشق عليهم فعزم أحدهم على أن يقوم الليل كله متعبدًا لا ينام، وعزم آخر على أن يصوم الدهر كله فلا يفطر يومًا، وعزم ثالث ألا يقرب النساء ولا يتزوج أبدًا تقربًا إلى الله، وكان هؤلاء المسلمون يريدون بذلك أن يدركوا مكانة الرسول عند ربه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، مسوغين بذلك في ظنهم قلة عبادة الرسول عندما أخبروا بها، فلما علم الرسول بأمرهم أنَّبهم إلى حد التبرؤ منهم إن لم يقلعوا عن تشددهم وقال: ((أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له، ولكني أصلى وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
وهؤلاء القوم الذين شددوا على أنفسهم وعدوا عبادة الرسول قليلة قياسًا إلى ما كانوا يتصورون، ثم أقنعوا أنفسهم بأن الرسول له عذره في ذلك وقد أخبره ربه ووعده وعدًا لا رجعه فيه: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [الفتح: 1، 2]
هؤلاء القوم يبدو أنهم لم يعلموا أن الرسول لم يستغل وعد ربه له بأن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فاتكل على هذا الوعد الذي لا رجعة فيه، ونسي حقوق ربه عليه، بل إن هذا الوعد الإلهي لرسوله كان أدعى لمزيد من العبادة والشكر لدرجة أن ابن مسعود كان يصلي مع النبي وحده فلم يطق، وكاد يجلس من طول قيام الرسول وهو يحكي عن ذلك فيقول: "صليت مع النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم ليلة فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به؛ قال: هممت أن أجلس وأدعه".
بل إن عائشة زوجة النبي الأثيرة لديه قد تعجبت من همة الرسول في عبادته وقالت له ما قاله الرهط الذين أرادوا التشديد على أنفسهم؛ تقول عائشة رضي الله عنها: "إن النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا".
وهكذا عندما يرى المسلمون أن الله قد خفف عنهم ويسر لهم أمور عباداتهم؛ فجعل فرض الصلاة من خمسين فرضًا إلى خمسة، وجعل الحج لمن استطاع إليه سبيلا، وجعل الصيام لمن استطاعه صحيحًا سليمًا مقيمًا بالغًا، وجعل المباحات حتى طلوع الفجر من رمضان، وجعل من يأكل أو يشرب ناسيًا لا شيء عليه وليتم صومه.
عندما يرى المسلمون ذلك التيسير، ألا يكون ذلك أدعى لمزيد من شكر الله صلاة أكثر مما افترضه سننا ونوافل، وصيامًا أكثر مما افترضه، كل يومي اثنين وخميس أو ثلاثة من كل شهر أو حسبما تيسر لكل مسلم، وهو شكر عبادة له أجره وثوابه الذي لا يضيع، ومن اكتفى بما فرضه الله عليه فحسبه ذلك وكفى.
ولكن هناك من يشددون على أنفسهم، حتى يندمون بعد ذلك، كما فعل عبد الله بن عمرو الذي يحكي للمتشددين من بعده قصته ليعتبر بها كل مبالغ متشدد في أمور الدين في كل عصر.
يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أُخبر رسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم أنى أقول: "لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت"، فقال رسول الله صلى الله عليهم وسلم: "أنت الذي تقول ذلك؟ فقلت: قد قلته يا رسول الله، فقال: إنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر"، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يوما وأفطر يومين"، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله، قال: صم يومًا وأفطر يومًا، وذلك صيام داود عليه السلام، وهو أعدل الصيام"، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك".
وذلك حتى يقطع الرسول على عبد الله تماديه في التشديد على نفسه، وقال له إن صيام يوم وإفطار يوم أفضل من صيام كل الأيام، حتى يكون ذلك وسيلة للقدرة على الدوام، وأفضل العبادة إلى الله تعالى أدْوَمُها وإن قل، ولذلك ندم عبد الله بن عمرو بعد أن كبرت سنه وضعف عن دوام العبادة التي تمسك بأدائها أمام رسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم وقال: "لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام صيامًا من كل شهر التي قال رسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم أحب إلي من أهلي ومالي، فندم لأنه لم يقبل إرشاد النبي ولم يسر في عبادته على هذه الرخصة السهلة التي يمكنه الدوام عليها، ولكنه لم يرض لنفسه أن يترك عبادة قال للنبي صلَّى الله عليه وسَلَّم إنه يطيقها، ولذلك ورد أنه كان يفطر أيامًا حتى يقوى، ثم يصوم ما فاته.
ولهذا أكد الرسول ضرورة الأخذ برخصة الله في العبادة؛ لأن الله أدرى بعباده منهم حينما أباح لهم ما أباح من تيسير، لذا قال صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((عليكم برخصة الله التي رخص لكم))، وإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وبلغ من تيسيرات الله أن من أفطر لعذر في رمضان، فليس عليه أن يقضي ما أفطر من أيام إلا بعد زوال العذر، ولا يجب عليه التتابع في القضاء.
وعلى المسلم أن يختار الأيسر؛ لأنه كما قال الرسول صلَّى الله عليه وسَلَّم : "إن خير دينكم أيسره"، وهذا اليسر الذي اتسم به الإسلام هو خير يسر وضعه الله في دين من الأديان السابقة، ومع هذا اليسر لم يحرم الإسلام على أتباعه أن يأخذوا بالعزم ويدربوا أنفسهم، منذ نعومة أظفارهم على العبادة حتى يألفوها إذا ما كبروا ولا تشق عليهم فيفاجأون حين يبلغون التكليف بالقيام بأعبائها فينفرون منها.
صحيح أن الصبيان غير مكلفين بصيام إلا حين يبلغون سن التكليف، إلا أن الإسلام أباح تدريبهم عليه، مما يدل عليه ما روته الصحابية الأنصارية الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ رضي الله عنها قالت: أرسل النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائمًا فليصم"، قالت: فكنا نصومه بعد ونُصوّم صبيانَنا، ونجعل لهم اللعبة من العهن - الصوف - فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك، حتى يكون عند الإفطار"، فمباح تعويد الأطفال على الصيام وشغلهم عن الطعام بأية وسيلة مسلية من لعبة أو غيرها، حتى يحين موعد الإفطار، وقياسًا على الصوم، يكون تدريب الأطفال على الصلاة باصطحابهم إلى المسجد، والصلاة أمامهم، لينشأ الأطفال على حب العبادة ويستمتعوا بحلاوة الإيمان حين يكبرون.
--------------------------------------------------------------------------------
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/3518/#ixzz5nToEjVFQ