وبعد:
قال الله تعالى لنبينا متمنناً عليه ومعرفاً لقدره لديه: وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً [النساء:113].
وقد فضل الله عز وجل بعض النبيين على بعض فقال تعالى: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً [البقرة:253].
أما حديث: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله)) وفي رواية: ((لا تخيروا بين الأنبياء))(1)[1]) وهو بكلتا روايتيه في الصحيح - فالمراد به النهي عن التفضيل بمجرد الرأي الذي لا يستند إلى دليل، أو المراد النهي عن التفضيل الذي يؤدي إلى نقص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو النهي عن التفضيل في النبوة نفسها، وهي لا مفاضلة فيها لقوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله [البقرة:284].
وقد دلت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على فضل نبينا .
فمن الأدلة على شرفه وفضله أنه ساد الكل كما في حديث عبد الله بن سلام من قوله : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه))(2)[2]).
ولما كان ذكر مناقب النفس إنما يذكر افتخارا في الغالب، أراد أن يقطع وهم من توهم من الجهلة أنه يذكر ذلك افتخارا فقال: ((ولا فخر)).
ومن الأدلة على شرفه أن الله تعالى أخبره بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك، بل الظاهر أنه لم يخبرهم، لأن كل واحد منهم إذا طلبت منهم الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصابها وقال: ((نفسي نفسي)) كما ورد في حديث الشفاعة الطويل وفيه أن الناس يذهبون إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى يطلبون الشفاعة، فكل منهم يذكر أن الله غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ثم يقول: ((نفسي نفسي )) ويحيلهم على غيره حتى يأتوا عيسى فيقول لهم ((لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) فإذا أتوا النبي قال: ((أنا لها أنا لها))(3)[3]).
ومنها أنه أول مشفع، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع))(4)[4]).
وهذه هي الشفاعة العظمى في الخلائق كلهم يوم القيامة، وهي المقام المحمود الذي اختص به نبينا في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً [الإسراء:79].
وعسى من الله واجبة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
ولنبينا شفاعات أخرى، منها شفاعته لأهل الجنة في دخولها، فلا تفتح لأحد قبله ، ومنها شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم، فيشفع لهم حتى لا يدخلوها، ومنها شفاعته لأهل الكبائر من أمته، ومنها شفاعته في بعض أهل الكفر حتى يخفف عنهم عذاب النار، وهذه خاصة بأبي طالب، ففي صحيح البخاري عن العباس قال: قلت يا رسول الله ما أغنيت عن عمك وكان يدفع عنك ويحوطك؟ قال: ((هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار))(5)[5]).
ومن شرفه وفضله إيثاره أمته على نفسه بدعوته، إذ جعل الله عز وجل لكل نبي دعوة مستجابة، فكل منهم تعجل دعوته في الدنيا، واختبأ هو دعوته شفاعة لأمته.
ففي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا))(6)[6]).
وقد دلت الأحاديث الكثيرة على رحمة النبي بأمته، وإيثاره إياهم على نفسه، ودعائه لهم في كل مناسبة تعرض له، بل بلغ من شفقته عليهم أنه أخذه البكاء عند الدعاء لهم، كما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله تلا قول إبراهيم: فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم [إبراهيم:118].
فرفع يده وقال: ((أمتي أمتي)) ثم بكى فقال الله تعالى يا جبريل: ((اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك))(7)[7]).
فصلى الله عليه وسلم وبارك وجزاه عنا أفضل ما جزى نبيا عن أمته .
ومن شرفه وفضله أن الله تعالى أقسم بحياته فقال: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [الحجر:72]. وإن حياته لجديرة أن يقسم الله عز وجل بها، لما فيها من البركة العامة والخاصة، أخرج ابن جرير عن ابن عباس، قال: ما خلق الله وما برأ وما ذرأ نفسا أكرم عليه من محمد ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [الحجر:72].
ومن شرفه وفضله أن الله تعالى وقره في ندائه، فناداه بأحب أسمائه وأسنى أوصافه فقال: يا أيها الرسول فنادى الله عز وجل الأنبياء بأسمائهم الأعلام فقال: ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة [الأعراف:19].
وقال: يا نوح اهبط بسلام [هود:48]. وقال: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا [الصافات:104-105]. وقال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة [مريم:12]. وما خاطب الله عز وجل نبينا إلا بقوله: يا أيها النبي أو بقوله: يا أيها الرسول ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا أحد عبيده بأفضل ما وجد فيه من الأوصاف العلية والأخلاق السنية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التي لا تشعر بوصف من الأوصاف ولا بخلق من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم.
وجمع الله عز وجل في الذكر بين خليله إبراهيم وخليله محمد ، فذكر خليله إبراهيم باسمه وخليله محمد بكنية النبوة فقال عز وجل: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي [آل عمران:68]، فكناه إجلالا له ورفعة لفضل مرتبته ووجاهته عنده ثم قدمه في الذكر على من تقدمه في البعث فقال: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً [الأحزاب:7].
ومن فضله وشرفه أن الله عز وجل أمر الأمة بتوقيره واحترامه، فأخبر عز وجل أن الأمم السابقة كانت تخاطب رسلها بأسمائهم الأعلام كقولهم: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة [الأعراف:138] وقولهم: يا هود ما جئتنا ببينة [هود:53]. وقولهم: يا صالح ائتنا بما تعدنا [الأعراف:77]. ونهى الله عز وجل أمة النبي أن ينادوه باسمه فقال عز وجل: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً [النور:63].
وعن ابن عباس في هذه الآية قال: كانوا يقولون: يا محمد يا أبا القاسم. فنهاهم الله عن ذلك إعظاما لنبيه فقال: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً فقالوا يا نبي الله يا رسول الله.
ونهى الله عز وجل أمة النبي أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته إعظاما له فقال عز جل: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [الحجرات:2].
ومن فضله وشرفه أن معجزة كل نبي تصرمت وانقضت ومعجزته وهي القرآن المبين - باقية إلى يوم الدين.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال النبي وآله: ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة))([8]).
قال العلماء: ليس المراد من الحديث حصر معجزاته في القرآن وأنه لم يؤت غيره .
وقال عمرو بن سوار: قال لي الإمام الشافعي: ما أعطى الله تعالى نبيا ما أعطى محمدا حنين الجذع فهذا أكبر من ذاك.
فمن معجزاته حنين الجذع اليابس وهذه المعجزة متواترة عن النبي كما روى أنس وابن عباس أن النبي كان يخطب على جذع، فلما اتخذ المنبر ذهب إلى المنبر، فحنّ الجذع فاحتضنه فقال: ((لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة)).
ومنها تفجير الماء من بين أصابعه قال بعضهم هذا مما تواتر أيضا عنه في مناسبات كثيرة عن جمع من الصحابة بعضها في الصحيحين كحديث أنس بن مالك قال: ((رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فأتي رسول الله بوضوء فوضع رسول الله في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضؤوا منه، قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم))(9)[9]).
ومنها تسليم الحجر عليه ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله : ((إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن))(10)[10]).
ومنها انشقاق القمر له قال الله تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [القمر:1-2].
فقد سأل أهل مكة رسول الله آية فأشار إلى القمر فانشق لإشارته .
ومن شرفه وفضله أن الله عز وجل يكتب لكل نبي من الأنبياء من الأجر بقدر أعمال أمته وأحوالها وأقوالها، وأمته شطر أهل الجنة.
فقد روى أحمد ومسلم والأربعة من حديث أبي هريرة بلفظ: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا))(11)[11]).
وأمته خير الأمم ، وإنما كانوا خير الأمم لما اتصفوا به من المعارف والأحوال والأقوال والأعمال، ولأجل هذا بكى موسى عليه السلام ليلة الإسراء بكاء غبطة غبط بها النبي إذ يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمة موسى عليه السلام، وصح هذا في قصة المعراج من حديث أنس بن مالك مرفوعا وفيه: (( ثم صعد بي إلى السماء السادسة فلما خلصت فإذا موسى، قال: جبريل: هذا موسى فسلم عليه. فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي))(12)[12]).
ومن شرفه وفضله أن الله تعالى أرسل كل نبي إلى قومه خاصة وأرسل نبينا إلى الجن والإنس ولذلك تمنن الله بقوله تعالى: ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا [الفرقان:51].
ووجه التمنن أنه لو بعث في كل قرية نذيرا، لما حصل لرسول الله إلا أجر إنذاره لأهل قريته.
ومن شرفه وفضله أنه صاحب الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وهي له .
ففي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص أنه سمع النبي يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة))(13)[13]).
ومن شرفه الكوثر الذي أعطاه الله عز وجل، وهو نهر في الجنة وحوض في الموقف .
روى أحمد ومسلم وغيرهما عن أنس قال: بينا رسول الله بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءه ثم رفع رأسه متبسما قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: لقد أنزلت علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر [الكوثر].
ثم قال: ((أتدرون ما الكوثر))؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم في السماء، فيختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك))(14)[14]).
ومن شرفه وفضله ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيْد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم - يعني الجمعة - فاختلفوا فيه، فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد))(15)[15]).
والمعنى أن هذه الأمة ببركة نبيها آخر الأمم خلقا، وأولهم دخولا الجنة يوم القيامة، وفي الحديث كذلك أن الله عز وجل قد فرض على الأمم السابقة يوما يعظمونه ويتعبدون فيه، فوقع اختيار اليهود على يوم السبت والنصارى على يوم الأحد، وهدى الله عز وجل أمة النبي ليوم الجمعة.
ومن فضله أنه أحلّت له الغنائم، ففي الصحيحين عن جابر أن النبي قال: ((أُعطيتُ خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة))(16)[16]).
ومن فضله أن الله عز وجل أثنى على خُلقه فقال: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].
واستعظام العظيم للشيء يدل على إيغاله في العظمة.
ومن فضله أن الله عز وجل أنزل أمته منزلة العدول من الحكام، فعن أبي سعيد الخدري قال :قال رسول الله ((يُدْعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسل عليهم شهيدا فذلك قوله عز وجل: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً (17)[17]) [البقرة:431]. والوسط: العدل.
ومن فضله حفظ كتابه كما قال تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر:9].
وقال عن الكتب السابقة { بما استحفظوا من كتاب الله [المائدة:44]. فجعل حفظه إليهم فضاع.
ومن فضله عصمة أمته فلا تجتمع على ضلالة، وحفظ طائفة من أمته لا تزال ظاهرة على الحق، كما في حديث البخاري وغيره: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))(18)[18]).
ومن فضله وشرفه أن الله عز وجل وهبه سبعين ألفا من أمته، يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وجوههم مثل القمر ليلة البدر، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وليس هذا لأحد غيره .
اللهم إنا نسألك محبة المصطفى كما آمنا به ولم نره، ولا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم اسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدا.
اللهم أحينا على سنته، وأمتنا على ملته، واحشرنا في زمرته.
قال الله تعالى لنبينا متمنناً عليه ومعرفاً لقدره لديه: وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً [النساء:113].
وقد فضل الله عز وجل بعض النبيين على بعض فقال تعالى: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً [البقرة:253].
أما حديث: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله)) وفي رواية: ((لا تخيروا بين الأنبياء))(1)[1]) وهو بكلتا روايتيه في الصحيح - فالمراد به النهي عن التفضيل بمجرد الرأي الذي لا يستند إلى دليل، أو المراد النهي عن التفضيل الذي يؤدي إلى نقص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو النهي عن التفضيل في النبوة نفسها، وهي لا مفاضلة فيها لقوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله [البقرة:284].
وقد دلت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على فضل نبينا .
فمن الأدلة على شرفه وفضله أنه ساد الكل كما في حديث عبد الله بن سلام من قوله : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه))(2)[2]).
ولما كان ذكر مناقب النفس إنما يذكر افتخارا في الغالب، أراد أن يقطع وهم من توهم من الجهلة أنه يذكر ذلك افتخارا فقال: ((ولا فخر)).
ومن الأدلة على شرفه أن الله تعالى أخبره بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك، بل الظاهر أنه لم يخبرهم، لأن كل واحد منهم إذا طلبت منهم الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصابها وقال: ((نفسي نفسي)) كما ورد في حديث الشفاعة الطويل وفيه أن الناس يذهبون إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى يطلبون الشفاعة، فكل منهم يذكر أن الله غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ثم يقول: ((نفسي نفسي )) ويحيلهم على غيره حتى يأتوا عيسى فيقول لهم ((لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) فإذا أتوا النبي قال: ((أنا لها أنا لها))(3)[3]).
ومنها أنه أول مشفع، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع))(4)[4]).
وهذه هي الشفاعة العظمى في الخلائق كلهم يوم القيامة، وهي المقام المحمود الذي اختص به نبينا في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً [الإسراء:79].
وعسى من الله واجبة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
ولنبينا شفاعات أخرى، منها شفاعته لأهل الجنة في دخولها، فلا تفتح لأحد قبله ، ومنها شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم، فيشفع لهم حتى لا يدخلوها، ومنها شفاعته لأهل الكبائر من أمته، ومنها شفاعته في بعض أهل الكفر حتى يخفف عنهم عذاب النار، وهذه خاصة بأبي طالب، ففي صحيح البخاري عن العباس قال: قلت يا رسول الله ما أغنيت عن عمك وكان يدفع عنك ويحوطك؟ قال: ((هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار))(5)[5]).
ومن شرفه وفضله إيثاره أمته على نفسه بدعوته، إذ جعل الله عز وجل لكل نبي دعوة مستجابة، فكل منهم تعجل دعوته في الدنيا، واختبأ هو دعوته شفاعة لأمته.
ففي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا))(6)[6]).
وقد دلت الأحاديث الكثيرة على رحمة النبي بأمته، وإيثاره إياهم على نفسه، ودعائه لهم في كل مناسبة تعرض له، بل بلغ من شفقته عليهم أنه أخذه البكاء عند الدعاء لهم، كما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله تلا قول إبراهيم: فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم [إبراهيم:118].
فرفع يده وقال: ((أمتي أمتي)) ثم بكى فقال الله تعالى يا جبريل: ((اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك))(7)[7]).
فصلى الله عليه وسلم وبارك وجزاه عنا أفضل ما جزى نبيا عن أمته .
ومن شرفه وفضله أن الله تعالى أقسم بحياته فقال: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [الحجر:72]. وإن حياته لجديرة أن يقسم الله عز وجل بها، لما فيها من البركة العامة والخاصة، أخرج ابن جرير عن ابن عباس، قال: ما خلق الله وما برأ وما ذرأ نفسا أكرم عليه من محمد ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [الحجر:72].
ومن شرفه وفضله أن الله تعالى وقره في ندائه، فناداه بأحب أسمائه وأسنى أوصافه فقال: يا أيها الرسول فنادى الله عز وجل الأنبياء بأسمائهم الأعلام فقال: ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة [الأعراف:19].
وقال: يا نوح اهبط بسلام [هود:48]. وقال: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا [الصافات:104-105]. وقال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة [مريم:12]. وما خاطب الله عز وجل نبينا إلا بقوله: يا أيها النبي أو بقوله: يا أيها الرسول ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا أحد عبيده بأفضل ما وجد فيه من الأوصاف العلية والأخلاق السنية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التي لا تشعر بوصف من الأوصاف ولا بخلق من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم.
وجمع الله عز وجل في الذكر بين خليله إبراهيم وخليله محمد ، فذكر خليله إبراهيم باسمه وخليله محمد بكنية النبوة فقال عز وجل: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي [آل عمران:68]، فكناه إجلالا له ورفعة لفضل مرتبته ووجاهته عنده ثم قدمه في الذكر على من تقدمه في البعث فقال: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً [الأحزاب:7].
ومن فضله وشرفه أن الله عز وجل أمر الأمة بتوقيره واحترامه، فأخبر عز وجل أن الأمم السابقة كانت تخاطب رسلها بأسمائهم الأعلام كقولهم: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة [الأعراف:138] وقولهم: يا هود ما جئتنا ببينة [هود:53]. وقولهم: يا صالح ائتنا بما تعدنا [الأعراف:77]. ونهى الله عز وجل أمة النبي أن ينادوه باسمه فقال عز وجل: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً [النور:63].
وعن ابن عباس في هذه الآية قال: كانوا يقولون: يا محمد يا أبا القاسم. فنهاهم الله عن ذلك إعظاما لنبيه فقال: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً فقالوا يا نبي الله يا رسول الله.
ونهى الله عز وجل أمة النبي أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته إعظاما له فقال عز جل: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [الحجرات:2].
ومن فضله وشرفه أن معجزة كل نبي تصرمت وانقضت ومعجزته وهي القرآن المبين - باقية إلى يوم الدين.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال النبي وآله: ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة))([8]).
قال العلماء: ليس المراد من الحديث حصر معجزاته في القرآن وأنه لم يؤت غيره .
وقال عمرو بن سوار: قال لي الإمام الشافعي: ما أعطى الله تعالى نبيا ما أعطى محمدا حنين الجذع فهذا أكبر من ذاك.
فمن معجزاته حنين الجذع اليابس وهذه المعجزة متواترة عن النبي كما روى أنس وابن عباس أن النبي كان يخطب على جذع، فلما اتخذ المنبر ذهب إلى المنبر، فحنّ الجذع فاحتضنه فقال: ((لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة)).
ومنها تفجير الماء من بين أصابعه قال بعضهم هذا مما تواتر أيضا عنه في مناسبات كثيرة عن جمع من الصحابة بعضها في الصحيحين كحديث أنس بن مالك قال: ((رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فأتي رسول الله بوضوء فوضع رسول الله في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضؤوا منه، قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم))(9)[9]).
ومنها تسليم الحجر عليه ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله : ((إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن))(10)[10]).
ومنها انشقاق القمر له قال الله تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [القمر:1-2].
فقد سأل أهل مكة رسول الله آية فأشار إلى القمر فانشق لإشارته .
ومن شرفه وفضله أن الله عز وجل يكتب لكل نبي من الأنبياء من الأجر بقدر أعمال أمته وأحوالها وأقوالها، وأمته شطر أهل الجنة.
فقد روى أحمد ومسلم والأربعة من حديث أبي هريرة بلفظ: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا))(11)[11]).
وأمته خير الأمم ، وإنما كانوا خير الأمم لما اتصفوا به من المعارف والأحوال والأقوال والأعمال، ولأجل هذا بكى موسى عليه السلام ليلة الإسراء بكاء غبطة غبط بها النبي إذ يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمة موسى عليه السلام، وصح هذا في قصة المعراج من حديث أنس بن مالك مرفوعا وفيه: (( ثم صعد بي إلى السماء السادسة فلما خلصت فإذا موسى، قال: جبريل: هذا موسى فسلم عليه. فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي))(12)[12]).
ومن شرفه وفضله أن الله تعالى أرسل كل نبي إلى قومه خاصة وأرسل نبينا إلى الجن والإنس ولذلك تمنن الله بقوله تعالى: ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا [الفرقان:51].
ووجه التمنن أنه لو بعث في كل قرية نذيرا، لما حصل لرسول الله إلا أجر إنذاره لأهل قريته.
ومن شرفه وفضله أنه صاحب الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وهي له .
ففي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص أنه سمع النبي يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة))(13)[13]).
ومن شرفه الكوثر الذي أعطاه الله عز وجل، وهو نهر في الجنة وحوض في الموقف .
روى أحمد ومسلم وغيرهما عن أنس قال: بينا رسول الله بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءه ثم رفع رأسه متبسما قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: لقد أنزلت علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر [الكوثر].
ثم قال: ((أتدرون ما الكوثر))؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم في السماء، فيختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك))(14)[14]).
ومن شرفه وفضله ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيْد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم - يعني الجمعة - فاختلفوا فيه، فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد))(15)[15]).
والمعنى أن هذه الأمة ببركة نبيها آخر الأمم خلقا، وأولهم دخولا الجنة يوم القيامة، وفي الحديث كذلك أن الله عز وجل قد فرض على الأمم السابقة يوما يعظمونه ويتعبدون فيه، فوقع اختيار اليهود على يوم السبت والنصارى على يوم الأحد، وهدى الله عز وجل أمة النبي ليوم الجمعة.
ومن فضله أنه أحلّت له الغنائم، ففي الصحيحين عن جابر أن النبي قال: ((أُعطيتُ خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة))(16)[16]).
ومن فضله أن الله عز وجل أثنى على خُلقه فقال: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].
واستعظام العظيم للشيء يدل على إيغاله في العظمة.
ومن فضله أن الله عز وجل أنزل أمته منزلة العدول من الحكام، فعن أبي سعيد الخدري قال :قال رسول الله ((يُدْعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسل عليهم شهيدا فذلك قوله عز وجل: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً (17)[17]) [البقرة:431]. والوسط: العدل.
ومن فضله حفظ كتابه كما قال تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر:9].
وقال عن الكتب السابقة { بما استحفظوا من كتاب الله [المائدة:44]. فجعل حفظه إليهم فضاع.
ومن فضله عصمة أمته فلا تجتمع على ضلالة، وحفظ طائفة من أمته لا تزال ظاهرة على الحق، كما في حديث البخاري وغيره: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))(18)[18]).
ومن فضله وشرفه أن الله عز وجل وهبه سبعين ألفا من أمته، يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وجوههم مثل القمر ليلة البدر، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وليس هذا لأحد غيره .
اللهم إنا نسألك محبة المصطفى كما آمنا به ولم نره، ولا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم اسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدا.
اللهم أحينا على سنته، وأمتنا على ملته، واحشرنا في زمرته.