الفصل الرابع في ذكر أخبارهم على الجملة من قبل الفتح الإسلامي و من بعده الى ولاية بني الأغلب
هؤلاء البربر جيل و شعوب وقبائل أكثر من أن تحصى حسبما هو معروف في تاريخ الفتح بأفريقية و المغرب و في أخبار ردتهم و حروبهم فيها نقل ابن أبي الرقيق أن موسى ابن نصير لما فتح سقوما كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من سبي سقوما مائة ألف رأس فكتب إليه الوليد بن عبد الملك و يحك إني أظنها من بعض كذباتك فإن كنت صادقا فهذا محشر الأمة و لم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل و إلى الإسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي و بلاد السودان منذ أزمنة لا يعرف أولها و لا ما قبلها و كان دينهم دين المجوسية شأن الأعاجم كلهم بالمشرق و المغرب إلا في بعض الأحايين يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم فإن الأمم أهل الدول العظيمة كانوا يتغلبون عليهم فقد غزتهم ملوك اليمن من قرارهم مرارا على ما ذكر مؤرخوهم فاستكانوا لغلبهم و دانوا بدينهم
ذكر ابن الكلبي أن حمير أبا لقبائل اليمانية ملك المغرب مائة سنة و أنه الذي ابتني مدائنه مثل أفريقية و صقلية و اتفق المؤرخون على غزو أفريقش بن صيفي من التبايعة إلى المغرب كما ذكرنا في أخبار الروم و اختطوا بسبب البحر و ما يليه من الأرياف مدنا عظيمة الخطة وثيقة المباني شهيرة الذكر باقية المعالم و الآثار لهذا لعهد مثل :
سبيطلة و جلولاء و مزناق و طاقة و زانة و غيرها من المدن التي خربها المسلمون من العرب لأول الفتح عند استيلائهم عليها و قد كانوا دانوا العهد هم بما تعبدوهم به من دين النصرانية و أعطوهم المهادنة و أدوا إليهم الجباية طواعية
و كن للبربر في الضواحي وراء ملك الأمصار المرهوبة الحامية ما شاء من قوة و عدة و عدد و ملوك و رؤساء و أقيال و أمراؤها لا يرامون بذل و لا ينالهم الروم و الإفرنج في ضواحيهم تلك بمسخطة الإساءة و قد صبحهم الإسلام و هم في مملكة قد استولوا على رومة
و كانوا يؤدون الجباية لهرقل ملك القسطنطينية كما كان المقوقس صاحب الإسكندرية و برقة و مصر يؤدون الجباية له و كما كن صاحب طرابلس و لبدة و صبرة و صاحب صقلية و صاحب الأندلس من الغوط لما كان الروم غلبوا على هؤلاء الأمم أجمع و عنهم كلهم أخذوا دين النصرانية فكان الفرنجة هم الذين ولوا أمر أفريقية و لم يكن للروم فيها شيء من ولاية و إنما كان كل من كان منهم بها جندا للإفرنج و من حشودهم و ما يسمع في كتب الفتح من ذكر الروم في فتح أفريقية فمن باب التغليب لأن العرب يومئذ لم يكونوا يعرفون الفرنج و ما قاتلوا في الشام إلا الروم فظنوا أنهم هم الغالبون على أمم النصرانية فإن هرقل هو ملك النصرانية كلها فغلبوا إسم الروم على جميع أمم النصرانية
و نقلت الأخبار عن العرب كما هي فجرجير المقتول عند الفتح من الفرنج و ليس من الروم و كذا الأمة الذين كانوا بأفريقية غالبين على البربر و نازلين بمدنها و حصونها إنما كانوا من الفرنجة و كذلك ربما كان بعض هؤلاء البربر دانوا بدين اليهودية أخذوه عن بني إسرائيل عند استفحال ملكهم لقرب الشام و سلطانه منهم كما كان جراءة أهل جبل أوراس قبيلة الكاهنة مقتولة العرب لأول الفتح و كما كانت نفوسة من برابر أفريقية قندلاوة و مدينونة و بهلولة و غياتة و بنو بازاز من برابرة المغرب الأقصى حتى محا إدريس الأكبر الناجم بالمغرب من بني حسن بن الحسن جميع ما كان في نواحيه من بقايا الأديان و الملل فكان البربر بأفريقية و المغرب قبل الإسلام تحت ملك الفرنج و على دين النصرانية الذي اجتمعوا عليه مع الروم كما ذكرناه حتى إذا كان الفتح و زحف المسلمون إلى أفريقية زمان عمر رضي الله عنه سنة تسع و عشرين و غلبهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤي فجمع لهم جرير ملك الفرنجة يومئذ بأفريقية من كان بأمصارها من الفرنج و الروم و من بضواحيها من جموع البربر و ملوكهم
و كان ملك ما بين طرابلس و طنجة و كانت دار ملكه سبيطلة فلقوا المسلمين في زهاء مائة و عشرين ألفا و المسلمون يومئذ في عشرين ألفا فكان من هزيمة العرب لهم و فتحهم لسبيطلة و تخريبهم إياها و قتلهم جرجير ملكهم و ما نفلهم الله من أموالهم و بناتهم التي اختصت منهم إبنته بقاتله عبد الله بن الزبير لعهد المسلمين له بذلك بعد الهزيمة و خلوصه بخبر الفتح إلى الخليفة و الملأ من المسلمين بالمدينة ما هو كله مذكور مشهور ثم أزرىء الفرنجة و من معهم من الروم بعد الهزيمة و خلوصه بخبر الفتح إلى حصون أفريقية و انساح المسلمون في البسائط بالغارات و وقع بينهم و بين البربر أهل الضواحي زحوف و قتل و سبي حتى لقد حصل في أسرهم يومئذ من ملوكهم و زمار بن صقلاب جد بني خزر و هو يومئذ أمير مغراوة و سائر زناتة و رفعوه إلى عثمان بن عفان فأسلم على يده و من عليه و أطلقه و عقد له على قومه
و يقال إنما وصله وافدا و صن المسلمين عليهم ولاذ الفرنج بالسلم و شرطوا لابن أبي سرح ثلثمائة قنطار من الذهب على أن يرحل عنهم بالعرب و يخرج بهم من بلادهم ففعل و رجع المسلمون إلى المشرق و شغلوا بما كان من الفتن الإسلامية
ثم كان الاجتماع و الاتفاق على معاوية بن أبي سفيان و بعث معاوية بن خديج السكوني من مصر لافتتاح أفريقية سنة خمس و أربعين و بعث ملك الروم من القسطنطينية عساكره لمدافعتهم في البحر فلم تغن شيئا و هزمهم العرب ساحل أجم و حاصروا جلولاء و فتحوها و قفل معاوية بن خديج إلى مصر فولى معاوية بن أبي سفيان على أفريقية بعده عقبة بن نافع فاختط القيروان و افترق أمر الفرنجة و صاروا إلى الحصون و بقي البربر بضواحيهم إلى أن ولي يزيد بن معاوية و ولى على أفريقية أبا المهاجر مولى و كانت رياسة البربر يومئذ في أوربة لكسيلة بن لمزم و هو رأس البرانس و مرادفه سكرديد بن رومي بن مازرت من أوربة و كان على دين النصرانية فأسلما الأول الفتح ثم ارتدا عند ولاية أبي المهاجر و اجتمع إليهما البرانس و زحف إليهم حتى نزل عيون تلمسان فهزمهم و ظفر بكسيلة فأسلم و استبقاه ثم جاء عقبة بعد أبي المهاجر فنكبه غيظا على صحابته لأبي المهاجر ثم استفتح حصون الفرنجة مثل ماغانة و لميس و لقيه ملوك البربر بالزاب وتاهرت فغضهم جمعا بعد جمع و دخل المغرب الأقصى و أطاعته غمارة و أميرهم يومئذ بليان ثم جاز إلى وليلى ثم جبال درن و قتل المصامدة و كانت بينهم و بينه حروب و حاصروه بجبال درن و نهضت إليهم جموع زناتة و كانوا خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة فأفرجت المصامدة عن عقبة و أثخن فيهم حتى حملهم على طاعة الإسلام و دوخ بلادهم ثم أجاز إلى بلاد السوس لقتال من بها من صنهاجة أهل اللثام و هو يومئذ على دين المجوسية ولم يدينوا بالنصرانية فأثخن فيهم و انتهى إلى تارودانت و هزم جموع البربر و قاتل مسوفة من وراء السوس و ساسهم و قفل راجعا و كسيلة أثناء هذا كله في اعتقاله بجمعه معه في عسكره سائر غزواته فلما قفل من السوس سرح العساكر إلى القيروان حتى بقي في خف من الجنود و تراسل كسيلة و قومه فأرسلوا له شهودا و انتهزوا الفرصة فيه و قتلوه و من معه و ملك كسيلة أفريقية خمس سنين و نزل القيروان و أعطى الأمان لمن بقي بها ممن تخلف من العرب أهل الذراري و الأثقال و عظم سلطانه على البربر
و زحف قيس بن زهير البلوي في ولاية عبد الملك للثأر بدم عقبة سنة سبع و ستين و جمع له كسيلة سائر البربر و لقيه بجيش من نواحي القيروان فاشتد القتال بين الفريقين ثم انهزم البربر و قتل كسيلة و من لا يحصى منهم و أتبعهم العرب إلى محنة ثم إلى ملوية و في هذه الواقعة ذل البربر و فنيت فرسانهم و رجالهم و خضت شوكتهم و اضمحل أمر الفرنجة فلم يعد و خاف البربر من زهير و من العرب خوفا شديدا فلجؤا إلى القلاع و الحصون
ثم ترك زهير بعدها و قفل إلى المشرق فاستشهد ببرقة كما ذكرناه و اضطرمت أفريقية نارا و افترق أمر البربر و تعدد سلطانهم في رؤسائهم و كان من أعظمهم شأنا يومئذ الكاهنة دهيا بنت ماتية بن تيفان ملكة جبل أوراس و قومها من جراوة ملوك البتر و زعمائهم فبعث عبد الملك إلى حسان بن النعمان الغساني عامله على مصر أن يخرج إلى جهاد أفريقية و بعث إليه بالمدد فزحف إليها سنة تسع وسبعين و دخل القيروان و غزا قرطاجنة و افتتحها عنوة و ذهب من كان بقي بها من الإفرنجة إلى صقلية و إلى الأندلس
ثم سأل عن أعظم ملوك البربر فدلوه على الكاهنة و قومها جراوة فمضى إليها حتى نزل وادي مسكيانة و زحف إليه فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزم المسلمون و قتل منهم خلق كثير و أسر خالد بن يزيد القيسي و لم تزل الكاهنة و البربر في اتباع حسان و العرب حتى أخرجوهم من عمل قابس و لحق حسان بعمل طرابلس و لقيه كتاب عبد الملك بالمقام فأقام و بنى قصوره و تعرف لهذا العهد به ثم رجعت الكاهنة إلى مكانها و اتخذت عهدا عند أسيرها خالد بالرضاع مع إبنتها و أقامت في سلطان أفريقية و البربر خمس سنين ثم بعث عبد الملك إلى حسان بالمدد فرجع إلى أفريقية سنة أربع و سبعين و خرجت الكاهنة جميع المدن و الضياع وكانت من طرابلس إلى طنجة ظلا و احدا في قرى متصلة
و شق ذلك على البربر فاستأمنوا لحسان فأمنهم و وجد السبيل إلى تفريق أمرها و زحف إليها و هي في جموعها من البربر فانهزموا و قتلت الكاهنة بمكان السر المعروف بها لهذا العهد بجبل أوراس و استأمن إليه البربر على الإسلام و الطاعة و على أن يكون منهم إثنا عشر ألفا مجاهدين معه فأجابوا و أسلموا و حسن إسلامهم و عقد للأكبر من ولد الكاهنة على قومهم من جراوة و على جبل أوراس فقالوا : لزمنا الطاعة له سبقناها إليها و بايعناه عليها و أشارت عليهم بذلك لإثارة من علم كانت لديها بذلك من شياطينها و انصرف حسان إلى القيروان فدون الدواوين و صالح من التقى بيده إلى البربر على الخراج و كتب الخراج على عجم أفريقية و من أقام معهم على النصرانية من البربر و البرانس و اختلفت أيدي البربر فيما بينهم على أفريقية و المغرب فخلت أكثر البلاد و قدم موسى بن نصير إلى القيروان واليا على أفريقية ورأى ما فيها من الخلاف و كان ينقل العجم من الأقاصي إلى الأداني و أثخن في البربر
و دوخ المغرب و أدى إليه البربر الطاعة و ولي على طنجة طارق بن زياد و أنزل معه سبعة و عشرين ألفا من العرب و اثني عشر ألفا من البربر و أمرهم أن يعلموا البربر القرآن و الفقه ثم أسلم بقية البربر على يد إسمعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر سنة إحدى و مائة
و ذكر أبو محمد بن أبي زيد : إن البربر ارتدوا إثنتي عشرة مرة من طرابلس إلى طنجة ولم يستقر إسلامهم حتى أجاز طارق و موسى بن نصير إلى الأندلس بعد أن دوخ المغرب و أجاز معه كثير من رجالات البربر أمرائهم برسم الجهاد فاستقروا و رسخت فيهم لدن الفتح فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب و أذعن البربر لحكمه و رسخت فيهم كلمة الإسلام و تناسوا الردة ثم نبضت فيهم عروق الخارجية فدانوا بها و لقنوها من العرب الناقلة ممن سمعها بالعراق و تعددت طوائفهم و تشعبت طرقها من الإباضية و الصفرية كما ذكرنا في أخبار الخوارج
و فشت هذه البدعة و عقدها رؤس النفاق من العرب و جرت إليهم الفتنة من البربر ذريعة إلى الانتزاء على الأمر فاختلوا في كل جهة ودعوا إلى قائدهم طغام البربر تتلون عليهم مذاهب كفرها و يلبسون الحق بالباطل فيها إلى أن رسخت فيهم عروق من غرائسها
ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمراء العرب فقتلوا يزيد بن أبي مسلم سنة إثنتين و مائة لما نقموا عليه في بعض الفعلات ثم انتقض البربر بعد ذلك سنة إثنتين و عشرين و مائة في ولاية عبد الله بن الحجاب أيام هشام بن عبد الملك لما أوطأ عساكره بلاد السوس و أثخن في البربر و سبى و غنم و انتهى إلى مسوفة فقتل و سبى و داخل البربر منه رعب و بلغه أن البربر أحسوا بأنهم فيء للمسلمين فانتقضوا عليه
و ثار ميسرة المطغتي بطنجة على عمرو بن عبد الله فقتله و بايع لعبد الأعلى بن جريح الأفريقي رومي الأصل و مولى العرب كان مقدم الصفرية من الخوارج في انتحال مذهبهم فقام بأمرهم مدة و بايع ميسرة لنفسه بالخلافة داعيا إلى نحلته من الخارجية على مذهب الصفرية ثم ساءت سيرته فنقم عليه البربر ما جاء به فقتلوه و قدموا على أنفسهم خالد بن حميد الزناتي
قال ابن عبد الحكم هو من هتورة إحدى بطون زناتة فقام بأمرهم و زحف إلى العرب و سرح إليهم عبد الله بن الحجاب العساكر في مقدمته و معهم خالد بن أبي حبيب فالتقوا بوادي شلف و انهزم العرب و قتل خالد بن أبي حبيب و من معه و سميت وقعة الأسراب و انتقضت البلاد و مرج أمر الناس و بلغ الخبر هشام بن عبد الملك فعزل ابن حجاب و ولى كلثوم بن عياض القشيري سنة ثلاث و عشرين و سرحه في إثني عشر ألفا من أهل الشام و كتب إلى ثغور مصر و برقة و طرابلس أن يمدوه فخرج إلى أفريقية و المغرب حتى بلغ وادي طنجة و هو وادي سبس فزحف إليه خالد ابن حميد الزناتي فيمن معه من البربر و كانوا خلقا لا يحصى و لقوا كلثوم بن عياض من بعد أن هزموا مقدمته فاشتد القتال بينهم و قتل كلثوم و أضرمت العساكر فمضى أهل الشآم إلى الأندلس مع فلح بن بشر القشيري و مضى أهل مصر و أفريقية إلى القيروان
و بلغ الخبر إلى هشام بن عبد الملك فبعث حنظلة بن سفيان الكلبي فقدم القيروان سنة أربع و عشرين و أربعمائة و هوارة يومئذ خوارج على الدولة منهم عكاشة بن أيوب و عبد الواحد بن يزيد في قومهما فثارت هوارة و من تبعهم من البربر فهزمهم حنظلة بن المعز بظاهر القيروان بعد قتال شديد و قتل عبد الواحد الهواري و أخذ عكاشة أسيرا و أحصيت القتلى في هذه الوقيعة فكانوا مائة و ثمانين ألفا و كتب بذلك حنظلة إلى هشام و سمعها الليث بن سعد فقال :
ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر أحب إلي من غزوة القرن و الأصنام
ثم خفت صوت الخلافة بالمشرق و التاث أمرها لما كان من بني أمية من الفتنة و ما كان من أمر الشيعة و الخوارج مع مروان و أقضى الأمر إلى الإدالة ببني العباس من بني أمية و أجاز البحر عبد الرحمن بن حبيب من الأندلس إلى أفريقية فملكها و غلب حنظلة عليها سنة ست و عشرين و مائة فعادت هيف إلى أديانها و استشرى داء البربر و أعضل أمر الخارجية و رؤسها فانتقضوا من أطراف البقاع و تواثبوا على الأمر بكل ما كان داعين إلى بدعتهم و تولى كبر ذلك يومئذ صنهاجة و تغلب أميرهم ثابت بن وزيدون و قومه على باجة و ثار معه عبد الله بن سكرديد من أمرائهم فيمن تبعه
و ثار بطرابلس عبد الجبار و الحرث من هوارة و كانا يدينان برأي الإباضية فقتلوا عامل طرابلس بكر بن عيسى القيسي لما خرج إليهم يدعوهم إلى الصلح و بقي الأمر على ذلك مدة و ثار إسمعيل بن زياد في قتل البربر و أثخن فيهم و زحف إلى تلمسان سنة خمس و ثلاثين و مائة فظفر بها و دوخ المغرب و أذل من كان فيه من البربر ثم كانت بعد ذلك فتنة و ربجومة و سائر قبائل نفزاوة سنة أربعين و مائة و ذلك لما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر و قتله أخواه إلياس و عبد الوارث فولي مكانه ابنه حبيب و طالبهما بثأر أبيه فقتل إلياس و لحق عبد الوارث بوربجومة فأجاره أميرهم عاصم بن جميل و تبعه على شأنه يزيد بن سكوم أمير ولهاصه و اجتمعت لهم كلمة نفزاوة و دعوا لأبي جعفر المنصور و زحفوا إلى القيروان و دخلوها عنوة و فر حبيب بن قابس فأتبعه عاصم في نفزاوة و قبائلهم
و ولي على القيروان عبد الملك بن أبي الجعد النغزي ثم انهزم حبيب إلى أوراس و اتبعه عاصم فاعترضه عبد الملك بن أبي الجعد و جموع نفزاوة الذين كانوا بالقيروان و قتلوه و استولت و ربجومة على القيروان و سائر أفريقية و قتلوا من كان بها من قريش و ربطوا دوابهم بالمسجد الجامع و اشتد البلاء على أهل القيروان و أنكرت ذلك من فعل و ربجومة و من إليهم من نفزاوة برابرة طرابلس الإباضية من هوارة و زناتة فخرجوا و اجتمعوا إلى أبي الخطاب عليها و اجتمع إليه سائر البربر الذين كانوا هنالك من زناتة و هوراة و زحف بهم إلى القيروان فقتل عبد الملك بن أبي الجعد و سائر و ربجومة و نفزاوة و استولى على القيروان سنة إحدى و أربعين و مائة ثم ولي على القيروان عبد الرحمن بن رستم و هو من أبناء رستم أمير فارس بالقادسية كان من موالي العرب و من رؤس هذه البدعة
و رجع أبو الخطاب إلى طرابلس و اضطرم المغرب نارا و انتزى خوارج البربر على الجهات فملكوها و اجتمعت الصفرية من مكناسة بناحية المغرب منه أربعين و مائة و قدموا عليهم عيسى بن يزيد الأسود و أسسوا مدينة سجلماسة و نزلوها و قدم محمد بن الأشعث واليا على أفريقية من أبي جعفر المنصور فزحف إليه أبو الخطاب و لقيه بسرت فهزموا ابن الأشعث و قتل البربر ببلاد ريفا و فر عبد الرحمن بن رستم من القيروان إلى تاهرت بالمغرب الأوسط و اجتمعت إليه طوائف البربر الإباضية من لماية و رجالة و نفزاوة فنزل بها و اختط مدينتها سنة أربع و أربعين و مائة و ضبط ابن الأشعث أفريقية و خافه البربر
ثم انتقل بنو يفرن من زناتة و مغيلة من البربر بنواحي تلمسان و قدموا على أنفسهم أبا قرة من بني يفرن و يقال أنه من مغيلة و هو الأصح في شأنه و بويع له بالخلافة سنة ثمان و أربعين و مائة
و زحف إليه الأغلب بن سود التميمي عامل طبنة فلما قرب منه هرب أبو قرة فنزل الأغلب الزاب ثم اعتزم على تلسمان ثم طنجة و رجع إليه الجند فرجع ثم انتقض البربر من بعد ذلك أيام عمرو بن حفص من ولد قبيصة ابن أبي صفرة أخي المهلب
و كان تغلب هوارة منذ سنة إحدى و خمسين و مائة و اجتمعوا بطرابلس و قدموا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب بن مرين بن تطوفت من أمراء مغيلة و يسمى أبا قادم
و زحفت إليهم جنود عمر بن حفص فهزموها و ملكوا طرابلس و زحفوا إلى القيروان فحاصروها ثم زحف البرابرة من الجانب الآخر بجنود عمر بطبنة في إثني عشر معسكرا و كان منهم أبو قرة في أربعين ألفا من الصفرية و عبد الرحمن بن رستم في ستة آلاف من الإباضية و المسور بن هانيء في عشرة آلاف كذلك و جرير بن مسعود فيمن تبعه من مديونة و عبد الملك ابن سكرديد الصنهاجي في ألفين منهم من الصفرية
و اشتد الحصار على عمر بن حفص فأعمل الحيلة في الخلاف بين جماعتهم و كان بنو يفرن من زناتة أكثر البرابرة يومئذ جمعا و أشدهم قوة فصالح أبو قرة زعيمهم على أربعين ألفا و أعطى إبنه في اتمام ذلك أربعة آلاف و افترقوا و ارتحلوا عن طبنة ثم بعث بعثا إلى ابن رستم فهزمه و دخل تاهرت مفلولا و زحف عمر بن حفص إلى أبي حاتم و البربر الإياضية الذين معه و نهضوا إليه فخالفهم إلى القيروان و شحنها بالأقوات و الرجال
ثم لقي أبا حاتم و البربر و هزموه و رجع إلى القيروان و حاصروه و كانوا في ثلثمائة و خمسين ألفا الخيل منها خمسة و ثلاثون ألفا و كانوا كلهم إباضية و طال الحصار و قتل عمر بن حفص في بعض أيامه سنة أربع و خمسين و مائة و صالح أهل القيروان أبا حاتم على ما أحب و ارتحل و قدم يزيد بن قبيصة بن المهلب سنة أربع و خمسين و مائة واليا على أفريقية فزحف إليه أبو حاتم بعد أن خالف عليه عمر بن عثمان الفهري و افترق أمرهم فلقيه يزيد بن حاتم بطرابلس فقتل أبو حاتم و انهزم البربر و لحق عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن من أصحاب أبي حاتم بكتامة و بعث المخارق بن غفار الطائي فحاصره ثمانية أشهر ثم غلب عليه فقتله و من كان معه من البربر و هربوا إلى كل ناحية و كانت حروبهم مع الجند من لدن قتل عمر بن حفص بطبنه إلى انقضاء ثلثمائة و خمسة و سبعين حربا
و قدم يزيد أفريقية فزال فسادها و رتب القيروان و لم تزل البلاد هادئة و انتقض ورفجومة سنة سبع و خمسين و مائة و ولوا عليهم رجلا منهم إسمه أبو زرجونة فسرح إليه يزيد من عشيرة ابن محراة المهلبي فهزموه و استأذنه إبنه المهلب و كان على الزاب وطبنة وكتامة في الزحف إلى ورفجومة فأذن له و أمده بالعلاء بن سعيد ابن مراون المهلبي من عشيرتهم أيضا فأوقع بهم و قتلهم أبرح قتل و انتقض نفزاوة من بعد ذلك في سلطنة إبنه داود من بعد مهلكه سنة إحدى و ستين و مائة و ولوا عليهم صالح بن نصير النفزي و دعوا إلى رأيهم رأي الإباضية فسرح إليهم ابن عمه سليمان بن الصمة في عشرة آلاف فهزمهم و قتل البربر أبرح قتل
ثم تحيز إلى صالح بن نصير و لم يشهد الأولى من البربر الإباضية و اجتمعوا بشقبنارية فهزمهم إليها سليمان ثانية وانصرف إلى القيروان
و ركدت ريح الخوارج من البربر من أفريقية و تداعت بدعتهم إلى الاضمحلال و رغب عبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت سنة إحدى و سبعين و مائة في موادعة صاحب القيروان روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب فوادعه و انحصدت شوكة البربر و استكانوا للغلب و أطاعوا للدين فضرب الإسلام بجرانه و ألقت الدولةالضريبة على البربر بكلكلها و تقلد إبراهيم بن الأغلب التميمي أمر أفريقية و المغرب من قبل الرشيد هرون سنة خمس و ثمانين و مائة فاضطلع بأمر هذه الولاية و أحسن السيرة و قوم القتاد و رأب الصدع و جمع الكلمة و رضيت و استقل بولايتها غير منازع و لا متشوه و توارثها بنوه خالفا عن سالف
و كانت لهم بأفريقية و المغرب الدولة التي ذكرناها من قبل إلى أن انقرض أمر العرب بأفريقية على زيادة الله عاقبتهم الفار إلى المشرق أمام كتامة سنة ست و تسعين و مائتين كما نذكره
و خرج كتامة على بني الأغلب بدعوة الرافضية قام فيهم أبو عبد الله المحتسب الشيعي داعية عبيد الله المهدي فكان ذلك آخر عهد بالملك و الدولة بأفريقية و استقل كتامة بالأمر من يومئذ ثم من بعدهم من برابرة المغرب و ذهبت ريح العرب و دولتهم من المغرب و أفريقية فلم يكن لهم بعد دولة إلى هذا العهد
و صار الملك للبربر و قبائلهم يتداولونه طائفة بعد أخرى و جيلا بعد آخر تارة يدعون إلى الأمويين الخلفاء بالأندلس و تارة إلى الهاشمين من بني العباس و بني الحسن
ثم استقلوا بالدعوة لأنفسهم آخرا حسبما نذكر ذلك كله مفصلا عندما يعرض لنا من ذكر دول زناتة و البربر الذين نحن في سياقة أخبارهم
هؤلاء البربر جيل و شعوب وقبائل أكثر من أن تحصى حسبما هو معروف في تاريخ الفتح بأفريقية و المغرب و في أخبار ردتهم و حروبهم فيها نقل ابن أبي الرقيق أن موسى ابن نصير لما فتح سقوما كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من سبي سقوما مائة ألف رأس فكتب إليه الوليد بن عبد الملك و يحك إني أظنها من بعض كذباتك فإن كنت صادقا فهذا محشر الأمة و لم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل و إلى الإسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي و بلاد السودان منذ أزمنة لا يعرف أولها و لا ما قبلها و كان دينهم دين المجوسية شأن الأعاجم كلهم بالمشرق و المغرب إلا في بعض الأحايين يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم فإن الأمم أهل الدول العظيمة كانوا يتغلبون عليهم فقد غزتهم ملوك اليمن من قرارهم مرارا على ما ذكر مؤرخوهم فاستكانوا لغلبهم و دانوا بدينهم
ذكر ابن الكلبي أن حمير أبا لقبائل اليمانية ملك المغرب مائة سنة و أنه الذي ابتني مدائنه مثل أفريقية و صقلية و اتفق المؤرخون على غزو أفريقش بن صيفي من التبايعة إلى المغرب كما ذكرنا في أخبار الروم و اختطوا بسبب البحر و ما يليه من الأرياف مدنا عظيمة الخطة وثيقة المباني شهيرة الذكر باقية المعالم و الآثار لهذا لعهد مثل :
سبيطلة و جلولاء و مزناق و طاقة و زانة و غيرها من المدن التي خربها المسلمون من العرب لأول الفتح عند استيلائهم عليها و قد كانوا دانوا العهد هم بما تعبدوهم به من دين النصرانية و أعطوهم المهادنة و أدوا إليهم الجباية طواعية
و كن للبربر في الضواحي وراء ملك الأمصار المرهوبة الحامية ما شاء من قوة و عدة و عدد و ملوك و رؤساء و أقيال و أمراؤها لا يرامون بذل و لا ينالهم الروم و الإفرنج في ضواحيهم تلك بمسخطة الإساءة و قد صبحهم الإسلام و هم في مملكة قد استولوا على رومة
و كانوا يؤدون الجباية لهرقل ملك القسطنطينية كما كان المقوقس صاحب الإسكندرية و برقة و مصر يؤدون الجباية له و كما كن صاحب طرابلس و لبدة و صبرة و صاحب صقلية و صاحب الأندلس من الغوط لما كان الروم غلبوا على هؤلاء الأمم أجمع و عنهم كلهم أخذوا دين النصرانية فكان الفرنجة هم الذين ولوا أمر أفريقية و لم يكن للروم فيها شيء من ولاية و إنما كان كل من كان منهم بها جندا للإفرنج و من حشودهم و ما يسمع في كتب الفتح من ذكر الروم في فتح أفريقية فمن باب التغليب لأن العرب يومئذ لم يكونوا يعرفون الفرنج و ما قاتلوا في الشام إلا الروم فظنوا أنهم هم الغالبون على أمم النصرانية فإن هرقل هو ملك النصرانية كلها فغلبوا إسم الروم على جميع أمم النصرانية
و نقلت الأخبار عن العرب كما هي فجرجير المقتول عند الفتح من الفرنج و ليس من الروم و كذا الأمة الذين كانوا بأفريقية غالبين على البربر و نازلين بمدنها و حصونها إنما كانوا من الفرنجة و كذلك ربما كان بعض هؤلاء البربر دانوا بدين اليهودية أخذوه عن بني إسرائيل عند استفحال ملكهم لقرب الشام و سلطانه منهم كما كان جراءة أهل جبل أوراس قبيلة الكاهنة مقتولة العرب لأول الفتح و كما كانت نفوسة من برابر أفريقية قندلاوة و مدينونة و بهلولة و غياتة و بنو بازاز من برابرة المغرب الأقصى حتى محا إدريس الأكبر الناجم بالمغرب من بني حسن بن الحسن جميع ما كان في نواحيه من بقايا الأديان و الملل فكان البربر بأفريقية و المغرب قبل الإسلام تحت ملك الفرنج و على دين النصرانية الذي اجتمعوا عليه مع الروم كما ذكرناه حتى إذا كان الفتح و زحف المسلمون إلى أفريقية زمان عمر رضي الله عنه سنة تسع و عشرين و غلبهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤي فجمع لهم جرير ملك الفرنجة يومئذ بأفريقية من كان بأمصارها من الفرنج و الروم و من بضواحيها من جموع البربر و ملوكهم
و كان ملك ما بين طرابلس و طنجة و كانت دار ملكه سبيطلة فلقوا المسلمين في زهاء مائة و عشرين ألفا و المسلمون يومئذ في عشرين ألفا فكان من هزيمة العرب لهم و فتحهم لسبيطلة و تخريبهم إياها و قتلهم جرجير ملكهم و ما نفلهم الله من أموالهم و بناتهم التي اختصت منهم إبنته بقاتله عبد الله بن الزبير لعهد المسلمين له بذلك بعد الهزيمة و خلوصه بخبر الفتح إلى الخليفة و الملأ من المسلمين بالمدينة ما هو كله مذكور مشهور ثم أزرىء الفرنجة و من معهم من الروم بعد الهزيمة و خلوصه بخبر الفتح إلى حصون أفريقية و انساح المسلمون في البسائط بالغارات و وقع بينهم و بين البربر أهل الضواحي زحوف و قتل و سبي حتى لقد حصل في أسرهم يومئذ من ملوكهم و زمار بن صقلاب جد بني خزر و هو يومئذ أمير مغراوة و سائر زناتة و رفعوه إلى عثمان بن عفان فأسلم على يده و من عليه و أطلقه و عقد له على قومه
و يقال إنما وصله وافدا و صن المسلمين عليهم ولاذ الفرنج بالسلم و شرطوا لابن أبي سرح ثلثمائة قنطار من الذهب على أن يرحل عنهم بالعرب و يخرج بهم من بلادهم ففعل و رجع المسلمون إلى المشرق و شغلوا بما كان من الفتن الإسلامية
ثم كان الاجتماع و الاتفاق على معاوية بن أبي سفيان و بعث معاوية بن خديج السكوني من مصر لافتتاح أفريقية سنة خمس و أربعين و بعث ملك الروم من القسطنطينية عساكره لمدافعتهم في البحر فلم تغن شيئا و هزمهم العرب ساحل أجم و حاصروا جلولاء و فتحوها و قفل معاوية بن خديج إلى مصر فولى معاوية بن أبي سفيان على أفريقية بعده عقبة بن نافع فاختط القيروان و افترق أمر الفرنجة و صاروا إلى الحصون و بقي البربر بضواحيهم إلى أن ولي يزيد بن معاوية و ولى على أفريقية أبا المهاجر مولى و كانت رياسة البربر يومئذ في أوربة لكسيلة بن لمزم و هو رأس البرانس و مرادفه سكرديد بن رومي بن مازرت من أوربة و كان على دين النصرانية فأسلما الأول الفتح ثم ارتدا عند ولاية أبي المهاجر و اجتمع إليهما البرانس و زحف إليهم حتى نزل عيون تلمسان فهزمهم و ظفر بكسيلة فأسلم و استبقاه ثم جاء عقبة بعد أبي المهاجر فنكبه غيظا على صحابته لأبي المهاجر ثم استفتح حصون الفرنجة مثل ماغانة و لميس و لقيه ملوك البربر بالزاب وتاهرت فغضهم جمعا بعد جمع و دخل المغرب الأقصى و أطاعته غمارة و أميرهم يومئذ بليان ثم جاز إلى وليلى ثم جبال درن و قتل المصامدة و كانت بينهم و بينه حروب و حاصروه بجبال درن و نهضت إليهم جموع زناتة و كانوا خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة فأفرجت المصامدة عن عقبة و أثخن فيهم حتى حملهم على طاعة الإسلام و دوخ بلادهم ثم أجاز إلى بلاد السوس لقتال من بها من صنهاجة أهل اللثام و هو يومئذ على دين المجوسية ولم يدينوا بالنصرانية فأثخن فيهم و انتهى إلى تارودانت و هزم جموع البربر و قاتل مسوفة من وراء السوس و ساسهم و قفل راجعا و كسيلة أثناء هذا كله في اعتقاله بجمعه معه في عسكره سائر غزواته فلما قفل من السوس سرح العساكر إلى القيروان حتى بقي في خف من الجنود و تراسل كسيلة و قومه فأرسلوا له شهودا و انتهزوا الفرصة فيه و قتلوه و من معه و ملك كسيلة أفريقية خمس سنين و نزل القيروان و أعطى الأمان لمن بقي بها ممن تخلف من العرب أهل الذراري و الأثقال و عظم سلطانه على البربر
و زحف قيس بن زهير البلوي في ولاية عبد الملك للثأر بدم عقبة سنة سبع و ستين و جمع له كسيلة سائر البربر و لقيه بجيش من نواحي القيروان فاشتد القتال بين الفريقين ثم انهزم البربر و قتل كسيلة و من لا يحصى منهم و أتبعهم العرب إلى محنة ثم إلى ملوية و في هذه الواقعة ذل البربر و فنيت فرسانهم و رجالهم و خضت شوكتهم و اضمحل أمر الفرنجة فلم يعد و خاف البربر من زهير و من العرب خوفا شديدا فلجؤا إلى القلاع و الحصون
ثم ترك زهير بعدها و قفل إلى المشرق فاستشهد ببرقة كما ذكرناه و اضطرمت أفريقية نارا و افترق أمر البربر و تعدد سلطانهم في رؤسائهم و كان من أعظمهم شأنا يومئذ الكاهنة دهيا بنت ماتية بن تيفان ملكة جبل أوراس و قومها من جراوة ملوك البتر و زعمائهم فبعث عبد الملك إلى حسان بن النعمان الغساني عامله على مصر أن يخرج إلى جهاد أفريقية و بعث إليه بالمدد فزحف إليها سنة تسع وسبعين و دخل القيروان و غزا قرطاجنة و افتتحها عنوة و ذهب من كان بقي بها من الإفرنجة إلى صقلية و إلى الأندلس
ثم سأل عن أعظم ملوك البربر فدلوه على الكاهنة و قومها جراوة فمضى إليها حتى نزل وادي مسكيانة و زحف إليه فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزم المسلمون و قتل منهم خلق كثير و أسر خالد بن يزيد القيسي و لم تزل الكاهنة و البربر في اتباع حسان و العرب حتى أخرجوهم من عمل قابس و لحق حسان بعمل طرابلس و لقيه كتاب عبد الملك بالمقام فأقام و بنى قصوره و تعرف لهذا العهد به ثم رجعت الكاهنة إلى مكانها و اتخذت عهدا عند أسيرها خالد بالرضاع مع إبنتها و أقامت في سلطان أفريقية و البربر خمس سنين ثم بعث عبد الملك إلى حسان بالمدد فرجع إلى أفريقية سنة أربع و سبعين و خرجت الكاهنة جميع المدن و الضياع وكانت من طرابلس إلى طنجة ظلا و احدا في قرى متصلة
و شق ذلك على البربر فاستأمنوا لحسان فأمنهم و وجد السبيل إلى تفريق أمرها و زحف إليها و هي في جموعها من البربر فانهزموا و قتلت الكاهنة بمكان السر المعروف بها لهذا العهد بجبل أوراس و استأمن إليه البربر على الإسلام و الطاعة و على أن يكون منهم إثنا عشر ألفا مجاهدين معه فأجابوا و أسلموا و حسن إسلامهم و عقد للأكبر من ولد الكاهنة على قومهم من جراوة و على جبل أوراس فقالوا : لزمنا الطاعة له سبقناها إليها و بايعناه عليها و أشارت عليهم بذلك لإثارة من علم كانت لديها بذلك من شياطينها و انصرف حسان إلى القيروان فدون الدواوين و صالح من التقى بيده إلى البربر على الخراج و كتب الخراج على عجم أفريقية و من أقام معهم على النصرانية من البربر و البرانس و اختلفت أيدي البربر فيما بينهم على أفريقية و المغرب فخلت أكثر البلاد و قدم موسى بن نصير إلى القيروان واليا على أفريقية ورأى ما فيها من الخلاف و كان ينقل العجم من الأقاصي إلى الأداني و أثخن في البربر
و دوخ المغرب و أدى إليه البربر الطاعة و ولي على طنجة طارق بن زياد و أنزل معه سبعة و عشرين ألفا من العرب و اثني عشر ألفا من البربر و أمرهم أن يعلموا البربر القرآن و الفقه ثم أسلم بقية البربر على يد إسمعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر سنة إحدى و مائة
و ذكر أبو محمد بن أبي زيد : إن البربر ارتدوا إثنتي عشرة مرة من طرابلس إلى طنجة ولم يستقر إسلامهم حتى أجاز طارق و موسى بن نصير إلى الأندلس بعد أن دوخ المغرب و أجاز معه كثير من رجالات البربر أمرائهم برسم الجهاد فاستقروا و رسخت فيهم لدن الفتح فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب و أذعن البربر لحكمه و رسخت فيهم كلمة الإسلام و تناسوا الردة ثم نبضت فيهم عروق الخارجية فدانوا بها و لقنوها من العرب الناقلة ممن سمعها بالعراق و تعددت طوائفهم و تشعبت طرقها من الإباضية و الصفرية كما ذكرنا في أخبار الخوارج
و فشت هذه البدعة و عقدها رؤس النفاق من العرب و جرت إليهم الفتنة من البربر ذريعة إلى الانتزاء على الأمر فاختلوا في كل جهة ودعوا إلى قائدهم طغام البربر تتلون عليهم مذاهب كفرها و يلبسون الحق بالباطل فيها إلى أن رسخت فيهم عروق من غرائسها
ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمراء العرب فقتلوا يزيد بن أبي مسلم سنة إثنتين و مائة لما نقموا عليه في بعض الفعلات ثم انتقض البربر بعد ذلك سنة إثنتين و عشرين و مائة في ولاية عبد الله بن الحجاب أيام هشام بن عبد الملك لما أوطأ عساكره بلاد السوس و أثخن في البربر و سبى و غنم و انتهى إلى مسوفة فقتل و سبى و داخل البربر منه رعب و بلغه أن البربر أحسوا بأنهم فيء للمسلمين فانتقضوا عليه
و ثار ميسرة المطغتي بطنجة على عمرو بن عبد الله فقتله و بايع لعبد الأعلى بن جريح الأفريقي رومي الأصل و مولى العرب كان مقدم الصفرية من الخوارج في انتحال مذهبهم فقام بأمرهم مدة و بايع ميسرة لنفسه بالخلافة داعيا إلى نحلته من الخارجية على مذهب الصفرية ثم ساءت سيرته فنقم عليه البربر ما جاء به فقتلوه و قدموا على أنفسهم خالد بن حميد الزناتي
قال ابن عبد الحكم هو من هتورة إحدى بطون زناتة فقام بأمرهم و زحف إلى العرب و سرح إليهم عبد الله بن الحجاب العساكر في مقدمته و معهم خالد بن أبي حبيب فالتقوا بوادي شلف و انهزم العرب و قتل خالد بن أبي حبيب و من معه و سميت وقعة الأسراب و انتقضت البلاد و مرج أمر الناس و بلغ الخبر هشام بن عبد الملك فعزل ابن حجاب و ولى كلثوم بن عياض القشيري سنة ثلاث و عشرين و سرحه في إثني عشر ألفا من أهل الشام و كتب إلى ثغور مصر و برقة و طرابلس أن يمدوه فخرج إلى أفريقية و المغرب حتى بلغ وادي طنجة و هو وادي سبس فزحف إليه خالد ابن حميد الزناتي فيمن معه من البربر و كانوا خلقا لا يحصى و لقوا كلثوم بن عياض من بعد أن هزموا مقدمته فاشتد القتال بينهم و قتل كلثوم و أضرمت العساكر فمضى أهل الشآم إلى الأندلس مع فلح بن بشر القشيري و مضى أهل مصر و أفريقية إلى القيروان
و بلغ الخبر إلى هشام بن عبد الملك فبعث حنظلة بن سفيان الكلبي فقدم القيروان سنة أربع و عشرين و أربعمائة و هوارة يومئذ خوارج على الدولة منهم عكاشة بن أيوب و عبد الواحد بن يزيد في قومهما فثارت هوارة و من تبعهم من البربر فهزمهم حنظلة بن المعز بظاهر القيروان بعد قتال شديد و قتل عبد الواحد الهواري و أخذ عكاشة أسيرا و أحصيت القتلى في هذه الوقيعة فكانوا مائة و ثمانين ألفا و كتب بذلك حنظلة إلى هشام و سمعها الليث بن سعد فقال :
ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر أحب إلي من غزوة القرن و الأصنام
ثم خفت صوت الخلافة بالمشرق و التاث أمرها لما كان من بني أمية من الفتنة و ما كان من أمر الشيعة و الخوارج مع مروان و أقضى الأمر إلى الإدالة ببني العباس من بني أمية و أجاز البحر عبد الرحمن بن حبيب من الأندلس إلى أفريقية فملكها و غلب حنظلة عليها سنة ست و عشرين و مائة فعادت هيف إلى أديانها و استشرى داء البربر و أعضل أمر الخارجية و رؤسها فانتقضوا من أطراف البقاع و تواثبوا على الأمر بكل ما كان داعين إلى بدعتهم و تولى كبر ذلك يومئذ صنهاجة و تغلب أميرهم ثابت بن وزيدون و قومه على باجة و ثار معه عبد الله بن سكرديد من أمرائهم فيمن تبعه
و ثار بطرابلس عبد الجبار و الحرث من هوارة و كانا يدينان برأي الإباضية فقتلوا عامل طرابلس بكر بن عيسى القيسي لما خرج إليهم يدعوهم إلى الصلح و بقي الأمر على ذلك مدة و ثار إسمعيل بن زياد في قتل البربر و أثخن فيهم و زحف إلى تلمسان سنة خمس و ثلاثين و مائة فظفر بها و دوخ المغرب و أذل من كان فيه من البربر ثم كانت بعد ذلك فتنة و ربجومة و سائر قبائل نفزاوة سنة أربعين و مائة و ذلك لما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر و قتله أخواه إلياس و عبد الوارث فولي مكانه ابنه حبيب و طالبهما بثأر أبيه فقتل إلياس و لحق عبد الوارث بوربجومة فأجاره أميرهم عاصم بن جميل و تبعه على شأنه يزيد بن سكوم أمير ولهاصه و اجتمعت لهم كلمة نفزاوة و دعوا لأبي جعفر المنصور و زحفوا إلى القيروان و دخلوها عنوة و فر حبيب بن قابس فأتبعه عاصم في نفزاوة و قبائلهم
و ولي على القيروان عبد الملك بن أبي الجعد النغزي ثم انهزم حبيب إلى أوراس و اتبعه عاصم فاعترضه عبد الملك بن أبي الجعد و جموع نفزاوة الذين كانوا بالقيروان و قتلوه و استولت و ربجومة على القيروان و سائر أفريقية و قتلوا من كان بها من قريش و ربطوا دوابهم بالمسجد الجامع و اشتد البلاء على أهل القيروان و أنكرت ذلك من فعل و ربجومة و من إليهم من نفزاوة برابرة طرابلس الإباضية من هوارة و زناتة فخرجوا و اجتمعوا إلى أبي الخطاب عليها و اجتمع إليه سائر البربر الذين كانوا هنالك من زناتة و هوراة و زحف بهم إلى القيروان فقتل عبد الملك بن أبي الجعد و سائر و ربجومة و نفزاوة و استولى على القيروان سنة إحدى و أربعين و مائة ثم ولي على القيروان عبد الرحمن بن رستم و هو من أبناء رستم أمير فارس بالقادسية كان من موالي العرب و من رؤس هذه البدعة
و رجع أبو الخطاب إلى طرابلس و اضطرم المغرب نارا و انتزى خوارج البربر على الجهات فملكوها و اجتمعت الصفرية من مكناسة بناحية المغرب منه أربعين و مائة و قدموا عليهم عيسى بن يزيد الأسود و أسسوا مدينة سجلماسة و نزلوها و قدم محمد بن الأشعث واليا على أفريقية من أبي جعفر المنصور فزحف إليه أبو الخطاب و لقيه بسرت فهزموا ابن الأشعث و قتل البربر ببلاد ريفا و فر عبد الرحمن بن رستم من القيروان إلى تاهرت بالمغرب الأوسط و اجتمعت إليه طوائف البربر الإباضية من لماية و رجالة و نفزاوة فنزل بها و اختط مدينتها سنة أربع و أربعين و مائة و ضبط ابن الأشعث أفريقية و خافه البربر
ثم انتقل بنو يفرن من زناتة و مغيلة من البربر بنواحي تلمسان و قدموا على أنفسهم أبا قرة من بني يفرن و يقال أنه من مغيلة و هو الأصح في شأنه و بويع له بالخلافة سنة ثمان و أربعين و مائة
و زحف إليه الأغلب بن سود التميمي عامل طبنة فلما قرب منه هرب أبو قرة فنزل الأغلب الزاب ثم اعتزم على تلسمان ثم طنجة و رجع إليه الجند فرجع ثم انتقض البربر من بعد ذلك أيام عمرو بن حفص من ولد قبيصة ابن أبي صفرة أخي المهلب
و كان تغلب هوارة منذ سنة إحدى و خمسين و مائة و اجتمعوا بطرابلس و قدموا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب بن مرين بن تطوفت من أمراء مغيلة و يسمى أبا قادم
و زحفت إليهم جنود عمر بن حفص فهزموها و ملكوا طرابلس و زحفوا إلى القيروان فحاصروها ثم زحف البرابرة من الجانب الآخر بجنود عمر بطبنة في إثني عشر معسكرا و كان منهم أبو قرة في أربعين ألفا من الصفرية و عبد الرحمن بن رستم في ستة آلاف من الإباضية و المسور بن هانيء في عشرة آلاف كذلك و جرير بن مسعود فيمن تبعه من مديونة و عبد الملك ابن سكرديد الصنهاجي في ألفين منهم من الصفرية
و اشتد الحصار على عمر بن حفص فأعمل الحيلة في الخلاف بين جماعتهم و كان بنو يفرن من زناتة أكثر البرابرة يومئذ جمعا و أشدهم قوة فصالح أبو قرة زعيمهم على أربعين ألفا و أعطى إبنه في اتمام ذلك أربعة آلاف و افترقوا و ارتحلوا عن طبنة ثم بعث بعثا إلى ابن رستم فهزمه و دخل تاهرت مفلولا و زحف عمر بن حفص إلى أبي حاتم و البربر الإياضية الذين معه و نهضوا إليه فخالفهم إلى القيروان و شحنها بالأقوات و الرجال
ثم لقي أبا حاتم و البربر و هزموه و رجع إلى القيروان و حاصروه و كانوا في ثلثمائة و خمسين ألفا الخيل منها خمسة و ثلاثون ألفا و كانوا كلهم إباضية و طال الحصار و قتل عمر بن حفص في بعض أيامه سنة أربع و خمسين و مائة و صالح أهل القيروان أبا حاتم على ما أحب و ارتحل و قدم يزيد بن قبيصة بن المهلب سنة أربع و خمسين و مائة واليا على أفريقية فزحف إليه أبو حاتم بعد أن خالف عليه عمر بن عثمان الفهري و افترق أمرهم فلقيه يزيد بن حاتم بطرابلس فقتل أبو حاتم و انهزم البربر و لحق عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن من أصحاب أبي حاتم بكتامة و بعث المخارق بن غفار الطائي فحاصره ثمانية أشهر ثم غلب عليه فقتله و من كان معه من البربر و هربوا إلى كل ناحية و كانت حروبهم مع الجند من لدن قتل عمر بن حفص بطبنه إلى انقضاء ثلثمائة و خمسة و سبعين حربا
و قدم يزيد أفريقية فزال فسادها و رتب القيروان و لم تزل البلاد هادئة و انتقض ورفجومة سنة سبع و خمسين و مائة و ولوا عليهم رجلا منهم إسمه أبو زرجونة فسرح إليه يزيد من عشيرة ابن محراة المهلبي فهزموه و استأذنه إبنه المهلب و كان على الزاب وطبنة وكتامة في الزحف إلى ورفجومة فأذن له و أمده بالعلاء بن سعيد ابن مراون المهلبي من عشيرتهم أيضا فأوقع بهم و قتلهم أبرح قتل و انتقض نفزاوة من بعد ذلك في سلطنة إبنه داود من بعد مهلكه سنة إحدى و ستين و مائة و ولوا عليهم صالح بن نصير النفزي و دعوا إلى رأيهم رأي الإباضية فسرح إليهم ابن عمه سليمان بن الصمة في عشرة آلاف فهزمهم و قتل البربر أبرح قتل
ثم تحيز إلى صالح بن نصير و لم يشهد الأولى من البربر الإباضية و اجتمعوا بشقبنارية فهزمهم إليها سليمان ثانية وانصرف إلى القيروان
و ركدت ريح الخوارج من البربر من أفريقية و تداعت بدعتهم إلى الاضمحلال و رغب عبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت سنة إحدى و سبعين و مائة في موادعة صاحب القيروان روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب فوادعه و انحصدت شوكة البربر و استكانوا للغلب و أطاعوا للدين فضرب الإسلام بجرانه و ألقت الدولةالضريبة على البربر بكلكلها و تقلد إبراهيم بن الأغلب التميمي أمر أفريقية و المغرب من قبل الرشيد هرون سنة خمس و ثمانين و مائة فاضطلع بأمر هذه الولاية و أحسن السيرة و قوم القتاد و رأب الصدع و جمع الكلمة و رضيت و استقل بولايتها غير منازع و لا متشوه و توارثها بنوه خالفا عن سالف
و كانت لهم بأفريقية و المغرب الدولة التي ذكرناها من قبل إلى أن انقرض أمر العرب بأفريقية على زيادة الله عاقبتهم الفار إلى المشرق أمام كتامة سنة ست و تسعين و مائتين كما نذكره
و خرج كتامة على بني الأغلب بدعوة الرافضية قام فيهم أبو عبد الله المحتسب الشيعي داعية عبيد الله المهدي فكان ذلك آخر عهد بالملك و الدولة بأفريقية و استقل كتامة بالأمر من يومئذ ثم من بعدهم من برابرة المغرب و ذهبت ريح العرب و دولتهم من المغرب و أفريقية فلم يكن لهم بعد دولة إلى هذا العهد
و صار الملك للبربر و قبائلهم يتداولونه طائفة بعد أخرى و جيلا بعد آخر تارة يدعون إلى الأمويين الخلفاء بالأندلس و تارة إلى الهاشمين من بني العباس و بني الحسن
ثم استقلوا بالدعوة لأنفسهم آخرا حسبما نذكر ذلك كله مفصلا عندما يعرض لنا من ذكر دول زناتة و البربر الذين نحن في سياقة أخبارهم