الخبر عن دخول العرب من بني هلال و سليم المغرب من الطبقة الرابعة و أخبارهم هنالك
كانت بطون هلال و سليم من مضر لم يزالوا بادين منذ الدولة العباسية و كانوا أحياء ناجعة محلاتهم من بعد الحجاز بنجد فبنو سليم مما يلي المدينة و بنو هلال في جبل غزوان عند الطائف و ربما كانوا يطوفون في رحلة الصيف و الشتاء أطراف العراق و الشام فيغيرون على الضواحي و يفسدون السابلة و يقطعون على الرفاق و ربما أغار بنو سليم على الحاج أيام الموسم بمكة و أيام الزيارة بالمدينة و ما زالت البعوث تجهز و الكتائب تكتب من باب الخلافة ببغداد للإيقاع بهم وصون الحاج عن مضرات هجومهم ثم تحيز بنو سليم و الكثير من ربيعة بن عامر إلى القرامطة عند ظهورهم و صاروا جندا بالبحرين و عمان و لما تغلب شيعة ابن عبيد الله المهدي على مصر و الشام و كان القرامطة قد تغلبوا على أمصار الشام فانتزعها العزيز منهم و غلبهم عليها و ردهم على أعقابهم إلى قرارهم بالبحرين و نقل أشياعهم من العرب من بني هلال و سليم فأنزلهم بالصعيد و في العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هناك و كان لهم أضرار بالبلاد و لما انساق ملك صنهاجة بالقيروان إلى المعز بن باديس بن المنصور سنة ثمان و أربعمائة قلده الظاهر لدين الله علي بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز لدين الله أمر أفريقية على عادة آبائه كما نذكره لك بعد و كان لعهد ولايته غلاما يفعة ابن ثمان سنين فلم يكن مجربا للأمور و لا بصيرا بالسياسة و لا كانت فيه عزة و أنفة ثم هلك الظاهر سنة سبع و عشرين و أربعمائة و ولي المنتصر بالله معز الطويل أمر الخلافة بما لم ينله أحد من خلفاء الإسلام يقال ولي خمسا و سبعين و قيل خمسا و تسعين و الصحيح ثلاث و سبعون لأن مهلكه كان على رأس المائة الخامسة و كانت أذن المعز بن باديس صاغية إلى مذاهب أهل السنة و ربما كانت شواهدها تظهر عليه و كبابة فرسه في أول ولايته لبعض مذاهبه فنادى مستغثيا بالشيخين أبي بكر و عمر و سمعته العامة فثاروا بالرافضة و قتلوهم بالمعتقد الحق و نادوا بشعار الإيمان و قطعوا من الأذان حي على خير العمل و أغضى عنه الظاهر من ذلك و ابنه معد المنتصر من بعده و اعتذر بالعامة فقبل و استمر على إقامة الدعوة و المهاداة و هو في أثناء ذلك يكاتب وزيرهما و حاجب دولتهما المضطلع بأمورهما أبا القاسم أحمد بن علي الجرجاني و يستميله يعرض ببني عبيد و شيعتهم و كان الجرجاني يلقب بالأقطع بما كان أقطعه الحاكم بجناية ظهرت عليه في الأعمال و انتهضته السيدة بنت الملك عمة المنتصر
فلما ماتت استبد بالدولة سنة أربع عشرة و أربعمائة إلى أن هلك سنة ست و ثلاثين و أربعمائة و ولي الوزارة بعده أبو محمد الحسن بن علي الياروزي أصله من قرى فلسطين و كان أبوه ملاحا بها فلما ولي الوزارة خاطبه أهل الجهات و لم يولوه فأنف من ذلك فعظم عليه و حنق عليه ثمال بن صالح صاحب حلب و المعز بن باديس صاحب أفريقية و انحرفوا عنه و حلف المعز لينقضن طاعتهم و ليحولن الدعوة إلى بني عباس و يمحون اسم بني عبيد من منابره ولج في ذلك و قطع أسماءهم من الطراز و الرايات و بايع القائم أبا جعفر بن القادر من خلفاء بني العباس و خاطبه و دعا له على منابره سنة سبع و ثلاثين و أربعمائة و بعث بالبيعة إلى بغداد
و وصله أبو الفضل البغدادي و حظي من الخليفة بالتقليد و الخلع و قرىء كتابه بجامع القيروان و نشرت الرايات السود و هدمت دار الإسماعيلية و بلغ الخبر إلى المستنصر معز الخليفة بالقاهرة و إلى الشيعة الرافضة من كتامة و صنائع الدولة فوجموا و طلع عليهم المقيم المقعد من ذلك و ارتكبوا في أمرهم و كان أحياء هلال هؤلاء الأحياء من جشم و الاثير و زغبة و رياح و ربيعة و عدي في محلاتهم بالصعيد كما قدمناه و قد عم ضررهم و أحرق البلاد و الدولة شررهم فأشار الوزير أبو محمد الحسن بن علي اليازوري باصطناعهم و التقدم لمشايخهم و توليتهم أعمال أفريقية و تقليدهم أمرها و دفعهم إلى حرب صنهاجة ليكونوا عند نصر الشيعة و السبب في الدفاع عن الدولة فإن صدقت المخيلة في ظفرهم بالمعز و صنهاجة كانوا أولياء للدعوة و عمالا بتلك القاصية و ارتفع عدوانهم من ساحة الخلافة و إن كانت الأخرى فلها ما بعدها و أمر العرب البادية أسهل من أمر صنهاجة الملوك فتغلبوا على هدية و ثوراته و قيل إن الذي أشار بذلك و فعله و أدخل العرب إلى أفريقية إنما هو أبو القاسم الجرجاني و ليس ذلك بصحيح فبعث المستنصر وزيره على هؤلاء الأحياء سنة إحدى و أربعين و أربعمائة و أرضخ لأمرائهم في العطاء و وصل عامتهم بعيرا و دينارا لكل واحد منهم و أباح لهم إجازة النيل و قال لهم : قد أعطيتكم المغرب و ملك المعز بن بلكين الصنهاجي العبد الآبق فلا تفتقرون و كتب الباروزي إلى المغرب : أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا و أرسلنا عليها رجالا كهولا ليقضي الله أمرا كان مفعولا فطمعت العرب إذ ذاك و أجازوا النيل إلى برقة و نزلوا بها و افتتحوا أمصارها و استباحوها و كتبوا لأخوانهم شرقي النيل يرغبونهم في البلاد فأجازوا إليهم بعد أن أعطوا لكل رأس دينارين فأخذ منهم أضعاف ما أخذوه و تقارعوا على البلاد فحصل لسليم الشرق و لهلال الغرب و خربوا المدينة الحمراء و أجدابية و أسمرا و سرت
و أقامت لهب من سليم و أحلافها رواحة و ناصرة و غمرة بأرض برقة و سارت قبائل دياب و عوف و زغب و جميع بطون هلال إلى أفريقية كالجراد المنتشر لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه حتى وصلوا إلى أفريقية سنة ثلاث و أربعين و أربعمائة و كان أول من وصل إليهم أمير رياح موسى بن يحيى الصنبري فاستماله المعز و استدعاه و استخلصه لنفسه و أصهر إليه و فاوضه في استدعاء العرب من قاصية وطنه للاستغلاظ على نواحي بني عمه فاستنفر القرى و أتى عليهم فاستدعاهم فعاثوا في البلاد و أظهروا الفساد في الأرض و نادوا بشعار الخليفة المستنصر و سرح إليهم من صنهاجة الأولياء فأوقعوا بها فتمخط المعز لكبره و أشاط بغضبه و تقبض على أخي موسى و عسكر بظاهر القيروان و بعث بالصريخ إلى ابن عمه صاحب القلعة القائد بن حامد بن بلكين فكتب إليه كتيبة من ألف فارس سرحهم إليه و استفرزوا عن زناتة فوصل إليه المستنصر بن حزور المغراوي في ألف فارس من قومه
و كان بالبدو من أفريقية مع الناجعة من زناتة و هو من أعظم ساداتهم و ارتحل المعز في أولئك النفر و من لف لفهم من الأتباع و الحشم و الأولياء و من في إيالتهم من بقايا عرب الفتح و حشد زناتة و البربر و صمد نحوهم في أمم لا تحصى يناهز عددهم فيما يذكر ثلاثون ألفا و كانت رياح و زغبة و عدي حيدران من جهة فاس و لما تزاحف الفريقان انخذل بقية عرب الفتح و تحيزوا إلى الهلاليين للعصبية القديمة و خانته زناتة و صنهاجة و كانت الهزيمة على المعز وفر بنفسه و خاصته إلى القيروان و انتهبت العرب جميع مخلفه من المال و المتاع و الذخيرة و الفساطيط و الرايات و قتلوا فيها من البشر ما لا يحصى يقال إن القتلى من صنهاجة بلغوا ثلاثة آلاف و ثلثمائة و في ذلك يقول علي بن رزق الرياحي كلمته و يقال إنها لابن شداد و أولها :
( لقد زار وهنا من أميم خيال ... و أيدي المطايا بالزميل عجال )
( و أن ابن باديس لأفضل مالك ... لعمري و لكن ما رجال )
( ثلاثون ألفا منهم قد هزمتهم ... ثلاثة آلاف و ذاك ضلال )
ثم نازلوه بالقيروان و طال عليه أمر الحصار و هلكت الضواحي و القرى بإفساد العرب و عيثهم و انتقام السلطان منهم بانتمائهم في ولاية العرب و لجأ إلى القيروان و أكثروا النهب و اشتد الحصار و فر أهل القيروان إلى تونس و سوسه و عم النهب في البلاد و العيث في البلاد و دخلت تلك الأرض سنة خمس و أربعين و أحاطت زغبة و رياح بالقيروان و نزل موسى قريبا من ساحة البلد و فر القرابة و الأعياص من آل زير فولاهم موسى قابس و غيرها ثم ملكوا بلاد قسطينة كلها و غزا عامل بن أبي الغيث منهم زناتة و مغراوة فاستباحهم و رجع
و اقتسمت العرب بلاد أفريقية سنة ست و أربعين و كان لزغبة طرابلس و ما يليها و لمرداس بن رياح باجة و ما يليها ثم اقتسموا البلاد ثانية فكان لهلال من تونس إلى الغرب و هم : رياح و زغبة و المعقل و جشم و قرة و الاثبج و الخلط و سفيان و تصرم الملك من يد المعز و تغلب عائد بن أبي الغيث على مدينة تونس و سباها و ملك أبو مسعود من شيوخهم مومه صلحا و عامل المعز على خلاص نفسه و صاهره ببناته ثلاثة من أمراء العرب فارس بن أبي الغيث و أخاه عائذا و الفضل بن أبي علي المرادي و قدم ابنه تميم إلى المهدية سنة ثمان و أربعين و أربعمائة و لسنة تسع بعدها بعث إلى أصهاره من العرب و ترحم بهم و لحق بهم بالقيروان و اتبعوه فركب البحر و الساحل و أصلح أهل القيروان فأخبرهم ابنه المنصور بخبر أبيه فساروا بالسودان و المنصور و جاء العرب فدخلوا البلد و استباحوه و اكتسحوا المكاسب و خربوا المباني و عاثوا في محاسنها و طمسوا من الحسن و الرونق معالمها و استصفوا ما كان لآل بلكين في قصورها و شملوا بالعيث و النهب سائر حريمها و تفرق أهلها في الأقطار فعظمت الرزية و انتشر الداء و أعضل الخطب ثم ارتحلوا إلى المهدية فنزلوها و ضيقوا عليها بمنع المرافق و إفساد السابلة ثم حاربوا زناتة من بعد صنهاجة و غلبوهم على الضواحي و اتصلت الفتنة بينهم و أغزاهم صاحب تلمسان من أعقاب محمد بن خزر و جيوشه مع وزيره أبي سعدى خليفة اليفرني فهزموه و قتلوه بعد حروب طويلة و اضطرب أمر أفريقية و خرب عمرانها و فسدت سابلتها و كانت رياسة الضواحي من زناتة و البربر لبني يفرن و مغراوة و بني ماند و بني تلومان و لم يزل هذا دأب العرب و زناتة حتى غلبوا صنهاجة و زناتة على ضواحي أفريقية و الزاب و غلبوا عليها صنهاجة و قهروا من بها من البربر و أصاروهم عبيدا و خدما بباجة و كان في هؤلاء العرب لعهد دخولهم أفريقية رجالات مذكورون
و كان من أشرفهم حسن بن سرحان و أخوه بدر و فضل بن ناهض و ينسبون هؤلاء في دريد بن الأثبج و ماضي بن مقرب و نيونة بن قرة و سلامة بن رزق في بني كثير من بطون كرفة بن الأثبج و شاقة بن الأحمير و أخوه صليصل و نسبوهم في بني عطية من كرفه و دياب بن عانم و ينسبونه في بني ثور و موسى بن يحيى و ينسبونه في مرداس رياح لا مرداس سليم فاحذر من الغلط في هذا و هو بني صفير بطن من بطون مرداس رياح و زيد بن زيدان و ينسبونه في الضحاك و مليحان بن عباس و ينسبونه في حمير و زيد العجاج بن فاضل و يزعمون أنه مات بالحجاز قبيل دخولهم إلى أفريقية و فارس بن أبي الغيث و عامر أخوه و الفضل بن أبي علي و نسبهم أهل الأخبار منهم في مرداس المقهى كل هؤلاء يذكرون في أشعارهم و كان زياد بن عامر رائدهم في دخول أفريقية و يسمونه بذلك أبا مخيبر و شعوبهم لذلك العهد كما نقلناهم زغبة و رياح و الأثبج و قرة و كلهم من هلال بن عامر و ربما ذكر فيهم بنو عدي و لم نقف على أخبارهم و ليس لهم لهذا العهد حي معروف فلعلهم دثروا و تلاشوا و افترقوا في القبائل و كذلك ذكر فيهم ربيعة و لم نعرفهم لهذا العهد إلا أن يكونوا هم المعقل كما تراه في نسبهم و كن فيهم من غير هلال كثير منفزارة و أشجع من بطون غطفان و جشم بن معاوية بن بكر بن هوزان و سلول بن مرة ابن صعصعة بن معاوية و المعقل من بطون اليمنية و عمرة بن أسد بن ربيعة بن نزار و بني ثور بن معاوية بن عبادة بن ربيعة البكاء بن عامر بن صعصعة و عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان و طرود بطن من فهم بن قيس إلا أنهم كلهم مندرجون في هلال و في الأثبج منهم خصوصا لأن الرياسة كانت عند دخولهم للأثبج و هلال فأدخلوا فيهم و صاروا مندرجين في جملتهم و فرقة من هؤلاء الهلاليين لم يكونوا من الذين أجازوا القيل لعهد البازوري أو الجرجاني و إنما كانوا من قبل ذلك ببرقة أيام الحاكم العبيدي ولهم فيها أخبار مع الصنهاجيين ببرقة و الشيعة بمصر خطوب و نسبهم إلى عبد مناف بن هلال كما ذكر شاعرهم في قوله :
( طلبنا القرب منهم و جزيل منهم ... بلا عيب من عرب سحاح جمودها )
( و بيت غرت أمره منا و بينها ... طرود أنكاد اللي يكودها )
( ماتت ثلاث آلاف مرة و أربعة ... بحرمة منا تداوي كبودها )
و قال الآخر منهم
( أيا رب خير الخلق من نائج البلا ... إلا القليل انجار مالا يجيرها )
( و خص بها قرة مناف و عينها ... ديما لأرياد البوادي تشيرها )
فذكر نسبهم في مناف و ليس في هلال مناف هكذا منفردا إنما هو عبد مناف و الله تعالى أعلم و كان شيخهم أيام الحاكم مختار بن القاسم و لما بعث الحاكم يحيى ابن علي الأندلسي لصريخ فلفول بن سعيد بن خزروق بطرابلس على صنهاجة كما نذكره في أخبار بني خزروق أوعز لهم السير معه فوصلوا إلى طرابلس و جروا الهزيمة على يحيى بن علي و رجعوا إلى برقة و بعث عنهم فامتنعوا ثم بعث لهم بالأمان و وصل وفدهم إلى الإسكندرية فقتلوا عن آخرهم سنة أربع و تسعين و ثلثمائة و كان عندهم معلم للقرآن إسمه الوليد بن هشام ينسب إلى المغيرة بن عبد الرحمن من بني أمية و كان يزعم أن لديه إثارة من علم في اختيار ملك آبائه و قبل ذلك منه البرابرة من مرامة و زناتة و لواتة و تحدثوا بشأنه فنصبه بنو قرة و ما بعده بالخلافة سنة خمس و تسعين و ثلثمائة و تغلبوا على مدينة برقة و زحف إليهم جيوش الحاكم فهزموهم و قتل الوليد بن هشام و قائدها من الترك
ثم رجعوا به إلى مصر فانهزموا و لحق الوليد بأرض النجاء من بلاد السودان ثم أخفرت ذمته وسيق إلى مصر و قتل و هدرت لبني قرة جنايتهم هذه و عفا عنهم و لما كانت سنة إثنتين و أربعمائة اعترضوا هدة باديس بن منصور ملك صنهاجة من أفريقية إلى مصر فأخذوها و زحفوا إلى برقة فغلبوا العامل عليها و فر في البحر و استولوا على برقة و لم يزل هذا شأنهم ببرقة فلما زحف إخوانهم الهلاليون من زغبة و رياح و الأثبج و اتباعهم إلى أفريقية كانوا ممن زحف معهم و كان من شيوخهم ماضي بن مقرب المذكور في أخبار هلال
و لهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى أفريقية طرق في الخبر غريبة : يزعمون أن الشريف بن هاشم كان صاحب الحجاز و يسمونه شكر بن أبي الفتوح و أنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية فأنكحه إياها و ولدت منه ولدا اسمه محمد و أنه حدث بينهم و بين الشريف مغاضبة و فتنة و أجمعوا الرحلة عن نجد إلى إفريقية و تحيلوا عليه في استرجاع هذه الجازية فطلبته في زيارة أبويها فأزارها إياهم و خرج بها إلى حللهم فارتحلوا به و بها و كتموا رحلتها عنه و موهوا عليه بأنهم يباكرون به للصيد و القنص و يروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه و صار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم ففارقوه فرجع إلى مكانه من مكة و بين جوانحه من حبها داء دخيل و أنها من بعد ذلك كلفت به مثل كلفه إلى أن ماتت من حبه
و يتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفى عن خبر قيس و كثير و يروون كثيرا من أشعارها محكمة المباني متفقة الأطراف و فيها المطبوع و المنتحل و المصنوع لم يفقد فيها من البلاغة شيء و إنما أخلوا فيها بالإعراب فقط و لا مدخل له في البلاغة كما قررناه لك في الكتاب الأول من كتابنا هذا إلا أن الخاصة من أهل العلم بالمدن يزهدون في روايتها و يستنكفون عنها لما فيها من خلل الإعراب و يحسبون أن الإعراب هو أصل البلاغة و ليس كذلك و في هذه الأشعار كثير أدخلته الصنعة و فقدت فيه صحة الرواية فلذلك لا يوثق به و لو صحت روايته لكانت فيه شواهد بآياتهم و وقائعهم مع زناتة و حروبهم و ضبط لأسماء رجالاتهم و كثير من أحوالهم لكنا لا نثق بروايتها و ربما يشعر البصير بالبلاغة بالمصنوع منها و يتهمه و هذا قصارى الأمر فيه و هم متفقون على الخبر عن حال هذه الجازية و الشريف خلفا عن سلف و جيلا عن جيل و يكاد القادح فيها و المستريب في أمرها أن يرمي عندهم بالجنون و الخلل المفرط لتواترها بينهم و هذا الشريف الذي يشيرون إليه هو من الهواشم و هو شكر بن أبي الفتوح الحسن بن أبي جعفر بن هاشم محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون بن عبد الله بن إدريس و أبوه الفتوح هو الذي خطب لنفسه بمكة أيام الحاكم العبيدي و بايع له بنوا الجراح أمراء طيء بالشام و بعثوا عنه فوصل إلى أحيائهم و بايع له كافة العرب ثم غلبتهم عساكر الحاكم العبيدي و رجع إلى مكة و هلك سنة ثلاثين و أربعمائة فولي بعده إبنه شكر هذا و هلك سنة ثلاث و خمسين و ولي إبنه محمد الذي يزعم هؤلاء الهلاليون أنه من الجازية هذه و تقدم ذلك في أخبار العلوية هكذا نسبه ابن حزم
و قال ابن سعيد : هو من السليمانيين من ولد محمد بن سليمان بن داود بن حسن بن الحسين السبط الذي بايع له أبو الزاب الشيباني بعد ابن طباطبا و يسمى الناهض و لحق بالمدينة فاستولى على الحجاز و استقرت إمارة ملكه في بنيه إلى أن غلبهم عليها هؤلاء الهواشم جدا قريبا من الحسن و الحسين و أما هاشم الأعلى فمشترك بين سائر الشرفاء فلا يكون مميزا لبعضهم على بعض و أخبرني من أثق به من الهلاليين لهذا العهد أنه وقف على بلاد الشريف شكر و أنها بقعة من أرض نجد مما يلي الفرات و أن ولده بها لهذا العهد و الله أعلم
و من مزاعمهم أن الجازية لما صارت إلى أفريقية و فارقت الشريف خلفه عليها منهم ماض بن مقرب من رجالات دريد و كان المستنصر لما بعثهم إلى أفريقية عقد لرجالاتهم على أمصارها و ثغورها و قلدهم أعمالها فعقد لموسى بن يحيى المرداسي على القيروان و باجة و عقد لزغبة على طرابلس و قابس و عقد لحسن بن سرحان على قسنطينة فلما غلبوا صنهاجة على الأمصار و ملك كل ما عقد له سميت الرعايا بالأمصار عسفهم و عيثهم باختلاف الأيدي إذ الوازع مفقود من أهل هذا الجيل العربي مذ كانوا فثاروا بهم و أخرجوهم من الأمصار و صاروا إلى ملك الضواحي و التغلب عليها و سيم الرعايا بالخسف في النهب و العيث و إفساد السابلة هكذا إلى هلم ولما غلبوا صنهاجة اجتهد زناتة في مدافعتهم بما كانوا أملك للبأس و النجدة بالبداوة فحاربوهم و رجعوا إليهم من أفريقية و المغرب الأوسط و جهز صاحب تلمسان من بني خزر قائده أبا سعدى اليفرني فكانت بينهم و بينه حروب إلى أن قتلوه بنواحي الزاب و تغلبوا على الضواحي في كل وجه و عجزت زناتة عن مدافعتهم بأفريقية و الزاب و صار الملتحم بينهم في الضواحي بجبل راشد و مصاب من بلاد المغرب الأوسط فلما استقر لهم الغلب وضعت الحرب أوزارها و صالحهم الصنهاجيون على خطة خسف في انفرادهم بملك الضواحي دونهم و صاروا إلى التفريق بينهم و ظاهروا الأثبج على رياح و زغبة و حشد الناصر بن علناس صاحب القلعة لمظاهرتهم و جمع زناتة
و كان فيهم المعز بن زيري صاحب فاس من مغراوة و نزلوا الأربس جميعا و لقيهم رياح و زغبة بسببه و مكر المعز بن زيري المغراوي بالناصر و صنهاجة بدسيسة زعموا من تميم بن المعز بن باديس صاحب القيروان فجر عليهم الهزيمة و استباحت العرب و زناتة خزائن الناصر و مضاربه و قتل أخوه القاسم و نجا إلى قسنطينة و رياح في اتباعه ثم لحق بلقلعة فنازلوها و خربوا جنباتها و أحبطوا عروشها و عاجوا على ما هنالك من الأمصار ثم طبنة و المسيلة فخربوها و أزعجوا ساكنيها و عطفوا على المنازل و القرى و الضياع و المدن فتركوها قاعا صفصفا أقفر من بلاد الجن و أوحش من جوف العير و غوروا المياه و احتطبوا الشجر و أظهروا في الأرض الفساد و هجروا ملوك أفريقية و المغرب من صنهاجة و ولاة أعمالها في الأمصار و ملكوا عليهم الضواحي يتحيفون جوانبهم و يقعدون لهم بالمرصاد و يأخذون لهم الأتاوة على التصرف في أوطانهم
و لم يزل هذا دأبهم حتى لقد هجر الناصر بن علناس سكنى القلعة و اختط بالساحل مدينة بجاية و نقل إليها ذخيرته و أعدها لنزله و نزلها المنصور ابنه من بعده فرارا من ضيم هذا الجيل و فسادهم بالضواحي إلى منعة الجبال و توعر مسالكها على رواحلهم و استقروا بها بعد و تركوا القلعة و كانوا يختصون الأثبج من هؤلاء الأحياء بالرياسة سائر أيامهم ثم افترق جمع الأثبج و ذهبت بذهاب صنهاجة دولتهم و لما غلب الموحدون سائر الدول بالمغرب في سني إحدى و أربعين و خمسمائة و زحف شيخ الموحدين عبد المؤمن إلى أفريقية وفد عليه بالجزائر أميران منهم لذلك العهد أبو الجليل بن شاكر أمير الأثبج و حباس بن مشيفر من رجالات جشم فتلقاهما بالمبرة و عقد لهما على قومهما و مضى لوجهه و فتح بجاية سنة تسع و خمسين و خمسماية
ثم انتقض العرب الهلاليون على دعوة صنهاجة و كان أمير رياح فيهم محرز بن زناد ابن بادخ إحدى بطون بني علي بن رباح فلقيتهم جيوش الموحدين بسيطف و عليهم عبد الله بن عبد المؤمن فتوافقوا ثلاثا علقوا فيهما رواحلهم و أثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم ثم انتقض في الرابعة جمعهم و استلحمهم الموحدون و غلبوا عليهم و غنموا أموالهم و أسروا رجالهم و سبوا نساءهم و اتبعوا أدبارهم إلى محصن سبتة ثم راجعوا من بعد ذلك بصائرهم و استكانوا لعز الموحدين و غلبهم فدخلوا في دعوتهم و تمسكوا بطاعتهم و أطلق عبد المؤمن أسراهم و لم يزالوا على استقامتهم ولم يزل الموحدون يستنفرونهم في جهادهم بالأندلس و ربما بعثوا إليهم في ذلك المخاطبات الشعرية فأجازوا مع عبد المؤمن و يوسف ابنه كما هو في أخبار دولتهم و لم يزالوا في استقامتهم إلى أن خرج عن الدولة بنو غانية المسوفيون أمراء ميورقة أجازوا البحر في أساطيلهم إلى بجاية فكسبوها سنة إحدى و ثمانين و خمسمائة لأول دولة المنصور و كشفوا القناع في نقض طاعة الموحدين و دعوا العرب بها فعادت هيف إلى أديانها
و كانت قبائل جشم و رياح و جمهور الأثبج من هؤلاء الهلاليين أسرع إجابة إليها و لما تحركت جيوش الموحدين إلى أفريقية لكف عدوانهم تحيزت قبائل زغبة إليهم و كانوا في جملتهم و لحق بنو غانية بفاس و معهم كافة جشم و رياح و لحق بهم جل قومهم من مسوفة و إخوانهم لمتونة من أطراف البقاع و استمسكوا بالدعوة العباسية التي كان أمراؤهم بنو تاشفين بالمغرب يتمسكون بها فأقاموها فيمن إليهم من القبائل و المسالك و نزلوا بفاس و طلبوا من الخليفة ببغداد المستنصر تجديد العهد لهم بذلك و أوفدوا عليه كاتبهم عبد البر بن فرسان فعقد لابن غانية و أذن له في حرب الموحدين و اجتمعت إليه قبائل بني سليم بن منصور و كانوا جاؤا على أثر الهلاليين عند إجازتهم إلى أفريقية و ظاهره على أمره ذلك قراقوش الأرمني و نذكر أخباره في أخبار الميروقي فاجتمع لعلي بن غانية من الملثمين و العرب و العجم عساكر جمة و غلب الضواحي و افتتح بلاد الجريد و ملك قفصة و توزر و نفطة و نهض اليه المنصور من مراكش يجر أمم المغرب من زناتة و المصامدة و زغبة من الهلاليين و جمهور الأثبج فأوقعوا بمقدمة بفحص غمرة من جهات قفصة ثم زحف إليهم من تونس فكانت الكرة عليهم و فل جمعهم و اتبع آثارهم إلى أن شردهم إلى صحاري برقة و انتزع بلاد قسنطينة و قابس و قفصة من أيديهم و راجعت قبائل جشم و رياح من الهلاليين طاعته و لا ذوا بدعوته فنفاهم إلى المغرب الأقصى و أنزل جشم ببلاد تامسنا و رياحا ببلاد الهبط و أزغار مما يلي سواحل طنجة إلى سلا و كانت تخوم بلاد زناتة منذ غلبهم الهلاليون على أفريقية و ضواحيها أرض مصاب ما بين صحراء أفريقية و صحراء المغرب الأوسط و بها قصور جددها فسميت بإسم من ولي خطتها من شعوبهم و كان بنو بادين و زناتة و هم بنو عبد الواد و توجين و مصاب و بقوز و دال و بنو راش شيعة الموحدين منذ أول دولتهم فكانوا أقرب إليهم من أمثالهم بنو مرين و أنظارهم كما يأتي و كانوا يتولون من رياف المغرب الأوسط و تلوله ما ليس يليه أحد من زناتة و يجوسون خلاله في رحلة الصيف بما لم يؤذن لأحد ممن سواهم في مثله حتى كأنهم من جملة عساكر الموحدين و حاميتهم و أمرهم إذ ذاك راجع إلى صاحب تلمسان من سادة القرابة و نزل هذا الحي من زغبة مع بني بادين هؤلاء لما اعتزلوا إخوانهم الهلاليين و تحيزوا إلى فئتهم و صاروا جميعا قبلة المغرب الأوسط من مصاب إلىجبل راشد بعد أن كان قسمتهم الأولى بقابس و طرابلس و كانت لهم حروب مع أولاد خزرون أصحاب طرابلس و قتلوا سعيد بن خزرون فصاروا إلى هذا الوطن الآخر لفتنة إبن غانية و انحرافهم عنه إلى الموحدين و انعقد ما بينهم و بين بني بادين حلف على الجوار و الذب عن الأوطان و حمايتها من معرة العدو في احتيال غرتها و انتهاز الفرصة فيها فتعاقدوا على ذلك و اجتوروا و أقامت زغبة في القفار و بنو بادين بالتلول و الضواحي ثم فر مسعود بن سلطان بن زمام أمير الرياحيين من بلاد الهبط و لحق ببلاد طرابلس و نزل على زغبة و ذياب من قبائل بني سليم و وصل إلى قراقيش بن رياح و حصر معه طرابلس حين افتتحها و هلك هنالك و قام إلى الميروني و لحق و لقيه بالحملة فهزمه و قتل الكثير من قومه
و انهزمت طائفة من قوم محمد بن مسعود منهم : ابنه عبد الله و ابن عمه حركات بن أبي الشيخ بن عساكر بن سلطان وشيخ من شيوخ قرة فضرب أعناقهم و فر يحيى بن غانية إلى مسقطة من الصحراء و استمرت على ذلك أحوال هذه القبائل من هلال و سليم و اتباعها و نحن الآن نذكر أخبارهم و مصائر أمورهم و نعددهم فرقة فرقة و نخص منهم بالذكر من كان لهذا العهد بحيه و ناجعته و نطوي ذكر من انقرض منهم و نبدأ بذكر الأثبج لتقدم رياستهم أيام صنهاجة كما ذكرناه ثم نقفي بذكر جشم لأنهم معدودون فيهم ثم نذكر رياحا و زغبة ثم المعقل لأنهم من أعداء هلال ثم نأتي بعدهم بذكر سليم لأنهم
كانت بطون هلال و سليم من مضر لم يزالوا بادين منذ الدولة العباسية و كانوا أحياء ناجعة محلاتهم من بعد الحجاز بنجد فبنو سليم مما يلي المدينة و بنو هلال في جبل غزوان عند الطائف و ربما كانوا يطوفون في رحلة الصيف و الشتاء أطراف العراق و الشام فيغيرون على الضواحي و يفسدون السابلة و يقطعون على الرفاق و ربما أغار بنو سليم على الحاج أيام الموسم بمكة و أيام الزيارة بالمدينة و ما زالت البعوث تجهز و الكتائب تكتب من باب الخلافة ببغداد للإيقاع بهم وصون الحاج عن مضرات هجومهم ثم تحيز بنو سليم و الكثير من ربيعة بن عامر إلى القرامطة عند ظهورهم و صاروا جندا بالبحرين و عمان و لما تغلب شيعة ابن عبيد الله المهدي على مصر و الشام و كان القرامطة قد تغلبوا على أمصار الشام فانتزعها العزيز منهم و غلبهم عليها و ردهم على أعقابهم إلى قرارهم بالبحرين و نقل أشياعهم من العرب من بني هلال و سليم فأنزلهم بالصعيد و في العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هناك و كان لهم أضرار بالبلاد و لما انساق ملك صنهاجة بالقيروان إلى المعز بن باديس بن المنصور سنة ثمان و أربعمائة قلده الظاهر لدين الله علي بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز لدين الله أمر أفريقية على عادة آبائه كما نذكره لك بعد و كان لعهد ولايته غلاما يفعة ابن ثمان سنين فلم يكن مجربا للأمور و لا بصيرا بالسياسة و لا كانت فيه عزة و أنفة ثم هلك الظاهر سنة سبع و عشرين و أربعمائة و ولي المنتصر بالله معز الطويل أمر الخلافة بما لم ينله أحد من خلفاء الإسلام يقال ولي خمسا و سبعين و قيل خمسا و تسعين و الصحيح ثلاث و سبعون لأن مهلكه كان على رأس المائة الخامسة و كانت أذن المعز بن باديس صاغية إلى مذاهب أهل السنة و ربما كانت شواهدها تظهر عليه و كبابة فرسه في أول ولايته لبعض مذاهبه فنادى مستغثيا بالشيخين أبي بكر و عمر و سمعته العامة فثاروا بالرافضة و قتلوهم بالمعتقد الحق و نادوا بشعار الإيمان و قطعوا من الأذان حي على خير العمل و أغضى عنه الظاهر من ذلك و ابنه معد المنتصر من بعده و اعتذر بالعامة فقبل و استمر على إقامة الدعوة و المهاداة و هو في أثناء ذلك يكاتب وزيرهما و حاجب دولتهما المضطلع بأمورهما أبا القاسم أحمد بن علي الجرجاني و يستميله يعرض ببني عبيد و شيعتهم و كان الجرجاني يلقب بالأقطع بما كان أقطعه الحاكم بجناية ظهرت عليه في الأعمال و انتهضته السيدة بنت الملك عمة المنتصر
فلما ماتت استبد بالدولة سنة أربع عشرة و أربعمائة إلى أن هلك سنة ست و ثلاثين و أربعمائة و ولي الوزارة بعده أبو محمد الحسن بن علي الياروزي أصله من قرى فلسطين و كان أبوه ملاحا بها فلما ولي الوزارة خاطبه أهل الجهات و لم يولوه فأنف من ذلك فعظم عليه و حنق عليه ثمال بن صالح صاحب حلب و المعز بن باديس صاحب أفريقية و انحرفوا عنه و حلف المعز لينقضن طاعتهم و ليحولن الدعوة إلى بني عباس و يمحون اسم بني عبيد من منابره ولج في ذلك و قطع أسماءهم من الطراز و الرايات و بايع القائم أبا جعفر بن القادر من خلفاء بني العباس و خاطبه و دعا له على منابره سنة سبع و ثلاثين و أربعمائة و بعث بالبيعة إلى بغداد
و وصله أبو الفضل البغدادي و حظي من الخليفة بالتقليد و الخلع و قرىء كتابه بجامع القيروان و نشرت الرايات السود و هدمت دار الإسماعيلية و بلغ الخبر إلى المستنصر معز الخليفة بالقاهرة و إلى الشيعة الرافضة من كتامة و صنائع الدولة فوجموا و طلع عليهم المقيم المقعد من ذلك و ارتكبوا في أمرهم و كان أحياء هلال هؤلاء الأحياء من جشم و الاثير و زغبة و رياح و ربيعة و عدي في محلاتهم بالصعيد كما قدمناه و قد عم ضررهم و أحرق البلاد و الدولة شررهم فأشار الوزير أبو محمد الحسن بن علي اليازوري باصطناعهم و التقدم لمشايخهم و توليتهم أعمال أفريقية و تقليدهم أمرها و دفعهم إلى حرب صنهاجة ليكونوا عند نصر الشيعة و السبب في الدفاع عن الدولة فإن صدقت المخيلة في ظفرهم بالمعز و صنهاجة كانوا أولياء للدعوة و عمالا بتلك القاصية و ارتفع عدوانهم من ساحة الخلافة و إن كانت الأخرى فلها ما بعدها و أمر العرب البادية أسهل من أمر صنهاجة الملوك فتغلبوا على هدية و ثوراته و قيل إن الذي أشار بذلك و فعله و أدخل العرب إلى أفريقية إنما هو أبو القاسم الجرجاني و ليس ذلك بصحيح فبعث المستنصر وزيره على هؤلاء الأحياء سنة إحدى و أربعين و أربعمائة و أرضخ لأمرائهم في العطاء و وصل عامتهم بعيرا و دينارا لكل واحد منهم و أباح لهم إجازة النيل و قال لهم : قد أعطيتكم المغرب و ملك المعز بن بلكين الصنهاجي العبد الآبق فلا تفتقرون و كتب الباروزي إلى المغرب : أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا و أرسلنا عليها رجالا كهولا ليقضي الله أمرا كان مفعولا فطمعت العرب إذ ذاك و أجازوا النيل إلى برقة و نزلوا بها و افتتحوا أمصارها و استباحوها و كتبوا لأخوانهم شرقي النيل يرغبونهم في البلاد فأجازوا إليهم بعد أن أعطوا لكل رأس دينارين فأخذ منهم أضعاف ما أخذوه و تقارعوا على البلاد فحصل لسليم الشرق و لهلال الغرب و خربوا المدينة الحمراء و أجدابية و أسمرا و سرت
و أقامت لهب من سليم و أحلافها رواحة و ناصرة و غمرة بأرض برقة و سارت قبائل دياب و عوف و زغب و جميع بطون هلال إلى أفريقية كالجراد المنتشر لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه حتى وصلوا إلى أفريقية سنة ثلاث و أربعين و أربعمائة و كان أول من وصل إليهم أمير رياح موسى بن يحيى الصنبري فاستماله المعز و استدعاه و استخلصه لنفسه و أصهر إليه و فاوضه في استدعاء العرب من قاصية وطنه للاستغلاظ على نواحي بني عمه فاستنفر القرى و أتى عليهم فاستدعاهم فعاثوا في البلاد و أظهروا الفساد في الأرض و نادوا بشعار الخليفة المستنصر و سرح إليهم من صنهاجة الأولياء فأوقعوا بها فتمخط المعز لكبره و أشاط بغضبه و تقبض على أخي موسى و عسكر بظاهر القيروان و بعث بالصريخ إلى ابن عمه صاحب القلعة القائد بن حامد بن بلكين فكتب إليه كتيبة من ألف فارس سرحهم إليه و استفرزوا عن زناتة فوصل إليه المستنصر بن حزور المغراوي في ألف فارس من قومه
و كان بالبدو من أفريقية مع الناجعة من زناتة و هو من أعظم ساداتهم و ارتحل المعز في أولئك النفر و من لف لفهم من الأتباع و الحشم و الأولياء و من في إيالتهم من بقايا عرب الفتح و حشد زناتة و البربر و صمد نحوهم في أمم لا تحصى يناهز عددهم فيما يذكر ثلاثون ألفا و كانت رياح و زغبة و عدي حيدران من جهة فاس و لما تزاحف الفريقان انخذل بقية عرب الفتح و تحيزوا إلى الهلاليين للعصبية القديمة و خانته زناتة و صنهاجة و كانت الهزيمة على المعز وفر بنفسه و خاصته إلى القيروان و انتهبت العرب جميع مخلفه من المال و المتاع و الذخيرة و الفساطيط و الرايات و قتلوا فيها من البشر ما لا يحصى يقال إن القتلى من صنهاجة بلغوا ثلاثة آلاف و ثلثمائة و في ذلك يقول علي بن رزق الرياحي كلمته و يقال إنها لابن شداد و أولها :
( لقد زار وهنا من أميم خيال ... و أيدي المطايا بالزميل عجال )
( و أن ابن باديس لأفضل مالك ... لعمري و لكن ما رجال )
( ثلاثون ألفا منهم قد هزمتهم ... ثلاثة آلاف و ذاك ضلال )
ثم نازلوه بالقيروان و طال عليه أمر الحصار و هلكت الضواحي و القرى بإفساد العرب و عيثهم و انتقام السلطان منهم بانتمائهم في ولاية العرب و لجأ إلى القيروان و أكثروا النهب و اشتد الحصار و فر أهل القيروان إلى تونس و سوسه و عم النهب في البلاد و العيث في البلاد و دخلت تلك الأرض سنة خمس و أربعين و أحاطت زغبة و رياح بالقيروان و نزل موسى قريبا من ساحة البلد و فر القرابة و الأعياص من آل زير فولاهم موسى قابس و غيرها ثم ملكوا بلاد قسطينة كلها و غزا عامل بن أبي الغيث منهم زناتة و مغراوة فاستباحهم و رجع
و اقتسمت العرب بلاد أفريقية سنة ست و أربعين و كان لزغبة طرابلس و ما يليها و لمرداس بن رياح باجة و ما يليها ثم اقتسموا البلاد ثانية فكان لهلال من تونس إلى الغرب و هم : رياح و زغبة و المعقل و جشم و قرة و الاثبج و الخلط و سفيان و تصرم الملك من يد المعز و تغلب عائد بن أبي الغيث على مدينة تونس و سباها و ملك أبو مسعود من شيوخهم مومه صلحا و عامل المعز على خلاص نفسه و صاهره ببناته ثلاثة من أمراء العرب فارس بن أبي الغيث و أخاه عائذا و الفضل بن أبي علي المرادي و قدم ابنه تميم إلى المهدية سنة ثمان و أربعين و أربعمائة و لسنة تسع بعدها بعث إلى أصهاره من العرب و ترحم بهم و لحق بهم بالقيروان و اتبعوه فركب البحر و الساحل و أصلح أهل القيروان فأخبرهم ابنه المنصور بخبر أبيه فساروا بالسودان و المنصور و جاء العرب فدخلوا البلد و استباحوه و اكتسحوا المكاسب و خربوا المباني و عاثوا في محاسنها و طمسوا من الحسن و الرونق معالمها و استصفوا ما كان لآل بلكين في قصورها و شملوا بالعيث و النهب سائر حريمها و تفرق أهلها في الأقطار فعظمت الرزية و انتشر الداء و أعضل الخطب ثم ارتحلوا إلى المهدية فنزلوها و ضيقوا عليها بمنع المرافق و إفساد السابلة ثم حاربوا زناتة من بعد صنهاجة و غلبوهم على الضواحي و اتصلت الفتنة بينهم و أغزاهم صاحب تلمسان من أعقاب محمد بن خزر و جيوشه مع وزيره أبي سعدى خليفة اليفرني فهزموه و قتلوه بعد حروب طويلة و اضطرب أمر أفريقية و خرب عمرانها و فسدت سابلتها و كانت رياسة الضواحي من زناتة و البربر لبني يفرن و مغراوة و بني ماند و بني تلومان و لم يزل هذا دأب العرب و زناتة حتى غلبوا صنهاجة و زناتة على ضواحي أفريقية و الزاب و غلبوا عليها صنهاجة و قهروا من بها من البربر و أصاروهم عبيدا و خدما بباجة و كان في هؤلاء العرب لعهد دخولهم أفريقية رجالات مذكورون
و كان من أشرفهم حسن بن سرحان و أخوه بدر و فضل بن ناهض و ينسبون هؤلاء في دريد بن الأثبج و ماضي بن مقرب و نيونة بن قرة و سلامة بن رزق في بني كثير من بطون كرفة بن الأثبج و شاقة بن الأحمير و أخوه صليصل و نسبوهم في بني عطية من كرفه و دياب بن عانم و ينسبونه في بني ثور و موسى بن يحيى و ينسبونه في مرداس رياح لا مرداس سليم فاحذر من الغلط في هذا و هو بني صفير بطن من بطون مرداس رياح و زيد بن زيدان و ينسبونه في الضحاك و مليحان بن عباس و ينسبونه في حمير و زيد العجاج بن فاضل و يزعمون أنه مات بالحجاز قبيل دخولهم إلى أفريقية و فارس بن أبي الغيث و عامر أخوه و الفضل بن أبي علي و نسبهم أهل الأخبار منهم في مرداس المقهى كل هؤلاء يذكرون في أشعارهم و كان زياد بن عامر رائدهم في دخول أفريقية و يسمونه بذلك أبا مخيبر و شعوبهم لذلك العهد كما نقلناهم زغبة و رياح و الأثبج و قرة و كلهم من هلال بن عامر و ربما ذكر فيهم بنو عدي و لم نقف على أخبارهم و ليس لهم لهذا العهد حي معروف فلعلهم دثروا و تلاشوا و افترقوا في القبائل و كذلك ذكر فيهم ربيعة و لم نعرفهم لهذا العهد إلا أن يكونوا هم المعقل كما تراه في نسبهم و كن فيهم من غير هلال كثير منفزارة و أشجع من بطون غطفان و جشم بن معاوية بن بكر بن هوزان و سلول بن مرة ابن صعصعة بن معاوية و المعقل من بطون اليمنية و عمرة بن أسد بن ربيعة بن نزار و بني ثور بن معاوية بن عبادة بن ربيعة البكاء بن عامر بن صعصعة و عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان و طرود بطن من فهم بن قيس إلا أنهم كلهم مندرجون في هلال و في الأثبج منهم خصوصا لأن الرياسة كانت عند دخولهم للأثبج و هلال فأدخلوا فيهم و صاروا مندرجين في جملتهم و فرقة من هؤلاء الهلاليين لم يكونوا من الذين أجازوا القيل لعهد البازوري أو الجرجاني و إنما كانوا من قبل ذلك ببرقة أيام الحاكم العبيدي ولهم فيها أخبار مع الصنهاجيين ببرقة و الشيعة بمصر خطوب و نسبهم إلى عبد مناف بن هلال كما ذكر شاعرهم في قوله :
( طلبنا القرب منهم و جزيل منهم ... بلا عيب من عرب سحاح جمودها )
( و بيت غرت أمره منا و بينها ... طرود أنكاد اللي يكودها )
( ماتت ثلاث آلاف مرة و أربعة ... بحرمة منا تداوي كبودها )
و قال الآخر منهم
( أيا رب خير الخلق من نائج البلا ... إلا القليل انجار مالا يجيرها )
( و خص بها قرة مناف و عينها ... ديما لأرياد البوادي تشيرها )
فذكر نسبهم في مناف و ليس في هلال مناف هكذا منفردا إنما هو عبد مناف و الله تعالى أعلم و كان شيخهم أيام الحاكم مختار بن القاسم و لما بعث الحاكم يحيى ابن علي الأندلسي لصريخ فلفول بن سعيد بن خزروق بطرابلس على صنهاجة كما نذكره في أخبار بني خزروق أوعز لهم السير معه فوصلوا إلى طرابلس و جروا الهزيمة على يحيى بن علي و رجعوا إلى برقة و بعث عنهم فامتنعوا ثم بعث لهم بالأمان و وصل وفدهم إلى الإسكندرية فقتلوا عن آخرهم سنة أربع و تسعين و ثلثمائة و كان عندهم معلم للقرآن إسمه الوليد بن هشام ينسب إلى المغيرة بن عبد الرحمن من بني أمية و كان يزعم أن لديه إثارة من علم في اختيار ملك آبائه و قبل ذلك منه البرابرة من مرامة و زناتة و لواتة و تحدثوا بشأنه فنصبه بنو قرة و ما بعده بالخلافة سنة خمس و تسعين و ثلثمائة و تغلبوا على مدينة برقة و زحف إليهم جيوش الحاكم فهزموهم و قتل الوليد بن هشام و قائدها من الترك
ثم رجعوا به إلى مصر فانهزموا و لحق الوليد بأرض النجاء من بلاد السودان ثم أخفرت ذمته وسيق إلى مصر و قتل و هدرت لبني قرة جنايتهم هذه و عفا عنهم و لما كانت سنة إثنتين و أربعمائة اعترضوا هدة باديس بن منصور ملك صنهاجة من أفريقية إلى مصر فأخذوها و زحفوا إلى برقة فغلبوا العامل عليها و فر في البحر و استولوا على برقة و لم يزل هذا شأنهم ببرقة فلما زحف إخوانهم الهلاليون من زغبة و رياح و الأثبج و اتباعهم إلى أفريقية كانوا ممن زحف معهم و كان من شيوخهم ماضي بن مقرب المذكور في أخبار هلال
و لهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى أفريقية طرق في الخبر غريبة : يزعمون أن الشريف بن هاشم كان صاحب الحجاز و يسمونه شكر بن أبي الفتوح و أنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية فأنكحه إياها و ولدت منه ولدا اسمه محمد و أنه حدث بينهم و بين الشريف مغاضبة و فتنة و أجمعوا الرحلة عن نجد إلى إفريقية و تحيلوا عليه في استرجاع هذه الجازية فطلبته في زيارة أبويها فأزارها إياهم و خرج بها إلى حللهم فارتحلوا به و بها و كتموا رحلتها عنه و موهوا عليه بأنهم يباكرون به للصيد و القنص و يروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه و صار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم ففارقوه فرجع إلى مكانه من مكة و بين جوانحه من حبها داء دخيل و أنها من بعد ذلك كلفت به مثل كلفه إلى أن ماتت من حبه
و يتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفى عن خبر قيس و كثير و يروون كثيرا من أشعارها محكمة المباني متفقة الأطراف و فيها المطبوع و المنتحل و المصنوع لم يفقد فيها من البلاغة شيء و إنما أخلوا فيها بالإعراب فقط و لا مدخل له في البلاغة كما قررناه لك في الكتاب الأول من كتابنا هذا إلا أن الخاصة من أهل العلم بالمدن يزهدون في روايتها و يستنكفون عنها لما فيها من خلل الإعراب و يحسبون أن الإعراب هو أصل البلاغة و ليس كذلك و في هذه الأشعار كثير أدخلته الصنعة و فقدت فيه صحة الرواية فلذلك لا يوثق به و لو صحت روايته لكانت فيه شواهد بآياتهم و وقائعهم مع زناتة و حروبهم و ضبط لأسماء رجالاتهم و كثير من أحوالهم لكنا لا نثق بروايتها و ربما يشعر البصير بالبلاغة بالمصنوع منها و يتهمه و هذا قصارى الأمر فيه و هم متفقون على الخبر عن حال هذه الجازية و الشريف خلفا عن سلف و جيلا عن جيل و يكاد القادح فيها و المستريب في أمرها أن يرمي عندهم بالجنون و الخلل المفرط لتواترها بينهم و هذا الشريف الذي يشيرون إليه هو من الهواشم و هو شكر بن أبي الفتوح الحسن بن أبي جعفر بن هاشم محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون بن عبد الله بن إدريس و أبوه الفتوح هو الذي خطب لنفسه بمكة أيام الحاكم العبيدي و بايع له بنوا الجراح أمراء طيء بالشام و بعثوا عنه فوصل إلى أحيائهم و بايع له كافة العرب ثم غلبتهم عساكر الحاكم العبيدي و رجع إلى مكة و هلك سنة ثلاثين و أربعمائة فولي بعده إبنه شكر هذا و هلك سنة ثلاث و خمسين و ولي إبنه محمد الذي يزعم هؤلاء الهلاليون أنه من الجازية هذه و تقدم ذلك في أخبار العلوية هكذا نسبه ابن حزم
و قال ابن سعيد : هو من السليمانيين من ولد محمد بن سليمان بن داود بن حسن بن الحسين السبط الذي بايع له أبو الزاب الشيباني بعد ابن طباطبا و يسمى الناهض و لحق بالمدينة فاستولى على الحجاز و استقرت إمارة ملكه في بنيه إلى أن غلبهم عليها هؤلاء الهواشم جدا قريبا من الحسن و الحسين و أما هاشم الأعلى فمشترك بين سائر الشرفاء فلا يكون مميزا لبعضهم على بعض و أخبرني من أثق به من الهلاليين لهذا العهد أنه وقف على بلاد الشريف شكر و أنها بقعة من أرض نجد مما يلي الفرات و أن ولده بها لهذا العهد و الله أعلم
و من مزاعمهم أن الجازية لما صارت إلى أفريقية و فارقت الشريف خلفه عليها منهم ماض بن مقرب من رجالات دريد و كان المستنصر لما بعثهم إلى أفريقية عقد لرجالاتهم على أمصارها و ثغورها و قلدهم أعمالها فعقد لموسى بن يحيى المرداسي على القيروان و باجة و عقد لزغبة على طرابلس و قابس و عقد لحسن بن سرحان على قسنطينة فلما غلبوا صنهاجة على الأمصار و ملك كل ما عقد له سميت الرعايا بالأمصار عسفهم و عيثهم باختلاف الأيدي إذ الوازع مفقود من أهل هذا الجيل العربي مذ كانوا فثاروا بهم و أخرجوهم من الأمصار و صاروا إلى ملك الضواحي و التغلب عليها و سيم الرعايا بالخسف في النهب و العيث و إفساد السابلة هكذا إلى هلم ولما غلبوا صنهاجة اجتهد زناتة في مدافعتهم بما كانوا أملك للبأس و النجدة بالبداوة فحاربوهم و رجعوا إليهم من أفريقية و المغرب الأوسط و جهز صاحب تلمسان من بني خزر قائده أبا سعدى اليفرني فكانت بينهم و بينه حروب إلى أن قتلوه بنواحي الزاب و تغلبوا على الضواحي في كل وجه و عجزت زناتة عن مدافعتهم بأفريقية و الزاب و صار الملتحم بينهم في الضواحي بجبل راشد و مصاب من بلاد المغرب الأوسط فلما استقر لهم الغلب وضعت الحرب أوزارها و صالحهم الصنهاجيون على خطة خسف في انفرادهم بملك الضواحي دونهم و صاروا إلى التفريق بينهم و ظاهروا الأثبج على رياح و زغبة و حشد الناصر بن علناس صاحب القلعة لمظاهرتهم و جمع زناتة
و كان فيهم المعز بن زيري صاحب فاس من مغراوة و نزلوا الأربس جميعا و لقيهم رياح و زغبة بسببه و مكر المعز بن زيري المغراوي بالناصر و صنهاجة بدسيسة زعموا من تميم بن المعز بن باديس صاحب القيروان فجر عليهم الهزيمة و استباحت العرب و زناتة خزائن الناصر و مضاربه و قتل أخوه القاسم و نجا إلى قسنطينة و رياح في اتباعه ثم لحق بلقلعة فنازلوها و خربوا جنباتها و أحبطوا عروشها و عاجوا على ما هنالك من الأمصار ثم طبنة و المسيلة فخربوها و أزعجوا ساكنيها و عطفوا على المنازل و القرى و الضياع و المدن فتركوها قاعا صفصفا أقفر من بلاد الجن و أوحش من جوف العير و غوروا المياه و احتطبوا الشجر و أظهروا في الأرض الفساد و هجروا ملوك أفريقية و المغرب من صنهاجة و ولاة أعمالها في الأمصار و ملكوا عليهم الضواحي يتحيفون جوانبهم و يقعدون لهم بالمرصاد و يأخذون لهم الأتاوة على التصرف في أوطانهم
و لم يزل هذا دأبهم حتى لقد هجر الناصر بن علناس سكنى القلعة و اختط بالساحل مدينة بجاية و نقل إليها ذخيرته و أعدها لنزله و نزلها المنصور ابنه من بعده فرارا من ضيم هذا الجيل و فسادهم بالضواحي إلى منعة الجبال و توعر مسالكها على رواحلهم و استقروا بها بعد و تركوا القلعة و كانوا يختصون الأثبج من هؤلاء الأحياء بالرياسة سائر أيامهم ثم افترق جمع الأثبج و ذهبت بذهاب صنهاجة دولتهم و لما غلب الموحدون سائر الدول بالمغرب في سني إحدى و أربعين و خمسمائة و زحف شيخ الموحدين عبد المؤمن إلى أفريقية وفد عليه بالجزائر أميران منهم لذلك العهد أبو الجليل بن شاكر أمير الأثبج و حباس بن مشيفر من رجالات جشم فتلقاهما بالمبرة و عقد لهما على قومهما و مضى لوجهه و فتح بجاية سنة تسع و خمسين و خمسماية
ثم انتقض العرب الهلاليون على دعوة صنهاجة و كان أمير رياح فيهم محرز بن زناد ابن بادخ إحدى بطون بني علي بن رباح فلقيتهم جيوش الموحدين بسيطف و عليهم عبد الله بن عبد المؤمن فتوافقوا ثلاثا علقوا فيهما رواحلهم و أثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم ثم انتقض في الرابعة جمعهم و استلحمهم الموحدون و غلبوا عليهم و غنموا أموالهم و أسروا رجالهم و سبوا نساءهم و اتبعوا أدبارهم إلى محصن سبتة ثم راجعوا من بعد ذلك بصائرهم و استكانوا لعز الموحدين و غلبهم فدخلوا في دعوتهم و تمسكوا بطاعتهم و أطلق عبد المؤمن أسراهم و لم يزالوا على استقامتهم ولم يزل الموحدون يستنفرونهم في جهادهم بالأندلس و ربما بعثوا إليهم في ذلك المخاطبات الشعرية فأجازوا مع عبد المؤمن و يوسف ابنه كما هو في أخبار دولتهم و لم يزالوا في استقامتهم إلى أن خرج عن الدولة بنو غانية المسوفيون أمراء ميورقة أجازوا البحر في أساطيلهم إلى بجاية فكسبوها سنة إحدى و ثمانين و خمسمائة لأول دولة المنصور و كشفوا القناع في نقض طاعة الموحدين و دعوا العرب بها فعادت هيف إلى أديانها
و كانت قبائل جشم و رياح و جمهور الأثبج من هؤلاء الهلاليين أسرع إجابة إليها و لما تحركت جيوش الموحدين إلى أفريقية لكف عدوانهم تحيزت قبائل زغبة إليهم و كانوا في جملتهم و لحق بنو غانية بفاس و معهم كافة جشم و رياح و لحق بهم جل قومهم من مسوفة و إخوانهم لمتونة من أطراف البقاع و استمسكوا بالدعوة العباسية التي كان أمراؤهم بنو تاشفين بالمغرب يتمسكون بها فأقاموها فيمن إليهم من القبائل و المسالك و نزلوا بفاس و طلبوا من الخليفة ببغداد المستنصر تجديد العهد لهم بذلك و أوفدوا عليه كاتبهم عبد البر بن فرسان فعقد لابن غانية و أذن له في حرب الموحدين و اجتمعت إليه قبائل بني سليم بن منصور و كانوا جاؤا على أثر الهلاليين عند إجازتهم إلى أفريقية و ظاهره على أمره ذلك قراقوش الأرمني و نذكر أخباره في أخبار الميروقي فاجتمع لعلي بن غانية من الملثمين و العرب و العجم عساكر جمة و غلب الضواحي و افتتح بلاد الجريد و ملك قفصة و توزر و نفطة و نهض اليه المنصور من مراكش يجر أمم المغرب من زناتة و المصامدة و زغبة من الهلاليين و جمهور الأثبج فأوقعوا بمقدمة بفحص غمرة من جهات قفصة ثم زحف إليهم من تونس فكانت الكرة عليهم و فل جمعهم و اتبع آثارهم إلى أن شردهم إلى صحاري برقة و انتزع بلاد قسنطينة و قابس و قفصة من أيديهم و راجعت قبائل جشم و رياح من الهلاليين طاعته و لا ذوا بدعوته فنفاهم إلى المغرب الأقصى و أنزل جشم ببلاد تامسنا و رياحا ببلاد الهبط و أزغار مما يلي سواحل طنجة إلى سلا و كانت تخوم بلاد زناتة منذ غلبهم الهلاليون على أفريقية و ضواحيها أرض مصاب ما بين صحراء أفريقية و صحراء المغرب الأوسط و بها قصور جددها فسميت بإسم من ولي خطتها من شعوبهم و كان بنو بادين و زناتة و هم بنو عبد الواد و توجين و مصاب و بقوز و دال و بنو راش شيعة الموحدين منذ أول دولتهم فكانوا أقرب إليهم من أمثالهم بنو مرين و أنظارهم كما يأتي و كانوا يتولون من رياف المغرب الأوسط و تلوله ما ليس يليه أحد من زناتة و يجوسون خلاله في رحلة الصيف بما لم يؤذن لأحد ممن سواهم في مثله حتى كأنهم من جملة عساكر الموحدين و حاميتهم و أمرهم إذ ذاك راجع إلى صاحب تلمسان من سادة القرابة و نزل هذا الحي من زغبة مع بني بادين هؤلاء لما اعتزلوا إخوانهم الهلاليين و تحيزوا إلى فئتهم و صاروا جميعا قبلة المغرب الأوسط من مصاب إلىجبل راشد بعد أن كان قسمتهم الأولى بقابس و طرابلس و كانت لهم حروب مع أولاد خزرون أصحاب طرابلس و قتلوا سعيد بن خزرون فصاروا إلى هذا الوطن الآخر لفتنة إبن غانية و انحرافهم عنه إلى الموحدين و انعقد ما بينهم و بين بني بادين حلف على الجوار و الذب عن الأوطان و حمايتها من معرة العدو في احتيال غرتها و انتهاز الفرصة فيها فتعاقدوا على ذلك و اجتوروا و أقامت زغبة في القفار و بنو بادين بالتلول و الضواحي ثم فر مسعود بن سلطان بن زمام أمير الرياحيين من بلاد الهبط و لحق ببلاد طرابلس و نزل على زغبة و ذياب من قبائل بني سليم و وصل إلى قراقيش بن رياح و حصر معه طرابلس حين افتتحها و هلك هنالك و قام إلى الميروني و لحق و لقيه بالحملة فهزمه و قتل الكثير من قومه
و انهزمت طائفة من قوم محمد بن مسعود منهم : ابنه عبد الله و ابن عمه حركات بن أبي الشيخ بن عساكر بن سلطان وشيخ من شيوخ قرة فضرب أعناقهم و فر يحيى بن غانية إلى مسقطة من الصحراء و استمرت على ذلك أحوال هذه القبائل من هلال و سليم و اتباعها و نحن الآن نذكر أخبارهم و مصائر أمورهم و نعددهم فرقة فرقة و نخص منهم بالذكر من كان لهذا العهد بحيه و ناجعته و نطوي ذكر من انقرض منهم و نبدأ بذكر الأثبج لتقدم رياستهم أيام صنهاجة كما ذكرناه ثم نقفي بذكر جشم لأنهم معدودون فيهم ثم نذكر رياحا و زغبة ثم المعقل لأنهم من أعداء هلال ثم نأتي بعدهم بذكر سليم لأنهم