م
مرة أخري محاولة لفهم ما يجري
بقلم: د. رفعت السعيد
د. رفعت السعيد
ونواصل ما بدأنا في الأسبوع الماضي متطلعين للقدرة علي فهم ما يجري. في الأسبوع الفائت حاولنا أن نتلفت حول ما يحيط بنا من مساحات تموج بغليان يتمدد ويرفض أن يهدأ, بل ويأبي إلا أن يجتاز كل الحدود المحيطة. اليوم سنحاول التطلع إلي الداخل.
والعوامل المتفاعلة في الداخل عديدة وهي أكثر من أن تحصي في مساحة كهذه, لكننا سنحاول أن نفتح أعيننا وعقولنا عما دار وما يدور هنا.
> دروس غير مستفادة: فالذي يتأمل ما كان حتي ما قبل ثورة52 يناير وما كان منذ نحو نصف قرن يكتشف أن السيناريو تكرر, لكن أحدا لم يتلقن ولم يحاول حتي أن يتذكر ما كان. إنه تكرار الكذب والتكاذب. الحاكمون وحواشيهم يتكاذبون ويكذبون علي الغير فيصدقون أكاذيبهم من فرط تكرارها ومن فرط إعجابهم بأنفسهم ونفاق المحيطين. وكم سخرت في كتاباتي السابقة من هذه الابتسامات الزائفة والتي توحي بطمأنينة أكثر زيفا.
فقط أقدم نموذجا. كان هناك ذلك الثوب الفضفاض( الاتحاد الاشتراكي) الممتلئ بحسن النية والممتلئ أيضا بالمتسلقين والنفعيين والمصفقين بمناسبة وبلا مناسبة, فالذي أتي إلي هذا الوعاء بحثا عن منفعة لابد أن يبرر فساده بمزيد من الولاء المظهري. وهربا من الثوب الفضفاض. كان التنظيم الطليعي الذي ضم ما أعتقد أنه العناصر الأفضل, وربما كان كذلك, لكنه لم يكن قادرا ولا بأي قدر علي قول الحقيقة, ولا علي أي نقد ولا انتقاد وإنما وبرغم حسن النوايا عند البعض كان التنظيم الطليعي مجرد خدعة كبري. وما أن جاء الصدام الذي لم يكن مرتقبا بهذه الصورة العنيفة حتي تبددت ملايين الوعاء الكبير وألوف الطليعي وتحول الجميع نحو ولاء جديد وخرجت جموعهم لتؤيد الحاكم الجديد ولتدعوه في مظاهرات صاخبة إلي أن يفرم القيادات التي كانوا يزهون بمجرد الولاء والطاعة لها.
نفس الشئ اليوم. أين الوطني؟ أين لجنة السياسات؟ ألم أقل أن التكرار لا يعلم من يغمض عينيه عن الحقيقة ويكتفي بمديح الحاشية.
> الفارق بين تجربتين: لكن السادات الذي كان يعرف رجال حزبه جيدا, ويعرف مدي نفاقهم, اكتفي بمعاقبة القيادات السياسية واحتضن من تبقي. أبقي الفساد علي فساده بل زاده فسادا وعمل الخدم في خدمة السيد الجديد بذات الحماس وذات الولاء المنافق. أما الآن فإن القادمين الجدد ليسوا بحاجة إلي حزب تتراكم فيه وحوله اتهامات بالفساد. والفارق الآخر أن مساحة الفساد القديم لم تكن بهذا الاتساع بحيث إنك إذ تتأمل قوائم قيادات الحزب الوطني فإن نسبة من لم يمسسهم فساد كبير تبدو محدودة جدا.
ولعلي أعتقد أن إلقاء شباك اصطياد الفساد في بحر الحزب الوطني قد لا تبقي فيه سوي أسماك صغيرة وقليلة. ومع ذلك فإنني أعتقد أن البعض لم يزل بحاجة إلي حزب جاهز قد يكون سيئ السمعة.. نعم, وتضاءلت عضويته. نعم, لكنه بقليل من الأكسجين وبيانات استنكار ما كان, يمكنه أن يعاود الحياة.
> افتقاد الخيال: فعندما تحرك الشباب عبر الانترنت والفيس بوك لم يصدق الكثيرون من الحكام والمحكومين أن هذه الآليات يمكنها أن تخترق جدران الصمت, وأن تتسلل إلي الناس رغم حوائط الأمن وخرسانات السلطة المطلقة, فأتت الثورة الشعبية من حيث لا يدرون, تسللت عبر نوافذ لا يمكن إغلاقها ولعل في هذا درس كاف لجميع من بقي من الحكام. ولم يكن مبارك سوي تجسيد لهذا الافتقاد للخيال فالأمن مدجج والسجون جاهزة والإعلام الحكومي تليفزيونا وإذاعة وصحفا ومجلات تشيد به وتشدو باسمه والانتخابات زورت والحمد لله, كل شئ تمام فلماذا يخاف؟ وعندما سأله صحفي أجنبي عن صيحات شباب الفيس بوك قال ساخرا خليهم يتسلوا.
هذا الدرس سيتكرر فهل سيصغي من تبقي من حكام ؟
> افتقاد الثقة: ويبقي بعد ذلك أن نسأل لماذا خرج الناس إلي الشارع بهذه الجماهير الغفيرة, وهو خروج جاء علي غير توقعات الجميع حتي الشباب الذين دعوا إلي الثورة؟ والإجابة سهلة وهي لأن تراكمات الظلم والقهر والفساد تمادت بحيث جعلت من كل إنسان غير فاسد عدوا لما هو قائم. ولأن الأكاذيب تراكمت. عاما بعد عام تراكمت. ودون حصافة وبلا مبالاة تدل علي ترفع علي فهم الحقيقة. تكررت ذات الكلمات وفي كل الخطب تكررت, عاما بعد عام تكررت ضرورة مراعاة محدودي الدخل ـ ضرورة تحقيق العدل الاجتماعي ـ ضرورة مواجهة الفساد ـ أزهي عصور الديمقراطية ـ لن يكسر قلم والأرقام كلها كاذبة وتثير السخرية.. ذات الألفاظ ودون أدني محاولة لإيجاد بديل مماثل لها. وذات الأرقام الكاذبة تراكمت عاما بعد عام فخلقت حائطا كثيفا منع الناس من تصديق أي شئ يقال. وفقدوا الثقة, ومن يفقد الثقة في اتجاه ما, يبحث بالضرورة عن مجال جديد, واجتاز المصريون الحاجز ليثقوا في الثورة, وأخذ حقوقهم بأيديهم.
ومن ثم يتعين علي المجلس العسكري أن يدرك أن استعادة ثقة الناس إلي الحكام الجدد تتطلب جهدا حقيقيا وفعلا حقيقيا يجعل من الكلمات المجردة واقعا فعليا. ولعل المشكلة هي استسهال إحداث تغييرات سياسية ودستورية ومطاردة الفاسدين لكن الناس لا تأكل تعديلات دستورية.. الحرية والديمقراطية والانتخابات الحرة ضرورية طبعا وهي واجب حتمي, لكن هناك أفواها جائعة ومقارنات مؤلمة, إنهم يواصلون التظاهر لأنهم اعتادوا ألا يصدقوا, فافعلوا مايجعلهم يصدقون. أعرف أن الأمر صعب ولكن لم لا نبدأ وفورا؟ ففي مؤسسة بها0004 عامل إذا كان متوسط الأجر002 جنيه ورئيسها مرتبه مليون جنيه شهريا. يكفيه مائة ألف والتسعمائة ألف ستضاعف أجور كل العاملين. افعلوا ذلك, افعلوه فورا فبه سيدرك الناس أنكم جادون وسيمنحونكم مهلة.
المزيد من مقالات د. رفعت السعيد
Share/Bookmark
جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام،و يحظر نشر أو توزيع أو طبع أى مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام
راسلنا على البريد الاليكترونى ahramdaily@ahram.org.eg