فإذا نزل عليها الماء «اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ» هي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام ، فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تتفتح بالحياة عن النبات «مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ». وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد الكمون ، وتنتفض بعد الهمود؟
وهكذا يتحدث القرآن عن القرابة بين أبناء الحياة جميعا ، فيسلكهم في آية واحدة من آياته. وإنها للفتة عجيبة إلى هذه القرابة الوثيقة. وإنها لدليل على وحدة عنصر الحياة ، وعلى وحدة الإرادة الدافعة لها هنا وهناك.
في الأرض والنبات والحيوان والإنسان.
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» ..
ذلك .. أي إنشاء الإنسان من التراب وتطور الجنين في مراحل تكونه ، وتطور الطفل في مراحل حياته ، وانبعاث الحياة من الأرض بعد الهمود. ذلك متعلق بأن اللّه هو الحق. فهو من السنن المطردة التي تنشأ من أن خالقها هو الحق الذي لا تختل سننه ولا تتخلف. وأن اتجاه الحياة هذا الاتجاه في هذه الأطوار ليدل على الإرادة التي تدفعها وتنسق خطاها وترتب مراحلها. فهناك ارتباط وثيق بين أن اللّه هو الحق ، وبين هذا الاطراد والثبات والاتجاه الذي لا يحيد. «وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى » فإحياء الموتى هو إعادة للحياة. والذي أنشأ الحياة الأولى هو الذي ينشئها للمرة الآخرة «وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» ليلاقوا ما يستحقونه من جزاء. فهذا البعث تقتضيه حكمة الخلق والتدبير.
وإن هذه الأطوار التي يمر بها الجنين ، ثم يمر بها الطفل بعد أن يرى النور لتشير إلى أن الإرادة المدبرة لهذه الأطوار ستدفع بالإنسان إلى حيث يبلغ كماله الممكن في دار الكمال. إذ أن الإنسان لا يبلغ كماله في حياة الأرض ، فهو يقف ثم يتراجع «لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» فلا بد من دار أخرى يتم فيها تمام الإنسان.
فدلالة هذه الأطوار على البعث دلالة مزدوجة .. فهي تدل على البعث من ناحية أن القادر على الإنشاء قادر على الإعادة ، وهي تدل على البعث لأن الإرادة المدبرة تكمل تطوير الإنسان في الدار الآخرة .. وهكذا تلتقي نواميس الخلق والإعادة ، ونواميس الحياة والبعث ، ونواميس الحساب والجزاء وتشهد كلها بوجود الخالق المدبر القادر الذي ليس في وجوده جدال ..
ومع هذه الدلائل المتضافرة فهناك من يجادل في اللّه :
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ، ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ، وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ..
والجدال في اللّه بعد تلك الدلائل يبدو غريبا مستنكرا. فكيف إذا كان جدالا بغير علم. لا يستند إلى دليل ، ولا يقوم على معرفة ، ولا يستمد من كتاب ينير القلب والعقل ، ويوضح الحق ، ويهدي إلى اليقين.
والتعبير يرسم صورة لهذا الصنف من الناس. صورة فيها الكبر المتعجرف : «ثانِيَ عِطْفِهِ» مائلا مزورا بجنبه.
فهو لا يستند إلى حق فيعوض عن هذا بالعجرفة والكبر. «لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فلا يكتفي بأن يضل ، إنما يحمل غيره على الضلال.
هذا الكبر الضال المضل لا بد أن يقمع ، ولا بد أن يحطم : «لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» فالخزي هو المقابل للكبر.
واللّه لا يدع المتكبرين المتعجرفين الضالين المضلين حتى يحطم تلك الكبرياء الزائفة وينكسها ولو بعد حين. إنما يمهلهم أحيانا ليكون الخزي أعظم ، والتحقير أوقع. أما عذاب الآخرة فهو أشد وأوجع : «وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ».
وفي لحظة ينقلب ذلك الوعيد المنظور إلى واقع مشهود ، بلفتة صغيرة في السياق ، من الحكاية إلى الخطاب :
«ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ..
وكأنما هو اللحظة يلقى التقريع والتبكيت ، مع العذاب والحريق.
ويمضي السياق إلى نموذج آخر من الناس - إن كان يواجه الدعوة يومذاك فهو نموذج مكرور في كل جيل - ذلك الذي يزن العقيدة بميزان الربح والخسارة ويظنها صفقة في سوق التجارة :
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ. يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ. ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» ..
إن العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن ، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو على هذه الركيزة وتتجاذبه الأحداث والدوافع فيتشبث هو بالصخرة التي لا تتزعزع وتتهاوى من حوله الأسناد فيستند هو إلى القاعدة التي لا تحول ولا تزول.
هذه قيمة العقيدة في حياة المؤمن. ومن ثم يجب أن يستوي عليها ، متمكنا منها ، واثقا بها ، لا يتلجلج فيها ، ولا ينتظر عليها جزاء ، فهي في ذاتها جزاء. ذلك أنها الحمى الذي يلجأ إليه ، والسند الذي يستند عليه. أجل هي في ذاتها جزاء على تفتح القلب للنور ، وطلبه للهدى. ومن ثم يهبه اللّه العقيدة ليأوي إليها ، ويطمئن بها.
هي في ذاتها جزاء يدرك المؤمن قيمته حين يرى الحيارى الشاردين من حوله ، تتجاذبهم الرياح ، وتتقاذفهم الزوابع ، ويستبد بهم القلق. بينما هو بعقيدته مطمئن القلب ، ثابت القدم ، هادئ البال ، موصول باللّه ، مطمئن بهذا الاتصال أما ذلك الصنف من الناس الذي يتحدث عنه السياق فيجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة : «فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ» وقال : إن الإيمان خير. فها هو ذا يجلب النفع ، ويدر الضرع ، وينمي الزرع ، ويربح التجارة ، ويكفل الرواج «وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ» .. خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليه ، ولم يتماسك له ، ولم يرجع إلى اللّه فيه. وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه ، وانكفائه عن عقيدته ، وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسرا له.
والتعبير القرآني يصوره في عبادته للّه «عَلى حَرْفٍ» غير متمكن من العقيدة ، ولا متثبت في العبادة.
يصوره في حركة جسدية متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى. ومن ثم ينقلب على وجهه عند مس الفتنة ، ووقفته المتأرجحة تمهد من قبل لهذا الانقلاب! إن حساب الربح والخسارة يصلح للتجارة ، ولكنه لا يصلح للعقيدة. فالعقيدة حق يعتنق لذاته ، بانفعال القلب المتلقي للنور والهدى الذي لا يملك إلا أن ينفعل بما يتلقى. والعقيدة تحمل جزاءها في ذاتها ، بما فيه2413
من طمأنينة وراحة ورضى ، فهي لا تطلب جزاءها
والمؤمن يعبد ربه شكرا له على هدايته إليه ، وعلى اطمئنانه للقرب منه والأنس به. فإن كان هنالك جزاء فهو فضل من اللّه ومنة. استحقاقا على الإيمان أو العبادة! والمؤمن لا يجرب إلهه. فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له ، مستسلم ابتداء لكل ما يجربه عليه راض ابتداء بكل ما يناله من السراء والضراء. وليست هي صفقة في السوق بين بائع وشار ، إنما هي إسلام المخلوق للخالق ، صاحب الأمر فيه ، ومصدر وجوده من الأساس.
*************************
والذي ينقلب على وجهه عند مس الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب : «ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» .. يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى. إلى جوار خسارة المال أو الولد ، أو الصحة ، أو أعراض الحياة الأخرى التي يفتن اللّه بها عباده ، ويبتلي بها ثقتهم فيه ، وصبرهم على بلائه ، وإخلاصهم أنفسهم له ، واستعدادهم لقبول قضائه وقدره .. ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان. فيا له من خسران! وإلى أين يتجه هذا الذي يعبد اللّه على حرف؟ إلى أين يتجه بعيدا عن اللّه؟ إنه «يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ»
.. يدعو صنما أو وثنا على طريقة الجاهلية الأولى. ويدعو شخصا أو جهة أو مصلحة على طريقة الجاهليات المتناثرة في كل زمان ومكان ، كلما انحرف الناس عن الاتجاه إلى اللّه وحده ، والسير على صراطه ونهجه .. فما هذا كله؟ إنه الضلال عن المتجه الوحيد الذي يجدي فيه الدعاء : «ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» المغرق في البعد عن الهدى والاهتداء .. «يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ» من وثن أو شيطان ، أو سند من بني الإنسان .. وهذا كله لا يملك ضرا ولا نفعا وهو أقرب لأن ينشأ عنه الضر. وضره أقرب من نفعه. ضره في عالم الضمير بتوزيع القلب ، وإثقاله بالوهم وإثقاله بالذل. وضره في عالم الواقع وكفى بما يعقبه في الآخرة من ضلال وخسران «لَبِئْسَ الْمَوْلى » ذلك الضعيف لا سلطان له في ضر أو نفع «وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» ذلك الذي ينشأ عنه الخسران. يستوي في ذلك المولى والعشير من الأصنام والأوثان ، والمولى والعشير من بني الإنسان ، ممن يتخذهم بعض الناس آلهة أو أشباه آلهة في كل زمان ومكان! واللّه يدخر للمؤمنين به ما هو خير من عرض الحياة الدنيا كله ، حتى لو خسروا ذلك العرض كله في الفتنة والابتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاء
وهذا ما أعتقد به وأدين
خالد أبو عمر الشربتلى
غرة محرم 1432من الهجرة الشريفة