بسم الله الرحمن الرحيم
( مالك بن الريب التميمي يرثي نفسه )
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
= بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
وهذا البيت من قصيدته العصماء التي تعتبر من عيون الشعر العربي وقائلها هو : مالك بن الريب التميمي وهو من مازن تميم . وكان فاتكاً لصا , يصيب الطريق مع شظاظٍ الضبي الذي يضرب به المثل وهو الذي يقول :
سيغنيني المليك ونصل سيفي
= وكرات الكميت على التجاري
وحبس في مكه , فشفع فيه شماس بن عقبة المازني فاستنقذه وهو القائل في الحبس :
أتلحق بالريب الرقاق ومالك
= بمكة في سجن يعنيه راقبه
ثم لحق ب / سعيد بن عثمان بن عفان فغزا معه خرسان , فلم يزل بها حتى مات , ولما حضرته الوفاة قال تلك القصيدة التي يعتبرها العرب من أجود المراثي حيث رثى بها نفسه قبل الموت وقد روي أن مالك بن الريب اشتهر في أوائل العصر الأموي , وهجا / الحجاج بن يوسف الثقفي بقصيدة منها هذا البيت :
فلولا بنو المروان كان ابن يوسف
= كما كان عبدا من عبيد إياد
فطلبه / الحجاج بن يوسف , فهرب وصار يقطع الطريق مدة حتى لقيه / سعيد بن عثمان بن عفان الذي استصلحه واصطحبه مجاهدا إلى خرسان ويقول مالك في ذلك :
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى
= وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
وعودة لمطلع القصيدة التي يقول فيها :
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً
= بجنب الغضى أزجي القلاصَ النواجيا
فليتَ الغضى لم يقطع الركبُ عرضَهُ
= وليتَ الغضى ماشى الركابَ لياليا
لقد كان في أهلِ الغضى لو دنا الغضى
= مزارٌ ولكنّ الغضى ليسَ دانيا
والشاعر هنا يتذكر موطنه الأصلي وما اشتهرت به أرضه من كثرة نبات الغضى . والغضى من أفضل أنواع الحطب ويتميز بطيب رائحته . وحرارة جمرته .
ألم ترني بعتُ الضلالةَ بالهدى
= وأصبحتُ في جيشِ ابن عفانَ غازيا
إشارةَ إلى تركه قطع الطرق وانضمامه لقوافل المجاهدين في خراسان .
وأصبحتُ في أرضَ الأعادىّ بعدما
= أراني عن أرض الأعادىّ قاصيا
أجبتُ الهوى لمّا دعاني بزفرةٍ
= تقنعتُ منها أن أُلامَ ردائيا
وهنا يشير في معنىً رائع . أنه لما أحس بألم القرصة ودنو الأجل غطى وجهه بردائه حتى لا يراه الناس خائفاً وجلاً . فما ذاك بخلق لهذا الشاعر الفارس .
تقولُ ابنتي لمّا رأت طولَ رحلتي
= سِفارك هذا تاركي لا أبا ليا
فللهِ دري يومَ أتركُ طائعاً
= بنيّ بأعلى الرقمتين وماليا
ودرُ الظباءِ السانحاتِ عشيةً
= يُخبرنَ أني هالكٌ من ورائيا
ودرُ الهوى من حيثُ يدعو سحابهُ
= ودرُ لجاجاتي ودرُ انتهائيا
ثم يقول : وهو يتذكر شجاعته وإقدامه . ويتذكر فرسه الأشقر . وسيفه ورمحه .
تذكرتُ من يبكي عليّ فلم أجد
= سوى السيفِ والرمحِ الردينيّ باكيا
وأشقرَ محبوكاً يجر عنانهُ
= الى الماءِ لم يترك لهُ الموتُ ساقيا
ويختم قصيدته الرائعة المبكية بهذه الأبيات التي كأن الدموع تنساب منها على صفحات حياته التي شارفت على الإنتهاء .
ولمّا ترآءت عند مروٍ منيتي
= وخلّ بها جسمي وحانت وفاتيا
أقول لأصحابي ارفعوني فإنني
= يقرُ بعيني أن سهيلٌ بدا ليا
خذاني فجراني ببردي إليكما
= فقد كنتُ قبل اليومِ صعبَ قياديا
فيا صاحبي رحلي دنا الموتُ فانز
لا= برابيةٍ إني مقيمٌ لياليا
وقوما إذا ما استل روحي وقربا
= ليَ السدر والأكفان عند فنائيا
وخطا بأطراف الأسنةِ مضجعي
= وردا على عينيّ فضل ردائيا
ولا تحسداني بارك اللهُ فيكما
= من الأرض ذاتِ العرضِ أن توسعا ليا
كلمة عن الشاعر :
هو / مالك بن الريب من بني مازن التميمي شاعر مقلّ لم تشتهر من شعره إلا هذه القصيدة ومقاطع شعرية في الوصف والحماسة وردت في كتاب الأغاني .
وكان مالك شابا شجاع فاتكاً لا ينام الليل إلا متوشحاً سيفه ولكنه استغل قوته في قطع الطريق هو وثلاثة من أصدقائه . وفي يوم مر عليه / سعيد بن عثمان بن عفان وهو متوجه لإخماد تمرّد في خُرسان فأغراه بالجهاد في سبيل الله بدلاّ من قطع الطريق ، فاستجاب مالك لنصح سعيد وذهب معه وأبلى بلاءً حسناً ، وفي عودته إلى وادي الغضا في نجد وهو مسكن أهله ، مرض مرضاً شديداً بسبب لدغة ، فقال هذه القصيدة الرائعة الفريدة يرثي بها نفسه .
وتتمتع هذه القصيدة في أدبنا بشهره فذه لأن الإنسان مهما صدقت عاطفته في رثاء حبيب فلن تكون أصدق منها عندما يرثي نفسه . وقد كانت وفاة / مالك بعيد نظمه لهذه القصيدة في خلافة معاوية سنة 56 هـ .
أبيات من القصيدة :
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلهً
= بجنب الغضا اُزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضهُ
= وليت الغضا ماشى الركاب لياليا
لقد كانَ في أهلِ الغضا لودنا الغضا
= مزارٌ و لكنّ الغضا ليس دانيا
ألم ترني بعتُ الضلاله بالُهدى
= وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
وأصبحت في أرض الأعادي بعدما
= أراني عن أرض الأعادي قاصيا
دعاني الهوى من أهل أود وصحبتي
= بذي الطبسين فالتفت ورائيا
أجبت الهوى لما دعاني بزفرة
= تقنعت منها أن ألام ردائيا
أقول وقد حالت قرى الكرد دوننا
= جزي الله عمرو خير ما كان جازيا
إن الله يرجعني من الغزو لا أرى
= وإن قل مالي طالبا ما ورائيا
تقول أبنتي لما رأت طول رحلتي
= سفارك هذا تاركي لا أباليا
لعمري لئن غالت خراسان هامتي
= لقد كنت عن بابي خراسان نائيا
فإن أنج من بابي خراسان لا أعد
= إليها وإن منيتموني الأمانيا
فلله دري يوم أترك طائعا
= بنيّ بأعلى الرقمتين وماليا
ودر الظباء السانحات عشية
= يخبرن أني هالك من ورائيا
ودر كبيري اللذين كلاهما
= عليّ شفيق ناصح لو نهاينا
ودر الرجال الشاهدين تفتكي
= بأمري ألا يقصروا من وثاقيا
ودر الهوى من حيث يدعو صحابه
= ودر لجاجاتي ودر انتهائيا
تذكرت من يبكي عليَّ فلم أجد
= سوى السيف والرمح الرديني باكيا
وأشقر محبوك يجر عنانه
= إلى الماء لم يترك له الدهر ساقيا
ولكن بأكناف السمينة نسوة
= عزيز عليهن العشية ما بيا
صريع على أيدي الرجال بقفرة
= يسوون لحدي حيث حم قضائيا
ولما تراءت عند مروٌ منيّتي
= وخلّ بها جسمي وحانت وفاتيا
أقولُ لأصحابي ارفعوني فإنني
= يقرُّ بعيني أن سهيل بداليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا
= برابية إني مقيم لياليا
أقيم علي اليوم أو بعض ليلةٍ
= ولا تعُجلاني قد تبيّن شأنيا
وقوما إذا ما استُل روحي فهيّئا
= لي السدر و الأكفان عند فنائيا
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي
= وردّا على عيني فضل ردائيا
ولا تحسُداني بارك الله فيكُما
= من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خُذاني فجُرّاني ببردي إليكما
= فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا
فقد كنت عطّافاً إذا الخيل أحجمت
= سريعاً لدي الهيجا إلى من دعانيا
وقد كنت محمودا لدى الزاد والقرى
= وعن شتم ابن العم والجار وانيا
فطوراً تراني في ظلال ونعمة
= ويوماً تراني والعتاق ركابياً
ويوما تراني في رحى مستديرة
= تخرق أطراف الرماح ثيابياً
وقوما على بئر السمينة أسمعا
= بها الغر والبيض الحسان الروانيا
بأنكما خلفتماني بقفرة
= تهيل على الريح فيها السوافيا
ولا تنسيا عهدي خليلي بعدما
= تقطع أوصالي وتبلى عظاميا
ولن يعدم الوالون مما يصيبهم
= ولن يعدم الميراث مني المواليا
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني
= وأي مكان البعد إلا مكانيا
غداة غد يالهف نفسي على غد
= إذا أدلجوا عني وخلفت ثاويا
وأصبح مالي من طريف وتالد
= لغيري وكان المال بالأمس ماليا
فياليت شعري هل تغيرت الرحى
= رحى المثل أو أمست بفلج كما هيا
إذا الحي حلوها جميعاً وأنزلوا
= بها بقراً حم العيون سواجيا
وياليت شعري هل بكت أم مالك
= كما كنت لو عادوا بنعيك باكيا
إذا مت فاعتادي القبور فسلمي
= على الرمس أسقيت السحاب الغواديا
على جدث قد جرت الريح فوقه
= تراباً كسحق المرنباني هابيا
رهينة أحجار وترب تضمنت
= قرارتها مني العظام البواليا
إذا مت فاعتادي القبور فسلمي
= على الريم أسقيت الغمام الغواديا
فيا صاحبي إما عرضت فبلغن
= بني مازن والريب ألا تلاقيا
وعطل قلوصي في الركاب فإنها
= ستفلق أكبادا وتبكي بواكيا
وأبصرت نار المازنيات موهناً
= بعلياء يثنى دونها الطرف وانيا
بعيد غريب الدار ثاو بقفزة
= يد الدهر معروفاً بأن لا تدانيا
أقلب طرفي حول رحلي فلا أرى
= به من عيون المؤنسات مراعياً
وبالرّمل منا نسوةًّ لو شهدنني
= بكين وفدّين الطبيب المداويا
فمنهن أمّي وابنتاها وخالتي
= وباكية أخرى تهيج ألبواكيا
وما كان عهد الرمل عندي وأهله
= ذميماً ولا بالرمل ودعت قاليا
شرح المفردات :
5- الرديني : الرمح القوي نسبه الى ردينه وهي قبيله كانت تجيد صنع الرماح .
6- أشقر محبوك : يعني حصانه الاشقر القوي محبوك العنان .
7- تراءت : ظهرت وبدت . مرو :عاصمة خرسان . خل : ضعف .
9- سهيل : نجم لامع يطلع من الجنوب كان العرب يحبونه ويكثرون من ذكره .
10- ياصحبي رحلي : ياصاحبي في سفري .
11- السدر : ورق السدر العر ب يستخدمونه بدل الصابون .
12- فضل ردائيا : الزائدج من ثوبي .
14- بردي : ثوبى .
15- عطافاً : انعطف نحو الأعداء مهاجماً . أحجمت : تراجعت .
17- باكيه أخرى : يعني زوجته .
الشرح :
يا ترى هل تعود أيامنا مع الأحباب بوادي الغضا فأبيت فيه ليلة أسوق النياق السريعة . كم كنت أتمنى لو أن الغضا مشى معنا ونحن مسافرون فلم تقطع المطايا عرضه . إن أهل الغضا أحباب مخلصون لو كانوا قريبين منا لواصلونا وزارونا ولكنهم للأسف بعيدون . لقد كنت ضالاً فاهتديت وأصبحت في الجيش الغازي بقيادة سعيد بن عفان . وحين أتذكر موتي ومن سيبكي عليّ لا أجد إلا رمحي وسيفي وهذا الفرس المضمّر القوي الذي يجرٌ رسنه الى الماء دونما فارس يسقيه . حينما شعرت بالموت عند مدينة مرو وضعف جسمي قلت لا صحابي : ارفعوا راسي لأرى نجم سهيل فهو نجم محبوب لدي لأنه يطلع من نحو أهلي ، وقد لا تنتظران عندي الايوماً أو بعض ليلة لأن أمري قد اتضح ، فإذا خرجت روحي فاغسلاني بالسدر وجهزا أكفاني وأبكيا لوفاتي واحفرا قبري برؤس الرماح وغطيا وجهي بالزائد من ثوبي . ووسعا لي في قبري لأن أرض الله واسعه , واسحباني إليكما بثوبي ، فقد كنت أيام قوتي لايستطيع أحد أن يجرّني . وكنت انعطف على الأعداء إذا تقهقرت الخيل وأسرع إلى نجدة من يدعوني . آه على الرمّل بوادي الغضا إن فيه نساءً لو رأينني لبكين لحالتي وفدّين الطبيب بانفسهن ، منهن أمي وأختاي وخالتي وزوجي . ماأحسن أيام الرمل لقد كانت حميدة وكان أهل الرمل محبين لنا مخلصين في ودادنا .
التعليق :
إذا تأملت هذه القصيدة العظيمة اتضحت لك فيها الخصائص الآتيه :
1. أن العاطفه فيها في أوج الصّدق والحرارة لأن الشاعر حين يرثي نفسه يكون منفعلاً بإحاس لا مثيل له ، إذ نفسه أغلى عليه من كل غالٍ . وهذه الخاصة جعلت هذه القصيدة من أشهر المراثي في الشعر العربي .
2. المعاني فيها ابتكار وروعة كحديثه عن سيفه ورمحه وحصانه ، وهي تبكي بطولته وفروسيته ، وفي توصياته لرفاقه تأثير موجع حقاً ، ومن معانيه الطريفة : معنى تشابه فيه مع شاعر انجليزي جاء بعده . وهو قوله ( خُطّا بأطراف الأسنّة مضجعي ) . ومن أجمل معانيه مقارنته بين حالته وهو ميت يسهل على أصحابه أن يجرّوه ، وبين حالته وهو في كامل صحته حين كان من الصعب على أصحابه أن يجرّوه ، كما أنّ في ذكره لزوجه ووالدته وقريباته ، وتصوير شعورهنّ حين يبلغهن النبأ إبداعاً ممتازاً .
3. الصور والأخيلة الواردة في معظم القصيدة بدويه ، ولكنّ بعضها يوضح جوّ الفتوح الإسلامية ، ومن الإشارات البدويه ( أزجي القلاص النواجيا ، لم أجد سوى السيف والرمح الرديني باكيا ، وأشقر محبوك ، سهيل ، ياصاحبي رحلي ، هيئا السدر ) .
4. في القصيدة تكرار بليغ الوقع والتأثير ، فقد كرر كلمتي الغضا والرّمل عدة مرات لشدت حبه لهذين الموضعين . حتى لقد كرر كلمة الغضا ثلاث مرات في بيت واحد وهو البيت الثالث .
5. وبلاد الغضا هي القصيم من بلاد قبيلته بني تميم وقد قال الراجز ( الله نجاك من القصيم وذيب الغضا وبني تميم ). المرجع / الشعر والشعراء للعلامة بن قتيبة . منقول بتصرف وأنتم سالمون وغانمون والسلام .