الفراسه عند العرب

سجى نزار بن معد فى فراشه وجلست عند رأسه زوجتاه سودة بنت عك والجدلة بنت وعلان بن جوشن بن جلهمة بن جرهم . ورأت الزوجتان أن قذ حضرت نزارا الوفاة ، فبعثت سودة تطلب ولديها مضر وأياد ، وأرسلت الجدلة إلى ولديها ربيعة وأنمار أن أقبلا فأبوكا يجود با نفاسه .
وجاء مضر وربيعة وأياد وأنمار والتفوا با بيهم حفيد عدنان ، وألقوا إليه السمع فقال نزار فى صوت خافت :
- ولاية الكعبة لأياد . . أخرجوا جرهم من البيت فقد كثرت مظالمهم .
وصمت ليلتقط أنفاسه ، ثم قال فى جهد وهو يقلب وجهه فى بنيه :
- أى بنى ، هذه القبة الحمراء وهى من أدم وما أشبهها من المال فلمضر ، وهذه البدرة والمجلس فلأنمار ، وهذا الفرس ا لأدهم والخباء الأسود وما أشبهها من مال فلربيعة .
والتفت إلى خادم شمطاء كانت ترقبه فى حزن وقال :
- وهذه الخادم وما أشبهها من مالى فلأياد . وإن أشكل عليكم كيف تقتسمون فأ توا الأفعى الجرهمى ومنزله بنجران ، وإن أمنتم رضيتم .
وخفت صوته وانببرت أنفاسه ، ثم سكنت حركته إلى الأبد ، فقاموا من عنده وجوههم باسرة يتلفتون فى حيرة ، فقد مات نزار من ملأ مكة تقى وعدلا قبل أن يتم وصيته .
واختلف بنو نزار وتشاجروا فى ميراثه و لم هتدوا إلى القسم، فتوجهوا إلى
الأفعى يريدونه فى نجران ، وفيما هم فى الطريق إذ رأى مضر أثر بعير كان يرعى فقال :
- إن الذى رعى هذا الموضع لبعير أعور .
فقال ربيعة :
- إنه لأزور .
فقال أياد :
- إنه لأبتر .
فقال أنمار :
- إنه لشرود .
فساروا قليلا فإذا برجل يسألهم :
- ألم تروا بعيرالى قد ضل ؟
فقال مضر :
- أهو أعور ؟
- نعم.
وقال ربيعة :
- أهو أزور ؟
- نعم.
وقال أياد :
- أهو أبتر ؟
- نعم .
وقال أنمار :
- أهو شرود ؟
فتهلل الرجل بالفرح وقال :
- نعم هذه صفة بعيرى . أين هو ؟
فقالوا جميعا :
- إنا لم نره .
ونظر إليهم الرجل فى ريبة وقال :
- كيف لم تروه ، وقدوصفتم لى صفته ؟
- قلنا لم نره.
وانطلقوا إلى الأفعى الجرهمى والرجل فى أثرهم يطلب بعيره، حتى إذا دخلوانجران وبلغوا الأفعى ، وكان حكم العرب وقاضيهم ، هرع إليه الرجل يشكو إليه هؤلاء الرجال الذين وصفوا له بعيره ثم ينكرون أن أعينهم وقعت عليه ، قال صاحب البعير :
- هؤلاء أصابوا بعيرى ، وصفوا لى صفته وقالوا لم نره .
وحلف مضر أنهم لم يروه ، فنظر الأفعى فى عينى مضر وقال .
- وكيف عرفت أنه أعور ؟
- إنه رعى جانبا وترك جانبا فعرفت أنه أعور .
والتفت الأفعى إلى ربيعة وقال :
- وكيف عرفت أنه أزور ؟
- رأيت إحدى يديه ثابته الأثر والأخرى فاسدة الأثر ، فعرفت أنه أفسدها بشدة وطئه .
وقال لأياد:
- - كيف عرفت أنه أبتر ؟
- باجتاع بعره ، ولو كان ذيالا لمصع به.
فقال لانمار :
- و كيف عر فت أنه شرو د ؟
- إنه رعى فى المكان المكلى و لم يجزه إلى مكان أغزر منه نبتا .
فالتفت الأفعى إلى صاحب البعير وقال له :
- ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه .
وخرج الرجل وهو فى حيرة من هؤلاء الرجال الذين وصفوا له بعيره دون أن يروه !
والتفت الأفعى الجرهمى إلى الرجال وقال :
- من أنتم ؟
- نحن أبناءنزار بن معد بن عدنان .
فقال الكاهن فى ترحيب :
- أهلا بكم ومرحبا . وما جاء بكم إلينا ؟
- قال لنا أبونا وهو بموت : إن أشكل عليكم كيف تقتسمون فأتوا الأفعى الجرهمى ، وقد اختلفنا فى الميراث فأتيناك لتحكم بيننا .
فأطرق الأفعى وهو يقول فى إنكار :
- تحتاجون إلى وأنتم كا قد أرى ؟
وقام الأفعى يذبح لهم ويستحث خازنا له الطعام ، ثم وضع الطعام وأكلوا وشربوا ، وتنحى عنهم الأفعى حيث لا يرى وهو يسمع كلامهم ، فقال ربيعة :
- لم أر كاليوم لحما أطيب منه ؛ لولا أن شاته غذيت بلبن كلبة .
فقال مضر :
- لم أر كاليوم خمرا ، لولا أن حبلته نبتت على قبر .
فهمس الافعى :
- ما هؤلاء إلا شياطين !
وذهب إلى القهرمانة وقال :
- خبرينى خبر هذه الكرمة.
- إن حبلته غرستها على قبر أبيك .
وانطلق إلى الراعى وسا له عن العناق الذى ذبحه وقدمه طعاما لبنى نزار بن معد ، فقال الراعى :
- هى عناق أرضعتها بلبن كلبة، و لم يكن ولد فى الغنم غيرها وماتت أمها. ورجع الأفعى إليهم ثم التفت إلى ربيعة وقال :
- من أين علمت اللحم ؟
- لان لحم الكلب يعلو شحمه، بخلاف لحم الشاة فإن شحمها يعلو لحمها.
وقال لمضر :
- من أين عرفت الخمر ؟
- الكرم إذا نبتت على قبر يكون انفعال خمرها أقا انفعالا .
واعتدل الافعى الجرهمى ثم قال :
- قصوا على قصتكم
فقصوا عليه ما فال نزار قبل أن يلفظ النفس الأخير ، فقال الأفعى :
- ما أشبه القبة الحمراء من مال فلمضر ، وأما صاحب الخباء الأسود فله كل أسود ، وأما الدراهم والأرض فلأنمار .
وقفا بنو نزار بن معد راجعين إلى مكة ، وذهب مضر بالدنانير والإبل فسميت قبيلة مضر « مضرالحمراء » ، وأخذ ربيعة الفرس وما أشبه فسميت « ربيعة الفرس » ، وأخذ أنمار الغنم فسميت « أنمار الشاة » ، وأخذ أياد الغنم البرقاء والخيول البلق، فسميت « أياد البرقاء » .

ولد معد بن عدنان فى أرض النبط ، ولكن الله لم يشأ أن يعبد معدأصنام النبط ولاأوثان قيدار ، فلما قام بختنصروعزم على أن يطأ أرض العرب بخيله ورجله ألقى الله فى قلب عدنان أن يبعث ولديه معد وعك إلى أهلهما بالحجاز ليكونا فى مأ من بجوار بيت الله .
كان البيت معظما وزواره مكرمين ، ولا غرو فهم ضيف الله . وكان اللائذ به فى أمن وسلام ، وكان الحجاج يغدون ويروحون مطمئنين لا يخشون خيانة ولا غدرا ، قلوبهم مومنة ونفوسهم راضية تنعم بالفيض الإلهى ، بذلك النور الذى يبدد ظلمات الجواغخ والصدور .
جلبت التجارة إلى مكة الذهب والفضة فأ راد الجراهمة أن يهدوا رب البيت هدية تتفق مع ما أصبحوا فيه من غنى ، فوضعوا غزالتين من الذهب فى جوف الكعبة .
و سرى إيمان معد بن عدنان بالله الواحد القهار فى ضميره سر يان الدم فى شرايينه ، فإن كان قد تزوج فى جرهم فقد ضاق بولاية جرهم للبيت ، فقد بقيت فيهم أكثر من سبعمائة سنة ، وقد أشاح الحارث بن مضاض بن عمرو ابن الحرث الجرهمى بوجهه عن البيت يغدو ويروح بين الحجون والصفا ، والتف به أصحاب السو ء فراح يمضى لياليه فى سمر ومجو ن بعد أن كان ولاة البيت يذكرون الله آناء الليل وأطراف النهار.
كان معد على دين آبائه إبراهيم وإسماعيل ، وكان أعبد من جاء من نسا
نابت فإن كان أبناء نابت وقيدار أول من غير دين الأباء ، فقد كان معد أكثر أبناء نابت بن إسماعيل ا غيرة على دين الله . وقد خلف فى مكة نزارا التقى ليعيد بنى إسماعيل إلى سنن الآباء .
ومات معد وأصبح نزار شيخ العدنانيين ، وغلفت عين الحارث عن بيت الله وعن ضيف الله ، وفشت المظا لم ووقعت على من دخل مكة من غير أهلها ، واضطرب ميزان العدل وفشا الغش فى الأسواق ، وضاق نزار بن معد بذلك البغى فأوصى بنيه وهو يجود بانفاسه :
- أخرجوا جرهم من البيت وليتول ولاية البيت أياد .
واجتمع أياد ومضر وربيعة وأنمار يتشاورون فى وصية أبيهم ، لقد أوصاهم بإخراج جرهم الذين بغوا فى البيت فحق قتالهم ، فإن كان الجرهميون كثيرين فما أكثر بنى إسماعيل وما أعزهم.
وقبل أن يمتشق أياد ومضر وربيعة وأنمار سيوفهم ، وقبل أن ينادوا فى أهليهم حى على القتال ، اكفهرت السماء وبرق البرق ورعد الرعد ثم انهمرت الأمطارعلى جبال مكة فجرت سيولا إلى الوادى تجرف الدور وتقتلع الخيام وتنزل الهلع فى قلوب القوم الذين استخفوا بحرمة البيت المحرم ، فحل بهم غضب الله .
ودخل السيل البيت فانهدم ، فكادت قلوب الناس تنخلع من صدورهم ، غضب الله عليهم كم غضب على قوم نوح ، إلا أن ا لأرض بلعت ماءها وأقلعت السماء وغاض الماء وقضى الأمر وقيل بعدا للقوم الظالمين .
ومشى أياد ومضر وربيعة وأنمار وأشراف بنى إسماعيل إلى جرهم وحدثوهم عن بغيبم فى الحرم ، فأظهروا التوبة وأعادوا بناء البيت على بناء إبراهبم الخليل ، وقام خطيب جرهم يحذر قومه مغبة الفسق فى الأرض
الطاهرة ويحذرهم آن يعودوا ويستخفوا بامر البيت الحرام ، فقال :
- يا قوم احذروا البغى فإنه لا بقاء لأهله ، قد رأيتم من كان قبلكم من العماليق استخفوا بالحرم فلم يعظموه وتنازعوا بينهم واختلفوا ، فسلطكم الله عليهم فأ خرجتموهم فتفرقوا فى البلاد ، فلا تستخفوا بحق الحرم وحرمة البيت بيت ألله ، ولا تظلموا من دخله أو جاء معظما لحرمته ، أو جاء بائعا لسلعته ومرتغبا فى جواركم ، فإنكم إن فعلتم ذلك تخوفت أن تخرجوا منه خروج ذل وصغار ، حتى لا يقدر منكم أحد أن يصل إلى الحرم ، ولا على زيارة البيت الذى هولكم حرم وأمن، والطيرتأمن فيه .
وقام رجل منهم وقال :
- من الذى يخرجنا منه ؟ ألسنا أعز العرب وأكثرهم رجالا وأموالا وسلاحا !
فقال مضر :
- إن جاء الأمر بطل ما تقولون .
ومرت الأيام ونسى الجرهميون نذير السماء ، فعادوا إلى بغيهم فاستخفوا بحق الحرم وظلموا من دخله أو جاءه معظما لحرمته ، وطففوا فى الموازين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو زنوهم يخسرون ، وأفزعوا من جاءوا ملتمسين الأمن فى جوار بيت الله .
ورأى أشرار جرهم الناس وهم يلقون الحلى والمتاع فى خزانة الحرم، فلعبت الأهواء با فئدتهم وزين الشيطان لهم س قة مال الله ، ذلك المال الذى كان للفقراء والمساكين ولسقاية زوار بيت الله ورفادتهم .
وسرقوا أموال الحرم استخفافا بالله وبيته ، ونسوا أن اللمة قادر على أن يذيقهم العذاب ا لأليم ، وأن من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها ٠ ما ر بك
،٠
بظلام للعبيد .
واجتمع البغاة يتسامرون عند البيت ، فلم يعد البيت أكثر من ناد يجتمعون فيه بعد أن نزع من قلوبهم توقيره وتعظيمه.وبينا هم سمار يتضاحكون يأ تون فى ناديهم المنكرإذا بجحافل النمل تنحدرمن سفوح الجبال إلى الوادى المقدس ، فدا كأن الأرض غطيت بغلالة سوداء أحذت تداح حى حجبت أدم
وأق امل عل الأحضر واليابس، وراح يكسو الإبل والأنعام يملأ أعينبا وخياشيمها وكل أجوف فيها لا يغادرها إلا عظاما ، ثم يستمر كأ نما يعرف غايته .
وأحيط الحرم با مم المل بعد أن محقت كل ما اعترض طريقها ، وصارت مكة عروشها خاوية كأن لم تغن بالأمس ، وحانت التفاتة من أحد السمار فارتسم الهلع فى وجهه وندت من بين شفتيه صيحة مرعوبة كأنما شهد الموت :
- النمل!
وتجاوبت صيحات الهلع فى جنبات الوادى ، وبلغت القلوب الحناجر وتقطعت الانفاس من الرعب ، وماج الناس بعضهم فى بعض يتدافعون بالمناكب قد ذهل كل بنفسه عمن حوله ، يجرى هنا وهناك لا يقوم إلا كا يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس ينعق بما لا يسمع ، ولكن أين المفر ؟ والمل يزحف من كل جانب ليطبق على من استخفوا بحرمة الله .
وحاول الناس فى يأس أن يشقواطريقهم بين جيوش المل التى غطت كل ماتقع عليه العين . فمشى النمل على نعالهم وراح يزحف على سيقانهم وإن هى إلأ لحظات حتى غطى أجسامهم واتخذ طريقه إلى أنوفهم وآذانهم ، فسقطوا
يتخبطون يسبحون فى بحار المل وقد ذاقوا مس العذاب الاليم .
وانطلق صراخ الفزع من الحناجر ، وتجاوبت جنبات مكة بالعويل واشتد النحيب ، وفح الناس فحيح الأفاعى وهم يتلوون كأنما قد ألقوا فى الجحيم ، ونشبت معارك يائسة بين المتشبثين بالحياة وذلك المل الذى كان يتوافد توافد الموجخ تهاجم فريسته فى عناد وإصرار .
وشلت الأيدى وخرست الألسن وهمدت الأجسام فقد زهقت الأرواح ، وساد الحرم سكون الرموس بعذ أن بطش الله البطشة الكبرى ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
وتقضت أيام رهيبة على من استخفوا بحرمة بيت الله ، ذاقوا العذاب ألوانا قبل أن صاروا كأ مس الدابر ، ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما .
وانقشع المل عن الوادى بعد أن تجرع غصص الموت كثير من جرهم وجلا عنها بعضهم يجرجرون أذيال الذنوب ، ومشى أياد ومضر وأنمار وربيعة بعضهم إلى بعض يتلاومون ، فأبوهم نزار بن معد أوصاهم بأن يخرجوا جرهم من البيت بعد أن فجروا فيه ، ولكنهم تقاعسوا عن تنفيذ وصية أبيهم فبعث الله جنوده لينتقم من الظالمين .
كاد الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لأنهم سكتوا عن الفاسقين، وقد أرسل الله جيوش النمل نذيرا لهم ليخرجوا من بقى من جرهم من الحرم ومن جواره ، ذلك بأنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام إنهم قوم فاسقون.
وحمل أياد ومضر وربيعة وأنمار وكل من كان من بنى إسماعيل فى مكة السلاح ابتغاء إجلاء من لم يعظموا حرمات الله ، وإن كانوا أخوالهم وإن تزوجوا فيهم.
٤٧-
ودارت الحرب بين الحق والباطل ، بين جنود الله وحزب الشيطان ، وراح الرجال يمشون إلى الرجال يلعبون بالسيوف ويسددون السهام ، وكانت قلوب العدنانيين عامرة بالإيمان بينما كانت قلوب جرهم هواء .
وسالت الدماء ، وحمى وطيس القتال على سفوح الجبال وفى الوادى المقدس وحول الكعبة ، وانكسرت جرهم فراحوا يتأهبون ليولوا الأدبار ، وأحس الحارث شيخ جرهم وملكهم أن الدائرة ستدور على قومه فانطلق إلى جوف الكعبة وأخرج الغزالين وكانا من الذهب ، وانتزع حجر الركن وقد عزم على أن يفر بما حمل .
والتفت الحارث حوله فرأى العدنانيين ظهروا على قومه ، فإن انطلق بالغزالين وحجر الركن فما أسر ع أن يلحقوا به ويستولوا على ما معه ، ووقعت عيناه على بئر زمزم وفى مثل لمح البصر قفزت إلى رأسه فكرة فخف لتنفيذها .
راح يدفن الغزالين وحجر الركن فى البئر وأهال عليا التراب، ثم امتطى راحلته وأرخى لها العنان ، وأحس الرجال فرار قائدهم فولوا الأدبار وفروا مخلفين وراءهم مكة .
وانحدر الحارث ومن بقى معه من فلول جرهم إلى المن، وما غاب البيت عن عينيه حتى هاجه الشوق فراح ينشد فى صوت أقرب للنحيب : كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا
صروف الليالى والجدود العواثر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا
فليس لحى غيرنا ثم فاخر
وكنا لإسماعيل صهرا وجيرة
فأبناؤه منا ونحن الأصاهر
فأخرجنا منها المليك بقدرة
كذلك بالناس تجرى المقادر أقول إذا نام الخلى ولم أنم
إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر وصرنا أحاديث وكنا بغبطة
كذلك عضتنا السنون الغواير
فسحت دموع العين تبكى لبلدة
تها حرم أمن وفيها المشاعر بواد أنيس ليس يؤذى حمامه
ولا منفر فيها وفيها العصافر
وفيها وحوش لا ترام أنيسة
إذا أخرجت منها فما ان تغادر

[وطن الساميين]

وتساءل العلماء الباحثون في الأجناس البشرية: من أين جاء الساميون الأول، آباء الشعوب السامية؟ وأين كان موطنهم الأول وبيتهم القديم، الذي ضاق بهم في الدهر الأول، فغادروه إلى بيوت أخرى؟ أما أجوبتهم، فجاءت متباينة غير متفقة لعدم اهتدائهم حتى الآن إلى دليل مادي يشير إلى ذلك الوطن، أو يؤيد نظرية وجود مثل هذا الوطن، فقامت آراؤهم على نظريات وفرضيات، وبحوث لغوية وعلى آراء مستمدة من الروايات الواردة في التوراة عن أصل البشر، وعن أبناء نوح، والأماكن التي حلّ بها هؤلاء الأبناء وأحفادهم ثم أحفاد أحفادهم، وهكذا على نحو ما تصورته مخيلة العبرانيين. فرأى نفر منهم أن أرض بابل، كانت المهد الأول للساميين، ورأى آخرون أن جزيرة العرب هي المهد الأول لأبناء سام، وخصص فريق آخر موطنًا معينًا من جزيرة العرب، ليكون وطن سام وأبنائه الأُوَل، وذهب قسم إلى إفريقية فاختارها لتكون ذلك الوطن، لما لاحظه من وجود صلة بين اللغات السامية والحامية، ورأى قوم في أرض "الأموريين" الوطن الصالح لأن يكون أرض أبي الساميين، على حين ذهب قوم آخرون إلى تفضيل أرض "أرمينية" على تلك الأوطان المذكورة. وهكذا انقسموا وتشعّبوا في موضوع اختيار الوطن السامي، ولكل حجج وبراهين.

وحتى القائلون بنظرية من هذه النظريات وبرأي من هذه الآراء، هم قَلِقُون غير مستقرين في نظرياتهم هذه، فتراهم يُغَيّرون فيها ويبدلون. يفترضون وطنًا أصليًّا لجدّ الساميين، ثم يفترضون وطنًا ثانيًا يزعمون أن قدماء الساميين كانوا قد تحوّلوا من الوطن الأول إليه، فصار الموطن الأقدم لهم. فقد ذهب "فون كريمر" مثلًا، وهو عالم ألماني إلى أن إقليم "بابل" هو موطن الساميين الأُوَل، وذلك لوجود ألفاظ عديدة لمسمّيات زراعية وحيوية "حياتية" أخرى تشترك فيها أكثر اللغات السامية المعروفة، وهي مسميات لأمور هي من صميم

ج: ص:
229

حياة هذا الإقليم، إلا أنه عاد فذكر أنه وجد أن لفظة "الجمل" لهذا الحيوان المعروف هي لفظة واردة في جميع اللغات السامية وفي ورود هذه التسمية في جميع هذه اللغات دلالة على أنها من بقايا اللغة "السامية" الأولى. ولكن الجمل حيوان أصله وموطنه الأول الهضبة المركزية التي في آسيا على مَقْرَبة من نهر سيحون ونهر جيحون، ولما كان قد لازم الساميين من فجر تأريخيهم واقترن اسمه باسمهم، وجب أن يكون موطن الساميين الأقدم إذن هو تلك الهضبة، إلا أن أجداد الساميين غادروها في الدهر الأول، وارتحلوا عنها فانحازوا إلى الغرب مُجْتَازِين إيران والأرضين المأهولة بالشعوب "الهند أوروبية" حتى وصلوا إلى إقليم "بابل"، فنزلوا فيه، فصار هذا الإقليم الوطن الأقدم أو الأول للساميين.

وطريقة "فون كريمر" في هذه النظرية، دراسة أسماء النبات والحيوان في اللغات السامية وتصنيفها وتبويبها للتمكن بذلك من معرفة المسميات المشتركة والمسميات التي ترد بكثرة في أغلب تلك اللغات. والتوصّل بهذه الطريقة إلى الوقوف على أقدم الحيوان والنبات عند تلك الشعوب، فإذا اهتدينا إليها صار من السّهل على رأيه التوصل إلى معرفة الوطن الأصل الذي جمع في يومٍ ما شمل أجداد الساميين١.

أما "كويدي"، وهو من القائلين أيضا أن إقليم بابل هو الموطن الأول للساميين؛ فقد سار على نفس أسلوب "فون كريمر" نفسه وطريقته، ولكن بصورة مستقلة عنه. درس الكلمات المألوفة في جميع اللغات السامية عن العمران والحيوان والنبات ونواحي الحياة الأخرى، وقارن بينها وتتبّع أصولها ثم قال قوله المذكور، إلا أنه اختلف عن "فون كريمر" في الوطن الأول؛ حيث رأى أن مواطن الساميين الأُوَل كانت الأرضين في جنوب بحر قزوين وفي جنوب شرقيه إلا أنهم غادروها بعد ذلك وارتحلوا عنها إلى إقليم بابل٢.

وأما "هومل"، وهو من العلماء الألمان الحاذقين في الدراسات اللغوية، فقد

ذهب أولًا إلى أن موطن الساميين هو شمال العراق، ثم عاد فقرر أن إقليم بابل هو الوطن الأصل، وذهب أيضا إلى أن قدماء المصريين هم فرع من فروع الشجرة التي أثمرت الثمرة السامية، وهم الذين نقلوا على رأيه الحضارة إلى مصر نقلوها من البابليين١.

وقد ناقش "نولدكه" آراء هؤلاء العلماء المذكورين القائمة على المقابلات والموازنات اللغوية، وعارضها معارضة شديدة، مبيِّنًا أن من الخطأ الاعتماد في وضع نظريات مهمة كهذه على مجرد دراسة كلمات وإجراء موازنات بين ألفاظ لم يثبت ثبوتًا قطعيًا أن جميع الساميين أخذوها من العراق، وأورد جملة أمثلة اختلف فيها الساميون، مع أنها أجدر المعاني بأن يكون لها لفظ مشترك في جميع اللغات السامية٢.

ومن أوجه النقد التي وجهت إلى نظرية القائلين إن العراق، أو إقليم بابل منه بصورة خاصة، هو موطن الساميين، هو أن القول بذلك يستدعي تصوّر انتقال الساميين من أرض زراعية خِصْبَة ذات مياه إلى بوادٍ قفرة جردٍ، وإبدال حياة زراعية بحياة خشنة بدوية، ومثل هذا التصور يخالف المنطق والمعقول والنظم الاجتماعية.

وأما القائلون إن الموطن الأصلي لجميع الساميين هو جزيرة العرب، فكان من أولهم "شبرنكر". فقد رأى أن أواسط جزيرة العرب، ولا سيّما نجد، هو المكان الذي يجب أن يكون الوطن الأول للساميين، وذلك لأسباب وعوامل شرحها وذكرها. ومن هذا الوطن خرج الساميون في رأيه إلى الهلال الخصيب فطبعوه بالطَّابع السامي، ومن هذا الهلال انتشروا إلى أماكن أخرى٣.

وقد أيَّدَ هذه النظرية جماعة من المستشرقين الباحثين في هذا الموضوع من

أمثال "سايس"١و "أبرهرد شرادر"٣، و "دي كويه"٣ و"هوبرت كرمه"٤ و "كارل بروكلمن"٥ و "كينغ"٦و "جول ماير"٧و "كوك"، وآخرين٨.

وقد مال إلى تأييدها وترجيحها "دتف نلسن"، وهو من الباحثين في التأريخ العربي قبل الإسلام٩. وكذلك "هوكو ونكلر". و "هومل" الذي يرى أن موطن جميع الساميين الغربيين هو جزيرة العرب١٠.

وقد ذهب نفر من القائلين بهذه النظرية إلى أن العروض ولا سيما البحرين والسواحل المقابلة لها، هي الوطن السامي القديم. ويستشهد هذا النفر على صحة نظريته ببعض الروايات والدراسات التي قام بها العلماء فكشفت عن هجرة بعض الأقوام كالفينيقيين وغيرهم من هذه الأماكن.

أما "فلبي"؛ فذهب في دراساته المسهبة لأحوال جزيرة العرب إلى أن الأقسام الجنوبية من جزيرة العرب هي الموطن الأصلي للساميين، وفي هذه الأرضين نبتت السامية، ومنها هاجرت بعد اضطرارها إلى ترك مواطنها القديمة لحلول الجفاف بها الذي ظهرت بَوَادره منذ عصر "البالثوليتيك" "palaeolithic" هاجرت في رأيه، في موجات متعاقبة سلكت الطرق البرية والبحرية حتى وصلت إلى المناطق التي استقر فيها. هاجر وقد حملت معها كل ما تملكه من أشياء ثمينة، حملت معها آلهتها، وأولها الإله "القمر"، وحملت معها ثقافتها وخطها