كيف بدأ الضريح؟!
من حوالي ألف سنة كده كانت مصر دولة شيعية، بيحكمها ناس من أشد غلاة الشيعة في التاريخ الإسلامي اسمهم "العبيْديين" أو "الفاطميين". كانت وقتها الدولة العباسية في حالة ضعف والبلاد الإسلامية البعيدة عن العاصمة بغداد كان سهل تلاقي فيها ثورات وانقلابات تؤدي لقيام دول جديدة بشكل جديد للدين. الفاطميون دول لعبوها صح مع المصريين؛ مجابوش خالص سيرة التشيع والغلوّ في عليّ وفاطمة والحسين رضي الله عنهم فضلا عن سبّ أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم، وإنما دخلوا على المصريين من سكة "آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم". كواحد مصري مسلم بتلاقي ناس جايين يحكموك وبيكلموك عن حب آل بيت النبي وتعظيم آل بيت النبي= فانت طبيعي مش هتقلق جامد، بل بالعكس هتتبسط إن الناس دي تقعد في بلدك وهتساعدهم في مشاريع "حب آل بيت النبي" وتصديرها للدول المجاورة:
- بتحب النبي يا صلاح؟
= آه طبعا، يا خبر أبيض؛ دانا جسمي عليل ودواه النبي، وقلبي يميل لزيارة النبي.
- الله عليك يا صلاح، طب إيه رأيك آل بيت النبي يسكنوا عندك؟!!
= واحنا في ديك الساعة؟، دحنا نشيلهم فوق راسنا والله!!
- هايل يا صلاح، وآدي قبر الإمام الحسين رضي الله عنه.
= هو الإمام الحسين جه مصر؟!، والله ما أعرف ولا حد جابلي خبر!!
- رأسه الشريفة جات مصر آه، وهنحطها في القبر ده.
= طب بالنسبة للقبر اللي معمول للحسين في دمشق؟!!
- لأ دا فيه حتة تانية من الجسد الشريف، عشان اخواتك اللي هناك برضه ينولهم نصيب من بركة استضافة آل بيت النبي.
= وماله، ألف مرحب.
وخد عندك بقى أضرحة وقبور للسيدة زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، والسيدة عائشة بنت جعفر الصادق رضي الله عنهما، وناس كتيرة كده مش هتلاقي قاسم مشترك بينهم غير إنهم من نسل سيدنا علي بن أبي طالب ومعظّمين جدا لدى الشيعة، ومافيش أي دليل تاريخي حقيقي إنهم جُم مصر أو ماتوا فيها سوى روايات الفاطميين اللي اخترعوها. والشخص الواحد من دول هتلاقي ليه أكتر من قبر وضريح في كذا بلد، وكل ضريح وراه قصه مخترعة. مافيش أضرحة في الفترة دي لشخصيات من نسل أبي بكر وعمر مثلا، كلهم من نسل علي، ومطلوب منك تصدق إن كل دول اختاروا مصر دونا عن بقية بلدان الإسلام واختاروا الدولة الفاطمية على وجه التحديد للإقامة فيها. في الفترة دي مكانش فيه اهتمام كبير بالمساجد اللي كان عاملها الصحابة زي مسجد عمرو بن العاص. كان التركيز الرئيسي على بناء قبور وأضرحة كلها منسوبة لشخصيات من نسل سيدنا علي، مع قصص وروايات مخترعة كلها لإثبات صحة بناء تلك القبور. وكله بيحصل تحت مسمى "آل بيت النبي وعترته"عشان الموضوع يفضل واخد شعبية وقبول بين المصريين. وكان لازم الضريح يتبني بضخامة كده بحيث تبقى رافع راسك وانت واقف أمامه. لغاية ما مصر الفاطمية بقت كلها أضرحة وقبور شيعية الله أعلم مين جواها، قبور ضخمة بقباب ومنارات وليها مهابة في نفوس المصريين اللي شايفين فيها "محبة آل بيت النبي وجوارهم". محدش وقتها كان مهتم يعرف هل القبور دي جواها آل بيت النبي فعلا ولا الكلام ده هجص، محدش حتى كان مهتم إذا كان فيه جثث داخل تلك الأضرحة أم لا. الناس كانت مبسوطة بالحالة الجديدة دي والقصص والروايات كانت داخلة دماغهم وعجباهم تمام، والنظام الحاكم نفسه شيعي وأي حد ممكن يفتح بقه ويقول إن فيه حاجة غلط معروف بيروح فين. بعدين بدأت تظهر فكرة "المَشاهد"، ودي عبارة عن بناية بترمز لشخص ميت بحيث الناس تفتكره فتدعي كل ما تشوفه (اللي هو صنم يعني بس هننكر)، ولغاية دلوقت الشيعة حريصين جدا على حكاية المشاهد دي وموجود منها كتير في إيران. السبب في ظهور المَشاهد إن أحيانا مبيكونش فيه رواية مقنعة بما يكفي عشان تقول إن فلان ده مات في البلد واتدفن فيها زي ما حصل مع الحسين والسيدة زينب والسيدة عائشة، فيبقى خلاص بلاش نقول قبر وضريح وكفاية نقول "مشهد" وأمرنا لله، المهم إن لازم يكون فيه بناية للشخص ده وظاهرة للناس عشان يفتكروه. مصر كان فيها مشاهد شيعية كتير عملها الفاطميين برضه، زي مشهد زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، دا اللي منسوب ليه تسمية حي زينهم بالقاهرة وليه مسجد هناك، زينهم ده اللي هو زين العابدين. رغم إنه عمره ما جه مصر ومات ودُفن في البقيع بالمدينة المنورة. بس قشطة هنعمل مشهد برضه عشان الناس متحسش إن ناقصها حد من "آل بيت النبي".
سنين بقى عالحالة دي، جدي وجدك كانت الحاجات دي ليها تعظيم كبير في قلوبهم، مش فارق معاهم الصلاة والصوم والمساجد بقدر ما كان فارق معاهم القبور والأضرحة والمشاهد الشيعية دي كلها، ويا ويلك لو فكرت تقول إنها مضروبة وفشنك واللي بيحصل ده كله باطل ... لحد ما جه صلاح الدين الأيوبي اللي عتقنا من المنكر ده، وقضى عالدولة الفاطمية تماما، وأنهى الوجود الشيعي في مصر على مستوى الحكم. لولا صلاح الدين الأيوبي= كان زماننا دلوقت بنقول "يا زهراء" على سبيل الاستغاثة، وبنجيب عطواني يصورنا في الأفراح. دا غير تحرير القدس من الصليبيين وفرجينيا جميلة الجميلات وده موضوع أكيد انت عارفه. صلاح الدين كان عارف كويس إن عقيدة الفاطميين شيعية باطلة، وإن السنّة هي الحق، وإن لا يمكن للدولة الأيوبية تعيش في مصر إلا لو المعتقد الشيعي انتهى بين المصريين وحلت محله عقيدة أهل السنة والجماعة. صلاح الدين مكانش عالم أو فقيه، دا راجل بتاع حرب وفتوحات وحكم وسياسة، وبالتالي هو محتاج علماء دين وفقهاء "سنّة" عشان يقوموا بمهمة إزالة التشيع بين المصريين، فقعد يدور على علماء ورجال دين من أهل السنة في ذلك الوقت. بغداد وقتها كانت هي مستودع أهل السنة الرئيسي؛ وده بحكم إنها عاصمة الخلافة العباسية ومعقل العرب وفيها أشهر ناس في العلوم والمعارف الإسلامية. صحيح في الوقت ده كانت الدولة العباسية فيها ضعف متزايد، وفيه بدع اعتقادية وصراعات دينية مذهبية وفقهية في بغداد، لكن عالأقل الكارثة بتاعة القبور الشيعية اللي مصر غرقانة فيها دي مكانتش هناك. فصلاح الدين بص كده عالدنيا هناك وقالك: مين أشهر ناس محسوبين عالسنة عندكم يا جدعان؟! .. قالوله: الأشاعرة.
مين بقى الأشاعرة دول؟!
دا حوار طويل جدا، بس عموما تقدر تقول إن الأشاعرة دول طائفة من أهل السنة لكن فيها شوية لغبطة في مسائل معينة من مسائل الاعتقاد، قضية اسمها "الأسماء والصفات" متعلقة بكيفية فهم وتأويل أسماء الله الحسنى وصفاته. أول ظهور ليهم كان في بغداد، بغداد كانت مليانة علماء وفقهاء بشكل غير طبيعي، وكانت قضية العقيدة بالذات هي أكتر قضية فيها نقاش وبحث وشغل كتير، حتى عوام الناس كانوا بيهتموا بتلك النقاشات والصراعات الفكرية، وكان فيه ألتراسات برضه وتريندات شبه اللي بنعيشها دلوقت كده بس بشكل أكثر علمية. وكان فيه اتجاهين رئيسيين داخل الحالة السنيّة في بغداد لبحث أمور الاعتقاد:
*اتجاه أهل الحديث والأثر: ودول اللي بيقولوا خلينا نمشي زي جيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، اللي هما اسمهم القرون الثلاثة الخيرية. نفهم زيهم، ونعمل زيهم، وأي حاجة في أمور الاعتقاد مش ماشية عالخط بتاعهم= لازم نرميها. ودول كان إمامهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه (إمام أهل السنة). وكان تركيزهم الرئيسي في فهم الحديث النبوي وتصحيحه والعناية بالآثار والفقه في ضوء تلك الآثار، وكانت طريقتهم سهلة جدا ومباشرة لأنها أقل تكلّفا وعنيها دايما على فهم السلف الصالح من القرون الخيرية لأمور الاعتقاد. والعقيدة بالذات متنفعش تفهم أمورها بشكل سليم إلا في ضوء فهم تلك القرون بالضبط. وكان فيه ولاد عمهم في المدينة المنورة برضه (الإمام مالك).
* اتجاه الرأي: ودول اللي بيقولوا خلينا نمشيها بالدماغ شوية؛ يعني قشطة على عيني وراسي جيل الصحابة والتابعين مقولناش حاجة، بس يعني برضه العقل مش وحش، فمافيش مشكلة نبص في الاحاديث لو لقيناها موجودة، ولو مافيش= يبقى نشغل مخنا شوية وربنا يكرم. وتشغيل المخ ده كان ليه إيجابيات كتير في الأول أيام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو اللي أفرز مدرسة فقه محترمة تضاهي مدرسة الحديث اللي عملها الإمام أحمد وتلامذته كالبخاري ومسلم رضي الله عنهما. لكن بعد كده العملية وسعت منهم، خصوصا مع كثرة العجم وعلوم الفلسفة والمنطق اليوناني بين المسلمين، فتشغيل المخ لوحده في أمور العقيدة وعدم العناية بالآثار والحديث النبوي وفهم السلف راح ضارب في وشهم وأنتج فرقة اسمها "المعتزلة". المعتزلة دول قالوا احنا هنمشيها كلها بالدماغ، ولا تقولي حديث ولا بتنجان، أي حديث نبوي أو أثر مش داخل دماغي هنكره ببساطة. اللي هو شغل ملحدين الأرياف من الآخر لما يبقى عيّل من المنصورة لسه راجع من مركز الحفريات ومذاكر نظرية التطور ومهيبَر. المعتزلة دول بقى انتشروا بشكل رهيب لغاية ما بقى منهم خلفاء وحكام الدولة العباسية، وده طبعا انعكس أثره السلبي على أهل السنة ومعتقدهم. فطلعت فرقة تانية من نفس اتجاه الرأي عشان تردّ عليهم وهي الأشاعرة. الأشاعرة كان غرضهم في الأول هو صدّ فكر المعتزلة وانتشارهم الرأسي والأفقي بين الناس، لكنهم وقعوا في الغلطة بتاعة تشغيل الدماع دي برضه بس بدرجة أخف. فالنتيجة إن فكر المعتزلة تراجع بفضل مجهود الأشاعرة صحيح، لكن ظل اعتقاد الأشاعرة نفسه فيه خلل نتيجة انه اعتمد على أدوات غير سنّية بالأساس لتكوين آلته الفكرية زي الفلسفة وعلم الكلام. وبعدها انتشر معتقد الاشاعرة بين الحكام والولاة ثم طلاب العلم. بينما ظل معتقد أهل الحديث والأثر (وهو معتقد السنّة الصحيح لا شك في ذلك) أقل انتشارا نتيجة إن الحكام وولاة الأمور كانوا مبسوطين أكتر بالحالة الأشعرية ودعمها عشان كانت مجعلصة كده وكلها كلام معقد، مش مجرد آيات قرآن وأحاديث نبوية وآثار عن السلف الصالح سهلة المعاني وواضحة لأي عقل عربي سليم. فحَسوا إن الأشاعرة دول ناس جامدين التنين لأن أكيد اللي بيقول كلام مجعلص كده يبقى واحد شاطر جدا وعالم بجد!! .. دي كده خلاصة الموضوع باختصار شديد.
فعمّنا صلاح الدين قالك خلاص، ناخد الأشاعرة ونسلّمهم دين المصريين، واتعمل اتفاق ضمني كده بين صلاح الدين (أو الأيوبيين عموما) من جهة، وبين الأشاعرة في مصر من جهة تانية، حاجة زي اتفاق محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود لتأسيس الدولة السعودية الأولى:
- بصوا يا حبايبي، أنا همسك حكم الدولة وكذلك أسرتي من الأيوبيين، وانتو هتمسكوا دين المصريين. مطلوب منكم البلد ترجع سنيّة تاني، مش عاوز أشوف تشيّع في مصر نهائي.
= آمين يا صلاح الدين.
- طيب وبالنسبة للقبور والأضرحة الشيعية دي كلها، هنعمل فيها إيه؟!
= بص ياسطى، انت مالكش دعوة، انت تمسك الحكم والفتوحات وربنا يعينك، وسلّمنا احنا بس القضاء الشرعي ودور العبادة والإفتاء وكل مفاصل السلطة الدينية في البلد. وليك علينا نسلّمك المصريين أهل سنّة عالمفتاح.
- اتفقنا، بس الأزهر ده مش هيتفتح، هسيبه مقفول شوية معلش عشان اللي بناه الشيعة.
= بسيطة، خليه مقفول، هنعرف نشتغل برضه.
وبدأت رحلة مصر للعودة إلى حظيرة السنة .. كان فيه مشكلة كبيرة في بداية الرحلة دي وهي إن تعداد المصريين لأول مرة في التاريخ يزيد عن مليون شخص!، رقم ضخم في ذلك الوقت إنك تلاقيه في بلد واحدة. عندك قرابة المليون شيعي (أو مليون محب لآل بيت النبي) وعاملين قبور وأضرحة شيعية ومقامات ومشاهد بالهبل وعلاقتهم بيها تصل لحد العبادة. أي صدام مع الحالة دي معناه إنك هتخسرهم للأبد وهما أساسا حديثو عهد بإسلام والفاطميين حكموهم أكتر من 200 سنة بالقبور دي. في البداية مكانش فيه اشتغال فقهي كبير لدى الأشاعرة بمسألة القبور والأضرحة والتوسل والتبرك والكلام ده، كانت كل معاركهم مع المعتزلة اللي في العراق. فقرروا يتعاملوا مع الحالة القبورية المصرية على إنها "مسألة فقهية جديدة" ومطلوب منهم يحاولوا يلاقوا ليها مخرج شرعي "سني" يخليها مقبولة. العملية دي مكانتش سهلة خالص وبرضه مكانتش صعبة خالص. جانب الصعوبة في تلك العملية هو إن اللي بيحصل في القبور دي منتهى الشرك والمنكر ولا يمكن يصحّ بحال، وجانب السهولة إن برضه الأشاعرة عندهم آلة فقهية وعلوم عقلية قوية ممكن تحاول تتصرف وتلاقي حل، حتى لو كان الحلّ ده هيضطّر يصطدم بقوة مع مدرسة الحديث والأثر (اللي هما المفروض أصحاب العقيدة الصحيحة واللي معاهم أدلة صحتها، وحافظين طرق الفهم السنيّة اللي سهل جدا تشوف وضع المصريين ده وتقرر بطلانه ببساطة).
اول محور لخطة العمل الأشعرية في مصر كان: مزاحمة القبور والأضرحة الشيعية بأخرى سنيّة لعموم الأولياء والصالحين، مع التركيز على بناء المساجد وإقامة الشعائر والعبادات حولها:
- إزيك يا مصري وإزي بابا، رايح قبر مين النهارده؟؟
= إزيك يا شيخ وحيد، رايح قبر جدّو الحسين.
- طب ما إيه رأيك نروح المرة دي قبر عمو الإمام الشافعي ونصلي كمان هناك؟!
= إيه دا هو اتعمل له ضريح هو كمان؟؟، طب يلا بينا، أنا بحب عمو الإمام الشافعي جدا.
فأصبحت الأضرحة مجالها أوسع بكتير من نطاق الرموز الشيعية، وبقى فيه البدوي والمرسي والقناوي والدسوقي والشاذلي وفرح كبير أوي بقى. الموضوع مبقاش قاصر على "آل بيت النبي" فقط، ولكن على أي شخصية غير محسوبة عالشيعة ومشهود لها بالخير والصلاح بين الناس.
تاني محور وده بقى الأشد في الخطورة: شرعنة الحالة القبورية المصرية، وإثبات موافقتها الكاملة لمعتقد أهل السنة والجماعة، وإباحة أفعال الاستغاثة تحديدا، ونسبتها لمعتمدات المذاهب الفقهية الأربعة (خلي بالك إن كتير من أئمة تلك المذاهب في مصر بالذات كانوا أشاعرة المعتقد). وبقى اللي بيحصل في مصر عند القبور والأضرحة هو عمل "مشروع فقهيا" حسب آراء المذاهب الأربعة، ومن علامات حب النبي وآل بيته والأولياء والصالحين. كل فقهاء مذهب قعدوا يدوروا على مخرج فقهي لشرعنة ما يجري، والفقيه اللي يعترض أو يرفض أو يشوف أدلة تثبت بطلان الأمر= بيتحرم من امتيازات كتير أبسطها عدم الإجازة الفقهية ولغاية الحبس أو المنع من التدريس. ومع الوقت أصبحت قضية القبور والاستغاثة والتوسل من المسائل الفقهية المشهورة بين الأشاعرة في مجالسهم الفقهية واشتغالهم العلمي (خلي بالك، مسائل فقهية، وليست مسائل عقدية). فلو حد عنده أي قلق من اللي بيحصل في مصر= بيتقال له: دا عمل مشروع وفقا لآراء المذاهب الفقهية وانت مش هتفهم أكتر من الفقهاء ومش هتكون أعلم بالدين من الفقهاء.
المحور الثالث وهو: التصوف؛ التصوف المصري اللي أنتجته الحالة الأشعرية كان هدفه الرئيسي هو وراثة الوصاية عالقبور والأضرحة الشيعية وإضفاء الطابع السني عليها. لأول مرة المصريين بيشوفوا ناس بتحب آل بيت النبي أكتر من الفاطميين، ولابسين أخضر في أخضر وبيغنوا وبيعملوا موالد وأفراح عند القبور.
احنا دلوقتي في نهاية عهد الدولة الأيوبية وفي ظل العصر المملوكي، الجامع الأزهر اتفتح لكن التعصب المذهبي واكل مصر، خناقات ومشادات على أبسط الأمور في فرعيات الدين، اتهامات بالتكفير أكتر من اللي بتعملها داعش، نسيت أقولك إن الأشاعرة كانوا مشهورين تاريخيا بالتساهل في التكفير أساسا بين أهل الفرق المختلفة لأن معاركهم كانت شديدة الصراع. المسجد الواحد كان بيبقى فيه أكتر من محراب عشان الشافعية مبيصلوش ورا الأحناف. رضوى بنت الحاج بسيوني المالكي يحرم عليها تتجوز وائل ابن الحاج شاهين الحنفي. وكل ده كوم والجمود المذهبي كوم تاني، بقى خلاص شبه مستحيل إنك تغير رأي المذهب الفلاني في القضية الفلانية، لا قرآن ولا سنة ولا صحابة ولا أي حد ماليين عين "فقهاء المذاهب" الأجلاء عشان يقتنعوا إن رأيهم المذهبي في المسألة المعينة غير سليم. الفقيه واخد رأي المذهب عن شيخه بالإسناد المتصل ولا يمكن يتراجع عنه مهما بدا له من أدلة عدم صحّته. الأسانيد بتاعة الأشاعرة في الفقه بقت حاجة عاملة كده زي القرآن اللي نزل عالفقيه من غير وحي، ولا يمكن يبدّل فيه أو يغيّر منه وإلا يبقى بيحرّف في الدين. مافيش اجتهاد ولا رجوع لنصوص أصلية من قرآن وسنّة ولا حتى مراجعة لكلام المتأخرين ده وقياسه على أقوال الفقهاء المتقدمين جايز يكون غلط. أراء المذاهب الفقهية بقت هي القرآن والسنة، وكل فقيه مقتنع إن لا يمكن شيخه يكون خالف الكتاب والسنة في شيء، وانت اللي فاهم الدليل غلط بس، روح اتعلم يا شاطر عشان تفهم صح، احنا مذاهبنا زي الفل.
في ظل الوضع ده: القبور ضربت في مصر، كل حتة في البلد بقى فيها ضريح، الناس مبقتش تحس إنها بتصلي أو بتدعي غير وهما شايفين مقام أصادهم. فكرة إنك تعبد ربنا برفع إيدك للسماء كده عادي أو تكلم ربنا بغير وسيط بينك وبينه صارت غريبة عالمصريين. لازم "مدد"، لازم "شي الله يا سيد يا بدوي". الموالد والأضرحة بقى بيزورها ملايين وشعبيتهم جايبة آخر الدنيا. بقى صعب تروح قبر البدوي زي زمان خصوصا في "الموسم"، هات حاجة في إيدك وانت جاي، ادبح للمقام، متخشش عالبدوي كده بإيدك فاضية عيب. الضريح بقى هو مقصد الناس لقضاء الحاجات، بيروحله اللي عاوز يجوز بنته ويشفي ابنه ويصلح تجارته ..إلخ. بقى فيه "خدّام" للمقام، بياخدوا منك فلوس ونذور وتبرعات خرافية عشان تعدّي لصاحب المقام وتقضي حاجتك. فلوس الأوقاف المصرية وأملاكها جزء رئيسي منها يتمثل في النذور والقرابين بتاعة الأضرحة. وبقى فيه تنوع طبقي في زيارات القبور؛ الناس الأثرياء مثلا يروحوا قبر الدسوقي عشان بيدبحوا عجول، الطبقة المتوسطة تروح البدوي عشان البدوي بيحب الفراخ، الغلابة واللي معهومش فلوس بيفرقوا بليلة عند أم العواجز ماما السيدة زينب، هي طيبة ومبتاخدش كتير. أصبحت "الطرق الصوفية" وشيوخها في مصر زي قساوسة أروبا في العصور الوسطى اللي كانوا بيوزعوا صكوك الغفران بالفلوس. ظهر كمان "سلطان المنامات"، وهو إن اللي يشوف منام حلو مثلا بيروح عامل مقام والناس تيجي تزور، وكمية المقامات اللي اتعملت بسبب منامات بالعبيط في ريف مصر بالذات. وفيه أيضا سبوبة "الكرامات وخوارق العادات"، قصص بالهبل عن أساطير ومش عارف مين اللي لقوه طاير في الهواء وماشي عالمياه فيروحوا عاملين له مقام. و"أهل الله"، ودول شوية ناس عواطلية وشحاتين ومجانين كانوا بيقعدوا عند جوامع الأضرحة والمقامات ياكلوا لغاية ما بيفقدوا الوعي من شدة التخمة، والهلاوس اللي بتحصل لهم نتيجة الإعياء بيتم التعامل معها على إنها كرامات ورؤيا أنبياء وأولياء. دي كده كانت مصر السنيّة في ظل سيادة العقيدة الأشعرية. ولو فتحت بقك تعترض على أي حاجة من العك ده= تلاقي شرطة المذاهب الفقهية جاتلك فورا بالأسانيد وأقوال المتأخرين المضروبة عشان تقولك إنك غلطان.
الحالة دي بتستمر في البؤس، مع اشتداد في البدع والمنكرات، لدرجة ان بعض المحسوبين على تلك المنظومة الفقهية بيلاقوا إن الموضوع أفوَر خالص، وجمود المذاهب مانع من أي اجتهاد لتقويم الوضع الكارثي ده. كان فيه تقي الدين السبكي لو تسمع عنه، وهو فقيه شافعي، كان راجل داهية في الفقه، لكنه كان زي علي جمعة كده في الحالة الصوفية والتسلط. الراجل ده هو اللي فرض مذهب الشافعي على المصريين، قبل كده كان فيه فرصة كبيرة إنك تشوف تنوع مذهبي كبير بين أهل مصر. السبكي كان قاضي القضاة، حاجة كده زي رئيس المحكمة الدستورية العليا دلوقت، خلى مذهب الشافعي هو المعمول به في القضاء، وشدد في التضييق على أي فقيه أو عالم دين يخالف المذهب الشافعي أو حتى يرى وجاهة لرأي فقهي آخر. وكانت بتوصل للحبس عادي والحرمان من القضاء والرواتب ومجالس التدريس والإجازات والإسناد لو خالفت "سياسات" السبكي في تعميم المذهب الشافعي في مصر. لغاية ما الدولة المصرية كلها بقت شافعية المذهب، حتى لو الشعب المصري فضل فيه تنوع مذهبي ضئيل. وظل الوضع بالمنظر ده لغاية ما ظهر ابن تيمية.
مين ابن تيمية دا بقى؟!!
الراجل ده في البداية كان فقيه حنبلي عادي جدا، وكان بيلفّ بين البلدان لغاية ما جه مصر، وشاف الوضع منيل بستين نيلة. ومن ساعتها بدأ يهدّ المعبد الماسوني ده على أصحابه بالتدريج. مشروع ابن تيمية الإصلاحي كان بسيط جدا: إن كل اللي بتعملوه ده يا جدعان منكر وباطل ومخالف لصحيح القرآن والسنة وعمل الصحابة، ومافيش دليل شرعي سليم يبيح المسخرة اللي بتحصل في مصر والشام والبلدان المعكوكة زيهم دي خالص، والقبور دي أغلبها فشنك ومتاخدة من الشيعة ويحرم كل ما يجري عندها من توسل وتمسّح وتبرّك واستغاثة ونسك ودعاء لغير الله. طبعا في الأول كانوا فاكرين ابن تيمية ده عيل صغير يعني، فراحوا حابسينه على أساس يحموا المجتمع المصري من الأفكار الهدامة بتاعته. لكن للأسف الراجل ده كان عضمة ناشفة، ومحمد بيه بتاع قسم الهرم معرفش يأثر عليه عشان يتراجع عما يعتقده. بيستمر ابن تيمية في التأليف والكتابة من داخل السجن وبيأكد على بطلان وحرمة الوضع القائم، وكلامه بيوصل لناس كتير وبيأثر فيهم خصوصا في مصر والشام، وكان ليه تلامذة شطار زي ابن القيم وابن مفلح والذهبي وابن كثير اللي كانوا بينشروا كلامه وبيقنعوا بيه الناس. فاضطروا الاشاعرة يطلعوه من السجن وبدأت رحلة الجدال والمناظرة:
- بص يابن تيمية، هو انت مش متعلم فقه كويس، روح ادرس فقه عالمذاهب الاربعة وهتعرف ان احنا صح
* بيروح ابن تيمية يجيب لهم من المذاهب الأربعة نفسها ما يبطل أقوالهم، وبيركز على المتقدمين من أصحاب المذاهب لأنه عارف كويس إن المتأخرين معظمهم ضعاف. وبيأكد على إن العبرة باتباع الكتاب والسنة الصحيحة قبل أي شيء آخر سواء مذاهب أربعة أو غيرهم.
- اتعلم حديث يابن تيمية، بص آدي حديث نبوي أهو بيقول بجواز الاستغاثة
* بيثبت لهم انه حديث موضوع ومنكر واستعماله في الآلة الفقهية باطل، وبيجيب بدل الحديث الصحيح عشرة تثبت صحة موقفه، فضلا عمل السلف.
- انت مشكلتك يابن تيمية في الفهم، انت مش قادر تفهم النص كويس، روح اتعلم فلسفة ومنطق يوناني وعلم الكلام عشان تقدر تفهم النص الشرعي. تعرف تقول يابن تيمية: "بسيطة متستبسطهاش" عشر مرات ورا بعض؟
* بيروح ابن تيمية يحطّ عليهم في علوم المعقول كلها والفلسفة والكلام المجعلص اللي دايرين يتفشخروا بيه، وبيثبت أيضا بطلان تلك العلوم كأدوات للتعاطي مع النص الشرعي لا سيما في الجانب العقدي.
لغاية ما خلّوا ابن تيمية بقى زي النجم، مسابش علم إلا وضرب فيه بسهم وحطّ عليهم فيه وأثبت فساد قولهم منه. ولذلك أصبح هو "شيخ الإسلام"؛ لأنه دخل في كل المساحات اللي الأشاعرة ظنوا إنهم منفردين بعلومها وأثبت بطلان مواقفم فيها، خصوصا في السبوبة بتاعة إجماع المذاهب الأربعة على مشروعية عمل القبور والاضرحة والتوسل والاستغاثة والتبرك بها. مما اضطّر تقي الدين السبكي نفسه ينزل من برجه العاجي ويحاول يألف كتاب جديد يجمع فيه أدلة صحة الحالة القبورية المصرية وإجماع المذاهب عليها. وبرضه معرفش يقضي على "الظاهرة التيمية" اللي حطّت رجلها في مصر منذ ذلك الحين. وذاع صيت ابن تيمية واتجاهه السنّي الصحيح في مصر والشام خصوصا مع معارك التتار لما الناس بدأت لأول مرة تتخلى عن ثقتها في الأضرحة والقبور وتقف تواجه التتار؛ لأنهم عرفوا إن الميتين مش هينفعوا الأحياء، وإن الحي هو اللي بينفع الميت وليس العكس، ولو فضلوا قاعدين عند القبور فالتتار هيخشوا يخزوقوهم.
ومن وقتها والأشاعرة نقلوا مسألة القبور والأضرحة من الجانب الفقهي للجانب العقدي، مبقتش خلاص قضية فقهية، وإنما مسألة عقدية. وظهر أهل الحديث والأثر في الطرف المقابل بخط فكري ومنهجي واضح لمواجهة تلك الحالة؛ لأن مصر بقت معروفة خلاص إنها من معاقل الأشاعرة، ومُصدّرة الحالة القبورية لسائر دول العالم الإسلامي خصوصا غير العرب. فضلت الاشعرية مسيطرة على مستوى السلطة الدينية ومزاج الحكام بعد نهاية عصر المماليك ومجيء العثمانيين لمصر. العثمانيين كانوا صوفية نقشبندية أحناف ومش عرب، فمكانش فيه أحسن من مصر لاستمرار الحالة القبورية على مستوى السلطة، لكن فضلت الفكرة التيمية السنيّة لها جمهور وشعبية بتتزايد بزيادة الخرافات والمنكرات العقدية والشركيات. أول مرة تظهر فيها الحالة التيمية على مستوى السلطة كانت على يد محمد بن عبدالوهاب اللي كان شايف القرف القبوري المصري بوضوح ومسمّع عنده في الحجاز لا سيما عند القبر النبوي في ظل حكم العثمانيين. ولذلك عظمة محمد بن عبدالوهاب كانت في إنه قضى عالوجود القبوري ده تماما في الجزيرة العربية. بسبب محمد بن عبدالوهاب ده انت بتروح السعودية مبتشوفش قبر ولا ضريح ولا مولد لغاية دلوقت، حتى لو الدولة السعودية الحالية من أفسد خلق الله (قال يعني الدولة المصرية هي اللي اسم الله عليها بنت حلال أوي). يكفي إنك تروح المشاعر المقدسة متلاقيش غير قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وأهل البقيع، وكل اللي تعمله هو إنك تسلم وتصلي عالنبي وتدعيلهم وبسسسسسسس. ولو عاوز تدعي لنفسك= بتودّي وشك جهة الكعبة وتقول يارب ومافيش حاجة تاني مطلوبة منك أكتر من كده. ده الدين الخالص اللي انت نفسك هتحس بالفطرة كده إنه خالي من أي شوائب وإضافات وتعقيدات وباطل مالهومش آخر. ودي كانت لقطة محمد بن عبدالوهاب الرئيسية، إن الشركيات والقرف اللي كان معشش في مصر ميحصلوش في جزيرة العرب. التشدد بقى والنقاب والستات متركبش عربيات ..إلخ= كل دي تفاصيل فقهية وليست عقدية، أحكامها تختلف وتتراوح من بلد لبلد ومن زمن لزمن وفق أعراف الناس مافيش مشكلة.
وحتى في أواخر حكم الخلافة العثمانية وبداية عصور الاحتلال الأجنبي والحكم العسكري في بلاد المسلمين= ظلت أغلب مشاريع التحرر الإسلامية تنفر من الحالة القبورية المصرية بالذات ومش بتشوف فيها غير استمرار لكل منكر وباطل ومن ثَم استمرار البلاء. محمد بن عبدالوهاب في الحجاز ومحمد رشيد رضا ومحمد عبده في مصر وعبدالحميد بن باديس في المغرب العربي والأسرة الدهلوية والمباركفورية في الهند. بلدك مصر النهارده أحسن ألف مرة في جانب القبور والأضرحة ده عن زمان، دا مجهود شيوخ ودعاة وحتى سياسيين بالآلاف قعدوا يكنسوا البلد من الزبالة دي، لغاية ما النهارده الموالد مبقاش فيها إلا المجانين والعلمانيين وغير المسلمين واللي بيشربوا بيرة وبيتحرشوا بالستات. كل ده مجهود سنين طويلة على فكرة ومن قبل ما تظهر سردية "الغزو الوهابي" بكتير. فمتتخضش أوي لما تشوف عيل من أشاعرة مصر الجديدة والتجمع الخامس بيكلمك عن إجماع المذاهب الأربعة على مشروعية التوسل والاستغاثة وعمل القبور والاضرحة، هما واخدين عالشغلانة دي من زمان وخلاص مبقتش بتعمل مفعول وترهب الناس زي الأول. انت دلوقت أنضف بكتير من زمان على فكرة في هذا الجانب بالذات، وده بفضل الله أولا ثم بفضل اللي قعدوا ينحتوا في الصخر دول لغاية ما شالوا كتير من زبالة مصر دي، تقبل الله منهم وجزاهم عنا كل خير.
منقول
من حوالي ألف سنة كده كانت مصر دولة شيعية، بيحكمها ناس من أشد غلاة الشيعة في التاريخ الإسلامي اسمهم "العبيْديين" أو "الفاطميين". كانت وقتها الدولة العباسية في حالة ضعف والبلاد الإسلامية البعيدة عن العاصمة بغداد كان سهل تلاقي فيها ثورات وانقلابات تؤدي لقيام دول جديدة بشكل جديد للدين. الفاطميون دول لعبوها صح مع المصريين؛ مجابوش خالص سيرة التشيع والغلوّ في عليّ وفاطمة والحسين رضي الله عنهم فضلا عن سبّ أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم، وإنما دخلوا على المصريين من سكة "آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم". كواحد مصري مسلم بتلاقي ناس جايين يحكموك وبيكلموك عن حب آل بيت النبي وتعظيم آل بيت النبي= فانت طبيعي مش هتقلق جامد، بل بالعكس هتتبسط إن الناس دي تقعد في بلدك وهتساعدهم في مشاريع "حب آل بيت النبي" وتصديرها للدول المجاورة:
- بتحب النبي يا صلاح؟
= آه طبعا، يا خبر أبيض؛ دانا جسمي عليل ودواه النبي، وقلبي يميل لزيارة النبي.
- الله عليك يا صلاح، طب إيه رأيك آل بيت النبي يسكنوا عندك؟!!
= واحنا في ديك الساعة؟، دحنا نشيلهم فوق راسنا والله!!
- هايل يا صلاح، وآدي قبر الإمام الحسين رضي الله عنه.
= هو الإمام الحسين جه مصر؟!، والله ما أعرف ولا حد جابلي خبر!!
- رأسه الشريفة جات مصر آه، وهنحطها في القبر ده.
= طب بالنسبة للقبر اللي معمول للحسين في دمشق؟!!
- لأ دا فيه حتة تانية من الجسد الشريف، عشان اخواتك اللي هناك برضه ينولهم نصيب من بركة استضافة آل بيت النبي.
= وماله، ألف مرحب.
وخد عندك بقى أضرحة وقبور للسيدة زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، والسيدة عائشة بنت جعفر الصادق رضي الله عنهما، وناس كتيرة كده مش هتلاقي قاسم مشترك بينهم غير إنهم من نسل سيدنا علي بن أبي طالب ومعظّمين جدا لدى الشيعة، ومافيش أي دليل تاريخي حقيقي إنهم جُم مصر أو ماتوا فيها سوى روايات الفاطميين اللي اخترعوها. والشخص الواحد من دول هتلاقي ليه أكتر من قبر وضريح في كذا بلد، وكل ضريح وراه قصه مخترعة. مافيش أضرحة في الفترة دي لشخصيات من نسل أبي بكر وعمر مثلا، كلهم من نسل علي، ومطلوب منك تصدق إن كل دول اختاروا مصر دونا عن بقية بلدان الإسلام واختاروا الدولة الفاطمية على وجه التحديد للإقامة فيها. في الفترة دي مكانش فيه اهتمام كبير بالمساجد اللي كان عاملها الصحابة زي مسجد عمرو بن العاص. كان التركيز الرئيسي على بناء قبور وأضرحة كلها منسوبة لشخصيات من نسل سيدنا علي، مع قصص وروايات مخترعة كلها لإثبات صحة بناء تلك القبور. وكله بيحصل تحت مسمى "آل بيت النبي وعترته"عشان الموضوع يفضل واخد شعبية وقبول بين المصريين. وكان لازم الضريح يتبني بضخامة كده بحيث تبقى رافع راسك وانت واقف أمامه. لغاية ما مصر الفاطمية بقت كلها أضرحة وقبور شيعية الله أعلم مين جواها، قبور ضخمة بقباب ومنارات وليها مهابة في نفوس المصريين اللي شايفين فيها "محبة آل بيت النبي وجوارهم". محدش وقتها كان مهتم يعرف هل القبور دي جواها آل بيت النبي فعلا ولا الكلام ده هجص، محدش حتى كان مهتم إذا كان فيه جثث داخل تلك الأضرحة أم لا. الناس كانت مبسوطة بالحالة الجديدة دي والقصص والروايات كانت داخلة دماغهم وعجباهم تمام، والنظام الحاكم نفسه شيعي وأي حد ممكن يفتح بقه ويقول إن فيه حاجة غلط معروف بيروح فين. بعدين بدأت تظهر فكرة "المَشاهد"، ودي عبارة عن بناية بترمز لشخص ميت بحيث الناس تفتكره فتدعي كل ما تشوفه (اللي هو صنم يعني بس هننكر)، ولغاية دلوقت الشيعة حريصين جدا على حكاية المشاهد دي وموجود منها كتير في إيران. السبب في ظهور المَشاهد إن أحيانا مبيكونش فيه رواية مقنعة بما يكفي عشان تقول إن فلان ده مات في البلد واتدفن فيها زي ما حصل مع الحسين والسيدة زينب والسيدة عائشة، فيبقى خلاص بلاش نقول قبر وضريح وكفاية نقول "مشهد" وأمرنا لله، المهم إن لازم يكون فيه بناية للشخص ده وظاهرة للناس عشان يفتكروه. مصر كان فيها مشاهد شيعية كتير عملها الفاطميين برضه، زي مشهد زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، دا اللي منسوب ليه تسمية حي زينهم بالقاهرة وليه مسجد هناك، زينهم ده اللي هو زين العابدين. رغم إنه عمره ما جه مصر ومات ودُفن في البقيع بالمدينة المنورة. بس قشطة هنعمل مشهد برضه عشان الناس متحسش إن ناقصها حد من "آل بيت النبي".
سنين بقى عالحالة دي، جدي وجدك كانت الحاجات دي ليها تعظيم كبير في قلوبهم، مش فارق معاهم الصلاة والصوم والمساجد بقدر ما كان فارق معاهم القبور والأضرحة والمشاهد الشيعية دي كلها، ويا ويلك لو فكرت تقول إنها مضروبة وفشنك واللي بيحصل ده كله باطل ... لحد ما جه صلاح الدين الأيوبي اللي عتقنا من المنكر ده، وقضى عالدولة الفاطمية تماما، وأنهى الوجود الشيعي في مصر على مستوى الحكم. لولا صلاح الدين الأيوبي= كان زماننا دلوقت بنقول "يا زهراء" على سبيل الاستغاثة، وبنجيب عطواني يصورنا في الأفراح. دا غير تحرير القدس من الصليبيين وفرجينيا جميلة الجميلات وده موضوع أكيد انت عارفه. صلاح الدين كان عارف كويس إن عقيدة الفاطميين شيعية باطلة، وإن السنّة هي الحق، وإن لا يمكن للدولة الأيوبية تعيش في مصر إلا لو المعتقد الشيعي انتهى بين المصريين وحلت محله عقيدة أهل السنة والجماعة. صلاح الدين مكانش عالم أو فقيه، دا راجل بتاع حرب وفتوحات وحكم وسياسة، وبالتالي هو محتاج علماء دين وفقهاء "سنّة" عشان يقوموا بمهمة إزالة التشيع بين المصريين، فقعد يدور على علماء ورجال دين من أهل السنة في ذلك الوقت. بغداد وقتها كانت هي مستودع أهل السنة الرئيسي؛ وده بحكم إنها عاصمة الخلافة العباسية ومعقل العرب وفيها أشهر ناس في العلوم والمعارف الإسلامية. صحيح في الوقت ده كانت الدولة العباسية فيها ضعف متزايد، وفيه بدع اعتقادية وصراعات دينية مذهبية وفقهية في بغداد، لكن عالأقل الكارثة بتاعة القبور الشيعية اللي مصر غرقانة فيها دي مكانتش هناك. فصلاح الدين بص كده عالدنيا هناك وقالك: مين أشهر ناس محسوبين عالسنة عندكم يا جدعان؟! .. قالوله: الأشاعرة.
مين بقى الأشاعرة دول؟!
دا حوار طويل جدا، بس عموما تقدر تقول إن الأشاعرة دول طائفة من أهل السنة لكن فيها شوية لغبطة في مسائل معينة من مسائل الاعتقاد، قضية اسمها "الأسماء والصفات" متعلقة بكيفية فهم وتأويل أسماء الله الحسنى وصفاته. أول ظهور ليهم كان في بغداد، بغداد كانت مليانة علماء وفقهاء بشكل غير طبيعي، وكانت قضية العقيدة بالذات هي أكتر قضية فيها نقاش وبحث وشغل كتير، حتى عوام الناس كانوا بيهتموا بتلك النقاشات والصراعات الفكرية، وكان فيه ألتراسات برضه وتريندات شبه اللي بنعيشها دلوقت كده بس بشكل أكثر علمية. وكان فيه اتجاهين رئيسيين داخل الحالة السنيّة في بغداد لبحث أمور الاعتقاد:
*اتجاه أهل الحديث والأثر: ودول اللي بيقولوا خلينا نمشي زي جيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، اللي هما اسمهم القرون الثلاثة الخيرية. نفهم زيهم، ونعمل زيهم، وأي حاجة في أمور الاعتقاد مش ماشية عالخط بتاعهم= لازم نرميها. ودول كان إمامهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه (إمام أهل السنة). وكان تركيزهم الرئيسي في فهم الحديث النبوي وتصحيحه والعناية بالآثار والفقه في ضوء تلك الآثار، وكانت طريقتهم سهلة جدا ومباشرة لأنها أقل تكلّفا وعنيها دايما على فهم السلف الصالح من القرون الخيرية لأمور الاعتقاد. والعقيدة بالذات متنفعش تفهم أمورها بشكل سليم إلا في ضوء فهم تلك القرون بالضبط. وكان فيه ولاد عمهم في المدينة المنورة برضه (الإمام مالك).
* اتجاه الرأي: ودول اللي بيقولوا خلينا نمشيها بالدماغ شوية؛ يعني قشطة على عيني وراسي جيل الصحابة والتابعين مقولناش حاجة، بس يعني برضه العقل مش وحش، فمافيش مشكلة نبص في الاحاديث لو لقيناها موجودة، ولو مافيش= يبقى نشغل مخنا شوية وربنا يكرم. وتشغيل المخ ده كان ليه إيجابيات كتير في الأول أيام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو اللي أفرز مدرسة فقه محترمة تضاهي مدرسة الحديث اللي عملها الإمام أحمد وتلامذته كالبخاري ومسلم رضي الله عنهما. لكن بعد كده العملية وسعت منهم، خصوصا مع كثرة العجم وعلوم الفلسفة والمنطق اليوناني بين المسلمين، فتشغيل المخ لوحده في أمور العقيدة وعدم العناية بالآثار والحديث النبوي وفهم السلف راح ضارب في وشهم وأنتج فرقة اسمها "المعتزلة". المعتزلة دول قالوا احنا هنمشيها كلها بالدماغ، ولا تقولي حديث ولا بتنجان، أي حديث نبوي أو أثر مش داخل دماغي هنكره ببساطة. اللي هو شغل ملحدين الأرياف من الآخر لما يبقى عيّل من المنصورة لسه راجع من مركز الحفريات ومذاكر نظرية التطور ومهيبَر. المعتزلة دول بقى انتشروا بشكل رهيب لغاية ما بقى منهم خلفاء وحكام الدولة العباسية، وده طبعا انعكس أثره السلبي على أهل السنة ومعتقدهم. فطلعت فرقة تانية من نفس اتجاه الرأي عشان تردّ عليهم وهي الأشاعرة. الأشاعرة كان غرضهم في الأول هو صدّ فكر المعتزلة وانتشارهم الرأسي والأفقي بين الناس، لكنهم وقعوا في الغلطة بتاعة تشغيل الدماع دي برضه بس بدرجة أخف. فالنتيجة إن فكر المعتزلة تراجع بفضل مجهود الأشاعرة صحيح، لكن ظل اعتقاد الأشاعرة نفسه فيه خلل نتيجة انه اعتمد على أدوات غير سنّية بالأساس لتكوين آلته الفكرية زي الفلسفة وعلم الكلام. وبعدها انتشر معتقد الاشاعرة بين الحكام والولاة ثم طلاب العلم. بينما ظل معتقد أهل الحديث والأثر (وهو معتقد السنّة الصحيح لا شك في ذلك) أقل انتشارا نتيجة إن الحكام وولاة الأمور كانوا مبسوطين أكتر بالحالة الأشعرية ودعمها عشان كانت مجعلصة كده وكلها كلام معقد، مش مجرد آيات قرآن وأحاديث نبوية وآثار عن السلف الصالح سهلة المعاني وواضحة لأي عقل عربي سليم. فحَسوا إن الأشاعرة دول ناس جامدين التنين لأن أكيد اللي بيقول كلام مجعلص كده يبقى واحد شاطر جدا وعالم بجد!! .. دي كده خلاصة الموضوع باختصار شديد.
فعمّنا صلاح الدين قالك خلاص، ناخد الأشاعرة ونسلّمهم دين المصريين، واتعمل اتفاق ضمني كده بين صلاح الدين (أو الأيوبيين عموما) من جهة، وبين الأشاعرة في مصر من جهة تانية، حاجة زي اتفاق محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود لتأسيس الدولة السعودية الأولى:
- بصوا يا حبايبي، أنا همسك حكم الدولة وكذلك أسرتي من الأيوبيين، وانتو هتمسكوا دين المصريين. مطلوب منكم البلد ترجع سنيّة تاني، مش عاوز أشوف تشيّع في مصر نهائي.
= آمين يا صلاح الدين.
- طيب وبالنسبة للقبور والأضرحة الشيعية دي كلها، هنعمل فيها إيه؟!
= بص ياسطى، انت مالكش دعوة، انت تمسك الحكم والفتوحات وربنا يعينك، وسلّمنا احنا بس القضاء الشرعي ودور العبادة والإفتاء وكل مفاصل السلطة الدينية في البلد. وليك علينا نسلّمك المصريين أهل سنّة عالمفتاح.
- اتفقنا، بس الأزهر ده مش هيتفتح، هسيبه مقفول شوية معلش عشان اللي بناه الشيعة.
= بسيطة، خليه مقفول، هنعرف نشتغل برضه.
وبدأت رحلة مصر للعودة إلى حظيرة السنة .. كان فيه مشكلة كبيرة في بداية الرحلة دي وهي إن تعداد المصريين لأول مرة في التاريخ يزيد عن مليون شخص!، رقم ضخم في ذلك الوقت إنك تلاقيه في بلد واحدة. عندك قرابة المليون شيعي (أو مليون محب لآل بيت النبي) وعاملين قبور وأضرحة شيعية ومقامات ومشاهد بالهبل وعلاقتهم بيها تصل لحد العبادة. أي صدام مع الحالة دي معناه إنك هتخسرهم للأبد وهما أساسا حديثو عهد بإسلام والفاطميين حكموهم أكتر من 200 سنة بالقبور دي. في البداية مكانش فيه اشتغال فقهي كبير لدى الأشاعرة بمسألة القبور والأضرحة والتوسل والتبرك والكلام ده، كانت كل معاركهم مع المعتزلة اللي في العراق. فقرروا يتعاملوا مع الحالة القبورية المصرية على إنها "مسألة فقهية جديدة" ومطلوب منهم يحاولوا يلاقوا ليها مخرج شرعي "سني" يخليها مقبولة. العملية دي مكانتش سهلة خالص وبرضه مكانتش صعبة خالص. جانب الصعوبة في تلك العملية هو إن اللي بيحصل في القبور دي منتهى الشرك والمنكر ولا يمكن يصحّ بحال، وجانب السهولة إن برضه الأشاعرة عندهم آلة فقهية وعلوم عقلية قوية ممكن تحاول تتصرف وتلاقي حل، حتى لو كان الحلّ ده هيضطّر يصطدم بقوة مع مدرسة الحديث والأثر (اللي هما المفروض أصحاب العقيدة الصحيحة واللي معاهم أدلة صحتها، وحافظين طرق الفهم السنيّة اللي سهل جدا تشوف وضع المصريين ده وتقرر بطلانه ببساطة).
اول محور لخطة العمل الأشعرية في مصر كان: مزاحمة القبور والأضرحة الشيعية بأخرى سنيّة لعموم الأولياء والصالحين، مع التركيز على بناء المساجد وإقامة الشعائر والعبادات حولها:
- إزيك يا مصري وإزي بابا، رايح قبر مين النهارده؟؟
= إزيك يا شيخ وحيد، رايح قبر جدّو الحسين.
- طب ما إيه رأيك نروح المرة دي قبر عمو الإمام الشافعي ونصلي كمان هناك؟!
= إيه دا هو اتعمل له ضريح هو كمان؟؟، طب يلا بينا، أنا بحب عمو الإمام الشافعي جدا.
فأصبحت الأضرحة مجالها أوسع بكتير من نطاق الرموز الشيعية، وبقى فيه البدوي والمرسي والقناوي والدسوقي والشاذلي وفرح كبير أوي بقى. الموضوع مبقاش قاصر على "آل بيت النبي" فقط، ولكن على أي شخصية غير محسوبة عالشيعة ومشهود لها بالخير والصلاح بين الناس.
تاني محور وده بقى الأشد في الخطورة: شرعنة الحالة القبورية المصرية، وإثبات موافقتها الكاملة لمعتقد أهل السنة والجماعة، وإباحة أفعال الاستغاثة تحديدا، ونسبتها لمعتمدات المذاهب الفقهية الأربعة (خلي بالك إن كتير من أئمة تلك المذاهب في مصر بالذات كانوا أشاعرة المعتقد). وبقى اللي بيحصل في مصر عند القبور والأضرحة هو عمل "مشروع فقهيا" حسب آراء المذاهب الأربعة، ومن علامات حب النبي وآل بيته والأولياء والصالحين. كل فقهاء مذهب قعدوا يدوروا على مخرج فقهي لشرعنة ما يجري، والفقيه اللي يعترض أو يرفض أو يشوف أدلة تثبت بطلان الأمر= بيتحرم من امتيازات كتير أبسطها عدم الإجازة الفقهية ولغاية الحبس أو المنع من التدريس. ومع الوقت أصبحت قضية القبور والاستغاثة والتوسل من المسائل الفقهية المشهورة بين الأشاعرة في مجالسهم الفقهية واشتغالهم العلمي (خلي بالك، مسائل فقهية، وليست مسائل عقدية). فلو حد عنده أي قلق من اللي بيحصل في مصر= بيتقال له: دا عمل مشروع وفقا لآراء المذاهب الفقهية وانت مش هتفهم أكتر من الفقهاء ومش هتكون أعلم بالدين من الفقهاء.
المحور الثالث وهو: التصوف؛ التصوف المصري اللي أنتجته الحالة الأشعرية كان هدفه الرئيسي هو وراثة الوصاية عالقبور والأضرحة الشيعية وإضفاء الطابع السني عليها. لأول مرة المصريين بيشوفوا ناس بتحب آل بيت النبي أكتر من الفاطميين، ولابسين أخضر في أخضر وبيغنوا وبيعملوا موالد وأفراح عند القبور.
احنا دلوقتي في نهاية عهد الدولة الأيوبية وفي ظل العصر المملوكي، الجامع الأزهر اتفتح لكن التعصب المذهبي واكل مصر، خناقات ومشادات على أبسط الأمور في فرعيات الدين، اتهامات بالتكفير أكتر من اللي بتعملها داعش، نسيت أقولك إن الأشاعرة كانوا مشهورين تاريخيا بالتساهل في التكفير أساسا بين أهل الفرق المختلفة لأن معاركهم كانت شديدة الصراع. المسجد الواحد كان بيبقى فيه أكتر من محراب عشان الشافعية مبيصلوش ورا الأحناف. رضوى بنت الحاج بسيوني المالكي يحرم عليها تتجوز وائل ابن الحاج شاهين الحنفي. وكل ده كوم والجمود المذهبي كوم تاني، بقى خلاص شبه مستحيل إنك تغير رأي المذهب الفلاني في القضية الفلانية، لا قرآن ولا سنة ولا صحابة ولا أي حد ماليين عين "فقهاء المذاهب" الأجلاء عشان يقتنعوا إن رأيهم المذهبي في المسألة المعينة غير سليم. الفقيه واخد رأي المذهب عن شيخه بالإسناد المتصل ولا يمكن يتراجع عنه مهما بدا له من أدلة عدم صحّته. الأسانيد بتاعة الأشاعرة في الفقه بقت حاجة عاملة كده زي القرآن اللي نزل عالفقيه من غير وحي، ولا يمكن يبدّل فيه أو يغيّر منه وإلا يبقى بيحرّف في الدين. مافيش اجتهاد ولا رجوع لنصوص أصلية من قرآن وسنّة ولا حتى مراجعة لكلام المتأخرين ده وقياسه على أقوال الفقهاء المتقدمين جايز يكون غلط. أراء المذاهب الفقهية بقت هي القرآن والسنة، وكل فقيه مقتنع إن لا يمكن شيخه يكون خالف الكتاب والسنة في شيء، وانت اللي فاهم الدليل غلط بس، روح اتعلم يا شاطر عشان تفهم صح، احنا مذاهبنا زي الفل.
في ظل الوضع ده: القبور ضربت في مصر، كل حتة في البلد بقى فيها ضريح، الناس مبقتش تحس إنها بتصلي أو بتدعي غير وهما شايفين مقام أصادهم. فكرة إنك تعبد ربنا برفع إيدك للسماء كده عادي أو تكلم ربنا بغير وسيط بينك وبينه صارت غريبة عالمصريين. لازم "مدد"، لازم "شي الله يا سيد يا بدوي". الموالد والأضرحة بقى بيزورها ملايين وشعبيتهم جايبة آخر الدنيا. بقى صعب تروح قبر البدوي زي زمان خصوصا في "الموسم"، هات حاجة في إيدك وانت جاي، ادبح للمقام، متخشش عالبدوي كده بإيدك فاضية عيب. الضريح بقى هو مقصد الناس لقضاء الحاجات، بيروحله اللي عاوز يجوز بنته ويشفي ابنه ويصلح تجارته ..إلخ. بقى فيه "خدّام" للمقام، بياخدوا منك فلوس ونذور وتبرعات خرافية عشان تعدّي لصاحب المقام وتقضي حاجتك. فلوس الأوقاف المصرية وأملاكها جزء رئيسي منها يتمثل في النذور والقرابين بتاعة الأضرحة. وبقى فيه تنوع طبقي في زيارات القبور؛ الناس الأثرياء مثلا يروحوا قبر الدسوقي عشان بيدبحوا عجول، الطبقة المتوسطة تروح البدوي عشان البدوي بيحب الفراخ، الغلابة واللي معهومش فلوس بيفرقوا بليلة عند أم العواجز ماما السيدة زينب، هي طيبة ومبتاخدش كتير. أصبحت "الطرق الصوفية" وشيوخها في مصر زي قساوسة أروبا في العصور الوسطى اللي كانوا بيوزعوا صكوك الغفران بالفلوس. ظهر كمان "سلطان المنامات"، وهو إن اللي يشوف منام حلو مثلا بيروح عامل مقام والناس تيجي تزور، وكمية المقامات اللي اتعملت بسبب منامات بالعبيط في ريف مصر بالذات. وفيه أيضا سبوبة "الكرامات وخوارق العادات"، قصص بالهبل عن أساطير ومش عارف مين اللي لقوه طاير في الهواء وماشي عالمياه فيروحوا عاملين له مقام. و"أهل الله"، ودول شوية ناس عواطلية وشحاتين ومجانين كانوا بيقعدوا عند جوامع الأضرحة والمقامات ياكلوا لغاية ما بيفقدوا الوعي من شدة التخمة، والهلاوس اللي بتحصل لهم نتيجة الإعياء بيتم التعامل معها على إنها كرامات ورؤيا أنبياء وأولياء. دي كده كانت مصر السنيّة في ظل سيادة العقيدة الأشعرية. ولو فتحت بقك تعترض على أي حاجة من العك ده= تلاقي شرطة المذاهب الفقهية جاتلك فورا بالأسانيد وأقوال المتأخرين المضروبة عشان تقولك إنك غلطان.
الحالة دي بتستمر في البؤس، مع اشتداد في البدع والمنكرات، لدرجة ان بعض المحسوبين على تلك المنظومة الفقهية بيلاقوا إن الموضوع أفوَر خالص، وجمود المذاهب مانع من أي اجتهاد لتقويم الوضع الكارثي ده. كان فيه تقي الدين السبكي لو تسمع عنه، وهو فقيه شافعي، كان راجل داهية في الفقه، لكنه كان زي علي جمعة كده في الحالة الصوفية والتسلط. الراجل ده هو اللي فرض مذهب الشافعي على المصريين، قبل كده كان فيه فرصة كبيرة إنك تشوف تنوع مذهبي كبير بين أهل مصر. السبكي كان قاضي القضاة، حاجة كده زي رئيس المحكمة الدستورية العليا دلوقت، خلى مذهب الشافعي هو المعمول به في القضاء، وشدد في التضييق على أي فقيه أو عالم دين يخالف المذهب الشافعي أو حتى يرى وجاهة لرأي فقهي آخر. وكانت بتوصل للحبس عادي والحرمان من القضاء والرواتب ومجالس التدريس والإجازات والإسناد لو خالفت "سياسات" السبكي في تعميم المذهب الشافعي في مصر. لغاية ما الدولة المصرية كلها بقت شافعية المذهب، حتى لو الشعب المصري فضل فيه تنوع مذهبي ضئيل. وظل الوضع بالمنظر ده لغاية ما ظهر ابن تيمية.
مين ابن تيمية دا بقى؟!!
الراجل ده في البداية كان فقيه حنبلي عادي جدا، وكان بيلفّ بين البلدان لغاية ما جه مصر، وشاف الوضع منيل بستين نيلة. ومن ساعتها بدأ يهدّ المعبد الماسوني ده على أصحابه بالتدريج. مشروع ابن تيمية الإصلاحي كان بسيط جدا: إن كل اللي بتعملوه ده يا جدعان منكر وباطل ومخالف لصحيح القرآن والسنة وعمل الصحابة، ومافيش دليل شرعي سليم يبيح المسخرة اللي بتحصل في مصر والشام والبلدان المعكوكة زيهم دي خالص، والقبور دي أغلبها فشنك ومتاخدة من الشيعة ويحرم كل ما يجري عندها من توسل وتمسّح وتبرّك واستغاثة ونسك ودعاء لغير الله. طبعا في الأول كانوا فاكرين ابن تيمية ده عيل صغير يعني، فراحوا حابسينه على أساس يحموا المجتمع المصري من الأفكار الهدامة بتاعته. لكن للأسف الراجل ده كان عضمة ناشفة، ومحمد بيه بتاع قسم الهرم معرفش يأثر عليه عشان يتراجع عما يعتقده. بيستمر ابن تيمية في التأليف والكتابة من داخل السجن وبيأكد على بطلان وحرمة الوضع القائم، وكلامه بيوصل لناس كتير وبيأثر فيهم خصوصا في مصر والشام، وكان ليه تلامذة شطار زي ابن القيم وابن مفلح والذهبي وابن كثير اللي كانوا بينشروا كلامه وبيقنعوا بيه الناس. فاضطروا الاشاعرة يطلعوه من السجن وبدأت رحلة الجدال والمناظرة:
- بص يابن تيمية، هو انت مش متعلم فقه كويس، روح ادرس فقه عالمذاهب الاربعة وهتعرف ان احنا صح
* بيروح ابن تيمية يجيب لهم من المذاهب الأربعة نفسها ما يبطل أقوالهم، وبيركز على المتقدمين من أصحاب المذاهب لأنه عارف كويس إن المتأخرين معظمهم ضعاف. وبيأكد على إن العبرة باتباع الكتاب والسنة الصحيحة قبل أي شيء آخر سواء مذاهب أربعة أو غيرهم.
- اتعلم حديث يابن تيمية، بص آدي حديث نبوي أهو بيقول بجواز الاستغاثة
* بيثبت لهم انه حديث موضوع ومنكر واستعماله في الآلة الفقهية باطل، وبيجيب بدل الحديث الصحيح عشرة تثبت صحة موقفه، فضلا عمل السلف.
- انت مشكلتك يابن تيمية في الفهم، انت مش قادر تفهم النص كويس، روح اتعلم فلسفة ومنطق يوناني وعلم الكلام عشان تقدر تفهم النص الشرعي. تعرف تقول يابن تيمية: "بسيطة متستبسطهاش" عشر مرات ورا بعض؟
* بيروح ابن تيمية يحطّ عليهم في علوم المعقول كلها والفلسفة والكلام المجعلص اللي دايرين يتفشخروا بيه، وبيثبت أيضا بطلان تلك العلوم كأدوات للتعاطي مع النص الشرعي لا سيما في الجانب العقدي.
لغاية ما خلّوا ابن تيمية بقى زي النجم، مسابش علم إلا وضرب فيه بسهم وحطّ عليهم فيه وأثبت فساد قولهم منه. ولذلك أصبح هو "شيخ الإسلام"؛ لأنه دخل في كل المساحات اللي الأشاعرة ظنوا إنهم منفردين بعلومها وأثبت بطلان مواقفم فيها، خصوصا في السبوبة بتاعة إجماع المذاهب الأربعة على مشروعية عمل القبور والاضرحة والتوسل والاستغاثة والتبرك بها. مما اضطّر تقي الدين السبكي نفسه ينزل من برجه العاجي ويحاول يألف كتاب جديد يجمع فيه أدلة صحة الحالة القبورية المصرية وإجماع المذاهب عليها. وبرضه معرفش يقضي على "الظاهرة التيمية" اللي حطّت رجلها في مصر منذ ذلك الحين. وذاع صيت ابن تيمية واتجاهه السنّي الصحيح في مصر والشام خصوصا مع معارك التتار لما الناس بدأت لأول مرة تتخلى عن ثقتها في الأضرحة والقبور وتقف تواجه التتار؛ لأنهم عرفوا إن الميتين مش هينفعوا الأحياء، وإن الحي هو اللي بينفع الميت وليس العكس، ولو فضلوا قاعدين عند القبور فالتتار هيخشوا يخزوقوهم.
ومن وقتها والأشاعرة نقلوا مسألة القبور والأضرحة من الجانب الفقهي للجانب العقدي، مبقتش خلاص قضية فقهية، وإنما مسألة عقدية. وظهر أهل الحديث والأثر في الطرف المقابل بخط فكري ومنهجي واضح لمواجهة تلك الحالة؛ لأن مصر بقت معروفة خلاص إنها من معاقل الأشاعرة، ومُصدّرة الحالة القبورية لسائر دول العالم الإسلامي خصوصا غير العرب. فضلت الاشعرية مسيطرة على مستوى السلطة الدينية ومزاج الحكام بعد نهاية عصر المماليك ومجيء العثمانيين لمصر. العثمانيين كانوا صوفية نقشبندية أحناف ومش عرب، فمكانش فيه أحسن من مصر لاستمرار الحالة القبورية على مستوى السلطة، لكن فضلت الفكرة التيمية السنيّة لها جمهور وشعبية بتتزايد بزيادة الخرافات والمنكرات العقدية والشركيات. أول مرة تظهر فيها الحالة التيمية على مستوى السلطة كانت على يد محمد بن عبدالوهاب اللي كان شايف القرف القبوري المصري بوضوح ومسمّع عنده في الحجاز لا سيما عند القبر النبوي في ظل حكم العثمانيين. ولذلك عظمة محمد بن عبدالوهاب كانت في إنه قضى عالوجود القبوري ده تماما في الجزيرة العربية. بسبب محمد بن عبدالوهاب ده انت بتروح السعودية مبتشوفش قبر ولا ضريح ولا مولد لغاية دلوقت، حتى لو الدولة السعودية الحالية من أفسد خلق الله (قال يعني الدولة المصرية هي اللي اسم الله عليها بنت حلال أوي). يكفي إنك تروح المشاعر المقدسة متلاقيش غير قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وأهل البقيع، وكل اللي تعمله هو إنك تسلم وتصلي عالنبي وتدعيلهم وبسسسسسسس. ولو عاوز تدعي لنفسك= بتودّي وشك جهة الكعبة وتقول يارب ومافيش حاجة تاني مطلوبة منك أكتر من كده. ده الدين الخالص اللي انت نفسك هتحس بالفطرة كده إنه خالي من أي شوائب وإضافات وتعقيدات وباطل مالهومش آخر. ودي كانت لقطة محمد بن عبدالوهاب الرئيسية، إن الشركيات والقرف اللي كان معشش في مصر ميحصلوش في جزيرة العرب. التشدد بقى والنقاب والستات متركبش عربيات ..إلخ= كل دي تفاصيل فقهية وليست عقدية، أحكامها تختلف وتتراوح من بلد لبلد ومن زمن لزمن وفق أعراف الناس مافيش مشكلة.
وحتى في أواخر حكم الخلافة العثمانية وبداية عصور الاحتلال الأجنبي والحكم العسكري في بلاد المسلمين= ظلت أغلب مشاريع التحرر الإسلامية تنفر من الحالة القبورية المصرية بالذات ومش بتشوف فيها غير استمرار لكل منكر وباطل ومن ثَم استمرار البلاء. محمد بن عبدالوهاب في الحجاز ومحمد رشيد رضا ومحمد عبده في مصر وعبدالحميد بن باديس في المغرب العربي والأسرة الدهلوية والمباركفورية في الهند. بلدك مصر النهارده أحسن ألف مرة في جانب القبور والأضرحة ده عن زمان، دا مجهود شيوخ ودعاة وحتى سياسيين بالآلاف قعدوا يكنسوا البلد من الزبالة دي، لغاية ما النهارده الموالد مبقاش فيها إلا المجانين والعلمانيين وغير المسلمين واللي بيشربوا بيرة وبيتحرشوا بالستات. كل ده مجهود سنين طويلة على فكرة ومن قبل ما تظهر سردية "الغزو الوهابي" بكتير. فمتتخضش أوي لما تشوف عيل من أشاعرة مصر الجديدة والتجمع الخامس بيكلمك عن إجماع المذاهب الأربعة على مشروعية التوسل والاستغاثة وعمل القبور والاضرحة، هما واخدين عالشغلانة دي من زمان وخلاص مبقتش بتعمل مفعول وترهب الناس زي الأول. انت دلوقت أنضف بكتير من زمان على فكرة في هذا الجانب بالذات، وده بفضل الله أولا ثم بفضل اللي قعدوا ينحتوا في الصخر دول لغاية ما شالوا كتير من زبالة مصر دي، تقبل الله منهم وجزاهم عنا كل خير.
منقول