اللواء متقاعد بدر حميد من ونينه مركز سوهاج.
-- أنا من قبيلة القليعات تنتمي إلي قبائل هوارة، كبيرهم الشيخ همام بن يوسف الذي قاد الهوارة إلي ثورة في القرن الثامن عشر ضد محمد علي بك الكبير ومحمد أبوالدهب،
علمت بهذا من أبي وقراءتي والكتب التي تمجد تاريخ الهوارة الكبار.
جدي هو حميد سالم من أبو تشت بلدة الحسينات نجع قنبر،
ولدت في 4 يوليو عام 1929، وهو عيد استقلال أمريكا ولا أعرف إن كان الأمريكان سعداء بميلادي في هذا اليوم أم لا، لكن الأمر بالنسبة لي لا يفرق معي كثيراً ولا يمنحني أدني ميزة، والدي هو حميد بدر وأمي سليمة بنت الشيخ عمار عليها رحمة الله لأنني منحاز لها لأنها كانت ضعيفة وكانت تحنو علي كثيراً ومليئة بالحب والحنان، وأعتقد أنها السبب الأساسي في نجاحي. والدي رجل شديد كان الناس يخشون مقابلته وكنت أشعر بداخلي برهبة شديدة منه، وكان لي أخت وأخان محمد حميد والسيد، توفي محمد وعمره لم يتجاوز العشرين عاماً، كان تأثيره شديداً علي والدي لأنه مسئول عن العمل في الأرض وكنت أنا وأخي سيد الأكبر ندرس، فقرر والدي إخراجي من المدرسة لرعاية المنزل والأرض، إلا أن أحد أعمامي طلب منه أن يتركنا في الدراسة ومن ينجح يكمل دراسته ومن يرسب يكون هو المسئول عن رعاية المنزل والأرض، ومن حظي رسب أخي ونجحت أنا وكنت في المرحلة الابتدائية.
تعلمت في محافظة سوهاج بالمدرسة الإعدادية القديمة، وحصلت علي الابتدائية عام 1942، ثم التحقت بمدرسة فؤاد الأول الثانوية بسوهاج، وكانت المدرسة الوحيدة من أسيوط حتي أسوان وحصلت علي الثانوية العامة القسم الأدبي عام 1948.
الأول في الثانوية العامة
أذكر أنه في اليوم الذي ظهرت فيه نتيجة الثانوية العامة كان القطن الذي حصدناه من أرض والدي وأعمامي ونعيش علي إيراده قد غرق فنزلنا جميعاً لإنقاذه، وخلال جمعنا له علمت أن النتيجة ظهرت فقررت الذهاب إلي المدرسة بملابسي المبتلة بالماء والطين لإحضار الشهادة، المدرسون الذين يعرفونني أسرعوا في استقبالي وتهنئتي أما الآخرون الذين لا يعرفونني فاستهزأوا بي وبملابسي، مؤكدين أنني حتي لا أعرف "أفك الخط" أي القراءة والكتابة واستفسروا عن سبب تهنئتي، فأخبروهم أنني الأول علي القسم الأدبي وحصلت علي مجموعة 68% وأعتقد أن إضرابات عام 1948، وعدم انتظام الطلبة في المدارس هو سبب حصولي علي هذا المجموع.
وقتها كان من يحصل علي أكثر من 65% ويلتحق بالجامعة يحصل علي المجانية الكاملة ومكافأة تفوق.
حرب 1948
كانت حرب 1948 ، في ذروتها وأخذتنا الحمية جميعاً وانقسمنا فريقين .. فريق تطوع للمشاركة في الحرب وآخر التحق بالكليات العسكرية، أما بالنسبة لي تطوعت ولم أعرف حتي الآن لما لم يأخذوني، لذا قدمت أوراقي للالتحاق بالكلية الحربية.
أذكر شيئاً جميلاً فعله والدي يوم امتحانات القبول بالكلية، فخلال الامتحان التحريري أخرجوني من الكلية وإذا بي أجد والدي أمامي فسألني لما أخرجوك؟ فأخبرته بأني لا أعرف، فاقتحم الكلية ودخل حتي وصل إلي لجنة الامتحان فأقبل عليه بعض الضباط وسألوه لماذا تفعل كل ذلك؟ فقال لهم أنا والد هذا الطالب لماذا أخرجتموه من الامتحان؟ فقالوا: لأنه لم يحضر ما يثبت ملكية والده، فقال لهم: أنا والده ومع ذلك لماذا تريدون ما يثبت ملكيته؟ فقالوا حتي نتأكد من أنه يستطيع أن يدفع مصاريف الكلية، ووقتها كان المقدم حسن علي أركان حرب الكلية، وكان رجلاً خشناً ومن الضباط الذين تحدث إليهم والدي وسأله كم تبلغ مصاريف الكلية؟ فأخبره أنها 60 جنيهاً في العام فأعطاهم 180 جنيهاً مقدم ثلاث سنوات، انبهر المقدم حسن بذلك وأمر بإدخالي اللجنة لاستكمال الامتحان مرة أخري ونجحت والتحقت بالكلية.
الرئيس حسني مبارك كان يسبقني بدفعة ومن دفعته المشير أبوغزالة الذي أصبح وزيراً للدفاع وكان "أمباشي" في العنبر الذي كنت أسكن به، وخدمت أنا والمشير في المدفعية. كنا في وحدة واحدة، ومن دفعتي الفريق إبراهيم العرابي رئيس هيئة أركان حرب الجيش وكانت أكبر دفعة دخلت الكلية وتخرجت فيها لتغطي علي قتلي حرب 1948.
يوم التخرج حدث لي موقف غريب، بعد القسم نادي الميكرفون علي الطالب بدر حميد ليتوجه إلي المنصة وعندما ذهبت أدخلوني علي الفريق حيدر باشا قائد عام القوات المسلحة وكان وزير الدفاع، كانت مفاجأة لحيدر باشا نفسه، كنت أراه في الاستعراضات فقط، واللواءات في حالة ذعر فكيف بي أقف أمامه؟ وإذا به يحمل بين يديه تلغرافاً مكتوباً به "أطعن في نتيجة الكلية" والإمضاء حيدر بدر، سألني وزير الدفاع هل والدك بعث بهذا التلغراف؟
كنت وقتها مشدوداً جداً وخائفاً، فقلت له هذا غير عقلاني لأنني متخرج الآن أمام سعادتك ووالدي في سوهاج لا يعرف هل تخرجت أم لا، حتي إن التلغراف لم يبعث من سوهاج بل بعث من تلغراف العتبة، اقتنع بهذا الكلام وقال لي: اكتب ما تقوله ففعلت، وتخرجت والحمد لله وعقب التخرج قدمت نفسي لسلاح المدفعية.
بعد التخرج رجعت إلي قريتي فقابلني أحد أقاربي وقال لي مبروك "يا أمباشي" وهنا رد عليه آخر وقال، بل هو "باش شاويش" وقتها كنت سعيداً بالنجمة الوحيدة التي علي كتفي والأمر لم يفرق معي كثيراً لأنهم أهلي.
بعد التخرج التحقنا بمدرسة المدفعية وتخرجت ملازما ثانياً في كتيبة من كتائب الجيش وقتها تعرفت إلي عدد كبير من قادة الجيش مثل سعدالدين زايد الذي أصبح محافظاً للقاهرة، بعد ذلك. وعماد رشدي الذي أصبح محافظاً لبورسعيد، تخرجنا في مدرسة المدفعية أغسطس 1950، والتحقت بوحدة "الآلي الأول" أي الكتيبة الأولي المضادة للدبابات، ثم "الآلي الثاني" وقتها كانت كل الرتب أسماؤها تركية أو إنجليزية عربت بعد ذلك.
الجيش وقتها كان في حالة سيئة جداً ولم يجد عليه أي جديد والحالة النفسية للضباط والجنود كانت في الحضيض، والشائعات قوية علي أساس أن حرب 1948، كان سببها الإهمال وعدم تقدير الأمور، وقتها كان الإنجليز يحتلون القناة ودخلنا الحرب والإنجليز يعرفون كل خططنا العسكرية، فكيف ننتصر علي الإسرائيليين؟ حتي الأسلحة التي كنا نحارب بها حصلنا عليها من الجيش الإنجليزي، صحيح أنا لم أشارك في الحرب، ولكن بعد تخرجي احتككت بالعديد من الزملاء الذين قصوا علينا ما حدث لهم مما زادنا حسرة.
منشورات الأحرار
كنا نحن جزءاً من مدفعية الفرقة الثانية وفي أوائل عام 1951، بدأت ترسل إلينا رسائل من الضباط الأحرار ـ وأنا ملازم ثان ـ تضم العديد من الجمل الحماسية وتكشف بعض قضايا الفساد، التي تمر بها مصر في هذا الوقت، أول خطاب أرسل لي أخذته وعرضته علي زميلي في الفرقة يوسف زين العابدين، فأخبرني أن رئيس الضباط الأحرار في مدفعية الفرقة "اليوزباشي" محمد أبوالفضل الجيزاوي، وذهبنا معاً إليه، وأخبرناه بأمر الخطابات وعلي طريقة الفيلم السينمائي قال لنا: اذهبوا أنتم من الأحرار.
وقتها تساءلت في نفسي بعد خروجنا من مكتبه لما لا يكون الجنود أيضاً من الأحرار لماذا القادة فقط؟ نظراً للدور الذي لعبوه لأنني أري أن الأحرار هم أبناء مصر الباحثون عن مصلحة البلد وليس الباحثون عن وسائل لنهبها.
بعد ذلك عندما كانت تأتي إلينا المنشورات كنا نأخذها أنا وزميلي يوسف والصاغ جلال محمد زكي والملازم محمد المكاوي ونقرأها في مكتب رئيس الوحدة، وفي الوحدات المجاورة لنا كان هناك آخرون في نفس التنظيم لم نكن نعلم عنهم شيئاً، ولكن عندما أصبحت من رجال المخابرات علمت بالطريقة العنقودية، حيث كل قائد كتيبة يعرف القائد الآخر وبعض الأعضاء وهكذا اعتدنا بعد ذلك علي قراءة المنشورات لندرك ما يحدث في مصر.
حريق القاهرة
في يوم 25 يناير 1952، حدث أن ضرب الإنجليز قوات الشرطة في الإسماعيلية، وفي اليوم التالي اندلع حريق القاهرة وضربت قوات الأمن المركزي كنا نحن في مكان عملنا في ألماظة، وشاهدنا الحريق والحقيقة تأثرنا كثيراً عندما رأينا مصر تحترق، وقادة الجيش مدعوون للغداء في منزل الملك فاروق احتفالاً لإنجابه فؤاد ولي العهد، كنا في حالة ثورة وبكاء شديدين وفي الساعة الخامسة مساء أو بعد انتهاء الحفل، وعندما عاد القادة إلي مواقعهم صدر أمر طوارئ للبلد ونزلنا لإطفاء الحريق ومنعنا المرور إلي أن استقرت حال البلد.
وفي هذه الفترة حدثت تغيرات كثيرة في البلد وتغيرت ست وزارات خلال ستة أشهر من يناير 1952، وحتي يوليو من نفس العام وقامت العديد من مظاهرات الطلبة.
كانت حالتنا النفسية محطمة وفي حالة غضب شديد من الحكومة التي عجزت عن معرفة المسئول عن حريق القاهرة، وكنا مستعدين لفعل أي شيء.
وفي يوم 21 يوليو حضر إلينا في الوحدة "الأمباشي" كمال الدين حسين وحسين الشافعي من سلاح الفرسان وأخبرانا بأسماء الضباط الأحرار وتقرر أن تكون ليلة 32 يوليو قبل الساعة 12مساء هو يوم الثورة لذا يجب أن يحتوي الجيش البلد قبل منتصف الليل.
قابلنا اللواء محمد أبوالفضل الجيزاوي رئيس الوحدة وأخبرنا أن هناك اجتماعاً في بيت اليوزباشي حسين عبدالخالق بمصر الجديدة في مساء يوم 21 يوليو، واشترط علينا السرية التامة في طريقة الدخول والخروج حتي لا نلفت إلينا الأنظار.
كان يرأس الاجتماع الصاغ كمال الدين حسين برغم حضور اللواء عبدالمنعم أمين وكانت رتبته أعلي منه، فنحن في هذا الوقت لم نعد نهتم كثيراً بالرتب بل أصبحنا جميعاً شخصاً واحداً.
ليلة 23 يوليو 1952
عقب الاجتماع تم توزيع الأدوار بيننا، وفي يوم 22 يوليو الساعة العاشرة مساء ذهبت أنا والملازم عبدالرحمن عبدالعال الذي أصبح فيما بعد مديراً لنوادي الجيش ونائب محافظ القاهرة لإحضار الملازم حسن، وكان بيته فيلا مجاورة لسرايا الطاهرة، وفي منزله وأثناء جلوسنا لانتظاره وجدنا سيارة من سلاح الطيران تقف أمام المنزل ونزل منها أخوه نقيب كمال محمود، ودخل علي حسن في حجرة نومه وتشاجر معه لرفضه ذهابه ومشاركته في الثورة، لأنه هو وزملاءه يرفضون ذلك، وكان الخلاف بينهما قوياً جداً فخفنا من الفضيحة وتركنا المنزل وذهبنا إلي مواقعنا.
وكان رجال الثورة خائفين من أن يقف سلاح الحدود إلي جانب الملك لذا كان الاهتمام بهم قوياً جداً، وكلف عدد من زملائي بمراقبة تحركات سلاح الحدود وبالفعل صدق حدسهم فبعد انتهاء الثورة هرب قائد سلاح الحدود إلي ليبيا وقبض عليه علي الحدود المصرية ـ الليبية، لذا كانت السيطرة علي كل مواقع ضباط سلاح الحدود موضوعاً مهماً جداً.
بالنسبة لي كنت مسئولاً عن منطقة شمال الكلية الحربية ومكلفاً بغلق الطريق أمام قوات "هايكستب" المهم أغلقت الطريق، وأذكر أن أول صور لحصار قصر عابدين كانت صوراً لمدافع صديقي يوسف بدر الذي كان مكلفاً بحصار قصر عابدين.
كنت وقتها في وضع الاستعداد وأغلقت الطريق بحيث لا يسمح لأي أحد بالمرور مهما كان إلا إذا كان يعرف كلمة السر "نصر"، لذا سميت مدينة نصر تيمناً باسم كلمة سر الليل ليلة 23 يوليو، وفي تمام الساعة الرابعة فجراً وجدت حوالي عشرين سيارة نقل ثقيل محملة بذخيرة وجنود، فأمرت جنودي بالاستعداد وتقدمت بداية القوة فوجدت بها صاغاً وكان أعلي رتبة مني، فأمرته بالرجوع وأخبرته بأنه إذا لم يفعل ذلك سيدمر هو وكل هذا الفوج التابع له، بعد مشاجرة قوية بيننا أخبرني بكلمة السر وبأنه ذاهب إلي إدارة الجيش الجديدة، وهي كلمة السر الخاصة بقيادة الثورة.
كانت التعليمات لدينا أي ضابط رتبته مقدم فأعلي يقبض عليه ويحول لإدارة الجيش بالكلية الفنية العسكرية، حيث حولت إلي معتقل للضباط الكبار، المهم عقب ذلك بعدد من السنوات وبعد انتقالي إلي المخابرات العامة حضرنا احتفالية في شهر رمضان فقابلته وتعارفنا وعلمت أنه أصبح سفيراً.
ظللت ساهراً طوال الليل في موقعي ومع بداية الصباح رأيت "اليوزباشي" محسن صالح قائدي مقبلاً، وهو يهنئني بنجاح الثورة وقال لي: إن الجيش جميعه أصبح تحت سيطرة الضباط الأحرار، وأمرني بترك موقعي والذهاب إلي قصر عابدين فرفضت حتي أتلقي الأوامر من رؤسائي وفي نهاية النهار تلقيت التعليمات باستلام الوحدة وبدأت الحياة بعد الثورة.
لقاء مجلس الثورة
وعقب الثورة طلب مني إنهاء أوراق الوصاية علي العرش من مجلس الثورة فذهبت إلي هناك وقابلت كمال الدين حسين فأدخلني أثناء انعقاد المجلس، وكانوا يسألونني ماذا حدث وأنا أجيب ووقتها لاحظت أن الذي يرأس مجلس الثورة هو جمال عبدالناصر، أما اللواء محمد نجيب فكان يدخل من حين لآخر للتعليق علي كلامي ويخرج فأدركت وقتها أن محمد نجيب لم يكن هو قائد الثورة ورئيس المجلس.
وظهرت عقب ذلك الخلافات بين محمد نجيب ومجلس الثورة، إلا أنني أري أن محمد نجيب لم يكن يستحق ما فعل به، لأن الثورة قامت باسمه وضحي كثيراً لأجلها ونحن كنا نحتمي به والبلد والجيش شاركوا معنا علي أساس أن رئيسنا محمد نجيب لواء له تاريخ معروف بين قادة الجيش، منذ أن رشح نفسه رئيساً لنادي الضباط ونجح ووقف ضد الملك فاروق، حتي قام الملك فاروق بحل نادي الضباط لأجل محمد نجيب.
وكنت أنا واحداً من ضباط المدفعية الذين انتخبوا محمد نجيب رئيساً للنادي، أصبنا جميعاً بخيبة أمل شديدة فيما فعلته الثورة في اللواء محمد نجيب، فبدلاً من تكريمه لأنه كان سبباً في تكريم مصر ظلمناه، نتيجة لكل هذه الخلافات أصيب الشعب والجيش بحالة اكتئاب شديدة ازدادت حدتها بعد نكسة 1967.
-- أنا من قبيلة القليعات تنتمي إلي قبائل هوارة، كبيرهم الشيخ همام بن يوسف الذي قاد الهوارة إلي ثورة في القرن الثامن عشر ضد محمد علي بك الكبير ومحمد أبوالدهب،
علمت بهذا من أبي وقراءتي والكتب التي تمجد تاريخ الهوارة الكبار.
جدي هو حميد سالم من أبو تشت بلدة الحسينات نجع قنبر،
ولدت في 4 يوليو عام 1929، وهو عيد استقلال أمريكا ولا أعرف إن كان الأمريكان سعداء بميلادي في هذا اليوم أم لا، لكن الأمر بالنسبة لي لا يفرق معي كثيراً ولا يمنحني أدني ميزة، والدي هو حميد بدر وأمي سليمة بنت الشيخ عمار عليها رحمة الله لأنني منحاز لها لأنها كانت ضعيفة وكانت تحنو علي كثيراً ومليئة بالحب والحنان، وأعتقد أنها السبب الأساسي في نجاحي. والدي رجل شديد كان الناس يخشون مقابلته وكنت أشعر بداخلي برهبة شديدة منه، وكان لي أخت وأخان محمد حميد والسيد، توفي محمد وعمره لم يتجاوز العشرين عاماً، كان تأثيره شديداً علي والدي لأنه مسئول عن العمل في الأرض وكنت أنا وأخي سيد الأكبر ندرس، فقرر والدي إخراجي من المدرسة لرعاية المنزل والأرض، إلا أن أحد أعمامي طلب منه أن يتركنا في الدراسة ومن ينجح يكمل دراسته ومن يرسب يكون هو المسئول عن رعاية المنزل والأرض، ومن حظي رسب أخي ونجحت أنا وكنت في المرحلة الابتدائية.
تعلمت في محافظة سوهاج بالمدرسة الإعدادية القديمة، وحصلت علي الابتدائية عام 1942، ثم التحقت بمدرسة فؤاد الأول الثانوية بسوهاج، وكانت المدرسة الوحيدة من أسيوط حتي أسوان وحصلت علي الثانوية العامة القسم الأدبي عام 1948.
الأول في الثانوية العامة
أذكر أنه في اليوم الذي ظهرت فيه نتيجة الثانوية العامة كان القطن الذي حصدناه من أرض والدي وأعمامي ونعيش علي إيراده قد غرق فنزلنا جميعاً لإنقاذه، وخلال جمعنا له علمت أن النتيجة ظهرت فقررت الذهاب إلي المدرسة بملابسي المبتلة بالماء والطين لإحضار الشهادة، المدرسون الذين يعرفونني أسرعوا في استقبالي وتهنئتي أما الآخرون الذين لا يعرفونني فاستهزأوا بي وبملابسي، مؤكدين أنني حتي لا أعرف "أفك الخط" أي القراءة والكتابة واستفسروا عن سبب تهنئتي، فأخبروهم أنني الأول علي القسم الأدبي وحصلت علي مجموعة 68% وأعتقد أن إضرابات عام 1948، وعدم انتظام الطلبة في المدارس هو سبب حصولي علي هذا المجموع.
وقتها كان من يحصل علي أكثر من 65% ويلتحق بالجامعة يحصل علي المجانية الكاملة ومكافأة تفوق.
حرب 1948
كانت حرب 1948 ، في ذروتها وأخذتنا الحمية جميعاً وانقسمنا فريقين .. فريق تطوع للمشاركة في الحرب وآخر التحق بالكليات العسكرية، أما بالنسبة لي تطوعت ولم أعرف حتي الآن لما لم يأخذوني، لذا قدمت أوراقي للالتحاق بالكلية الحربية.
أذكر شيئاً جميلاً فعله والدي يوم امتحانات القبول بالكلية، فخلال الامتحان التحريري أخرجوني من الكلية وإذا بي أجد والدي أمامي فسألني لما أخرجوك؟ فأخبرته بأني لا أعرف، فاقتحم الكلية ودخل حتي وصل إلي لجنة الامتحان فأقبل عليه بعض الضباط وسألوه لماذا تفعل كل ذلك؟ فقال لهم أنا والد هذا الطالب لماذا أخرجتموه من الامتحان؟ فقالوا: لأنه لم يحضر ما يثبت ملكية والده، فقال لهم: أنا والده ومع ذلك لماذا تريدون ما يثبت ملكيته؟ فقالوا حتي نتأكد من أنه يستطيع أن يدفع مصاريف الكلية، ووقتها كان المقدم حسن علي أركان حرب الكلية، وكان رجلاً خشناً ومن الضباط الذين تحدث إليهم والدي وسأله كم تبلغ مصاريف الكلية؟ فأخبره أنها 60 جنيهاً في العام فأعطاهم 180 جنيهاً مقدم ثلاث سنوات، انبهر المقدم حسن بذلك وأمر بإدخالي اللجنة لاستكمال الامتحان مرة أخري ونجحت والتحقت بالكلية.
الرئيس حسني مبارك كان يسبقني بدفعة ومن دفعته المشير أبوغزالة الذي أصبح وزيراً للدفاع وكان "أمباشي" في العنبر الذي كنت أسكن به، وخدمت أنا والمشير في المدفعية. كنا في وحدة واحدة، ومن دفعتي الفريق إبراهيم العرابي رئيس هيئة أركان حرب الجيش وكانت أكبر دفعة دخلت الكلية وتخرجت فيها لتغطي علي قتلي حرب 1948.
يوم التخرج حدث لي موقف غريب، بعد القسم نادي الميكرفون علي الطالب بدر حميد ليتوجه إلي المنصة وعندما ذهبت أدخلوني علي الفريق حيدر باشا قائد عام القوات المسلحة وكان وزير الدفاع، كانت مفاجأة لحيدر باشا نفسه، كنت أراه في الاستعراضات فقط، واللواءات في حالة ذعر فكيف بي أقف أمامه؟ وإذا به يحمل بين يديه تلغرافاً مكتوباً به "أطعن في نتيجة الكلية" والإمضاء حيدر بدر، سألني وزير الدفاع هل والدك بعث بهذا التلغراف؟
كنت وقتها مشدوداً جداً وخائفاً، فقلت له هذا غير عقلاني لأنني متخرج الآن أمام سعادتك ووالدي في سوهاج لا يعرف هل تخرجت أم لا، حتي إن التلغراف لم يبعث من سوهاج بل بعث من تلغراف العتبة، اقتنع بهذا الكلام وقال لي: اكتب ما تقوله ففعلت، وتخرجت والحمد لله وعقب التخرج قدمت نفسي لسلاح المدفعية.
بعد التخرج رجعت إلي قريتي فقابلني أحد أقاربي وقال لي مبروك "يا أمباشي" وهنا رد عليه آخر وقال، بل هو "باش شاويش" وقتها كنت سعيداً بالنجمة الوحيدة التي علي كتفي والأمر لم يفرق معي كثيراً لأنهم أهلي.
بعد التخرج التحقنا بمدرسة المدفعية وتخرجت ملازما ثانياً في كتيبة من كتائب الجيش وقتها تعرفت إلي عدد كبير من قادة الجيش مثل سعدالدين زايد الذي أصبح محافظاً للقاهرة، بعد ذلك. وعماد رشدي الذي أصبح محافظاً لبورسعيد، تخرجنا في مدرسة المدفعية أغسطس 1950، والتحقت بوحدة "الآلي الأول" أي الكتيبة الأولي المضادة للدبابات، ثم "الآلي الثاني" وقتها كانت كل الرتب أسماؤها تركية أو إنجليزية عربت بعد ذلك.
الجيش وقتها كان في حالة سيئة جداً ولم يجد عليه أي جديد والحالة النفسية للضباط والجنود كانت في الحضيض، والشائعات قوية علي أساس أن حرب 1948، كان سببها الإهمال وعدم تقدير الأمور، وقتها كان الإنجليز يحتلون القناة ودخلنا الحرب والإنجليز يعرفون كل خططنا العسكرية، فكيف ننتصر علي الإسرائيليين؟ حتي الأسلحة التي كنا نحارب بها حصلنا عليها من الجيش الإنجليزي، صحيح أنا لم أشارك في الحرب، ولكن بعد تخرجي احتككت بالعديد من الزملاء الذين قصوا علينا ما حدث لهم مما زادنا حسرة.
منشورات الأحرار
كنا نحن جزءاً من مدفعية الفرقة الثانية وفي أوائل عام 1951، بدأت ترسل إلينا رسائل من الضباط الأحرار ـ وأنا ملازم ثان ـ تضم العديد من الجمل الحماسية وتكشف بعض قضايا الفساد، التي تمر بها مصر في هذا الوقت، أول خطاب أرسل لي أخذته وعرضته علي زميلي في الفرقة يوسف زين العابدين، فأخبرني أن رئيس الضباط الأحرار في مدفعية الفرقة "اليوزباشي" محمد أبوالفضل الجيزاوي، وذهبنا معاً إليه، وأخبرناه بأمر الخطابات وعلي طريقة الفيلم السينمائي قال لنا: اذهبوا أنتم من الأحرار.
وقتها تساءلت في نفسي بعد خروجنا من مكتبه لما لا يكون الجنود أيضاً من الأحرار لماذا القادة فقط؟ نظراً للدور الذي لعبوه لأنني أري أن الأحرار هم أبناء مصر الباحثون عن مصلحة البلد وليس الباحثون عن وسائل لنهبها.
بعد ذلك عندما كانت تأتي إلينا المنشورات كنا نأخذها أنا وزميلي يوسف والصاغ جلال محمد زكي والملازم محمد المكاوي ونقرأها في مكتب رئيس الوحدة، وفي الوحدات المجاورة لنا كان هناك آخرون في نفس التنظيم لم نكن نعلم عنهم شيئاً، ولكن عندما أصبحت من رجال المخابرات علمت بالطريقة العنقودية، حيث كل قائد كتيبة يعرف القائد الآخر وبعض الأعضاء وهكذا اعتدنا بعد ذلك علي قراءة المنشورات لندرك ما يحدث في مصر.
حريق القاهرة
في يوم 25 يناير 1952، حدث أن ضرب الإنجليز قوات الشرطة في الإسماعيلية، وفي اليوم التالي اندلع حريق القاهرة وضربت قوات الأمن المركزي كنا نحن في مكان عملنا في ألماظة، وشاهدنا الحريق والحقيقة تأثرنا كثيراً عندما رأينا مصر تحترق، وقادة الجيش مدعوون للغداء في منزل الملك فاروق احتفالاً لإنجابه فؤاد ولي العهد، كنا في حالة ثورة وبكاء شديدين وفي الساعة الخامسة مساء أو بعد انتهاء الحفل، وعندما عاد القادة إلي مواقعهم صدر أمر طوارئ للبلد ونزلنا لإطفاء الحريق ومنعنا المرور إلي أن استقرت حال البلد.
وفي هذه الفترة حدثت تغيرات كثيرة في البلد وتغيرت ست وزارات خلال ستة أشهر من يناير 1952، وحتي يوليو من نفس العام وقامت العديد من مظاهرات الطلبة.
كانت حالتنا النفسية محطمة وفي حالة غضب شديد من الحكومة التي عجزت عن معرفة المسئول عن حريق القاهرة، وكنا مستعدين لفعل أي شيء.
وفي يوم 21 يوليو حضر إلينا في الوحدة "الأمباشي" كمال الدين حسين وحسين الشافعي من سلاح الفرسان وأخبرانا بأسماء الضباط الأحرار وتقرر أن تكون ليلة 32 يوليو قبل الساعة 12مساء هو يوم الثورة لذا يجب أن يحتوي الجيش البلد قبل منتصف الليل.
قابلنا اللواء محمد أبوالفضل الجيزاوي رئيس الوحدة وأخبرنا أن هناك اجتماعاً في بيت اليوزباشي حسين عبدالخالق بمصر الجديدة في مساء يوم 21 يوليو، واشترط علينا السرية التامة في طريقة الدخول والخروج حتي لا نلفت إلينا الأنظار.
كان يرأس الاجتماع الصاغ كمال الدين حسين برغم حضور اللواء عبدالمنعم أمين وكانت رتبته أعلي منه، فنحن في هذا الوقت لم نعد نهتم كثيراً بالرتب بل أصبحنا جميعاً شخصاً واحداً.
ليلة 23 يوليو 1952
عقب الاجتماع تم توزيع الأدوار بيننا، وفي يوم 22 يوليو الساعة العاشرة مساء ذهبت أنا والملازم عبدالرحمن عبدالعال الذي أصبح فيما بعد مديراً لنوادي الجيش ونائب محافظ القاهرة لإحضار الملازم حسن، وكان بيته فيلا مجاورة لسرايا الطاهرة، وفي منزله وأثناء جلوسنا لانتظاره وجدنا سيارة من سلاح الطيران تقف أمام المنزل ونزل منها أخوه نقيب كمال محمود، ودخل علي حسن في حجرة نومه وتشاجر معه لرفضه ذهابه ومشاركته في الثورة، لأنه هو وزملاءه يرفضون ذلك، وكان الخلاف بينهما قوياً جداً فخفنا من الفضيحة وتركنا المنزل وذهبنا إلي مواقعنا.
وكان رجال الثورة خائفين من أن يقف سلاح الحدود إلي جانب الملك لذا كان الاهتمام بهم قوياً جداً، وكلف عدد من زملائي بمراقبة تحركات سلاح الحدود وبالفعل صدق حدسهم فبعد انتهاء الثورة هرب قائد سلاح الحدود إلي ليبيا وقبض عليه علي الحدود المصرية ـ الليبية، لذا كانت السيطرة علي كل مواقع ضباط سلاح الحدود موضوعاً مهماً جداً.
بالنسبة لي كنت مسئولاً عن منطقة شمال الكلية الحربية ومكلفاً بغلق الطريق أمام قوات "هايكستب" المهم أغلقت الطريق، وأذكر أن أول صور لحصار قصر عابدين كانت صوراً لمدافع صديقي يوسف بدر الذي كان مكلفاً بحصار قصر عابدين.
كنت وقتها في وضع الاستعداد وأغلقت الطريق بحيث لا يسمح لأي أحد بالمرور مهما كان إلا إذا كان يعرف كلمة السر "نصر"، لذا سميت مدينة نصر تيمناً باسم كلمة سر الليل ليلة 23 يوليو، وفي تمام الساعة الرابعة فجراً وجدت حوالي عشرين سيارة نقل ثقيل محملة بذخيرة وجنود، فأمرت جنودي بالاستعداد وتقدمت بداية القوة فوجدت بها صاغاً وكان أعلي رتبة مني، فأمرته بالرجوع وأخبرته بأنه إذا لم يفعل ذلك سيدمر هو وكل هذا الفوج التابع له، بعد مشاجرة قوية بيننا أخبرني بكلمة السر وبأنه ذاهب إلي إدارة الجيش الجديدة، وهي كلمة السر الخاصة بقيادة الثورة.
كانت التعليمات لدينا أي ضابط رتبته مقدم فأعلي يقبض عليه ويحول لإدارة الجيش بالكلية الفنية العسكرية، حيث حولت إلي معتقل للضباط الكبار، المهم عقب ذلك بعدد من السنوات وبعد انتقالي إلي المخابرات العامة حضرنا احتفالية في شهر رمضان فقابلته وتعارفنا وعلمت أنه أصبح سفيراً.
ظللت ساهراً طوال الليل في موقعي ومع بداية الصباح رأيت "اليوزباشي" محسن صالح قائدي مقبلاً، وهو يهنئني بنجاح الثورة وقال لي: إن الجيش جميعه أصبح تحت سيطرة الضباط الأحرار، وأمرني بترك موقعي والذهاب إلي قصر عابدين فرفضت حتي أتلقي الأوامر من رؤسائي وفي نهاية النهار تلقيت التعليمات باستلام الوحدة وبدأت الحياة بعد الثورة.
لقاء مجلس الثورة
وعقب الثورة طلب مني إنهاء أوراق الوصاية علي العرش من مجلس الثورة فذهبت إلي هناك وقابلت كمال الدين حسين فأدخلني أثناء انعقاد المجلس، وكانوا يسألونني ماذا حدث وأنا أجيب ووقتها لاحظت أن الذي يرأس مجلس الثورة هو جمال عبدالناصر، أما اللواء محمد نجيب فكان يدخل من حين لآخر للتعليق علي كلامي ويخرج فأدركت وقتها أن محمد نجيب لم يكن هو قائد الثورة ورئيس المجلس.
وظهرت عقب ذلك الخلافات بين محمد نجيب ومجلس الثورة، إلا أنني أري أن محمد نجيب لم يكن يستحق ما فعل به، لأن الثورة قامت باسمه وضحي كثيراً لأجلها ونحن كنا نحتمي به والبلد والجيش شاركوا معنا علي أساس أن رئيسنا محمد نجيب لواء له تاريخ معروف بين قادة الجيش، منذ أن رشح نفسه رئيساً لنادي الضباط ونجح ووقف ضد الملك فاروق، حتي قام الملك فاروق بحل نادي الضباط لأجل محمد نجيب.
وكنت أنا واحداً من ضباط المدفعية الذين انتخبوا محمد نجيب رئيساً للنادي، أصبنا جميعاً بخيبة أمل شديدة فيما فعلته الثورة في اللواء محمد نجيب، فبدلاً من تكريمه لأنه كان سبباً في تكريم مصر ظلمناه، نتيجة لكل هذه الخلافات أصيب الشعب والجيش بحالة اكتئاب شديدة ازدادت حدتها بعد نكسة 1967.