الشعب التونسي
يؤلف الشعب التونسي كلا متجانسا بمكوّناته الاجتماعية والثقافية المنصهرة عبر العصور. ويبدي التونسي اعتزازا بجنسيته لا يقلّ عن اعتزازه بأصله. كما يبدي اهتماما بكلّ ما يحيي فيه جذور العرقيّة والعائليّة، من ذلك خاصّة شجرة النسب التي يؤكّد بها شيخ القبيلة أو العائلة انتماء الأفراد إلى وليّ صالح أو إلى بلد عريق أو إلى نسب شريف يرتفع إلى أحد الخلفاء الراشدين فإلى الرسول (ص). والغالب دائما هو الأصل العربي ودين الاسلام. والطريف التنصيص على الهجرة سواء من الجزيرة العربية أو من الساقية الحمراء في الصحراء الغربيّة الافريقيّة. والحال أنّ أكثر الأولياء الصالحين في اعتقاد العامّة مغاربة، حتى لكأنّ بركة هؤلاء من بركة أولئك!
ولئن حافظ العنصران التركي والأندلسي على تميّزهما فإنّ ألقاب العائلات تكشف عن عناصر بشريّة عديدة ومختلفة وإنّ تصاهرت وتآلفت وتثاقفت. ويفسّر التاريخ حضورها بأحداث هامة كحملة سنان باشا على الإسبان والهجرات الأندلسية الأخيرة منها خاصة (بداية القرن 17) وكذلك بالنسبة إلى الهلاليين والطرابلسيين والجزائريين وحتّى الأوروبيين واليهود.
الاستيطان البشري في فترة الحضارة القبصية ما قبل التاريخ
العنصر البربري
ولكنّ الاستيطان البشري في البلاد التونسية أقدم من تاريخ العناصر المذكورة بدليل مستوطنات ما قبل التاريخ المكتشفة في قفصة ودكّانة الخطيفة وسيدي الزين ووادي الزوارع وغيرها. وانطلقت البداية الرسميّة في البحوث الإناسية والعرقية مع البربر باعتبارهم أصل سكّان تونس وكامل الشمال الإفريقي بفرعي البتر والبرانس. واختلفت النظريات في أصولهم وهجراتهم قبل استقرارهم. وثمّة من رجح أنهم عرب قدامى جاؤوا من اليمن والحجاز. تلك نظريّة ابن خلدون وقد أخذ بها بعض المعاصرين. وقد آلت السلطة إلى أصيلي البلاد الخلّص من المغاربة ذوي الجذور البربريّة عند قيام دولة المرابطين بزعامة يوسف بن تاشفين ودولة الموحّدين بزعامة عبد المؤمن بن علي بالنسبة إلى إفريقية والمغرب، وحتى دولتي أتباعهم الخراسانيين والحفصيين في إفريقية. والملاحظ أن ّ اندماج البربر في من غزاهم كان أبلغ في الجهات الساحلية والسهول وبلاد الجريد منه في جهات الجنوب والمرتفعات حيث مازالت القرى البربريّة تحافظ على تراثها خاصّة قبائل ورغمّة ومطماطة.
العنصر الزنجي
كان من أوّل الغزاة الفينيقيون الذين أسّسوا قرطاج وجلبوا الزنوج من السودان وبلاد النوبة وقصدهم بعض اليهود. وتواصل قدوم هؤلاء إلى أن أصبحوا يؤلّفون عنصرا مهمّا من السكّان. وكان من الطبيعي أن يؤثّر كلّ عنصر في الآخر ويتأثّر به بما ساعد على تطوير الحضارة الفينيقية في صبغة قرطاجيّة إفريقية ميّزتها عن أصلها الكنعاني في صور.
الفترة الرومانية
وباستيلاء الرومان على البلاد قدم مهاجرون من روما أسهموا في "رومنة" الأرياف حتّى في مستوى أسماء الأشخاص من البربر. ولئن اقتدى هؤلاء بالغالب في العمارة والتقاليد فقد فضّل بعضهم اليهوديّة على الوثنيّة تأثّرا باليهود الذين أجلاهم الامبراطور الروماني تيتوس عن معبدهم ببيت المقدس سنة 70م بعد أنّ هدمه. وبذلك فسّر المؤرّخ حسن حسني عبد الوهاب وجود بعض اليهود البدو الذين كانوا يعيشون ويلبسون مثل البرابرة الذين اعتنقوا الاسلام في باجة وتستور والسرس والأعراض وجربة، وهو ما أثبته ش. منشيكور (Charles Monchicourt). كما لاحظ التجاني في رحلته التي قام بها أوّل القرن 8هـ/14م أنّ أهل توزر من بقايا الروم الذين كانوا بإفريقية قبل مجيء المسلمين، وكذلك سائر بلاد الجريد، لأنّ أهلها عند قدوم الفاتحين أسلموا وفيهم من العرب الذين سكنوها بعد الفتح، وفيهم أيضا من البربر الذين دخلوها في قديم الزمان. وقد كان القادة المسلمون متسامحين مع تلك العناصر المحافظة على معتقداتها وعاداتها مقابل دفع الجزية والانضباط والتمتّع بحقّ الحماية. لذلك أمكن العثور في الجنوب الغربي على بعض خصائص الجنس الإغريقي بين السكّان.
ومنذ الانتشار العربي توافدت على البلاد أجناس متنوّعة قادمة من مختلف البلدان التي فتحها العرب. من ذلك قبائل يمنيّة وحجازيّة وشاميّة شاركت في نشر الاسلام. وعلى سبيل المثال فقد استقرّت بباجة قبائل بني سعد وقريش وربيعة وقضاعة إلى جانب الجند العبّاسي والطائفة المسيحيّة التي ظلّت محتفظة بكنيستها إلى زمن البكري (ق 5هـ/11م) وإلى جانب أصيلي المكان المحتفظين إلى اليوم باسم الأفارق. وقد ذكر البكري في شأن الغزوة الخامسة التي قادها حسّان بن النعمان الغسّاني سنة 76هـ/695م أنّ عبد الملك بن مروان كتب إلى أخيه عبد العزيز، والي مصر، أنّ يوجّه إلى معسكر تونس ألف قبطي بأهاليهم وأولادهم، وأن يحملهم من مصر ويحسن عونهم حتى يصلوا إلى ترشيش، وهي تونس، وكتب إلى ابن النعمان يأمره أنّ يبني لهم دار صناعة تكون قوّة وعدّة للمسلمين... فتمّ توزيعهم على تونس ورادس وقرطاج.
وتواصل توافد العرب والفرس والمصريين والشاميين على إفريقية في مناسبات أخرى لاعمارها بالمسلمين، لكنّ البربر قاوموهم حتىّ هجروا قراهم فاضطرّ موسى بن نصير إلى جلب عدد آخر من العرب المشارقة سنة 88هـ/707م، على ما ذكره ابن الشبّاط. ومن تلك القرى المحيطة بالعاصمة القيروان آنذاك الأنصارين نسبة إلى الأنصار وشراحيل أصيلة اليمن.
أمّا في عهد الدولة الفاطميّة فإنّ أمراءها الشيعة لم يشجّعوا هجرة القبائل العربية إلى إفريقية خوفا على مذهبهم الذي وجدوا أنّ البربر أحسن تقبّلا له من العرب. والحقّ أنّ ذلك لم يكن لسبب متعلّق بجوهر المعتقد، بل كان ردّ فعل على سياسة القادة العرب من الولاة وأمراء بني الأغلب تجاه البربر، تلك السياسة التي لم يكن حسن المعاملة مبدأها الدائم.
وفي عهد الدولة الصنهاجيّة كان أغلب أمّهات أمرائها مسيحيّات. وهذا يدلّ على عدد المسيحيين القادمين على إفريقية من الشرق والغرب. وقد انعكس حضورهنّ على شعر تميم بن المعزّ، الأمير الصنهاجي. وكانت حاضنة جدّه باديس مسيحيّة. وكان ابن أخيها بالمهدية مثلها. أمّا اليهود فقد تضاعف عددهم حتّى أصبح لهم بالقيروان حيّ خاص يعرف بحارة خيبر. وتعني الحارة في العبريّة الحيّ. وليس من الضروري أنّ يكونوا أصيلي قريتهم شمالي المدينة المنوّرة بعد تعميم صفة خيبري على جميع اليهود في البلاد الإسلامية. وستكون لهم حارات في تونس وغيرها من مستقرّاتهم. وقد نبغت من يهود القيروان عائلة العزار التي امتهنت الطبّ وترجمة المصنّفات فيه، على حين تخصّصوا بالمدن الأخرى في التجارة وخاصة تجارة المصوغ والقماش.
ومن أهمّ الأحداث التي وقعت في العهد الصنهاجي نزوح قرابة الثلاثين ألف مسلم من صقلّيّة إلى تونس بعد استيلاء النّرمان عليها سنة 484هـ/1091م. وقد فضّل أغلبهم قرى الساحل قرب المنستير والمهديّة عاصمتي الدولة آنذاك. ومنهم من حمل أخلافه لقب الصقلّيّ (أو الزقلّي) نسبة إلى صقلّية إطلاقا أو المازري نسبة إلى مازرة تخصيصا. وكان يمكن لأولئك أنّ يسهموا في ازدهار تلك الربوع لولا زحف بني هلال الذين أرسلهم من صعيد مصر الخليفة الفاطمي المستنصر انتقاما من المعزّ بن باديس بسبب استقلاله عن الفاطميين، فكان انتشارهم في البلاد سنة 449هـ/1057م مضرا بالعمران بل بالأمن وتغييرا في الثقافة والتقاليد وفي اللغة، خصوصا في المناطق الخصبة التي احتلّوها. فانتشر أولاد سعيد في النفيضة وأولاد رياح في الفحص وبوعرادة وأولاد دريد في باجة. وقد شنّع بن خلدون بعيثهم في البلاد بقدر ما أشاد بلغتهم وبلاغتهم وأشعارهم وإنّ أخلّت بالإعراب. وإنّما ذاك هو الأصل في كلام العرب العدنانيين بالحجاز ونجد وتهامة مواطن عرب هلال وسليم الأصلية قبل هجرتهم إلى الصعيد شرقيّ النيل. ومازالت مضاربهم قرب صعدة في اليمن معروفة بنسبتها إليهم. وقد تمكّن بعضهم من الاسهام في تأسيس دويلات إقطاعية على غرار ملوك الطوائف بالأندلس، منهم بنو جامع في قابس وبنو جبارة في سوسة وبنو الرند في قفصة وبنو الورد اللّخميون في بنزرت. وعلى سبيل المثال أثبت محمّد المرزوقي في إطار تتبّعه لمنازل الهلاليين في الشمال الإفريقي فروعهم المتمركزة في جهة مجاز الباب، وهي من دريد: أولاد جوين وأولاد عرفة وأولاد منّاع وأولاد رزق. ومن رياح: الصميديّة والدعاجة وأولاد الأمير وأولاد الحاج والخرايصيّة والعبادليّة والحمايديّة والمساعيد وأولاد سيدي عبد النور. وفي جهة الكاف أولاد يعقوب، وهم بنو وائل وأولاد المهدي والشباريّة. ومن دريد: أولاد خليفة وأولاد حربي وأولاد خالد وأولاد عبّاس وأولاد فتوح وأولاد قاسم وأولاد ميمون وأولاد موسى.
الاحتلال الاسباني
وبقيام دولة الموحّدين تحوّلت العاصمة إلى تونس فأصبحت قبلة المهاجرين خاصة في عهد أخلافهم الحفصيين نتيجة معاهدات السلم والتجارة التي أبرموها مع الملوك الأوروبيين ونتيجة القرصنة، فضلا عن كون أغلب الأمراء الحفصيين من أمّهات مسيحيّات. وفي تونس اليوم باب العلوج وحومة العلوج الدّالاّن على العبيد البيض المسيحيين الذين تضاعف عددهم مدّة الاحتلال الاسباني (1535 - 1574م) بمن وقعوا في أيدي الأتراك عندما هبّوا إلى تحرير المهدية وبنزرت وتونس وحلق الوادي. وقد أشار ابن أبي دينار إلى أكثر من مائتي إسباني، تحصّنوا بجزيرة شكلي بحيرة تونس وطلبوا من سنان باشا الأمان مقابل خدمتهم الباب العالي بما برعوا فيه من عمل الطوب وتذويب الحديد والنحاس وصنع المدافع وغير ذلك.
إلاّ أنّ أهم ّ حدث فيما يخص تمازج عناصر الشعب التونسي يتمثّل في الهجرة الأندلسية الأخيرة سنة 1609م، وهي الأعظم مقارنة بالهجرات السابقة، فضلا عن العلاقات الدّائمة بين إفريقية والأندلس، خاصة في العهد الحفصي، والتي أدّت إلى انتقال العائلات الميسورة إلى تونس. ولئن كانت الهجرات الأولى هجرات العلماء والشعراء ممّن استقطبهم البلاط الحفصي فإنّ الهجرة الأخيرة كانت هجرة الضّعفاء ماديّا وثقافيّا لأنّها كانت هجرة حرفيين ومزارعين. كانت لهم خبرة، خاصة في صناعتي الشاشية والحرير وفي الفلاحة السقويّة. كما كانت لهم مشاركة في القرصنة وفي الصناعة الحربيّة. إجمالا كان إسهامهم واضحا في مختلف النّواحي المعماريّة والاجتماعية والاقتصادية على ما نوّه به ابن أبي دينار وغيره.
ونتيجة للاحتلال التركي دخلت مع الجيش المعروف بالانكشارية أجناس أوروبية وآسيوية من مختلف الولايات التابعة للخلافة العثمانية خاصة من أوروبا الشرقيّة وآسيا الصغرى. وقد استقرّ هؤلاء في البلاد وتزوّجوا بتونسيّات، وأصبح يطلق على أبنائهم اسم "كورغلي". وكان منهم علي التركي الذي كلّف بإمرة حامية الكاف. فقد أنجب حسينا الذي أصبح مؤسّس الدولة الحسينية سنة 1705م. استقر هؤلاء خاصة في المدن الساحلية كالمهدية والمنستير وبنزرت وغار الملح، وحافظوا على المذهب الحنفي مذهب الدّايات والبايات، ومهروا خاصة في بناء السفن وصنع الأسلحة والقرصنة فكانوا عاملا لحضور الأسرى من إسبانيا وإيطاليا وفرنسا ولتكوين عائلات حافظت ألقابها على بلدانها الأصلية بعد اعتناق الاسلام. ولا بدّ من التفريق بين تلك الألقاب وألقاب الموريسكيين المهجّرين من إسبانيا في بداية القرن 17م كما أشرنا. يضاف إلى أولئك المماليك الذين تمّ اشتراؤهم في أسواق الرقيق بالأناضول (الاستانة، إزمير...) وجلبهم إلى قصور الدايات والبايات والوزراء في تونس لاعدادهم لأعلى المناصب. فقد كان منهم الوزيران الأكبران مصطفى خزنه دار وخير الدين باشا. وبتوقّف القرصنة (1815) وتحرير العبيد (1846) وانقطاع جلب المماليك تحدّدت ملامح الشعب التونسي في عناصره المكوّنة له من قبل. ولئن قدم إلى تونس عدد من يهود الڨرنة أغلبهم من مدينة ليفورن (Livourne) الايطالية ومن المعمّرين الفرنسيين بتشجيع السلطة الاستعمارية لهم على استغلال الأراضي الفلاحية فإنّ عددهم تقلّص بعد الاستقلال خاصّة بعد إعلان قرار الجلاء الزراعي في 12 ماي 1964 بالنسبة إلى الفرنسيين وبعد اندلاع الحرب العربية الاسرائيلية في أوائل جوان 1967 بالنسة إلى اليهود. وازداد تقلّص عدد أولئك وهؤلاء بتوقّف التعاون الفنّي في قطاعي التعليم والصحة نتيجة الاكتفاء الذاتي وبالهجرة إلى فرنسا وإلى إسرائيل لاعمار الأراضي المحتلّة بتشجيع رسمي.
وقد أشار المؤرّخ حسن حسني عبد الوهاب إلى أنّ الاندماج التدريجي بين العناصر البشريّة الوافدة وسكّان البلاد الأصليين لم يحجب بعض العادات المذكّرة بالأصل البعيد كوشم الصليب على الجبين أو الذقن أو الخدّ لتمييز المتنصّرين من البربر عن المحافظين على وثنيّتهم سابقا. وكذلك رسم الصليب على بطن قميص الطفل المختون وظهره على عادة التعميد لدى البيزنطيين وكذلك أيضا نقش الصليب بالمسامير على الأبواب على عادة الإسبان في تمييز منازلهم عن منازل المسلمين. وكذلك أيضا صنع صليب بقصبة وقائمة منسج أو نَوْلٍ يطوف به الصبيان استسقاء. هذا إلى جانب أمثلة عدّة كالمالوف أو الموسيقى الأندلسية والسطنبالي أو موسيقى عبيد السودان، غير أنّه بتأثير التطوّر تلاشت العادات القديمة فلم يبق إلاّ بعض الأدلّة على اختلاف الأصول العرقيّة كالمعالم والشعائر الدينيّة وخاصة ألقاب العائلات. فمن البربر:
الولهازي واللّواتي والنفزي والوشتاتي والهنتاتي ويغلان والمصمودي والونيفي...
ومن العرب: التميمي والبكري والقضاعي والفهري والخميري والهذيلي والدبّابي والأنصاري...
ومن الصقلّيين: الصقلّي والمازري...
ومن أعراب بني هلال: الرياحي والسليمي.
ومن الطرابلسيين: الطرابلسي والمصراتي والفزّاني والمسلاّتي والترهوني...
ومن الأندلسيين: الاشبيلي والقرطبي والمالقي والألكانتي والخرّاز والوادي آشي والغرناطي والحجري والمريشكو وماركو ومركيكو ورمتانة وصاي ومورو وبلانكو ودرمول وزبيس وبنطور وبوتريكو واليعكوري وماضور وكطلان...
ومن الأتراك والمماليك: التركي والاسطنبولي وابن عثمان أو ابن عصمان والدولاتلي وباش شاوش وبوشناق وكاهية وخوجة والحنّافي وقارة وبرناز...
ومن الجزائريين: الدزيري والعنّابي والبجاوي والتبّاسي والقسنطيني والغربي والكنزاري...
ومن المغاربة: المغربي وابن عاشور والغربي.
ومن اليهود: براهمي وحجّاج وحيّون وسماجة وشوّاط وفيتوسي وميموني ومسيكة والعلاّلي...
ببليوغرافيا[عدّل]
يؤلف الشعب التونسي كلا متجانسا بمكوّناته الاجتماعية والثقافية المنصهرة عبر العصور. ويبدي التونسي اعتزازا بجنسيته لا يقلّ عن اعتزازه بأصله. كما يبدي اهتماما بكلّ ما يحيي فيه جذور العرقيّة والعائليّة، من ذلك خاصّة شجرة النسب التي يؤكّد بها شيخ القبيلة أو العائلة انتماء الأفراد إلى وليّ صالح أو إلى بلد عريق أو إلى نسب شريف يرتفع إلى أحد الخلفاء الراشدين فإلى الرسول (ص). والغالب دائما هو الأصل العربي ودين الاسلام. والطريف التنصيص على الهجرة سواء من الجزيرة العربية أو من الساقية الحمراء في الصحراء الغربيّة الافريقيّة. والحال أنّ أكثر الأولياء الصالحين في اعتقاد العامّة مغاربة، حتى لكأنّ بركة هؤلاء من بركة أولئك!
ولئن حافظ العنصران التركي والأندلسي على تميّزهما فإنّ ألقاب العائلات تكشف عن عناصر بشريّة عديدة ومختلفة وإنّ تصاهرت وتآلفت وتثاقفت. ويفسّر التاريخ حضورها بأحداث هامة كحملة سنان باشا على الإسبان والهجرات الأندلسية الأخيرة منها خاصة (بداية القرن 17) وكذلك بالنسبة إلى الهلاليين والطرابلسيين والجزائريين وحتّى الأوروبيين واليهود.
الاستيطان البشري في فترة الحضارة القبصية ما قبل التاريخ
العنصر البربري
ولكنّ الاستيطان البشري في البلاد التونسية أقدم من تاريخ العناصر المذكورة بدليل مستوطنات ما قبل التاريخ المكتشفة في قفصة ودكّانة الخطيفة وسيدي الزين ووادي الزوارع وغيرها. وانطلقت البداية الرسميّة في البحوث الإناسية والعرقية مع البربر باعتبارهم أصل سكّان تونس وكامل الشمال الإفريقي بفرعي البتر والبرانس. واختلفت النظريات في أصولهم وهجراتهم قبل استقرارهم. وثمّة من رجح أنهم عرب قدامى جاؤوا من اليمن والحجاز. تلك نظريّة ابن خلدون وقد أخذ بها بعض المعاصرين. وقد آلت السلطة إلى أصيلي البلاد الخلّص من المغاربة ذوي الجذور البربريّة عند قيام دولة المرابطين بزعامة يوسف بن تاشفين ودولة الموحّدين بزعامة عبد المؤمن بن علي بالنسبة إلى إفريقية والمغرب، وحتى دولتي أتباعهم الخراسانيين والحفصيين في إفريقية. والملاحظ أن ّ اندماج البربر في من غزاهم كان أبلغ في الجهات الساحلية والسهول وبلاد الجريد منه في جهات الجنوب والمرتفعات حيث مازالت القرى البربريّة تحافظ على تراثها خاصّة قبائل ورغمّة ومطماطة.
العنصر الزنجي
كان من أوّل الغزاة الفينيقيون الذين أسّسوا قرطاج وجلبوا الزنوج من السودان وبلاد النوبة وقصدهم بعض اليهود. وتواصل قدوم هؤلاء إلى أن أصبحوا يؤلّفون عنصرا مهمّا من السكّان. وكان من الطبيعي أن يؤثّر كلّ عنصر في الآخر ويتأثّر به بما ساعد على تطوير الحضارة الفينيقية في صبغة قرطاجيّة إفريقية ميّزتها عن أصلها الكنعاني في صور.
الفترة الرومانية
وباستيلاء الرومان على البلاد قدم مهاجرون من روما أسهموا في "رومنة" الأرياف حتّى في مستوى أسماء الأشخاص من البربر. ولئن اقتدى هؤلاء بالغالب في العمارة والتقاليد فقد فضّل بعضهم اليهوديّة على الوثنيّة تأثّرا باليهود الذين أجلاهم الامبراطور الروماني تيتوس عن معبدهم ببيت المقدس سنة 70م بعد أنّ هدمه. وبذلك فسّر المؤرّخ حسن حسني عبد الوهاب وجود بعض اليهود البدو الذين كانوا يعيشون ويلبسون مثل البرابرة الذين اعتنقوا الاسلام في باجة وتستور والسرس والأعراض وجربة، وهو ما أثبته ش. منشيكور (Charles Monchicourt). كما لاحظ التجاني في رحلته التي قام بها أوّل القرن 8هـ/14م أنّ أهل توزر من بقايا الروم الذين كانوا بإفريقية قبل مجيء المسلمين، وكذلك سائر بلاد الجريد، لأنّ أهلها عند قدوم الفاتحين أسلموا وفيهم من العرب الذين سكنوها بعد الفتح، وفيهم أيضا من البربر الذين دخلوها في قديم الزمان. وقد كان القادة المسلمون متسامحين مع تلك العناصر المحافظة على معتقداتها وعاداتها مقابل دفع الجزية والانضباط والتمتّع بحقّ الحماية. لذلك أمكن العثور في الجنوب الغربي على بعض خصائص الجنس الإغريقي بين السكّان.
ومنذ الانتشار العربي توافدت على البلاد أجناس متنوّعة قادمة من مختلف البلدان التي فتحها العرب. من ذلك قبائل يمنيّة وحجازيّة وشاميّة شاركت في نشر الاسلام. وعلى سبيل المثال فقد استقرّت بباجة قبائل بني سعد وقريش وربيعة وقضاعة إلى جانب الجند العبّاسي والطائفة المسيحيّة التي ظلّت محتفظة بكنيستها إلى زمن البكري (ق 5هـ/11م) وإلى جانب أصيلي المكان المحتفظين إلى اليوم باسم الأفارق. وقد ذكر البكري في شأن الغزوة الخامسة التي قادها حسّان بن النعمان الغسّاني سنة 76هـ/695م أنّ عبد الملك بن مروان كتب إلى أخيه عبد العزيز، والي مصر، أنّ يوجّه إلى معسكر تونس ألف قبطي بأهاليهم وأولادهم، وأن يحملهم من مصر ويحسن عونهم حتى يصلوا إلى ترشيش، وهي تونس، وكتب إلى ابن النعمان يأمره أنّ يبني لهم دار صناعة تكون قوّة وعدّة للمسلمين... فتمّ توزيعهم على تونس ورادس وقرطاج.
وتواصل توافد العرب والفرس والمصريين والشاميين على إفريقية في مناسبات أخرى لاعمارها بالمسلمين، لكنّ البربر قاوموهم حتىّ هجروا قراهم فاضطرّ موسى بن نصير إلى جلب عدد آخر من العرب المشارقة سنة 88هـ/707م، على ما ذكره ابن الشبّاط. ومن تلك القرى المحيطة بالعاصمة القيروان آنذاك الأنصارين نسبة إلى الأنصار وشراحيل أصيلة اليمن.
أمّا في عهد الدولة الفاطميّة فإنّ أمراءها الشيعة لم يشجّعوا هجرة القبائل العربية إلى إفريقية خوفا على مذهبهم الذي وجدوا أنّ البربر أحسن تقبّلا له من العرب. والحقّ أنّ ذلك لم يكن لسبب متعلّق بجوهر المعتقد، بل كان ردّ فعل على سياسة القادة العرب من الولاة وأمراء بني الأغلب تجاه البربر، تلك السياسة التي لم يكن حسن المعاملة مبدأها الدائم.
وفي عهد الدولة الصنهاجيّة كان أغلب أمّهات أمرائها مسيحيّات. وهذا يدلّ على عدد المسيحيين القادمين على إفريقية من الشرق والغرب. وقد انعكس حضورهنّ على شعر تميم بن المعزّ، الأمير الصنهاجي. وكانت حاضنة جدّه باديس مسيحيّة. وكان ابن أخيها بالمهدية مثلها. أمّا اليهود فقد تضاعف عددهم حتّى أصبح لهم بالقيروان حيّ خاص يعرف بحارة خيبر. وتعني الحارة في العبريّة الحيّ. وليس من الضروري أنّ يكونوا أصيلي قريتهم شمالي المدينة المنوّرة بعد تعميم صفة خيبري على جميع اليهود في البلاد الإسلامية. وستكون لهم حارات في تونس وغيرها من مستقرّاتهم. وقد نبغت من يهود القيروان عائلة العزار التي امتهنت الطبّ وترجمة المصنّفات فيه، على حين تخصّصوا بالمدن الأخرى في التجارة وخاصة تجارة المصوغ والقماش.
ومن أهمّ الأحداث التي وقعت في العهد الصنهاجي نزوح قرابة الثلاثين ألف مسلم من صقلّيّة إلى تونس بعد استيلاء النّرمان عليها سنة 484هـ/1091م. وقد فضّل أغلبهم قرى الساحل قرب المنستير والمهديّة عاصمتي الدولة آنذاك. ومنهم من حمل أخلافه لقب الصقلّيّ (أو الزقلّي) نسبة إلى صقلّية إطلاقا أو المازري نسبة إلى مازرة تخصيصا. وكان يمكن لأولئك أنّ يسهموا في ازدهار تلك الربوع لولا زحف بني هلال الذين أرسلهم من صعيد مصر الخليفة الفاطمي المستنصر انتقاما من المعزّ بن باديس بسبب استقلاله عن الفاطميين، فكان انتشارهم في البلاد سنة 449هـ/1057م مضرا بالعمران بل بالأمن وتغييرا في الثقافة والتقاليد وفي اللغة، خصوصا في المناطق الخصبة التي احتلّوها. فانتشر أولاد سعيد في النفيضة وأولاد رياح في الفحص وبوعرادة وأولاد دريد في باجة. وقد شنّع بن خلدون بعيثهم في البلاد بقدر ما أشاد بلغتهم وبلاغتهم وأشعارهم وإنّ أخلّت بالإعراب. وإنّما ذاك هو الأصل في كلام العرب العدنانيين بالحجاز ونجد وتهامة مواطن عرب هلال وسليم الأصلية قبل هجرتهم إلى الصعيد شرقيّ النيل. ومازالت مضاربهم قرب صعدة في اليمن معروفة بنسبتها إليهم. وقد تمكّن بعضهم من الاسهام في تأسيس دويلات إقطاعية على غرار ملوك الطوائف بالأندلس، منهم بنو جامع في قابس وبنو جبارة في سوسة وبنو الرند في قفصة وبنو الورد اللّخميون في بنزرت. وعلى سبيل المثال أثبت محمّد المرزوقي في إطار تتبّعه لمنازل الهلاليين في الشمال الإفريقي فروعهم المتمركزة في جهة مجاز الباب، وهي من دريد: أولاد جوين وأولاد عرفة وأولاد منّاع وأولاد رزق. ومن رياح: الصميديّة والدعاجة وأولاد الأمير وأولاد الحاج والخرايصيّة والعبادليّة والحمايديّة والمساعيد وأولاد سيدي عبد النور. وفي جهة الكاف أولاد يعقوب، وهم بنو وائل وأولاد المهدي والشباريّة. ومن دريد: أولاد خليفة وأولاد حربي وأولاد خالد وأولاد عبّاس وأولاد فتوح وأولاد قاسم وأولاد ميمون وأولاد موسى.
الاحتلال الاسباني
وبقيام دولة الموحّدين تحوّلت العاصمة إلى تونس فأصبحت قبلة المهاجرين خاصة في عهد أخلافهم الحفصيين نتيجة معاهدات السلم والتجارة التي أبرموها مع الملوك الأوروبيين ونتيجة القرصنة، فضلا عن كون أغلب الأمراء الحفصيين من أمّهات مسيحيّات. وفي تونس اليوم باب العلوج وحومة العلوج الدّالاّن على العبيد البيض المسيحيين الذين تضاعف عددهم مدّة الاحتلال الاسباني (1535 - 1574م) بمن وقعوا في أيدي الأتراك عندما هبّوا إلى تحرير المهدية وبنزرت وتونس وحلق الوادي. وقد أشار ابن أبي دينار إلى أكثر من مائتي إسباني، تحصّنوا بجزيرة شكلي بحيرة تونس وطلبوا من سنان باشا الأمان مقابل خدمتهم الباب العالي بما برعوا فيه من عمل الطوب وتذويب الحديد والنحاس وصنع المدافع وغير ذلك.
إلاّ أنّ أهم ّ حدث فيما يخص تمازج عناصر الشعب التونسي يتمثّل في الهجرة الأندلسية الأخيرة سنة 1609م، وهي الأعظم مقارنة بالهجرات السابقة، فضلا عن العلاقات الدّائمة بين إفريقية والأندلس، خاصة في العهد الحفصي، والتي أدّت إلى انتقال العائلات الميسورة إلى تونس. ولئن كانت الهجرات الأولى هجرات العلماء والشعراء ممّن استقطبهم البلاط الحفصي فإنّ الهجرة الأخيرة كانت هجرة الضّعفاء ماديّا وثقافيّا لأنّها كانت هجرة حرفيين ومزارعين. كانت لهم خبرة، خاصة في صناعتي الشاشية والحرير وفي الفلاحة السقويّة. كما كانت لهم مشاركة في القرصنة وفي الصناعة الحربيّة. إجمالا كان إسهامهم واضحا في مختلف النّواحي المعماريّة والاجتماعية والاقتصادية على ما نوّه به ابن أبي دينار وغيره.
ونتيجة للاحتلال التركي دخلت مع الجيش المعروف بالانكشارية أجناس أوروبية وآسيوية من مختلف الولايات التابعة للخلافة العثمانية خاصة من أوروبا الشرقيّة وآسيا الصغرى. وقد استقرّ هؤلاء في البلاد وتزوّجوا بتونسيّات، وأصبح يطلق على أبنائهم اسم "كورغلي". وكان منهم علي التركي الذي كلّف بإمرة حامية الكاف. فقد أنجب حسينا الذي أصبح مؤسّس الدولة الحسينية سنة 1705م. استقر هؤلاء خاصة في المدن الساحلية كالمهدية والمنستير وبنزرت وغار الملح، وحافظوا على المذهب الحنفي مذهب الدّايات والبايات، ومهروا خاصة في بناء السفن وصنع الأسلحة والقرصنة فكانوا عاملا لحضور الأسرى من إسبانيا وإيطاليا وفرنسا ولتكوين عائلات حافظت ألقابها على بلدانها الأصلية بعد اعتناق الاسلام. ولا بدّ من التفريق بين تلك الألقاب وألقاب الموريسكيين المهجّرين من إسبانيا في بداية القرن 17م كما أشرنا. يضاف إلى أولئك المماليك الذين تمّ اشتراؤهم في أسواق الرقيق بالأناضول (الاستانة، إزمير...) وجلبهم إلى قصور الدايات والبايات والوزراء في تونس لاعدادهم لأعلى المناصب. فقد كان منهم الوزيران الأكبران مصطفى خزنه دار وخير الدين باشا. وبتوقّف القرصنة (1815) وتحرير العبيد (1846) وانقطاع جلب المماليك تحدّدت ملامح الشعب التونسي في عناصره المكوّنة له من قبل. ولئن قدم إلى تونس عدد من يهود الڨرنة أغلبهم من مدينة ليفورن (Livourne) الايطالية ومن المعمّرين الفرنسيين بتشجيع السلطة الاستعمارية لهم على استغلال الأراضي الفلاحية فإنّ عددهم تقلّص بعد الاستقلال خاصّة بعد إعلان قرار الجلاء الزراعي في 12 ماي 1964 بالنسبة إلى الفرنسيين وبعد اندلاع الحرب العربية الاسرائيلية في أوائل جوان 1967 بالنسة إلى اليهود. وازداد تقلّص عدد أولئك وهؤلاء بتوقّف التعاون الفنّي في قطاعي التعليم والصحة نتيجة الاكتفاء الذاتي وبالهجرة إلى فرنسا وإلى إسرائيل لاعمار الأراضي المحتلّة بتشجيع رسمي.
وقد أشار المؤرّخ حسن حسني عبد الوهاب إلى أنّ الاندماج التدريجي بين العناصر البشريّة الوافدة وسكّان البلاد الأصليين لم يحجب بعض العادات المذكّرة بالأصل البعيد كوشم الصليب على الجبين أو الذقن أو الخدّ لتمييز المتنصّرين من البربر عن المحافظين على وثنيّتهم سابقا. وكذلك رسم الصليب على بطن قميص الطفل المختون وظهره على عادة التعميد لدى البيزنطيين وكذلك أيضا نقش الصليب بالمسامير على الأبواب على عادة الإسبان في تمييز منازلهم عن منازل المسلمين. وكذلك أيضا صنع صليب بقصبة وقائمة منسج أو نَوْلٍ يطوف به الصبيان استسقاء. هذا إلى جانب أمثلة عدّة كالمالوف أو الموسيقى الأندلسية والسطنبالي أو موسيقى عبيد السودان، غير أنّه بتأثير التطوّر تلاشت العادات القديمة فلم يبق إلاّ بعض الأدلّة على اختلاف الأصول العرقيّة كالمعالم والشعائر الدينيّة وخاصة ألقاب العائلات. فمن البربر:
الولهازي واللّواتي والنفزي والوشتاتي والهنتاتي ويغلان والمصمودي والونيفي...
ومن العرب: التميمي والبكري والقضاعي والفهري والخميري والهذيلي والدبّابي والأنصاري...
ومن الصقلّيين: الصقلّي والمازري...
ومن أعراب بني هلال: الرياحي والسليمي.
ومن الطرابلسيين: الطرابلسي والمصراتي والفزّاني والمسلاّتي والترهوني...
ومن الأندلسيين: الاشبيلي والقرطبي والمالقي والألكانتي والخرّاز والوادي آشي والغرناطي والحجري والمريشكو وماركو ومركيكو ورمتانة وصاي ومورو وبلانكو ودرمول وزبيس وبنطور وبوتريكو واليعكوري وماضور وكطلان...
ومن الأتراك والمماليك: التركي والاسطنبولي وابن عثمان أو ابن عصمان والدولاتلي وباش شاوش وبوشناق وكاهية وخوجة والحنّافي وقارة وبرناز...
ومن الجزائريين: الدزيري والعنّابي والبجاوي والتبّاسي والقسنطيني والغربي والكنزاري...
ومن المغاربة: المغربي وابن عاشور والغربي.
ومن اليهود: براهمي وحجّاج وحيّون وسماجة وشوّاط وفيتوسي وميموني ومسيكة والعلاّلي...
ببليوغرافيا[عدّل]