قصة سلمان الفارسي ( ع )
[ ص: 505 ]
قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر : هو سلمان ابن الإسلام ، أبو عبد الله الفارسي سابق الفرس إلى الإسلام ، صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخدمه وحدث عنه .
وروى عنه ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وأبو الطفيل ، وأبو عثمان النهدي ، وشرحبيل بن السمط ، وأبو قرة سلمة بن معاوية الكندي ، وعبد الرحمن بن يزيد النخعي ، وأبو عمر زاذان ، وأبو ظبيان حصين بن جندب الجنبي ، وقرثع الضبي الكوفيون .
له في مسند بقي ستون حديثا ، وأخرج له البخاري أربعة أحاديث ، ومسلم ثلاثة أحاديث .
وكان لبيبا حازما ، من عقلاء الرجال وعبادهم ونبلائهم .
قال يحيى بن حمزة القاضي : عن عروة بن رويم ، عن القاسم أبي عبد الرحمن حدثه ، قال : زارنا سلمان الفارسي فصلى الإمام الظهر ، ثم خرج وخرج الناس يتلقونه كما يتلقى الخليفة ، فلقيناه وقد صلى بأصحابه العصر ، وهو يمشي ، فوقفنا نسلم عليه ، فلم يبق فينا شريف إلا عرض عليه أن ينزل به ، فقال : جعلت على نفسي مرتي هذه أن أنزل على بشير بن سعد .
فلما قدم ، سأل عن أبي الدرداء ، فقالوا : هو مرابط ، فقال : أين مرابطكم ؟ قالوا : بيروت . فتوجه قبله ، قال : فقال سلمان : يا أهل بيروت ، ألا أحدثكم حديثا يذهب الله به عنكم عرض الرباط ؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : رباط يوم وليلة كصيام شهر وقيامه ، ومن مات مرابطا أجير من فتنة القبر ، وجرى له صالح عمله إلى يوم القيامة . [ ص: 506 ]
أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق ، أنبأنا عبد القوي بن عبد العزيز الأغلبي ، أنبأنا عبد الله بن رفاعة ، أنبأنا أبو الحسن الخلعي ، أنبأنا أبو محمد بن النحاس ، أنبأنا أبو محمد بن الورد ، أنبأنا أبو سعيد بن عبد الرحيم ، أنبأنا عبد الملك بن هشام ، حدثنا زياد بن عبد الله ، عن ابن إسحاق ( ح ) .
وأنبأنا أبو محمد بن قدامة ، وأبو الغنائم بن علان ، إجازة ، أن حنبل بن عبد الله أخبرهم : أنبأنا أبو القاسم الشيباني ، أنبأنا أبو علي الواعظ ، أنبأنا أبو بكر المالكي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي ( ح ) ومحمد بن عبد الله بن نمير وغيره ، عن يونس بن بكير ( ح ) وسهل بن عثمان ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ( ح ) وعن يحيى بن آدم ، عن عبد الله بن إدريس ( ح ) وحجاج بن قتيبة ، حدثنا زفر بن قرة ، جميعهم عن ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس قال : حدثني سلمان الفارسي ، قال : كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان ، من أهل قرية منها يقال لها جي وكان أبي دهقانها ، وكنت أحب خلق الله إليه ، فلم يزل بي حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة .
وكانت [ ص: 507 ] لأبي ضيعة عظيمة ، فشغل في بنيان له يوما ، فقال لي : يا بني ، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي ، فاذهب فاطلعها ، وأمرني ببعض ما يريد . فخرجت ، ثم قال : لا تحتبس علي ; فإنك إن احتبست علي كنت أهم إلي من ضيعتي ، وشغلتني عن كل شيء من أمري .
فخرجت أريد ضيعته ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس بحبس أبي إياي في بيته ، فلما مررت بهم ، وسمعت أصواتهم ، دخلت إليهم أنظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلواتهم ، ورغبت في أمرهم ، وقلت : هذا - والله - خير من الدين الذي نحن عليه ; فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس ، وتركت ضيعة أبي ولم آتها ، فقلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام .
قال : ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال : أي بني ، أين كنت ؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت ؟ قلت : يا أبة ، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم ، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس . قال : أي بني ، ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه . قلت : كلا والله ، إنه لخير من ديننا . قال : فخافني ، فجعل في رجلي قيدا ، ثم حبسني في بيته . قال : وبعثت إلى النصارى ، فقلت : إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى ، فأخبروني بهم .
فقدم عليهم ركب من الشام ، قال : فأخبروني بهم ، فقلت : إذا قضوا حوائجهم ، وأرادوا الرجعة ، فأخبروني . قال : ففعلوا ، فألقيت الحديد من رجلي ، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام . فلما قدمتها ، قلت : من أفضل أهل هذا الدين ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة . فجئته ، فقلت : إني قد رغبت في هذا الدين ، وأحببت أن أكون معك أخدمك [ ص: 508 ] في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلي معك . قال : فادخل ، فدخلت معه ، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا إليه منها شيئا ، اكتنزه لنفسه ، ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق ، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع .
ثم مات ، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم : إن هذا رجل سوء ، يأمركم بالصدقة ، ويرغبكم فيها ، فإذا جئتم بها ، كنزها لنفسه ، ولم يعط المساكين ، وأريتهم موضع كنزه سبع قلال مملوءة ، فلما رأوها قالوا : والله لا ندفنه أبدا . فصلبوه ثم رموه بالحجارة . ثم جاءوا برجل جعلوه مكانه ، فما رأيت رجلا - يعني لا يصلي الخمس - أرى أنه أفضل منه ، أزهد في الدنيا ، ولا أرغب في الآخرة ، ولا أدأب ليلا ونهارا ، ما أعلمني أحببت شيئا قط قبله حبه ، فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة ، فقلت : يا فلان ، قد حضرك ما ترى من أمر الله ، وإني والله ما أحببت شيئا قط حبك ، فماذا تأمرني وإلى من توصيني ؟
قال لي : يا بني - والله - ما أعلمه إلا رجلا بالموصل فائته ; فإنك ستجده على مثل حالي . فلما مات وغيب لحقت بالموصل ، فأتيت صاحبها ، فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهد ، فقلت له : إن فلانا أوصاني إليك أن آتيك وأكون معك .
قال : فأقم أي بني . فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه حتى حضرته الوفاة . فقلت له : إن فلانا أوصى بي إليك وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فإلى من توصي بي ؟ وما تأمرني به ؟ قال : والله ما أعلم ، أي بني ، إلا رجلا بنصيبين .
فلما دفناه ، لحقت بالآخر ، فأقمت عنده على مثل حالهم حتى حضره [ ص: 509 ] الموت ، فأوصى بي إلى رجل من أهل عمورية بالروم ، فأتيته فوجدته على مثل حالهم ، واكتسبت حتى كان لي غنيمة وبقيرات .
ثم احتضر فكلمته إلى من يوصي بي ؟ قال : أي بني ، والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه ، ولكن قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم ، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل ، وإن فيه علامات لا تخفى ، بين كتفيه خاتم النبوة ، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل ; فإنه قد أظلك زمانه .
فلما واريناه ، أقمت حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب ، فقلت لهم : تحملوني إلى أرض العرب ، وأعطيكم غنيمتي وبقراتي هذه ؟ قالوا : نعم . فأعطيتهم إياها وحملوني ، حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني ، فباعوني عبدا من رجل يهودي بوادي القرى ، فوالله لقد رأيت النخل ، وطمعت أن يكون البلد الذي نعت لي صاحبي .
وما حقت عندي حتى قدم رجل من بني قريظة وادي القرى ، فابتاعني من صاحبي ، فخرج بي حتى قدمنا المدينة ، فوالله ما هو إلا أن رأيتها ، فعرفت نعتها .
فأقمت في رق ، وبعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمكة لا يذكر لي شيء من أمره مع ما أنا فيه من الرق ، حتى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قباء ، وأنا أعمل لصاحبي في نخلة له ، فوالله إني لفيها إذ جاءه ابن عم له ، فقال : يا فلان ، قاتل الله بني قيلة ، والله إنهم الآن لفي قباء مجتمعون على رجل جاء من مكة يزعمون أنه نبي .
فوالله ما هو إلا أن سمعتها فأخذتني العرواء - يقول الرعدة - حتى ظننت لأسقطن على صاحبي ، ونزلت أقول : ما هذا الخبر ؟ . [ ص: 510 ]
فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة ، وقال : ما لك ولهذا ، أقبل على عملك . فقلت : لا شيء ; إنما سمعت خبرا فأحببت أن أعلمه .
فلما أمسيت ، وكان عندي شيء من طعام ، فحملته وذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بقباء ، فقلت له : بلغني أنك رجل صالح ، وأن معك أصحابا لك غرباء ، وقد كان عندي شيء من الصدقة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد ، فهاك هذا ، فكل منه .
قال : فأمسك ، وقال لأصحابه : كلوا . فقلت في نفسي : هذه خلة مما وصف لي صاحبي .
ثم رجعت ، وتحول رسول الله إلى المدينة ، فجمعت شيئا كان عندي ثم جئته به ، فقلت : إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية . فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل أصحابه ، فقلت : هذه خلتان .
ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتبع جنازة وعلي شملتان لي وهو في أصحابه ، فاستدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف .
فلما رآني استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فانكببت عليه أقبله وأبكي .
فقال لي : تحول . فتحولت ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمع ذلك أصحابه .
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدر وأحد . ثم قال رسول الله : كاتب يا سلمان . فكاتبت صاحبي على ثلاث مائة نخلة [ ص: 511 ] أحييها له بالفقير وبأربعين أوقية . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : أعينوا أخاكم . فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية والرجل بعشرين ، والرجل بخمس عشرة ، حتى اجتمعت ثلاث مائة ودية . فقال : اذهب يا سلمان ففقر لها ، فإذا فرغت فائتني أكون أنا أضعها بيدي . ففقرت لها وأعانني أصحابي ، حتى إذا فرغت منها ، جئته وأخبرته ، فخرج معي إليها نقرب له الودي ، ويضعه بيده .
فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة ، فأديت النخل ، وبقي علي المال ، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل بيضة دجاجة من ذهب من بعض المغازي ، فقال : ما فعل الفارسي المكاتب ؟ فدعيت له ، فقال : خذها فأد بها ما عليك . قلت : وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي ؟ قال : خذها فإن الله سيؤدي بها عنك . فأخذتها فوزنت لهم منها أربعين أوقية ، وأوفيتهم حقهم وعتقت ، فشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق حرا ، ثم لم يفتني معه مشهد .
زاد إبراهيم بن سعد ، عن ابن إسحاق ، فقال عن يزيد بن أبي حبيب ، عن رجل من عبد القيس ، عن سلمان : قال : لما قلت له : وأين تقع هذه من الذي علي ؟ أخذها فقلبها على لسانه ، ثم قال : خذها .
وفي رواية ابن إدريس ، عن ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر ، عن رجل [ ص: 512 ] من عبد القيس أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول : حدثني من حدثه سلمان ، أنه كان في حديثه حين ساقه لرسول الله أن صاحب عمورية قال له : إذا رأيت رجلا كذا وكذا من أرض الشام بين غيضتين ، يخرج من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة في كل سنة مرة ، يتعرضه الناس ، ويداوي الأسقام ، يدعو لهم ، فيشفون ، فائته ، فسله عن الدين الذي يلتمس . فجئت حتى أقمت مع الناس بين تينك الغيضتين .
فلما كان الليلة التي يخرج فيها من الغيضة خرج وغلبني الناس عليه حتى دخل الغيضة الأخرى ، وتوارى مني إلا منكبيه ، فتناولته ، فأخذت بمنكبيه ، فلم يلتفت إلي ، وقال : ما لك ؟ قلت : أسأل عن دين إبراهيم الحنيفية . قال : إنك لتسأل عن شيء ما يسأل الناس عنه اليوم . وقد أظلك نبي يخرج من عند هذا البيت الذي بمكة يأتي بهذا الدين الذي تسأل عنه ، فالحق به . ثم انصرف ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لئن كنت صدقتني لقد لقيت وصي عيسى ابن مريم .
تفرد به ابن إسحاق .
وقاطن النار : ملازمها ، وبنو قيلة ، الأنصار ، والفقير : الحفرة ، والودي : النصبة .
وقال يونس : عن ابن إسحاق ، حدثني عاصم ، حدثني من سمع عمر بن عبد العزيز بنحو مما مر ، وفيه : وقد أظلك نبي يخرج عند أهل هذا البيت ، [ ص: 513 ] ويبعث بسفك الدم . فلما ذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد رأيت حواري عيسى .
[ ص: 505 ]
قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر : هو سلمان ابن الإسلام ، أبو عبد الله الفارسي سابق الفرس إلى الإسلام ، صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخدمه وحدث عنه .
وروى عنه ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وأبو الطفيل ، وأبو عثمان النهدي ، وشرحبيل بن السمط ، وأبو قرة سلمة بن معاوية الكندي ، وعبد الرحمن بن يزيد النخعي ، وأبو عمر زاذان ، وأبو ظبيان حصين بن جندب الجنبي ، وقرثع الضبي الكوفيون .
له في مسند بقي ستون حديثا ، وأخرج له البخاري أربعة أحاديث ، ومسلم ثلاثة أحاديث .
وكان لبيبا حازما ، من عقلاء الرجال وعبادهم ونبلائهم .
قال يحيى بن حمزة القاضي : عن عروة بن رويم ، عن القاسم أبي عبد الرحمن حدثه ، قال : زارنا سلمان الفارسي فصلى الإمام الظهر ، ثم خرج وخرج الناس يتلقونه كما يتلقى الخليفة ، فلقيناه وقد صلى بأصحابه العصر ، وهو يمشي ، فوقفنا نسلم عليه ، فلم يبق فينا شريف إلا عرض عليه أن ينزل به ، فقال : جعلت على نفسي مرتي هذه أن أنزل على بشير بن سعد .
فلما قدم ، سأل عن أبي الدرداء ، فقالوا : هو مرابط ، فقال : أين مرابطكم ؟ قالوا : بيروت . فتوجه قبله ، قال : فقال سلمان : يا أهل بيروت ، ألا أحدثكم حديثا يذهب الله به عنكم عرض الرباط ؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : رباط يوم وليلة كصيام شهر وقيامه ، ومن مات مرابطا أجير من فتنة القبر ، وجرى له صالح عمله إلى يوم القيامة . [ ص: 506 ]
أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق ، أنبأنا عبد القوي بن عبد العزيز الأغلبي ، أنبأنا عبد الله بن رفاعة ، أنبأنا أبو الحسن الخلعي ، أنبأنا أبو محمد بن النحاس ، أنبأنا أبو محمد بن الورد ، أنبأنا أبو سعيد بن عبد الرحيم ، أنبأنا عبد الملك بن هشام ، حدثنا زياد بن عبد الله ، عن ابن إسحاق ( ح ) .
وأنبأنا أبو محمد بن قدامة ، وأبو الغنائم بن علان ، إجازة ، أن حنبل بن عبد الله أخبرهم : أنبأنا أبو القاسم الشيباني ، أنبأنا أبو علي الواعظ ، أنبأنا أبو بكر المالكي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي ( ح ) ومحمد بن عبد الله بن نمير وغيره ، عن يونس بن بكير ( ح ) وسهل بن عثمان ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ( ح ) وعن يحيى بن آدم ، عن عبد الله بن إدريس ( ح ) وحجاج بن قتيبة ، حدثنا زفر بن قرة ، جميعهم عن ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس قال : حدثني سلمان الفارسي ، قال : كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان ، من أهل قرية منها يقال لها جي وكان أبي دهقانها ، وكنت أحب خلق الله إليه ، فلم يزل بي حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة .
وكانت [ ص: 507 ] لأبي ضيعة عظيمة ، فشغل في بنيان له يوما ، فقال لي : يا بني ، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي ، فاذهب فاطلعها ، وأمرني ببعض ما يريد . فخرجت ، ثم قال : لا تحتبس علي ; فإنك إن احتبست علي كنت أهم إلي من ضيعتي ، وشغلتني عن كل شيء من أمري .
فخرجت أريد ضيعته ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس بحبس أبي إياي في بيته ، فلما مررت بهم ، وسمعت أصواتهم ، دخلت إليهم أنظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلواتهم ، ورغبت في أمرهم ، وقلت : هذا - والله - خير من الدين الذي نحن عليه ; فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس ، وتركت ضيعة أبي ولم آتها ، فقلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام .
قال : ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال : أي بني ، أين كنت ؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت ؟ قلت : يا أبة ، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم ، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس . قال : أي بني ، ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه . قلت : كلا والله ، إنه لخير من ديننا . قال : فخافني ، فجعل في رجلي قيدا ، ثم حبسني في بيته . قال : وبعثت إلى النصارى ، فقلت : إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى ، فأخبروني بهم .
فقدم عليهم ركب من الشام ، قال : فأخبروني بهم ، فقلت : إذا قضوا حوائجهم ، وأرادوا الرجعة ، فأخبروني . قال : ففعلوا ، فألقيت الحديد من رجلي ، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام . فلما قدمتها ، قلت : من أفضل أهل هذا الدين ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة . فجئته ، فقلت : إني قد رغبت في هذا الدين ، وأحببت أن أكون معك أخدمك [ ص: 508 ] في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلي معك . قال : فادخل ، فدخلت معه ، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا إليه منها شيئا ، اكتنزه لنفسه ، ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق ، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع .
ثم مات ، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم : إن هذا رجل سوء ، يأمركم بالصدقة ، ويرغبكم فيها ، فإذا جئتم بها ، كنزها لنفسه ، ولم يعط المساكين ، وأريتهم موضع كنزه سبع قلال مملوءة ، فلما رأوها قالوا : والله لا ندفنه أبدا . فصلبوه ثم رموه بالحجارة . ثم جاءوا برجل جعلوه مكانه ، فما رأيت رجلا - يعني لا يصلي الخمس - أرى أنه أفضل منه ، أزهد في الدنيا ، ولا أرغب في الآخرة ، ولا أدأب ليلا ونهارا ، ما أعلمني أحببت شيئا قط قبله حبه ، فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة ، فقلت : يا فلان ، قد حضرك ما ترى من أمر الله ، وإني والله ما أحببت شيئا قط حبك ، فماذا تأمرني وإلى من توصيني ؟
قال لي : يا بني - والله - ما أعلمه إلا رجلا بالموصل فائته ; فإنك ستجده على مثل حالي . فلما مات وغيب لحقت بالموصل ، فأتيت صاحبها ، فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهد ، فقلت له : إن فلانا أوصاني إليك أن آتيك وأكون معك .
قال : فأقم أي بني . فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه حتى حضرته الوفاة . فقلت له : إن فلانا أوصى بي إليك وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فإلى من توصي بي ؟ وما تأمرني به ؟ قال : والله ما أعلم ، أي بني ، إلا رجلا بنصيبين .
فلما دفناه ، لحقت بالآخر ، فأقمت عنده على مثل حالهم حتى حضره [ ص: 509 ] الموت ، فأوصى بي إلى رجل من أهل عمورية بالروم ، فأتيته فوجدته على مثل حالهم ، واكتسبت حتى كان لي غنيمة وبقيرات .
ثم احتضر فكلمته إلى من يوصي بي ؟ قال : أي بني ، والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه ، ولكن قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم ، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل ، وإن فيه علامات لا تخفى ، بين كتفيه خاتم النبوة ، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل ; فإنه قد أظلك زمانه .
فلما واريناه ، أقمت حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب ، فقلت لهم : تحملوني إلى أرض العرب ، وأعطيكم غنيمتي وبقراتي هذه ؟ قالوا : نعم . فأعطيتهم إياها وحملوني ، حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني ، فباعوني عبدا من رجل يهودي بوادي القرى ، فوالله لقد رأيت النخل ، وطمعت أن يكون البلد الذي نعت لي صاحبي .
وما حقت عندي حتى قدم رجل من بني قريظة وادي القرى ، فابتاعني من صاحبي ، فخرج بي حتى قدمنا المدينة ، فوالله ما هو إلا أن رأيتها ، فعرفت نعتها .
فأقمت في رق ، وبعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمكة لا يذكر لي شيء من أمره مع ما أنا فيه من الرق ، حتى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قباء ، وأنا أعمل لصاحبي في نخلة له ، فوالله إني لفيها إذ جاءه ابن عم له ، فقال : يا فلان ، قاتل الله بني قيلة ، والله إنهم الآن لفي قباء مجتمعون على رجل جاء من مكة يزعمون أنه نبي .
فوالله ما هو إلا أن سمعتها فأخذتني العرواء - يقول الرعدة - حتى ظننت لأسقطن على صاحبي ، ونزلت أقول : ما هذا الخبر ؟ . [ ص: 510 ]
فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة ، وقال : ما لك ولهذا ، أقبل على عملك . فقلت : لا شيء ; إنما سمعت خبرا فأحببت أن أعلمه .
فلما أمسيت ، وكان عندي شيء من طعام ، فحملته وذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بقباء ، فقلت له : بلغني أنك رجل صالح ، وأن معك أصحابا لك غرباء ، وقد كان عندي شيء من الصدقة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد ، فهاك هذا ، فكل منه .
قال : فأمسك ، وقال لأصحابه : كلوا . فقلت في نفسي : هذه خلة مما وصف لي صاحبي .
ثم رجعت ، وتحول رسول الله إلى المدينة ، فجمعت شيئا كان عندي ثم جئته به ، فقلت : إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية . فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل أصحابه ، فقلت : هذه خلتان .
ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتبع جنازة وعلي شملتان لي وهو في أصحابه ، فاستدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف .
فلما رآني استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فانكببت عليه أقبله وأبكي .
فقال لي : تحول . فتحولت ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمع ذلك أصحابه .
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدر وأحد . ثم قال رسول الله : كاتب يا سلمان . فكاتبت صاحبي على ثلاث مائة نخلة [ ص: 511 ] أحييها له بالفقير وبأربعين أوقية . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : أعينوا أخاكم . فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية والرجل بعشرين ، والرجل بخمس عشرة ، حتى اجتمعت ثلاث مائة ودية . فقال : اذهب يا سلمان ففقر لها ، فإذا فرغت فائتني أكون أنا أضعها بيدي . ففقرت لها وأعانني أصحابي ، حتى إذا فرغت منها ، جئته وأخبرته ، فخرج معي إليها نقرب له الودي ، ويضعه بيده .
فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة ، فأديت النخل ، وبقي علي المال ، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل بيضة دجاجة من ذهب من بعض المغازي ، فقال : ما فعل الفارسي المكاتب ؟ فدعيت له ، فقال : خذها فأد بها ما عليك . قلت : وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي ؟ قال : خذها فإن الله سيؤدي بها عنك . فأخذتها فوزنت لهم منها أربعين أوقية ، وأوفيتهم حقهم وعتقت ، فشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق حرا ، ثم لم يفتني معه مشهد .
زاد إبراهيم بن سعد ، عن ابن إسحاق ، فقال عن يزيد بن أبي حبيب ، عن رجل من عبد القيس ، عن سلمان : قال : لما قلت له : وأين تقع هذه من الذي علي ؟ أخذها فقلبها على لسانه ، ثم قال : خذها .
وفي رواية ابن إدريس ، عن ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر ، عن رجل [ ص: 512 ] من عبد القيس أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول : حدثني من حدثه سلمان ، أنه كان في حديثه حين ساقه لرسول الله أن صاحب عمورية قال له : إذا رأيت رجلا كذا وكذا من أرض الشام بين غيضتين ، يخرج من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة في كل سنة مرة ، يتعرضه الناس ، ويداوي الأسقام ، يدعو لهم ، فيشفون ، فائته ، فسله عن الدين الذي يلتمس . فجئت حتى أقمت مع الناس بين تينك الغيضتين .
فلما كان الليلة التي يخرج فيها من الغيضة خرج وغلبني الناس عليه حتى دخل الغيضة الأخرى ، وتوارى مني إلا منكبيه ، فتناولته ، فأخذت بمنكبيه ، فلم يلتفت إلي ، وقال : ما لك ؟ قلت : أسأل عن دين إبراهيم الحنيفية . قال : إنك لتسأل عن شيء ما يسأل الناس عنه اليوم . وقد أظلك نبي يخرج من عند هذا البيت الذي بمكة يأتي بهذا الدين الذي تسأل عنه ، فالحق به . ثم انصرف ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لئن كنت صدقتني لقد لقيت وصي عيسى ابن مريم .
تفرد به ابن إسحاق .
وقاطن النار : ملازمها ، وبنو قيلة ، الأنصار ، والفقير : الحفرة ، والودي : النصبة .
وقال يونس : عن ابن إسحاق ، حدثني عاصم ، حدثني من سمع عمر بن عبد العزيز بنحو مما مر ، وفيه : وقد أظلك نبي يخرج عند أهل هذا البيت ، [ ص: 513 ] ويبعث بسفك الدم . فلما ذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد رأيت حواري عيسى .