فتاوى ريع الوقف
==========
تناول الفقهاء الحديث عن ريع الوقف وغلته والجهات التي يصرف فيها ذلك الريع ، ولكن وقع خلاف بينهم في اعتبار ريع الوقف وقفاً وذلك عند الحديث عن ما يشترى من ريع الوقف هل يُعدُّ وقفاً أو لا ، فكانت أقوالهم على النحو الآتي :
أولاً : مذهب الحنفية :
ذهب الحنفية في الصحيح من مذهبهم إلى أن ريع الوقف لا يعد وقفاً ، إلا أنه يعتبر ملكاً لجهة الوقف .
وفي قول آخر أن ما يشترى من ريع الوقف أو غلته يعد وقفاً كأصله .
قال ابن الهمام : «وللمتولي أن يشتري بما فضل من غلة الوقف إذا لم يحتج إلى العمارة ، مستغلاً ، ولا يكون وقفاً على الصحيح» (شرح فتح القدير 5/449)
وقال الدر المختار (4/416) : «اشترى المتولي بمال الوقف داراً للوقف لا تلحق بالمنازل الموقوفة ، ويجوز بيعها على الأصح» .
قال ابن عابدين : «(قوله : ويجوز بيعها في الأصح) في البزَّازية بعد ذكر ما تقدم : وذكر أبو الليث في الاستحسان يصير وقفاً ، وهذا صريح في أنه المختار. اهـ . قلت : وفي التتارخانية : المختار أنه يجوز بيعها إن احتاجوا إليه » (حاشية ابن عابدين 4/417) .
فقولهم : «يجوز بيعها على الأصح» يفيد أنها ليست وقفاً ؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه ولا هبته .
وقال ابن نجيم : «وفي الخانية : المتولي إذا اشترى من غلة المسجد حانوتاً أو داراً أو مستغلاً آخر جاز؛ لأن هذا من مصالح المسجد ، فإن أراد المتولي أن يبيع ما اشترى أو باع ، اختلفوا فيه ، قال بعضهم : لا يجوز هذا البيع ؛ لأن هذا صار من أوقاف المسجد ، وقال بعضهم : يجوز هذا البيع ، وهو الصحيح ؛ لأن المشتري لم يذكر شيئاً من شرائط الوقف ، فلا يكون ما اشترى من جملة أوقاف المسجد» (البحر الرائق 5/224) .
ثانياً : مذهب المالكية :
لم أجد للمالكية – فيما وقفت عليه من كتبهم – كلاماً حول هذه المسألة تحديداً ، إلا أنه جاء في سياق كلامهم حول جواز صرف ريع الوقف في وجوه البر ما يدل على أن ذلك الريع لا يعد وقفاً ، وإلا لما جاز صرفه إلى غير مستحقيه ممن عينهم الواقف .
قال ابن عليش في فتاويه : «صرف ريع الوقف في وقف آخر فيه خلاف بين الأندلسيين والقرويين . قال السيد البليدي في حاشيته على شرح الشيح عبد الباقي ما نصه : مسألة مهمة ، وهي أنه وقع الخلاف بين الأندلسيين في ريع الوقف المستغنى عنه حالاً ومآلاً لكثرة ذلك ، هل يصرف في وجوه الخير ؛ لأن ما كان لوجه الله يستعمل بعضه في بعض ، وعليه ابن حبيب عن أصبغ عن ابن القاسم ، وقاله ابن الماجشون ، وعليه ابن رشد ، ولأن في ذلك إبقاء غرض الواقف من ابتغاء الثواب والسلامة من الخيانة بسرقة الريع ، أو يشترى به أصول وعليه والقرويون » (فتح العلي المالك 2/242) .
وقال أبو عبد الله القوري : «ولهذا ذهب الأندلسيون خلاف مذهب القرويين ، وبه قال ابن القاسم . والأصح الجواز وهو الأظهر في النظر والقياس؛ وذلك إن منعنا الحبس وحرمنا المحبس من الانتفاع الذي حبس من أجله وعرضنا تلك الفضلات للضياع لأن إنفاق الأوفار في سبيل كمسألتنا أنفع للمحبس وأنمى لأجره وأكثر لثوابه» (المعيار 7/187) .
فلتخص مما سبق أن للمالكية قولين في المسألة ، قول بجواز صرف الوقف في وجوه البر غير ما نص عليه الواقف إن كان هناك فائض من ريع الوقف ، وهو مذهب الأندلسيين .
والقول الآخر بعدم جواز صرفه فيما ذكر ، وإنما يدخر للوقف نفسه ، وهو مذهب القرويين ، وأفتى به السرقسطي في جواب له حول هذه المسألة فقال : «وإن اتسعت الغلة وكثرت لم يجز له (أي الناظر) استنفادها ، ويجب عليه ادخارها ليوم الحاجة إليه ؛ إذ قد تقل الغلة يوماً فلا يكون فيها محمل الحاجة، وهذا المعنى قرره ابن رشد في نوازله وأفتى به» (المعيار 7/122) .
ثالثاً : مذهب الشافعية :
يرى الشافعية أن ريع الوقف لا يكون وقفاً إلا إذا أوقفه الناظر ، أو كان بناءً من ريع الوقف ، بشرط أن ينويه مع البناء .
أما إذا لم يوقفه الناظر ولم يكن بناءً فلا يكون وقفاً .
قال في تحفة المحتاج (5/448- مع حاشية الشرواني) : «ما يشتريه الواقف من ماله أو من ريع الوقف لا يصير وقفاً إلا إن وقفه الناظر ... أما ما يبنيه من ماله أو من ريع في نحو الجدر الموقوفة ، فيصير وقفاً بالبناء لجهة الوقف ، أي بنيَّة ذلك مع البناء » .
وقال في حكم ما لو اشترى الموقوف عليه شيئاً من غلة الوقف (2/438) : «ولو اشتراه من غلة الوقف فهو ملكه أيضاً، إلا أن يكون الواقف اشترط أن يبدأ من غلته بعمارته فيكون وقفاً كالأصل ...».
ثم قال : «أفتى الغزالي بأن الحاكم إذا اشترى للمسجد من غلة وقفه عقاراً كان طَلْقاً ، إلا إذا رأى وقفه عليه . انتهى . ومراده بالطلق أنه ملك للمسجد» . وانظر حاشية الجمل (7/415) .
وفي فتاوى شهاب الدين الرملي (3/396) : «ما اشتراه الناظر من ماله أو من ريع الوقف لا يصير وقفاً إلا بإنشائه، والمنشئ له فيهما هو الناظر ... وأما ما يبنيه من ماله أو من ريع الوقف في الجدران الموقوفة فإنه يصير وقفاً بالبناء لجهة الوقف» .
رابعاً : مذهب الحنابلة :
يرى الحنابلة أن غلة الوقف تعد وقفاً بشرط أن ينويه الناظر أو الموقوف عليه للوقف .
قال في شرح منتهى الإرادات (2/416) : «ويتوجه إن غرس أو بنى موقوف عليه أو ناظر في قوف أنه له إن أشهد ، ولو غرسه أو بناه للوقف أو من مال الوقف فهو وقف » .
وفي الروض المربع (2/241) : «وإذا غرس الناظر أو بنى في الوقف من مال الوقف ، سواء نواه أو لم ينوه ، أو من ماله ونواه للوقف فللوقف » .
ويقول ابن تيمية : «إن الواقف لو لم يشترط هذا ، فزائد الوقف يصرف في المصالح التي هي نظير مصالحه وما يشبهها ؛ مثل صرفه في مساجد أُخر ، وفي فقراء الجيران ونحو ذلك؛ لأن الأمر دائر بين أن يُصرف في مثل ذلك أو يرصد لما يحدث من عمارة ونحوه ، ورصده دائماً مع زيادة الريع لا فائدة فيه ، بل فيه مضرة وهو حبسه لمن يتولى عليهم من الظالمين المباشرين والمتولين الذين يأخذونه بغير حق. وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه حض الناس على مكاتب يجمعون له ، ففضلت فضلة فأمر بصرفها في المكاتبين ، والسبب فيه أنه إذا تعذَّر المعيَّن صار الصرف إلى نوعه ، ولهذا كان الصحيح في الوقف هو هذا القول ، وأن يتصدق بما فضل من كسوته كما كان عمر بن الخطاب يتصدق كل عام بكسوة الكعبة يقسمها بين الحجاج » (مجموع الفتاوى 31/18).
خامساً : الفتاوى المعاصرة .
وردت مثل هذه المسألة في فتاوى الأزهر ، حيث بني فيها القول على مذهب الحنفية ، وبيّن أن العمل في المذهب على أن ما يشترى من غلة الوقف لا يكون وقفاً إلا برضى جميع المستحقين لغلة الوقف .
ونص فتوى الأزهر (6/292) : «ومتى كان الوقف على محتاج إلى العمارة جاز الشراء بإذن القاضي ، وقد اختلف العلماء في أنه يصير وقفاً ، وهذا صريح في أنه المختار كما قاله الرملي ، ولكن في التتارخانية : والمختار أنه يجوز بيعها إن احتاجوا إليه ، كذا يؤخذ من رد المحتار على الدر ، والعمل على أنه يجوز بيعه ولا يصير وقفاً . نعم إن رضي جميع المستحقين لتلك الغلة بالمشترى ليكون وقفاً ملحقاً بأصله كان وقفاً» .
==========
تناول الفقهاء الحديث عن ريع الوقف وغلته والجهات التي يصرف فيها ذلك الريع ، ولكن وقع خلاف بينهم في اعتبار ريع الوقف وقفاً وذلك عند الحديث عن ما يشترى من ريع الوقف هل يُعدُّ وقفاً أو لا ، فكانت أقوالهم على النحو الآتي :
أولاً : مذهب الحنفية :
ذهب الحنفية في الصحيح من مذهبهم إلى أن ريع الوقف لا يعد وقفاً ، إلا أنه يعتبر ملكاً لجهة الوقف .
وفي قول آخر أن ما يشترى من ريع الوقف أو غلته يعد وقفاً كأصله .
قال ابن الهمام : «وللمتولي أن يشتري بما فضل من غلة الوقف إذا لم يحتج إلى العمارة ، مستغلاً ، ولا يكون وقفاً على الصحيح» (شرح فتح القدير 5/449)
وقال الدر المختار (4/416) : «اشترى المتولي بمال الوقف داراً للوقف لا تلحق بالمنازل الموقوفة ، ويجوز بيعها على الأصح» .
قال ابن عابدين : «(قوله : ويجوز بيعها في الأصح) في البزَّازية بعد ذكر ما تقدم : وذكر أبو الليث في الاستحسان يصير وقفاً ، وهذا صريح في أنه المختار. اهـ . قلت : وفي التتارخانية : المختار أنه يجوز بيعها إن احتاجوا إليه » (حاشية ابن عابدين 4/417) .
فقولهم : «يجوز بيعها على الأصح» يفيد أنها ليست وقفاً ؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه ولا هبته .
وقال ابن نجيم : «وفي الخانية : المتولي إذا اشترى من غلة المسجد حانوتاً أو داراً أو مستغلاً آخر جاز؛ لأن هذا من مصالح المسجد ، فإن أراد المتولي أن يبيع ما اشترى أو باع ، اختلفوا فيه ، قال بعضهم : لا يجوز هذا البيع ؛ لأن هذا صار من أوقاف المسجد ، وقال بعضهم : يجوز هذا البيع ، وهو الصحيح ؛ لأن المشتري لم يذكر شيئاً من شرائط الوقف ، فلا يكون ما اشترى من جملة أوقاف المسجد» (البحر الرائق 5/224) .
ثانياً : مذهب المالكية :
لم أجد للمالكية – فيما وقفت عليه من كتبهم – كلاماً حول هذه المسألة تحديداً ، إلا أنه جاء في سياق كلامهم حول جواز صرف ريع الوقف في وجوه البر ما يدل على أن ذلك الريع لا يعد وقفاً ، وإلا لما جاز صرفه إلى غير مستحقيه ممن عينهم الواقف .
قال ابن عليش في فتاويه : «صرف ريع الوقف في وقف آخر فيه خلاف بين الأندلسيين والقرويين . قال السيد البليدي في حاشيته على شرح الشيح عبد الباقي ما نصه : مسألة مهمة ، وهي أنه وقع الخلاف بين الأندلسيين في ريع الوقف المستغنى عنه حالاً ومآلاً لكثرة ذلك ، هل يصرف في وجوه الخير ؛ لأن ما كان لوجه الله يستعمل بعضه في بعض ، وعليه ابن حبيب عن أصبغ عن ابن القاسم ، وقاله ابن الماجشون ، وعليه ابن رشد ، ولأن في ذلك إبقاء غرض الواقف من ابتغاء الثواب والسلامة من الخيانة بسرقة الريع ، أو يشترى به أصول وعليه والقرويون » (فتح العلي المالك 2/242) .
وقال أبو عبد الله القوري : «ولهذا ذهب الأندلسيون خلاف مذهب القرويين ، وبه قال ابن القاسم . والأصح الجواز وهو الأظهر في النظر والقياس؛ وذلك إن منعنا الحبس وحرمنا المحبس من الانتفاع الذي حبس من أجله وعرضنا تلك الفضلات للضياع لأن إنفاق الأوفار في سبيل كمسألتنا أنفع للمحبس وأنمى لأجره وأكثر لثوابه» (المعيار 7/187) .
فلتخص مما سبق أن للمالكية قولين في المسألة ، قول بجواز صرف الوقف في وجوه البر غير ما نص عليه الواقف إن كان هناك فائض من ريع الوقف ، وهو مذهب الأندلسيين .
والقول الآخر بعدم جواز صرفه فيما ذكر ، وإنما يدخر للوقف نفسه ، وهو مذهب القرويين ، وأفتى به السرقسطي في جواب له حول هذه المسألة فقال : «وإن اتسعت الغلة وكثرت لم يجز له (أي الناظر) استنفادها ، ويجب عليه ادخارها ليوم الحاجة إليه ؛ إذ قد تقل الغلة يوماً فلا يكون فيها محمل الحاجة، وهذا المعنى قرره ابن رشد في نوازله وأفتى به» (المعيار 7/122) .
ثالثاً : مذهب الشافعية :
يرى الشافعية أن ريع الوقف لا يكون وقفاً إلا إذا أوقفه الناظر ، أو كان بناءً من ريع الوقف ، بشرط أن ينويه مع البناء .
أما إذا لم يوقفه الناظر ولم يكن بناءً فلا يكون وقفاً .
قال في تحفة المحتاج (5/448- مع حاشية الشرواني) : «ما يشتريه الواقف من ماله أو من ريع الوقف لا يصير وقفاً إلا إن وقفه الناظر ... أما ما يبنيه من ماله أو من ريع في نحو الجدر الموقوفة ، فيصير وقفاً بالبناء لجهة الوقف ، أي بنيَّة ذلك مع البناء » .
وقال في حكم ما لو اشترى الموقوف عليه شيئاً من غلة الوقف (2/438) : «ولو اشتراه من غلة الوقف فهو ملكه أيضاً، إلا أن يكون الواقف اشترط أن يبدأ من غلته بعمارته فيكون وقفاً كالأصل ...».
ثم قال : «أفتى الغزالي بأن الحاكم إذا اشترى للمسجد من غلة وقفه عقاراً كان طَلْقاً ، إلا إذا رأى وقفه عليه . انتهى . ومراده بالطلق أنه ملك للمسجد» . وانظر حاشية الجمل (7/415) .
وفي فتاوى شهاب الدين الرملي (3/396) : «ما اشتراه الناظر من ماله أو من ريع الوقف لا يصير وقفاً إلا بإنشائه، والمنشئ له فيهما هو الناظر ... وأما ما يبنيه من ماله أو من ريع الوقف في الجدران الموقوفة فإنه يصير وقفاً بالبناء لجهة الوقف» .
رابعاً : مذهب الحنابلة :
يرى الحنابلة أن غلة الوقف تعد وقفاً بشرط أن ينويه الناظر أو الموقوف عليه للوقف .
قال في شرح منتهى الإرادات (2/416) : «ويتوجه إن غرس أو بنى موقوف عليه أو ناظر في قوف أنه له إن أشهد ، ولو غرسه أو بناه للوقف أو من مال الوقف فهو وقف » .
وفي الروض المربع (2/241) : «وإذا غرس الناظر أو بنى في الوقف من مال الوقف ، سواء نواه أو لم ينوه ، أو من ماله ونواه للوقف فللوقف » .
ويقول ابن تيمية : «إن الواقف لو لم يشترط هذا ، فزائد الوقف يصرف في المصالح التي هي نظير مصالحه وما يشبهها ؛ مثل صرفه في مساجد أُخر ، وفي فقراء الجيران ونحو ذلك؛ لأن الأمر دائر بين أن يُصرف في مثل ذلك أو يرصد لما يحدث من عمارة ونحوه ، ورصده دائماً مع زيادة الريع لا فائدة فيه ، بل فيه مضرة وهو حبسه لمن يتولى عليهم من الظالمين المباشرين والمتولين الذين يأخذونه بغير حق. وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه حض الناس على مكاتب يجمعون له ، ففضلت فضلة فأمر بصرفها في المكاتبين ، والسبب فيه أنه إذا تعذَّر المعيَّن صار الصرف إلى نوعه ، ولهذا كان الصحيح في الوقف هو هذا القول ، وأن يتصدق بما فضل من كسوته كما كان عمر بن الخطاب يتصدق كل عام بكسوة الكعبة يقسمها بين الحجاج » (مجموع الفتاوى 31/18).
خامساً : الفتاوى المعاصرة .
وردت مثل هذه المسألة في فتاوى الأزهر ، حيث بني فيها القول على مذهب الحنفية ، وبيّن أن العمل في المذهب على أن ما يشترى من غلة الوقف لا يكون وقفاً إلا برضى جميع المستحقين لغلة الوقف .
ونص فتوى الأزهر (6/292) : «ومتى كان الوقف على محتاج إلى العمارة جاز الشراء بإذن القاضي ، وقد اختلف العلماء في أنه يصير وقفاً ، وهذا صريح في أنه المختار كما قاله الرملي ، ولكن في التتارخانية : والمختار أنه يجوز بيعها إن احتاجوا إليه ، كذا يؤخذ من رد المحتار على الدر ، والعمل على أنه يجوز بيعه ولا يصير وقفاً . نعم إن رضي جميع المستحقين لتلك الغلة بالمشترى ليكون وقفاً ملحقاً بأصله كان وقفاً» .