الخبر عن بني سليم بن منصور من هذه الطبقة الرابعة و تعديد بطونهم و ذكر أنسابهم و أولية أمرهم و تصاريف أحوالهم
و نبدأ أولا بذكر بني كعب و أخبارهم و أما بني سليم هؤلاء فبطن متسع من أوسع بطون مضر و أكثرهم جموعا و كانت منازلهم بنجد و هم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس و فيهم شعوب كثيرة و رياستهم في الجاهلية لبني الشريد ابن رياح بن ثعلبة بن عطية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهنة بن سليم و عمرو بن الشريد عظيم مضر و أبناؤه :
صخر و معاوية فصخر أبو الخنساء و زوجها العباس ابن مرداس صحابي حضرت معه القادسية
و من بطون سليم عطية و رعل و ذكوان اللذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتكوا بأصحابه فخمد ذكرهم و كان بنو سليم لعهد الخلافة العباسية شوكة بغي و فتنة حتى لقد أوصى بعض خلفائهم ابنه أن لا يتزوج فيهم و كانوا يغيرون على المدينة و تخرح الكتائب من بغداد إليهم وتوقع بهم و هم منتبذون بالقفر و لما كانت فتنة القرامطة صاروا حلفاء لأبي الطاهر و بنيه أمراء البحرين من القرامطة مع بني عقيل بن كعب
ثم لما انقرض أمر القرامطة غلب بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة لما أن القرامطة كانوا على دعوتهم ثم غلب بنو الأصفر بن تغلب على البحرين بدعوة العباسية أيام بني بويه و طردوا عنها بني سليم فلحقوا بصعيد مصر و أجازهم المستنصر على يد اليازوري وزيره إلى أفريقية لحرب المعز بن باديس عند خلافته عليهم كما ذكرنا ذلك أولا فأجازوا مع الهلاليين و أقاموا ببرقة و جهات طرابلس زمانا ثم صاروا إلى أفريقية كما يذكر في الخبر عنهم و بأفريقية و ما إليها من هذا العهد من بطونهم أربعة بطون زغب و ذياب و هبيب و عوف فأما زغب فقال ابن الكلبي في نسبته : زغب بن نصر بن خفاف بن امرىء القيس بن بهنة بن سليم و قال أبو محمد التجاني من مشيخة التونسيين في رحامة : أنه زغب بن ناصر بن خفاف بن جرير بن ملاك بن خفاف و زعم أنه أبو ذياب و زغب الأصغر الذين هم الآن من أحياء بني سليم بأفريقية و قال أبو الحسن بن سعيد : هو زغب بن مالك بن بهنة بن سليم كانوا بين الحرمين و هم الآن بأفريقية مع إخوانهم و نسب ذياب بن مالك بن بهنة فالله أعلم بالصحيح من ذلك
و نسب ابن سعيد و التجاني لهؤلاء قريب بعضه من بعض و لعله واحد و سقط لابن سعيد جد و أما هبيب فهو ابن بهنة بن سليم و مواطنهم من أول أرض برقة مما يلي أفريقية إلى العقبة الصغيرة من جهة الإسكندرية أقاموا هنالك بعد دخول إخوانهم إلى أفريقية و أول ما يلي الغرب منهم بنو حميد لهم أجرابية و جهاتها و هم عديد يرهبهم الحاج و يرجعون إلى شماخ لها عدد و لهم العز في هيت لكونها صارت خصب برقة الذي منه المرج و في شرقيهم إلى العقبة الكبيرة من قبائل هيب بنو لبيد و هم بطون عديدة وبين شماخ و لبيد فتن و حروب و في شرقيهم إلى العقبة الصغيرة شمال محارب و الرياسة في هاتين القبيلتين لبني عزاز و هم المعروفون بالعزة و جميع بطون هيب هذه استولت على إقليم طويل خربوا مدنه ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلا لأشياخهم و في خدمتهم بربر و يهود يحترفون بالفلاحة و التجر و معهم من رواحة و فزارة أمم و اشتهر لهذا العهد ببرقة من شيوخ أعرابها أبو ذؤيب و لا أدري نسبه فيمن هو و هم يقولون من العزة و قوم يقولون من بني أحمد و قوم يجعلونه من فزارة هنالك قليل عددهم و الغلب لهيب فكيف تكون الرياسة لغيرهم ؟
و أما عوف فهو ابن بهنة بن سليم و مواطنهم من وادي قابس إلى أرض بونة و لهم حرمان عظيمان بمرداس و لعلاق بطنان بنو يحيى و حصن و في أشعار هؤلاء المتأخرين منهم مثل حمزة بن عمر شيخ الكعوب و غيره أن يحيى و علاقا أخوان و لبنى يحيى ثلاثة بطون : حمير و دلاج و لحمير بطنان : ترجم و كردم و من ترجم الكعوب بنو كعب بن أحمد بن ترجم و لحصن بطنان بنو علي و حكيم و نحن نأتي على الحكاية عن جميعهم بطنا بطنا و كانوا عند إجازتهم على أثر الهلاليين مقيمين ببرقة كما ذكرناه و هنالك نزل عليهم القاضي أبو بكر بن العربي و أبوه حين غرقت سفينتهم و نجوا إلى الساحل فوجدوا هنالك بني كعب فنزل عليهم فأكرمه شيخهم كما ذكر في رحلته
و لما كانت فتنة ابن غانية و قراقش الغزي بجهات طرابلس و قابس و ضواحيها كما نذكر في أخبارهم كان بنو سليم هؤلاء فيمن تجمع إليهم من ذؤبان العرب أو شاب القبائل فاعصوصبوا عليهم و كان لهم معهم حروب و قتل قراقش ثمانين من الكعوب و هربوا إلى برقة و استصرخوا برياح من بطون سليم و دبكل من حمير فصارخوهم إلى أن تجلت غمامة تلك الفتنة بمهلك قراقش و ابن غانية من بعده و كان رسوخ الدولة الحفصية بأفريقية و لما هلك قراقش و اتصلت فتنة ابن غانية مع أبي محمد بن أبي حفص و رجع بنو سليم إلى أبي محمد صاحب أفريقية و كان ابن غانية الزواودة من رياح و شيخهم مسعود البلط فر من المغرب و لحق به فكان معه هو و بنوه و بنو عوف هؤلاء من سليم مع الشيخ أبي محمد فلما استبد إبنه الأمير أبو زكريا بملك أفريقية رجعوا جميعا إليه و الشفوف للزواودة فلما انقطع دابر ابن غانية صرف عزمه إلى إخراج رياح من أفريقية لما كانوا عليه من العيث بها و الفساد فجاء بمرداس و علاق و هما بنو عوف بن سليم هؤلاء من بطونهم بنواحي السواحل و قابس و اصطنعهم
و رياسة مرداس يومئذ في أولاد جامع و بعده لإبنه يوسف و بعده هنان بن جابر بن جامع و رياسة علاق في الكعوب لأولاد شيخه ابن يعقوب بن كعب
و كانت رياسة علاق عند دخولهم أفريقية لعهد هذا المعز و بنيه لرافع بن حماد و عنده راية جده التي حضر بها مع النبي صلى الله عليه وسلم و هو جد بني كعب فيما يزعمون
فاستظهر بهم السلطان على شأنه و أنزلهم بساح القيروان و أجزل لهم الصلات و العوائد و زحموا الزواودة من رياح بمنكب بعد أن كانت لهم استطالة على جميع بلاد أفريقية
و كانت أبة أقطاعا لمحمد بن مسعود بن سلطان أيام الشيخ أبي محمد بن أبي حفص فأقبل إليه مرداس في بعض السنين عيرهم للكيل و نزلوا به فرأوا نعمة الزواودة في تلولهم تلك فشرهوا إليها و أجمعوا طلبها فحاربوهم فغلبوهم و قتلوا رزق بن سلطان و اتصلت الفتنة فلما حضرهم الأمير أبو زكريا صادف عندهم القبول لتحريضه فاعصوصبوا جميعا على فتنة الزواودة و تأهبوا لها
و تكررت بينهم و بين رياح الحروب و الوقائع حتى أزاحوهم عن أفريقية إلى مواطنهم لهذا العهد بتلول قسنطينة و بجاية إلى الزاب و ما إليه ثم وضعوا أوزار الحرب و أوطن كل حيث قسمت له قومه و ملك بنو عوف سائر ضواحي أفريقية و تغلبوا عليه و اصطنعهم السلطان و أثبتهم في ديوان العطاء
و لم يقطع شيئا من البلاد و اختص بالولاية منهم أولاد جامع و قومه فكانوا له خالصة و تم تدبيره في غلب الزواودة و رياح في ضواحي أفريقية و إزعاجهم عنها إلى ضواحي الزاب و بجاية و قسنطينة و طال بالدولة و اختلف حالهم في الاستقامة معها و النفرة و ضرب السلطان بينهم ابن علاق فنشأت الفتنة و سخط عنان بن جابر شيخ مرداس من أولاد جامع مكانه من الدولة فذهب مغاضبا عنها و أقام بناجعته من مرداس و من إليهم بنواحي المغرب في بلاد رياح من زاغر إلى ما يقاربها و خاطبه أبو عبد الله بن أبي الحسن خالصة السلطان أبي زكريا صاحب أفريقية يومئذ يؤنبه على فعلته في مراجعة السلطان بقصيدة منها قوله و هي طويلة :
( قدوا المهامه بالمهرية القود ... و اطووا فلاة بتصويب و تصعيد )
و منها قوله :
( سلوا دمنة بين الغضا و السواجر ... هل استن فيها واكفات المواطر )
فأجاب عن هذه عنان بقوله :
( خليلي عوجا بين سلع و حاجر ... بهوج عنا جيج نواج ضوامر )
يقيم عروة في النزوع عنهم و يستعطف السلطان بعض الشيء كما نذكره في أخبار الدولة الحفصية
ثم لحق بمراكش بالخليفة السعيد من بني عبد المؤمن محرضا له على أفريقية و آل أبي حفص و هلك في سبيله و قبر بسلا و لم يزل حال مرداس بين النفرة و الأصحاب إلى أن هلك الأمير أبو زكريا و استفحل ملك إبنه المستنصر من بعده و علا الكعوب بذمة قوية من السلطان و كان شيخهم لعهده عبد الله بن شيخة فسعى عند السلطان في مرداس و كان أبو جامع مبلغا سعايته و اعصوصبت عليه سائر علاق فحاربوا المرداسيين هؤلاء و غلبوهم على الأوطان و الحظ من السلطان و أخرجوهم عن أفريقية و صاروا إلى القفر و هم اليوم به من جهة بادية الأعراب أهل الفلاة ينزعون إلى الرمل و يمتارون من أطراف التلول تحت أحكام سليم أو رياح
و يختصمون بالتغلب على ضواحي قسنطينة أيام مرابع الكعوب و صائفهم بالتلول فإذا انحدروا إلى مشاتيهم بالقفر أجفلت أحياء مرداس إلى القفر البعيد و يخالطونهم على خلف و لهم على توزر و نفطة و بلاد قسطيلة أتاوة يؤدونها إليهم بما هي مواطنهم و مجالاتهم و تصرفهم و لأنها في الكثير من أعراضهم
و صاروا لهذا العهد إلى تملك القفار بها فاصطفوا منه كثيرا و أصبح منه عمران قسنطينة لهم مرتابا و استقام أمر بني كعب من علاق في رياسة عوف و سائر بطونهم من مرداس و حصين و رياح ودلاج و من بطون رياح حبيب و علا شأنهم عند الدولة و اعتزوا على سائر بني بن منصور و استقرت رياستهم في ولد يعقوب ابن كعب و هم بنو شيخة و بنو طاهر و بنو علي و كان التقدم لبني شيخة بن يعقوب لعبد الله أولا ثم لإبراهيم أخيه ثم لعبد الرحمن ثالثهما على ما يأتي و كان بنو علي يرادفونهم في الرياسة و كان منهم بنو كثير بن يزيد بن علي و كان كعب هذا يعرف بينهم بالحاج لما كان قضى فرضه و كانت له صحابة مع أبي سعيد العود الرطب شيخ الموحدين لعهد السلطان المستنصر أفادته جاها و ثروة و أقطع له السلطان أربعا من القرى أصارها لولده كان منها بناحية صفاقس و بأفريقية و بناحية الجريد و كان له من الولد سبعة أربعة لأم و هم أحمد و ماضي و علي و محمد و ثلاثة لأم و هم : بريد بركات و عبد الغني فنازع أحمد أولاد شيخة في رياستهم على الكعوب و اتصل بالسلطان أبي إسحق و أحفظهم ذلك فلحقوا بالدعي عند ظهوره و كان من شأنه ما قدمنا
و هلك أحمد و استقرت الرياسة في ولده و كان له من الولد جماعة فمن غزية إحدى نساء بني يزيد من صنهاجة : قاسم و مرا أبو الليل و أبو الفضل و من الحكمية قائد و عبيد و منديل و عبد الكريم و من السرية و جهد الملك و عبد العزيز و لما هلك أحمد قام بأمرهم بعده إبنه أبو الفضل ثم من بعده أخوه أبو الليل بن أحمد و غلب رياسة بني أحمد هؤلاء على قومهم و تألفوا ولد إخوتهم جميعا
و عرفوا ما بين أحيائهم بالأعشاش إلى هذا العهد و لما كان شأن الدعي بن أبي عمارة و يئس الفضل بن يحيى المخلوع و أوقع بالسلطان أبي إسحق و قتله وأكثر بنيه كما نذكره في موضعه لحق أبو حفص أخوه الأصغر بقلعة سنان من حصون أفريقية
و كان لأبي الليل بن أحمد في نجاته ثم في القيام بأمره أثر وقع منه أحسن المواقع فاصطنعه به و شيد من رياسته على قومه عندما أدال الله به من الدعي فاصطنع أبو الليل هذا بأمرهم
و زاحم أولاد شيخة بمنكب قوي و لحق آخرهم عبد الرحمن بن شيخة بجباية عندما اقتطعها الأمير أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحاق على مالك عمه السلطان أبي حفص فوفد عليه مستجيشا به و مرغبا له في ملك تونس يرجو بذلك كثرة رياسته فهلك دون مرامه و قبر بجباية و انقرضت رياسة أولاد شيخة بمهلكه و استبد أبو الليل بالرياسة في الكعوب و وقع بينه و بين السلطان أبي حفص وحشة فقدم على الكعوب مكانه محمد بن عبد الرحمن بن شيخة فقد على الكعوب مكانه محمد ابن عبد الرحمن بن شيخة و زاحمه به أياما حتى استقام على الطاعة و لما هلك قام بأمرهم إبنه أحمد و اتصل أمر رياسته و نكبه السلطان أبو عصيدة فهلك في سجنه و ولي بعده أخوه عمر بن أبي الليل و زاحمه هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب إلى أن هلك هراج كما نذكره و لما هلك عمر قام بأمره في قومه أخوه محمد بن أبي الليل و كفل مولاهم و حمزة ابن أخيه عمر و كان عمر مضعفا عاجزا فنازعه أولاد مهلهل ابن عمه قاسم و هم : محمد و مسكيانه و مرغم و طالب و عون في آخرين لم يحضرني أسماؤهم فترشحوا اللاستبداد على قومهم و مجاذبة محمد ابن عمهم أبي الليل حبل الرياسة فيهم و لم يزالوا على ذلك سائر أيامهم
و لما ظهر هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب و عظم ضغائنه و عتوه و إفساد الأعراب من أحيائه السابلة و ساء أثره في ذلك و أسف السلطان بالاعتزاز عليه و الاشتراط في ماله و توغلت له صدور الغوغاء و العامة فوفد على تونس عام خمسة و سبعمائة و دخل المسجد يوم الجمعة لابسا خفيه و نكر الناس عليه وطأة بين الله بخف لم ينزعه و ربما قال له في ذلك بعض المصلين إلى جنبه فقال : إني أدخل بها بساط السلطان فكيف الجامع ؟ فاستعظم الناس كلمته و ثاروا به لحينه فقتلوه في المسجد و أرضوا الدولة بفعلهم و كان أمره مذكورا
و قتل السلطان بعد ذلك أخاه كيسان و ابن عمه شبل بن منديل بن أحمد و قام بأمر الكعوب من بعد محمد بن أبي الليل و هراج بن عبيد مولاهم و حمزة أبناء عمر و استبد برياسة البدو من سليم بأفريقية على مزاحمة من بني عمهم مهلهل بن قاسم و أمثالهم و فحول سواهم و انتقض أحمد بن أبي الليل و ابن أخيه مولاهم بن عمر على السلطان سنة سبع و سبعمائة و استدعى عثمان بن أبي دبوس من مكانه بوطن ذباب فجاءه و أجلب له على تونس و نزل كدية الصعتر بظاهرها و برز إليهم الوزير أبو عبد الله بن يزريكن فهزمهم و استخدم أحمد بن أبي الليل
ثم تقبض عليه و اعتقل بتونس إلى أن هلك و وفد بعد ذلك مولاهم ابن عمر سنة ثمان و سبعمائة فاعتقل معه و لحق أخوه حمزة بالأمير أبي البقاء خالد ابن الأمير زكريا صاحب الثغر الغربي من أفريقية بين يدي مهلك السلطان أبي عصيدة و معه أبو علي بن كثير و يعقوب بن الفرس و شيوخ بني سليم هؤلاء و رغبوا الأمير أبا البقاء في ملك الحضرة و جاؤا في صحبته و أطلق أخاه مولاهم من الاعتقال منذ دخول السلطان تونس سنة عشر و سبعمائة كما نذكره في خبره
ثم لحق حمزة بالسلطان أبي يحيى زكريا ابن اللحياني و اتصلت به يده فرفعه على سائر العرب حتى لقد نفس ذلك عليه أخوه مولاهم و نزع إلى السلطان أبي يحيى الطويل أمر الخلافة ولي سبعا ببجاية و ثلاثين بعد استيلائه على الحضرة و سائر بلاد أفريقية فاستخلصه السلطان لدولته و نابذه حمزة فأجلب عليه بالقرابة واحدا بعد واحد كما نذكره و داهن أخوه مولاهم في مناصحة السلطان و مالا حمزة على شأنه و ربما نمي عنه الغدر فتقبض عليه السلطان و على إبنه منصور و علي ربيبه زغدان و مغزان بن محمد بن أبي الليل و كان الساعي بهم إلى السلطان ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد و أحمد بن عبد الواحد أبو عبيد و أبو هلال بن محمود بن فائد و ناجي بن أبي علي بن كثير و محمد بن مسكين و أبو زيد بن عمر بن يعقوب و من هوارة فيصل بن زعزاع فقتلوا لحينهم سنة إثنتين و عشرين و سبعمائة و بعث أشلاؤهم إلى حمزة فاشتد حنقه و لحق صريخا بأبي تاشفين صاحب تلمسان لعهده من آل يغمراسن و معه محمد ابن السلطان اللحياني المعروف بأبي ضربة قد نصبه للملك و أمدهم أبو تاشفين بعساكر زناتة و زحفوا إلى أفريقية فخرج إليهم السلطان و هزمهم برغيش و لم يزل حمزة من بعدها مجلبا على السلطان أبي يحيى بالمرشحين من أعياص البيت الحفصي و أبو تاشفين صاحب تلمسان يمدهم بعساكره و تكررت بينهم الوقائع و الأيام سجالا كما نذكره في مواضعه حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن و قومه من بني مرين على تلمسان و الغرب الأوسط سنة سبع و ثلاثين و سبعمائة و استتبعوا بني عبد الواد و سائر زناتة أقصي حمزة عن فتنته و انقطع حبلها في يده و لحق بالسلطان أبي الحسن مستشفعا به فتقبل السلطان أبو يحيى شفاعته و عفا له عن جرائمه و أحله محل الأصفاء و الخلوص
فشمر عن نصحه و اجتهاده و ظاهر قائده محمد بن الحكيم على تدويخ أفريقية و ظهر البدو من الأعراب فاستقام أمر الدولة و توثر مهادها و هلك حمزة سنة أربعين و سبعمائة بيد أبي عون نصر ابن أبي علي عبد السلام من ولد كثير بن زيد المتقدم الذكر في بني علي من بطون بني كعب طعنه في الحروب فأشواه و كان فيها مهلكه و قام بأمرهم من بعده إبنه عمر بمظاهرة شقيقه قتيبة و لكن أبا الليل تغلب على سائر الإخوة و القرابة و استبد برياسة بني كعب و سائر بني يحيى و أقتاله بنو مهلهل ينافسونه و يرتقبون الإدالة منه و كان مساهمه في أمره معن بن مطاعن من فزارة وزير أبيه و خرجوا على السلطان بعد مهلك حمزة أبيهم و اتهموا أن قتل أبي عون إياهم إنما كان بممالأة الدولة فنازلوا تونس و جمعوا لمحاصرتها أولاد مهلهل أمثالهم ثم اختلفوا و رحلوا عن البلد و انخذل طالب بن مهلهل و قومه إلى السلطان و نهض في أثرهم فأوقع بهم في القيروان و وفدت مشيختهم على إبنه الأمير أبي العباس بقصره يداخلونه في الخروج على إبنه و كان فيهم معن بن مطاعن وزيرهم فتقبض عليه و قتله و أفلت الباقون
و راجعوا الطاعة و أعطوا الرهن
( و لما هلك ) السلطان أبو يحيى و قام بالأمر إبنه عمر انحرفوا عنه و ظاهروا أخاه أبا العباس صاحب الجريد و ولي العهد و زحفوا معه بظواعنهم إلى تونس فدخلها و قتله أخوه عمر كما نذكره في موضعه و قتل معه أخاهم أبا الهول بن حمزة فأسعفهم بذلك
و وفد خالد على صاحب المغرب السلطان أبي الحسن فيمن وفد عليه من وجوه الدولة و كافة المشيخة من أفريقية و جاء في جملته حتى إذا استولى على البلاد قبض أيديهم عما كانت تمتد إليه من إفساد السابلة و أخذ الأتاوة و انتزع الأمصار التي كانت مقتطعة بأيديهم و ألحقهم بأمثالهم من أعراب بلاد المغرب الأقصى من المعقل و زغبة فثقلت وطأته عليهم و تنكروا له و ساء ظنه بهم و فشت غارات المفسدين من بداويهم بالأطراف فنسب ذلك إليهم و وفد عليه بتونس من رجالاتهم خالد بن حمزة و أخوه أحمد و خليفة بن عبد الله بن مسكين و خليفة بن أبي زيد من شيوخ حليم فسعى بهم عنده أنهم داخلوا بعض الأعياص من أولاد اللحياني من بني أبي حفص كما في رحلته كما نذكره في موضعه فتقبض عليهم و بلغ خبرهم إلى الحي فناشبوا بقسطيلة و الجريد فظفروا بزناتي من بقية آل عبد المؤمن من عقب أبي العباس إدريس الملقب بأبي إدريس آخر خلفائهم بمراكش و استيلاؤه على المغرب و هو أحمد بن عثمان بن إدريس فنصبوه و بايعوه و اجتمعوا عليه
و ناشبت معهم بنو عمهم مهلهل أقتالهم و كان طالب هلك و قام مكانه فيهم ابنه محمد فصرخهم بقومه و اتفقوا جميعا على حرب زناتة و نهض إليهم السلطان أبو الحسن من تونس فاتح تسع و أربعين و سبعمائة فأجفلوا أمامه حتى نزل القيروان ثم ناجزوه ففضوا جموعه و ملؤا حقائبهم بأسلابه و أسلابهم و خضدوا من شوكة السلطان و ألانوا من حد الملك و خفضوا من أمر زناتة و غلبهم الأمم و كان يوم له ما بعده في اعتزاز العرب على الدول آخر الأيام و هلك أبو الليل بن حمزة فعجز عمر عن مقاومة إخوته و استبد بالرياسة عليه أخوه خالد ثم من بعده أخوهما منصور و اعتز على السلطان أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى صاحب تونس لعهده اعتزازا لا كفاء له و انبسطت أيدي العرب على الضاحية و أقطعتهم الدولة حتى الأمصار و ألقاب الجباية و مختص الملك و انتفضت الأرض من أطرافها و وسطها و مازالوا يغالبون الدولة حتى غلبوا على الضاحية و قاسموهم في جبايات الأمصار بالأقطاع ريفا و صحراء و تلولا و جريدا
و يحرضون بين أعياص الدولة و يجلبون بهم على الحضرة لما يعطونه طعمة من الدولة و يرميهم السلطان بأقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد يديل به منهم حتى أحفظوها و يحرش بينهم بقضاء أوطارها حتى إذا أراد الله انقاذ الأمة من هوة الخسف و تخليصهم من مكاره الجوع و الخوف و إدالتهم من ظلمات الموت بنور الاستقامة بعث همة السلطان أمير المؤمنين أبي العباس أحمد أيده الله لطلب إرثه من الخلافة فبعث من بالحضرة فانبعث لها من مكان إمارته بالثغر العربي ونزل إليه أمير البدو و منصور بن حمزة هذا و ذلك سنة إحدى و سبعين و سبعمائة على حين مهلك السلطان أبي إسحق مقتعد كرسي الحضرة و صاحب عصا الخلافة و الجماعة
و قام ابنه خالد بالأمر من بعده فنهض إلى أفريقية و دخل تونس عنوة و استولى على الحضرة سنة اثنتين و سبعين و سبعمائة بعدها و أرهف حده للعرب في الاعتزاز عليهم و قبض أيديهم عن المفاسد و ذويهم فحدثت لمنصور نفرة عن الدولة و نصب الأمير أبو يحيى زكريا ابن السلطان ابن أبي يحيى جدهم الأكبر كان في أحياء العرب منذ سنين كما نذكر ذلك كله في أخبار الدولة و أجلب به على تونس سنة ثلاث و سبعين فامتنعت عليهم و لم يظفروا بشيء و راجع منصور حاله عند السلطان وكشف عن وجه المناصحة و كان عشيرته قد ملوا منه حسدا و منافسة بسوء ملكته عليهم فغدا عليه محمد ابن أخيه أبي الليل وطعنه فأشواه و هلك ليومه سنة خمس و سبعين و افترق جمعهم
و قام بأمرهم من بعده صولة ابن أخيه خالد بن حمزة و يرادفه أولاد مولاهم بن عمر فجهد بعض الشيء في خدمة السلطان و مناصحته ثم رجع إلى العصيان و كشف القناع في الخلاف و اتصل حاله على ذلك ثلاثا و أدال السلطان منه و من قومه بقتالهم أولاد مهلهل و رياستهم لمحمد بن طالب فرجع إليهم رياسة البدو و جعل لهم المنع و الاعطاء فيهم و رفع رتبهم على العرب و تحيز إليه معهم أولاد مولاهم بن عمر بن أبي الليل و نقلت أولاد حمزة سائر هذه الأيام في الخلاف و نهض السلطان سنة ثمانين و سبعمائة إلى بلاد الجريد لتقديم رؤسائها عن المراوغة و حملهم على جادة الطاعة فتعرضوا لمدافعته عنها بإملاء هؤلاء الرؤساء و مشارطتهم لهم على ذلك وبعد أن جمعوا له الجموع من دومان العرب الأعراب و ذياب البدو فغلبهم عليها جميعا و أزاحهم عن ضواحيها و ظفر بفرائسة من أولئك الرؤساء و أصبحوا بين معتقل و مشرد و استولى على قصورهم و ذخائرهم و أبعد أولاد حمزة و أحلافهم من حكيم المفر و جاوزوا تخوم بلادهم من جهة المغرب و اعتزت عليهم الدولة اعتزازا لا كفاء له فنامت الرعايا في ظل الأمن و انطلقت منهم أيدي الاعتمار و المعاش و صلحت السابلة بعد الفساد و انفتحت أبواب الرحمة على العباد
و قد كان اعتزاز هؤلاء العرب على السلطان و الدولة لا ينتهي إليه اعتزاز و لهم عنهجية و إباية و خلق في التكبر الذي هو غريزة لما أنهم لم يعرفوا عهدا للذل و لا يسامون بإعطاء الصدقات لهذا العهد الأول و أما في دولة بني أمية فللعصبية التي كانت للعرب بعضها مع بعض يشهد بذلك أخبار الردة و الخلفاء معهم مع أمثالهم مع أن الصدقة كانت لذلك العهد تتحرى الحق بجانب الاعتزاز و الغلظة فليس في إعطائها كثير غمط و لا مذلة و أما أيام بني العباس حين استفحال الملك و حدوث الغلظة على أهل العصابة فلإبعادهم بالقفر من بلاد نجد و تهامة و ما وراءهما و أما أيام العبيديين فكانت الحاجة تدعو الدولة إلى استمالتهم للفتنة التي كانت بينهم و بين بني العباس و أما حين خرجوا بعد ذلك إلى قضاء برقة و أفريقية فكانوا ضاحين من ظل الملك و لما اصطنعهم بنو أبي حفص كانوا معهم بمكان من الذل و سوم الخسف حتى كنت واقعتهم بالسلطان أبي الحسن و قومه من زناتة بالقيروان فنهجوا سبيل الاعتزاز لغيرهم من العرب على الدول بالمغرب فتحامل المعقل و زغبة على ملوك زناتة و استطاعوا في طلابهم بعد أن كانوا مكبوحين بحكمة الغلب عن التطاول إلى مثلها و الله مالك الأمور
و نبدأ أولا بذكر بني كعب و أخبارهم و أما بني سليم هؤلاء فبطن متسع من أوسع بطون مضر و أكثرهم جموعا و كانت منازلهم بنجد و هم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس و فيهم شعوب كثيرة و رياستهم في الجاهلية لبني الشريد ابن رياح بن ثعلبة بن عطية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهنة بن سليم و عمرو بن الشريد عظيم مضر و أبناؤه :
صخر و معاوية فصخر أبو الخنساء و زوجها العباس ابن مرداس صحابي حضرت معه القادسية
و من بطون سليم عطية و رعل و ذكوان اللذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتكوا بأصحابه فخمد ذكرهم و كان بنو سليم لعهد الخلافة العباسية شوكة بغي و فتنة حتى لقد أوصى بعض خلفائهم ابنه أن لا يتزوج فيهم و كانوا يغيرون على المدينة و تخرح الكتائب من بغداد إليهم وتوقع بهم و هم منتبذون بالقفر و لما كانت فتنة القرامطة صاروا حلفاء لأبي الطاهر و بنيه أمراء البحرين من القرامطة مع بني عقيل بن كعب
ثم لما انقرض أمر القرامطة غلب بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة لما أن القرامطة كانوا على دعوتهم ثم غلب بنو الأصفر بن تغلب على البحرين بدعوة العباسية أيام بني بويه و طردوا عنها بني سليم فلحقوا بصعيد مصر و أجازهم المستنصر على يد اليازوري وزيره إلى أفريقية لحرب المعز بن باديس عند خلافته عليهم كما ذكرنا ذلك أولا فأجازوا مع الهلاليين و أقاموا ببرقة و جهات طرابلس زمانا ثم صاروا إلى أفريقية كما يذكر في الخبر عنهم و بأفريقية و ما إليها من هذا العهد من بطونهم أربعة بطون زغب و ذياب و هبيب و عوف فأما زغب فقال ابن الكلبي في نسبته : زغب بن نصر بن خفاف بن امرىء القيس بن بهنة بن سليم و قال أبو محمد التجاني من مشيخة التونسيين في رحامة : أنه زغب بن ناصر بن خفاف بن جرير بن ملاك بن خفاف و زعم أنه أبو ذياب و زغب الأصغر الذين هم الآن من أحياء بني سليم بأفريقية و قال أبو الحسن بن سعيد : هو زغب بن مالك بن بهنة بن سليم كانوا بين الحرمين و هم الآن بأفريقية مع إخوانهم و نسب ذياب بن مالك بن بهنة فالله أعلم بالصحيح من ذلك
و نسب ابن سعيد و التجاني لهؤلاء قريب بعضه من بعض و لعله واحد و سقط لابن سعيد جد و أما هبيب فهو ابن بهنة بن سليم و مواطنهم من أول أرض برقة مما يلي أفريقية إلى العقبة الصغيرة من جهة الإسكندرية أقاموا هنالك بعد دخول إخوانهم إلى أفريقية و أول ما يلي الغرب منهم بنو حميد لهم أجرابية و جهاتها و هم عديد يرهبهم الحاج و يرجعون إلى شماخ لها عدد و لهم العز في هيت لكونها صارت خصب برقة الذي منه المرج و في شرقيهم إلى العقبة الكبيرة من قبائل هيب بنو لبيد و هم بطون عديدة وبين شماخ و لبيد فتن و حروب و في شرقيهم إلى العقبة الصغيرة شمال محارب و الرياسة في هاتين القبيلتين لبني عزاز و هم المعروفون بالعزة و جميع بطون هيب هذه استولت على إقليم طويل خربوا مدنه ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلا لأشياخهم و في خدمتهم بربر و يهود يحترفون بالفلاحة و التجر و معهم من رواحة و فزارة أمم و اشتهر لهذا العهد ببرقة من شيوخ أعرابها أبو ذؤيب و لا أدري نسبه فيمن هو و هم يقولون من العزة و قوم يقولون من بني أحمد و قوم يجعلونه من فزارة هنالك قليل عددهم و الغلب لهيب فكيف تكون الرياسة لغيرهم ؟
و أما عوف فهو ابن بهنة بن سليم و مواطنهم من وادي قابس إلى أرض بونة و لهم حرمان عظيمان بمرداس و لعلاق بطنان بنو يحيى و حصن و في أشعار هؤلاء المتأخرين منهم مثل حمزة بن عمر شيخ الكعوب و غيره أن يحيى و علاقا أخوان و لبنى يحيى ثلاثة بطون : حمير و دلاج و لحمير بطنان : ترجم و كردم و من ترجم الكعوب بنو كعب بن أحمد بن ترجم و لحصن بطنان بنو علي و حكيم و نحن نأتي على الحكاية عن جميعهم بطنا بطنا و كانوا عند إجازتهم على أثر الهلاليين مقيمين ببرقة كما ذكرناه و هنالك نزل عليهم القاضي أبو بكر بن العربي و أبوه حين غرقت سفينتهم و نجوا إلى الساحل فوجدوا هنالك بني كعب فنزل عليهم فأكرمه شيخهم كما ذكر في رحلته
و لما كانت فتنة ابن غانية و قراقش الغزي بجهات طرابلس و قابس و ضواحيها كما نذكر في أخبارهم كان بنو سليم هؤلاء فيمن تجمع إليهم من ذؤبان العرب أو شاب القبائل فاعصوصبوا عليهم و كان لهم معهم حروب و قتل قراقش ثمانين من الكعوب و هربوا إلى برقة و استصرخوا برياح من بطون سليم و دبكل من حمير فصارخوهم إلى أن تجلت غمامة تلك الفتنة بمهلك قراقش و ابن غانية من بعده و كان رسوخ الدولة الحفصية بأفريقية و لما هلك قراقش و اتصلت فتنة ابن غانية مع أبي محمد بن أبي حفص و رجع بنو سليم إلى أبي محمد صاحب أفريقية و كان ابن غانية الزواودة من رياح و شيخهم مسعود البلط فر من المغرب و لحق به فكان معه هو و بنوه و بنو عوف هؤلاء من سليم مع الشيخ أبي محمد فلما استبد إبنه الأمير أبو زكريا بملك أفريقية رجعوا جميعا إليه و الشفوف للزواودة فلما انقطع دابر ابن غانية صرف عزمه إلى إخراج رياح من أفريقية لما كانوا عليه من العيث بها و الفساد فجاء بمرداس و علاق و هما بنو عوف بن سليم هؤلاء من بطونهم بنواحي السواحل و قابس و اصطنعهم
و رياسة مرداس يومئذ في أولاد جامع و بعده لإبنه يوسف و بعده هنان بن جابر بن جامع و رياسة علاق في الكعوب لأولاد شيخه ابن يعقوب بن كعب
و كانت رياسة علاق عند دخولهم أفريقية لعهد هذا المعز و بنيه لرافع بن حماد و عنده راية جده التي حضر بها مع النبي صلى الله عليه وسلم و هو جد بني كعب فيما يزعمون
فاستظهر بهم السلطان على شأنه و أنزلهم بساح القيروان و أجزل لهم الصلات و العوائد و زحموا الزواودة من رياح بمنكب بعد أن كانت لهم استطالة على جميع بلاد أفريقية
و كانت أبة أقطاعا لمحمد بن مسعود بن سلطان أيام الشيخ أبي محمد بن أبي حفص فأقبل إليه مرداس في بعض السنين عيرهم للكيل و نزلوا به فرأوا نعمة الزواودة في تلولهم تلك فشرهوا إليها و أجمعوا طلبها فحاربوهم فغلبوهم و قتلوا رزق بن سلطان و اتصلت الفتنة فلما حضرهم الأمير أبو زكريا صادف عندهم القبول لتحريضه فاعصوصبوا جميعا على فتنة الزواودة و تأهبوا لها
و تكررت بينهم و بين رياح الحروب و الوقائع حتى أزاحوهم عن أفريقية إلى مواطنهم لهذا العهد بتلول قسنطينة و بجاية إلى الزاب و ما إليه ثم وضعوا أوزار الحرب و أوطن كل حيث قسمت له قومه و ملك بنو عوف سائر ضواحي أفريقية و تغلبوا عليه و اصطنعهم السلطان و أثبتهم في ديوان العطاء
و لم يقطع شيئا من البلاد و اختص بالولاية منهم أولاد جامع و قومه فكانوا له خالصة و تم تدبيره في غلب الزواودة و رياح في ضواحي أفريقية و إزعاجهم عنها إلى ضواحي الزاب و بجاية و قسنطينة و طال بالدولة و اختلف حالهم في الاستقامة معها و النفرة و ضرب السلطان بينهم ابن علاق فنشأت الفتنة و سخط عنان بن جابر شيخ مرداس من أولاد جامع مكانه من الدولة فذهب مغاضبا عنها و أقام بناجعته من مرداس و من إليهم بنواحي المغرب في بلاد رياح من زاغر إلى ما يقاربها و خاطبه أبو عبد الله بن أبي الحسن خالصة السلطان أبي زكريا صاحب أفريقية يومئذ يؤنبه على فعلته في مراجعة السلطان بقصيدة منها قوله و هي طويلة :
( قدوا المهامه بالمهرية القود ... و اطووا فلاة بتصويب و تصعيد )
و منها قوله :
( سلوا دمنة بين الغضا و السواجر ... هل استن فيها واكفات المواطر )
فأجاب عن هذه عنان بقوله :
( خليلي عوجا بين سلع و حاجر ... بهوج عنا جيج نواج ضوامر )
يقيم عروة في النزوع عنهم و يستعطف السلطان بعض الشيء كما نذكره في أخبار الدولة الحفصية
ثم لحق بمراكش بالخليفة السعيد من بني عبد المؤمن محرضا له على أفريقية و آل أبي حفص و هلك في سبيله و قبر بسلا و لم يزل حال مرداس بين النفرة و الأصحاب إلى أن هلك الأمير أبو زكريا و استفحل ملك إبنه المستنصر من بعده و علا الكعوب بذمة قوية من السلطان و كان شيخهم لعهده عبد الله بن شيخة فسعى عند السلطان في مرداس و كان أبو جامع مبلغا سعايته و اعصوصبت عليه سائر علاق فحاربوا المرداسيين هؤلاء و غلبوهم على الأوطان و الحظ من السلطان و أخرجوهم عن أفريقية و صاروا إلى القفر و هم اليوم به من جهة بادية الأعراب أهل الفلاة ينزعون إلى الرمل و يمتارون من أطراف التلول تحت أحكام سليم أو رياح
و يختصمون بالتغلب على ضواحي قسنطينة أيام مرابع الكعوب و صائفهم بالتلول فإذا انحدروا إلى مشاتيهم بالقفر أجفلت أحياء مرداس إلى القفر البعيد و يخالطونهم على خلف و لهم على توزر و نفطة و بلاد قسطيلة أتاوة يؤدونها إليهم بما هي مواطنهم و مجالاتهم و تصرفهم و لأنها في الكثير من أعراضهم
و صاروا لهذا العهد إلى تملك القفار بها فاصطفوا منه كثيرا و أصبح منه عمران قسنطينة لهم مرتابا و استقام أمر بني كعب من علاق في رياسة عوف و سائر بطونهم من مرداس و حصين و رياح ودلاج و من بطون رياح حبيب و علا شأنهم عند الدولة و اعتزوا على سائر بني بن منصور و استقرت رياستهم في ولد يعقوب ابن كعب و هم بنو شيخة و بنو طاهر و بنو علي و كان التقدم لبني شيخة بن يعقوب لعبد الله أولا ثم لإبراهيم أخيه ثم لعبد الرحمن ثالثهما على ما يأتي و كان بنو علي يرادفونهم في الرياسة و كان منهم بنو كثير بن يزيد بن علي و كان كعب هذا يعرف بينهم بالحاج لما كان قضى فرضه و كانت له صحابة مع أبي سعيد العود الرطب شيخ الموحدين لعهد السلطان المستنصر أفادته جاها و ثروة و أقطع له السلطان أربعا من القرى أصارها لولده كان منها بناحية صفاقس و بأفريقية و بناحية الجريد و كان له من الولد سبعة أربعة لأم و هم أحمد و ماضي و علي و محمد و ثلاثة لأم و هم : بريد بركات و عبد الغني فنازع أحمد أولاد شيخة في رياستهم على الكعوب و اتصل بالسلطان أبي إسحق و أحفظهم ذلك فلحقوا بالدعي عند ظهوره و كان من شأنه ما قدمنا
و هلك أحمد و استقرت الرياسة في ولده و كان له من الولد جماعة فمن غزية إحدى نساء بني يزيد من صنهاجة : قاسم و مرا أبو الليل و أبو الفضل و من الحكمية قائد و عبيد و منديل و عبد الكريم و من السرية و جهد الملك و عبد العزيز و لما هلك أحمد قام بأمرهم بعده إبنه أبو الفضل ثم من بعده أخوه أبو الليل بن أحمد و غلب رياسة بني أحمد هؤلاء على قومهم و تألفوا ولد إخوتهم جميعا
و عرفوا ما بين أحيائهم بالأعشاش إلى هذا العهد و لما كان شأن الدعي بن أبي عمارة و يئس الفضل بن يحيى المخلوع و أوقع بالسلطان أبي إسحق و قتله وأكثر بنيه كما نذكره في موضعه لحق أبو حفص أخوه الأصغر بقلعة سنان من حصون أفريقية
و كان لأبي الليل بن أحمد في نجاته ثم في القيام بأمره أثر وقع منه أحسن المواقع فاصطنعه به و شيد من رياسته على قومه عندما أدال الله به من الدعي فاصطنع أبو الليل هذا بأمرهم
و زاحم أولاد شيخة بمنكب قوي و لحق آخرهم عبد الرحمن بن شيخة بجباية عندما اقتطعها الأمير أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحاق على مالك عمه السلطان أبي حفص فوفد عليه مستجيشا به و مرغبا له في ملك تونس يرجو بذلك كثرة رياسته فهلك دون مرامه و قبر بجباية و انقرضت رياسة أولاد شيخة بمهلكه و استبد أبو الليل بالرياسة في الكعوب و وقع بينه و بين السلطان أبي حفص وحشة فقدم على الكعوب مكانه محمد بن عبد الرحمن بن شيخة فقد على الكعوب مكانه محمد ابن عبد الرحمن بن شيخة و زاحمه به أياما حتى استقام على الطاعة و لما هلك قام بأمرهم إبنه أحمد و اتصل أمر رياسته و نكبه السلطان أبو عصيدة فهلك في سجنه و ولي بعده أخوه عمر بن أبي الليل و زاحمه هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب إلى أن هلك هراج كما نذكره و لما هلك عمر قام بأمره في قومه أخوه محمد بن أبي الليل و كفل مولاهم و حمزة ابن أخيه عمر و كان عمر مضعفا عاجزا فنازعه أولاد مهلهل ابن عمه قاسم و هم : محمد و مسكيانه و مرغم و طالب و عون في آخرين لم يحضرني أسماؤهم فترشحوا اللاستبداد على قومهم و مجاذبة محمد ابن عمهم أبي الليل حبل الرياسة فيهم و لم يزالوا على ذلك سائر أيامهم
و لما ظهر هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب و عظم ضغائنه و عتوه و إفساد الأعراب من أحيائه السابلة و ساء أثره في ذلك و أسف السلطان بالاعتزاز عليه و الاشتراط في ماله و توغلت له صدور الغوغاء و العامة فوفد على تونس عام خمسة و سبعمائة و دخل المسجد يوم الجمعة لابسا خفيه و نكر الناس عليه وطأة بين الله بخف لم ينزعه و ربما قال له في ذلك بعض المصلين إلى جنبه فقال : إني أدخل بها بساط السلطان فكيف الجامع ؟ فاستعظم الناس كلمته و ثاروا به لحينه فقتلوه في المسجد و أرضوا الدولة بفعلهم و كان أمره مذكورا
و قتل السلطان بعد ذلك أخاه كيسان و ابن عمه شبل بن منديل بن أحمد و قام بأمر الكعوب من بعد محمد بن أبي الليل و هراج بن عبيد مولاهم و حمزة أبناء عمر و استبد برياسة البدو من سليم بأفريقية على مزاحمة من بني عمهم مهلهل بن قاسم و أمثالهم و فحول سواهم و انتقض أحمد بن أبي الليل و ابن أخيه مولاهم بن عمر على السلطان سنة سبع و سبعمائة و استدعى عثمان بن أبي دبوس من مكانه بوطن ذباب فجاءه و أجلب له على تونس و نزل كدية الصعتر بظاهرها و برز إليهم الوزير أبو عبد الله بن يزريكن فهزمهم و استخدم أحمد بن أبي الليل
ثم تقبض عليه و اعتقل بتونس إلى أن هلك و وفد بعد ذلك مولاهم ابن عمر سنة ثمان و سبعمائة فاعتقل معه و لحق أخوه حمزة بالأمير أبي البقاء خالد ابن الأمير زكريا صاحب الثغر الغربي من أفريقية بين يدي مهلك السلطان أبي عصيدة و معه أبو علي بن كثير و يعقوب بن الفرس و شيوخ بني سليم هؤلاء و رغبوا الأمير أبا البقاء في ملك الحضرة و جاؤا في صحبته و أطلق أخاه مولاهم من الاعتقال منذ دخول السلطان تونس سنة عشر و سبعمائة كما نذكره في خبره
ثم لحق حمزة بالسلطان أبي يحيى زكريا ابن اللحياني و اتصلت به يده فرفعه على سائر العرب حتى لقد نفس ذلك عليه أخوه مولاهم و نزع إلى السلطان أبي يحيى الطويل أمر الخلافة ولي سبعا ببجاية و ثلاثين بعد استيلائه على الحضرة و سائر بلاد أفريقية فاستخلصه السلطان لدولته و نابذه حمزة فأجلب عليه بالقرابة واحدا بعد واحد كما نذكره و داهن أخوه مولاهم في مناصحة السلطان و مالا حمزة على شأنه و ربما نمي عنه الغدر فتقبض عليه السلطان و على إبنه منصور و علي ربيبه زغدان و مغزان بن محمد بن أبي الليل و كان الساعي بهم إلى السلطان ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد و أحمد بن عبد الواحد أبو عبيد و أبو هلال بن محمود بن فائد و ناجي بن أبي علي بن كثير و محمد بن مسكين و أبو زيد بن عمر بن يعقوب و من هوارة فيصل بن زعزاع فقتلوا لحينهم سنة إثنتين و عشرين و سبعمائة و بعث أشلاؤهم إلى حمزة فاشتد حنقه و لحق صريخا بأبي تاشفين صاحب تلمسان لعهده من آل يغمراسن و معه محمد ابن السلطان اللحياني المعروف بأبي ضربة قد نصبه للملك و أمدهم أبو تاشفين بعساكر زناتة و زحفوا إلى أفريقية فخرج إليهم السلطان و هزمهم برغيش و لم يزل حمزة من بعدها مجلبا على السلطان أبي يحيى بالمرشحين من أعياص البيت الحفصي و أبو تاشفين صاحب تلمسان يمدهم بعساكره و تكررت بينهم الوقائع و الأيام سجالا كما نذكره في مواضعه حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن و قومه من بني مرين على تلمسان و الغرب الأوسط سنة سبع و ثلاثين و سبعمائة و استتبعوا بني عبد الواد و سائر زناتة أقصي حمزة عن فتنته و انقطع حبلها في يده و لحق بالسلطان أبي الحسن مستشفعا به فتقبل السلطان أبو يحيى شفاعته و عفا له عن جرائمه و أحله محل الأصفاء و الخلوص
فشمر عن نصحه و اجتهاده و ظاهر قائده محمد بن الحكيم على تدويخ أفريقية و ظهر البدو من الأعراب فاستقام أمر الدولة و توثر مهادها و هلك حمزة سنة أربعين و سبعمائة بيد أبي عون نصر ابن أبي علي عبد السلام من ولد كثير بن زيد المتقدم الذكر في بني علي من بطون بني كعب طعنه في الحروب فأشواه و كان فيها مهلكه و قام بأمرهم من بعده إبنه عمر بمظاهرة شقيقه قتيبة و لكن أبا الليل تغلب على سائر الإخوة و القرابة و استبد برياسة بني كعب و سائر بني يحيى و أقتاله بنو مهلهل ينافسونه و يرتقبون الإدالة منه و كان مساهمه في أمره معن بن مطاعن من فزارة وزير أبيه و خرجوا على السلطان بعد مهلك حمزة أبيهم و اتهموا أن قتل أبي عون إياهم إنما كان بممالأة الدولة فنازلوا تونس و جمعوا لمحاصرتها أولاد مهلهل أمثالهم ثم اختلفوا و رحلوا عن البلد و انخذل طالب بن مهلهل و قومه إلى السلطان و نهض في أثرهم فأوقع بهم في القيروان و وفدت مشيختهم على إبنه الأمير أبي العباس بقصره يداخلونه في الخروج على إبنه و كان فيهم معن بن مطاعن وزيرهم فتقبض عليه و قتله و أفلت الباقون
و راجعوا الطاعة و أعطوا الرهن
( و لما هلك ) السلطان أبو يحيى و قام بالأمر إبنه عمر انحرفوا عنه و ظاهروا أخاه أبا العباس صاحب الجريد و ولي العهد و زحفوا معه بظواعنهم إلى تونس فدخلها و قتله أخوه عمر كما نذكره في موضعه و قتل معه أخاهم أبا الهول بن حمزة فأسعفهم بذلك
و وفد خالد على صاحب المغرب السلطان أبي الحسن فيمن وفد عليه من وجوه الدولة و كافة المشيخة من أفريقية و جاء في جملته حتى إذا استولى على البلاد قبض أيديهم عما كانت تمتد إليه من إفساد السابلة و أخذ الأتاوة و انتزع الأمصار التي كانت مقتطعة بأيديهم و ألحقهم بأمثالهم من أعراب بلاد المغرب الأقصى من المعقل و زغبة فثقلت وطأته عليهم و تنكروا له و ساء ظنه بهم و فشت غارات المفسدين من بداويهم بالأطراف فنسب ذلك إليهم و وفد عليه بتونس من رجالاتهم خالد بن حمزة و أخوه أحمد و خليفة بن عبد الله بن مسكين و خليفة بن أبي زيد من شيوخ حليم فسعى بهم عنده أنهم داخلوا بعض الأعياص من أولاد اللحياني من بني أبي حفص كما في رحلته كما نذكره في موضعه فتقبض عليهم و بلغ خبرهم إلى الحي فناشبوا بقسطيلة و الجريد فظفروا بزناتي من بقية آل عبد المؤمن من عقب أبي العباس إدريس الملقب بأبي إدريس آخر خلفائهم بمراكش و استيلاؤه على المغرب و هو أحمد بن عثمان بن إدريس فنصبوه و بايعوه و اجتمعوا عليه
و ناشبت معهم بنو عمهم مهلهل أقتالهم و كان طالب هلك و قام مكانه فيهم ابنه محمد فصرخهم بقومه و اتفقوا جميعا على حرب زناتة و نهض إليهم السلطان أبو الحسن من تونس فاتح تسع و أربعين و سبعمائة فأجفلوا أمامه حتى نزل القيروان ثم ناجزوه ففضوا جموعه و ملؤا حقائبهم بأسلابه و أسلابهم و خضدوا من شوكة السلطان و ألانوا من حد الملك و خفضوا من أمر زناتة و غلبهم الأمم و كان يوم له ما بعده في اعتزاز العرب على الدول آخر الأيام و هلك أبو الليل بن حمزة فعجز عمر عن مقاومة إخوته و استبد بالرياسة عليه أخوه خالد ثم من بعده أخوهما منصور و اعتز على السلطان أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى صاحب تونس لعهده اعتزازا لا كفاء له و انبسطت أيدي العرب على الضاحية و أقطعتهم الدولة حتى الأمصار و ألقاب الجباية و مختص الملك و انتفضت الأرض من أطرافها و وسطها و مازالوا يغالبون الدولة حتى غلبوا على الضاحية و قاسموهم في جبايات الأمصار بالأقطاع ريفا و صحراء و تلولا و جريدا
و يحرضون بين أعياص الدولة و يجلبون بهم على الحضرة لما يعطونه طعمة من الدولة و يرميهم السلطان بأقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد يديل به منهم حتى أحفظوها و يحرش بينهم بقضاء أوطارها حتى إذا أراد الله انقاذ الأمة من هوة الخسف و تخليصهم من مكاره الجوع و الخوف و إدالتهم من ظلمات الموت بنور الاستقامة بعث همة السلطان أمير المؤمنين أبي العباس أحمد أيده الله لطلب إرثه من الخلافة فبعث من بالحضرة فانبعث لها من مكان إمارته بالثغر العربي ونزل إليه أمير البدو و منصور بن حمزة هذا و ذلك سنة إحدى و سبعين و سبعمائة على حين مهلك السلطان أبي إسحق مقتعد كرسي الحضرة و صاحب عصا الخلافة و الجماعة
و قام ابنه خالد بالأمر من بعده فنهض إلى أفريقية و دخل تونس عنوة و استولى على الحضرة سنة اثنتين و سبعين و سبعمائة بعدها و أرهف حده للعرب في الاعتزاز عليهم و قبض أيديهم عن المفاسد و ذويهم فحدثت لمنصور نفرة عن الدولة و نصب الأمير أبو يحيى زكريا ابن السلطان ابن أبي يحيى جدهم الأكبر كان في أحياء العرب منذ سنين كما نذكر ذلك كله في أخبار الدولة و أجلب به على تونس سنة ثلاث و سبعين فامتنعت عليهم و لم يظفروا بشيء و راجع منصور حاله عند السلطان وكشف عن وجه المناصحة و كان عشيرته قد ملوا منه حسدا و منافسة بسوء ملكته عليهم فغدا عليه محمد ابن أخيه أبي الليل وطعنه فأشواه و هلك ليومه سنة خمس و سبعين و افترق جمعهم
و قام بأمرهم من بعده صولة ابن أخيه خالد بن حمزة و يرادفه أولاد مولاهم بن عمر فجهد بعض الشيء في خدمة السلطان و مناصحته ثم رجع إلى العصيان و كشف القناع في الخلاف و اتصل حاله على ذلك ثلاثا و أدال السلطان منه و من قومه بقتالهم أولاد مهلهل و رياستهم لمحمد بن طالب فرجع إليهم رياسة البدو و جعل لهم المنع و الاعطاء فيهم و رفع رتبهم على العرب و تحيز إليه معهم أولاد مولاهم بن عمر بن أبي الليل و نقلت أولاد حمزة سائر هذه الأيام في الخلاف و نهض السلطان سنة ثمانين و سبعمائة إلى بلاد الجريد لتقديم رؤسائها عن المراوغة و حملهم على جادة الطاعة فتعرضوا لمدافعته عنها بإملاء هؤلاء الرؤساء و مشارطتهم لهم على ذلك وبعد أن جمعوا له الجموع من دومان العرب الأعراب و ذياب البدو فغلبهم عليها جميعا و أزاحهم عن ضواحيها و ظفر بفرائسة من أولئك الرؤساء و أصبحوا بين معتقل و مشرد و استولى على قصورهم و ذخائرهم و أبعد أولاد حمزة و أحلافهم من حكيم المفر و جاوزوا تخوم بلادهم من جهة المغرب و اعتزت عليهم الدولة اعتزازا لا كفاء له فنامت الرعايا في ظل الأمن و انطلقت منهم أيدي الاعتمار و المعاش و صلحت السابلة بعد الفساد و انفتحت أبواب الرحمة على العباد
و قد كان اعتزاز هؤلاء العرب على السلطان و الدولة لا ينتهي إليه اعتزاز و لهم عنهجية و إباية و خلق في التكبر الذي هو غريزة لما أنهم لم يعرفوا عهدا للذل و لا يسامون بإعطاء الصدقات لهذا العهد الأول و أما في دولة بني أمية فللعصبية التي كانت للعرب بعضها مع بعض يشهد بذلك أخبار الردة و الخلفاء معهم مع أمثالهم مع أن الصدقة كانت لذلك العهد تتحرى الحق بجانب الاعتزاز و الغلظة فليس في إعطائها كثير غمط و لا مذلة و أما أيام بني العباس حين استفحال الملك و حدوث الغلظة على أهل العصابة فلإبعادهم بالقفر من بلاد نجد و تهامة و ما وراءهما و أما أيام العبيديين فكانت الحاجة تدعو الدولة إلى استمالتهم للفتنة التي كانت بينهم و بين بني العباس و أما حين خرجوا بعد ذلك إلى قضاء برقة و أفريقية فكانوا ضاحين من ظل الملك و لما اصطنعهم بنو أبي حفص كانوا معهم بمكان من الذل و سوم الخسف حتى كنت واقعتهم بالسلطان أبي الحسن و قومه من زناتة بالقيروان فنهجوا سبيل الاعتزاز لغيرهم من العرب على الدول بالمغرب فتحامل المعقل و زغبة على ملوك زناتة و استطاعوا في طلابهم بعد أن كانوا مكبوحين بحكمة الغلب عن التطاول إلى مثلها و الله مالك الأمور