ثبُتَ لدينا أنَّ للكثيرِ من المفردات في "عالَم الشهادة" المادي المنظور ما يقابلها في "عالَم الغيب" الروحاني، وسنبين تاليا أن "الأرض" من عالَمِ الشهادة المادي يقابلها "سور القرآن" من العالَم الغيبي الروحاني.
تُستهَلُ سُورةُ الرعدِ بقولِه تعالى ....
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ، وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ... اللهُ الَّذى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرى لأَجَلٍ مُّسَمًّى، يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ... وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَواسِى وَأَنْهارًا، وَمِن كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، يُغْشِى الَّيل النَّهَارَ، إِنَّ فى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ... وَفِى الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقى بِمَاءٍ وَحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى بَعْضٍ فى الأُكُلِ، إِنَّ فى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {الرعد 1 - 4 }
وتنتهي السُورة بقوله تعالى ....
وَكَذَلِكَ أَنزَلْناهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ ما جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلىٍ وَلاَ وَاقٍ 37 ... وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْواجًا وَذُرِّيَّةً ، وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتىَ بآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ... يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتابِ ... وإن ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ... أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ... وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا، يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ، وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ... وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً، قُلْ كَفى بِالله شَهِيدًا بَيْنى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتابِ {الرعد 37 - 43 }
ثم يذْكُرُ سُبحانَهُ تسْخِّيرَ الشمسِ والقمرَ ثُمَّ تدبيرَ الأمر ... ثُمَّ يذْكُرُ بأنَّ في الأرض قِطعٌ متجاوراتٌ ... ثُمَّ وفي أواخرِ السُورةِ وفي الآيةِ 37 تحديداً يأمر سُبحانَهُ بـ : وَكَذَلِكَ أَنزَلْناهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بعد ما جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلىٍ وَلاَ وَاقٍ ...
ثم بعد ذلك في الآيةِ 38 يذْكُرُ السياقُ ذُريَّةَ الأنبياءِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْواجًا وَذُرِّيَّةً ...} ... ثُمَّ تذْكِيرٌ بالأجل، وأنَّ كُلَّ شيءٍ يحصلُ في وقتهِ وأنَّ لكل أجلٍ ( أي زمن ) كتاب ...
ثمَّ في الآية 41 من السُورةِ:
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتى الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
فلدينا ملاحظتين هنا حول الآيات السابقة:
الملاحظة الأولى :
نلاحظُ ورودَ كلمتي {الأرض} في سُورةِ الرعد بصيغتين مُتعاكستين. الأولى بصيغةِ {مدَّ} أي أطالَ في أوَّلِ السُورةِ {وَهُوَ الَّذى مَدَّ الأَرْضَ ... 3}، والثانية في آخر السُورةِ بصيغةِ {نَقَّصَ} أيْ قَصَّرَ {...الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ... 41} وهذا ملفتٌ جداً للنَظَر ... فلماذا وما الحكمة؟
الملاحظة الثانية:
في الآية 41 يقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتى الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ....
إنَّ عبارة {يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} تعني الأمرَ المطلقَ لله سُبحانَهُ ...
فما علاقةُ خلقِ الأرضِ (مَدَّها ... نَقْصَها ... تدْويرِها ... تكْعيبها ... أو أي شيءٍ آخر) بحكم الله تعالى وبغلبةِ هذا الدينِ وبإمضاءِ أمرِه تعالى؟
هذا ليس سؤالاً عابراً، فمما يؤكدُ موضوعية السؤالِ أنَّ نقصانَ الأرض لم يردْ في المُصحفِ إلَّا مرةً واحِدةً في غير هذا الموضعِ وفيها أيضاً يربُطُ سُبحانَهُ بين نقصانِ الأرض من جِهَةٍ وبين النصرِ للمؤمنين وقضاءِ أمرِه من جِهةٍ أخرى! فتأمل في الآيةِ 44 من سُورةِ الأنبياء:
أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتى الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟
فما علاقةُ خلقِ الأرضِ وشكلها ومَدَّها ... ونَقْصَها ... أو أي شيءٍ آخر بغلبةِ هذا الدينِ وبإمضاءِ أمرِه تعالى؟
بالنسبة للملاحظة الأولى نلاحظُ ورودَ كلمتي {الأرض} في السُورةِ بصيغتين مُتعاكستين.
الأولى: بصيغةِ {مدَّ} أي أطالَ في أوَّلِ السُورةِ {وَهُوَ الَّذى مَدَّ الأَرْضَ ... 3}،
الثانيةِ: في آخر السُورةِ بصيغةِ {نَقَّصَ} أيْ قَصَّرَ {...الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا... 41} وهذا ملفتٌ جداً للنَظَر ...
والمفاجأةُ :
إذا عددنا 45 كلمةً من أوَّلِ سُورةِ الرعد نجِدُ كلمة الأرضِ الموصوفةُ بالمدِّ في الآيةِ 3 ...
إذا عددنا 45 كلمة من آخرِ سُورةِ الرعدِ باتجاهِ أوَّلهِا نجِدُ كلمةَ الأرضِ الموصوفةُ بالنقصِ في الآيةِ 41!
يعني كلُّ هذا أنَّ توزيعَ كلمتي {الأرض} بإطالتها من ناحِيَّةٍ وتقصيرِها من الأُخرى ليس مُجردَ مصادفةٍ عابرةٍ ... فلو قلنا إنَّ حضور عبارات تدل على مدِّ الأرض في أول الرعد وعبارات تدل على نقصانها في آخر الرعد مصادفةً عابرة فكيف يمكن تفسير أنَّ ترتيب كلمة الأرض 45 في الجهتين مصادفة أيضاً؟
في الحقيقة ليس من مصادفاتٍ من أي نوعٍ كان في كلامه جلّ جلاله، فالمصادفات العابرة المتطايرةُ إنَّما تحدث في عقولنا نحن البشر ...
فما هو التأويل إذن؟
لأنَّ معنى "أرض" يرادف معنى "سورة" في المصحفِ الشريف، فاللهُ عزَّ وجلَّ يُشبِّهُ قِطَع الأرضِ بسُور القُرآن. فالمقصود بالأرض الممدودة هو السور الطوال الممدودة ... والمقصود بالأرض المنقوصة هي السور القصار ...
ولتأكيدِ هذا التأويلِ، فإنَّ عبارةَ {مَدَّ الأَرْضَ} التي جاءَت في مُسْتهَلِ السُورةِ تقعُ من ناحِيَّةِ السُورِ الطوالِ والتي يُستهلُ فيها القُرآنُ بالبقرةِ وآلِ عمرانَ والأُخَر الطِوال الممدودة ...
وعلى العكس نجِدُ أنَّ عبارةَ {الْأَرْضَ نَنقُصُهَا} التي جاءَت في أواخرِ السُورةِ تقعُ من ناحِيَّةِ السُور القِصار (المنقوصة) والتي يُختتمُ بها القُرآنُ مثل الزلزلة والكوْثر والأُخَر القِصار ...
إذاً مدُّ الأرضِ ونقصانُها يرمزُ إلى سُور القُرآنِ الطويلةِ الممدودةِ من جِهةِ بدايتِه، وإلى القصيرةِ من جِهةِ نهايتِه ... وكما تُزيَّنُ وتُثرى الأرضُ بالثمراتِ والأنهار والجبالِ والبحار وما إلى ذلك، فإنَ السُورَ تُزيَّنُ وتُثرى بالحِكَم والعِظاتِ والقصصِ الجميلةِ وما إلى ذلك ...
وكما توجد الأراضي المُتجاورةُ بِصفاتٍ وتضَاريسَ ومناخات ومَساحاتٍ مُتمَايزةٍ، ولكُلٍّ منها سُورٌ ورقمٌ مُحَدَدَّينِ، فسُورُ المصحفِ توجدُ أيضاً متجاورةً بصِفاتٍ وأطوالٍ وأرقام مُتمايزة ....
مما يُثبِتُ صحة ما ذهبنا إليه من أنَّ معنى "أرض" يُرادفُ معنى "سورة" هو ورود عبارات مثل {وَفِى الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَوِراتٌ} والتي توازي وترادف "وَفِى القرآن سُورٌ مُّتَجَوِراتٌ".
وكذلك فقد وردت عبارة {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} ولم ترد في أي مكانٍ آخر من المصحف الشريف، ومعنى {صِنْوَانٌ} هو الصِنوُ وهو الأخُ الشقيقُ أو العَمُّ. وإذا خرج نخلتان أو أكثر من أصلٍ واحد فكل واحدة منهنّ صِنْوٌ والاثنان صِنْوانِ الجمعُ صِنوانٌ. وقيل الصِنوُ عامٌّ في كل فرعين يخرجان من أصل واحد في النخل وغيره. فتكون المقصودُ أنَّ "أرض" صِنْو معنى "سورة" ...
حسناً ولكنْ تبقى الملاحظة الثانية بلا إجابةٍ: فما علاقةُ خلقِ الأرضِ (مدَّها ... نقصَها ... أو أي شيءٍ آخر) بغلبةِ هذا الدينِ و بإمضاءِ أمرِ اللهِ تعالى؟ لنكملْ التحليلَ للإجابةِ:
العلمُ معرفةٌ، والمعرفةُ قوةٌ، والقوةُ نصرٌ، والنصرُ غلبةٌ وتمكينٌ. فيكونُ المعنى إذاً: هل أنتم غالبونَ الذي خلقَ كُلَّ هذا الإبداعِ ووضعَ أسرَارَهُ في الكتابِ الذي بين أيديكم؟ ... هل أنتم غالبونَ الذي جعلَ في الكتابِ علومَ الغيبِ وأخبارَكم وأخبارَ آبائِكم وأخبارَ ما في نفوسِكم وتفصيلَ ما تُخطِطُون له ..... هل أنتم غالبونَ الذي خلق كُلّ هذا وعَلِمَ كُلَّ هذا الغيبِ عنكم ووضعه في الكتابِ مُقدماً؟ لا، فالعلمُ قوةُ ونصرٌ، فلابدَّ وأنْ ينتصرَ الأعلمُ هو وجندُه ... سُبحانَهُ العليم الحكيم ...
كذلك، من الأدلة على إن معنى أرض يرادف معنى سورة ما يلي:
• فكما الماء يحيي الأرض بعد مَوتِها، فسور القرآن تحْيي النفوسَ بعد موتِها ... فلا حَياةَ للأرض بلا ماء، ولا حياة للنفوس بغير سور القرآن ...
• وكما تهتزُ الأرضُ الميتةُ وتَرْبُتُ بعد نزول الأمطارِ، فالأنفسُ الميتةَ الضالَّة تهتزُ وتخشعُ عند قراءة القرآن.
• وكما أنَّ قُشورَ البذورِ الجافةِ الميتةِ بعد طول جَدبٍ تتشقَقُ وتنضرُ بحلولِ الماءِ من السماءِ، فجلودُ الضالين من الناسِ بعد طولِ هجرانٍ تقشعرُ وتنضرُ بذكر آياته تعالى المنزلة من السماء ...
• إنَّ إحياءَ الأرضِ الميتةِ بالماءِ المنزلِ من السماءِ هو بمعنى إحياء الأنفسِ الميتةِ الضالةِ بالقرآن المنزل بالوحيِّ من أمر الله تعالى. فتأمل على سبيل المثال هدى الناس في الآية 64 من سورة النحل والذي تبعه مباشرة ذكرُ إحياءِ الأرض الميتة في الآية 65:
وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكتابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذى اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {64}
وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {65}
وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ {66}
فلماذا قال تعالى عن آية المطر: إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ؟ فالمطرُ يُشاهدُ ويُحسُّ أكثر مما يسمعُ؟ الجوابُ إنَّ الآيتين 64 و 65 تتحدثان عن الشيء نفسه وهو إخراج الحياة من الممات. فالآية 64 تتحدث عن حياة الأمم بالكتاب المنزل من السماء بعد الضلال، والآية 65 تتحدث عن إخراج الحياة من الأرض بعد الجفاف.
ولهذا السبب فقد قال تعالى: إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ... أي يسمعون الذكر والهُدى المنزل من السماء.
لاحظ كذلك أنَّ الآية 66 تتحدث عن نفس الشيء، أي عن بعث الحياة من الموت وإخراج الشيء من ضدِّه، إذ إنَّ إخراجَ اللبن الأبيض السائغ اللذيذ من بطون الأنعام من بين فرث ودم هو إخراجٌ للشيء من ضدِّه كإخراج الحياة من الموت.
• وتأمل أيضاً قوله تعالى من سورة يونس:
إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاءٍ أنْزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنها حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ،
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {يونس: 24}
فعندما ينزلُ الماء من السماء تدُّبُّ الحياةُ في البذور الميتة وتصحوا فتُنبتُ الأرضُ الميتة ألواناً وأشكالا من الحياة. وعندها يظن الإنسان أنَّ هذا بمجهوده هو فينسى ويستكبر. فكما أنَّ الماء يُحيي الأرض الميتة، فإنَّ وَحيَّه وكلامَه وهداهُ تعالى يُحيي الأممَ الميتةَ.
فعند نزولِ الوحيِّ الإلهي إلى الأرض تحيا النفوس الميتة فتنْتظمُ الصفوفُ وتُوَحَدُ الأفكارُ وتُخترعُ العلومُ والمعارفُ ويحدثُ الرُقيُّ الماديُ والروحانيُ والإنسانيُّ كما حدث عند نزول القرآن الكريم. وبعد ذلك يعودُ الكفرُ والاستكبارُ من جديدٍ ويظنُ الإنسانُ من جديد أنَّ كلَّ هذا التقدم إنَّما كان بجهده هو ولم يكن بفضل النور الإلهي فيسودُ الظلمُ ويُطفأ النورُ وعندها يأتيهم العقابُ الإلهي من جديد ...
وهكذا تتكررُ السنَّةُ الإلهيةُ مع وحيِّ السماءِ في كل مرةٍ، كما هي حال حقول الأرض وأوديتها مع الماء المنزل من السماء ...
ثم بعد ذكر إحياء الأرض الميتة بالماء بالتفصيل في الآية 24، يأتي ذكر هدى الله تعالى مباشرة في الآية التالية لها أي في الآية 25 من سورة يونس:
وَاللهُ يدعوا إِلَى دَارِ السلام وَيهدى مَن يَشَاءُ إِلَى صراط مُّسْتَقِيمٍ {يونس:25}
فنلحظ الترادفَ في ذكر إحياء الأرض الميت في الآية 24 مع ذكر الهدى وإحياء الأمم الضآلة في الآية 25.
• وتأمل أيضاً قوله تعالى من سورة البقرة في الآيات 21 إلى 23 :
يأيها النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {21} الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ {22}
وهذا إحياء الأرض الميتةِ بالماء المنزل من السماء في عالم المادة المشاهد ...
ثم في الآية التالية مباشرة يأتي ذكر نزول حياة الأنفس الميتة بالهدى المنزل من السماء:
وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فأتوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ
وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادقينَ { 23 }
• وتأمل أيضاً قوله تعالى من آخر سورة السجدة:
أوَلَمْ يَرَوْا أنَّا نَسُوقُ المَاءَ إلَى الأرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ، أَفَلَا يُبْصِرُونَ{27}
وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {28}
فسُورةُ السجدةِ إنذارٌ من أوَّلِها وأمرٌ بالانتظارِ في آخرِها، وبين ذلك تتكلمُ عن الخلقِ والأمرِ والحسابِ بسياقٍ أزليٍّ كونيٍّ مهيب. لكنْ لماذا يتمُّ السؤالُ عن {هَذَا الْفَتْحُ} مع إلقاءِ الضوءِ على كلمةِ {الْفَتْحُ} بِتِكْرارِها مَرتين مع "ال" التعريف، مع العلم أنَّ الفتحَ هنا خارجٌ عن السياقِ العامِّ للسُورةِ فليس فيها أيُّ إشارةٍ إلى فتحٍ ما من أيِّ نوعٍ كان؟
ليس هذا وحسب، فاستخدامُ اسم الإشارة {هَذَا} يؤكدُ حصولَ الكلامِ قبل قليلٍ عن فتح ما. فهل جاءَ ذِكْرُ الفتح في السورة؟ وتحديداً قبل قليلٍ من الآية 28؟
الجوابُ نعم، فالفتحُ ذُكِرَ في الآية 27 ، ليس لفظاً ولكن بمعنى الهُدى. فإحياءُ الأرضِ الميتةِ (الجُرُزِ) بالماءِ المُنزلِ من السماءِ يعني إحياءَ الأنفسِ والأمم الميتةِ بالهُدى المنزلِ من السماءِ ...
فكما إنَّ الماءَ يُحْيي الأرضَ الجُرُزَ بعد مَوتِها، فإنَّ رَحْمةَ الله تُحْيي الأنفسَ الميتةَ وسُورَ القُرآن بعد موتِها في العقولِ والقلوبِ ... فلا حَياةَ بلا ماء، ولا هدىً ولا فتحاً بلا رَحْمةٍ من الله تبارك وتعالى ...
• وتأمل قوله تعالى من سورة فصلت:
وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ (فصلت : 39)
فالذي أحياها لمحي موتى الأنفس والأمم الضالة ...
• وتأمل قولَه تعالى من سورة الفرقان:
وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَى رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48)
لِنحى بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَماً وَأَنَاسِى كَثِيراً (49)
فهذا إحياء الأرض بالماء المنزل من السماءِ، ويلي الآية مباشرة إحياء الأمم الغافلة بالذكر المنزل من السماء:
وَلَقَدْ صَرَّفْناه بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً
فَلا تُطِعِ الكافرين وَجاهدهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (الفرقان: 50- 52)
سبحانه وتعالى عما نقول علوا كبيرا
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
تُستهَلُ سُورةُ الرعدِ بقولِه تعالى ....
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ، وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ... اللهُ الَّذى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرى لأَجَلٍ مُّسَمًّى، يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ... وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَواسِى وَأَنْهارًا، وَمِن كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، يُغْشِى الَّيل النَّهَارَ، إِنَّ فى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ... وَفِى الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقى بِمَاءٍ وَحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى بَعْضٍ فى الأُكُلِ، إِنَّ فى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {الرعد 1 - 4 }
وتنتهي السُورة بقوله تعالى ....
وَكَذَلِكَ أَنزَلْناهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ ما جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلىٍ وَلاَ وَاقٍ 37 ... وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْواجًا وَذُرِّيَّةً ، وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتىَ بآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ... يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتابِ ... وإن ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ... أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ... وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا، يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ، وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ... وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً، قُلْ كَفى بِالله شَهِيدًا بَيْنى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتابِ {الرعد 37 - 43 }
ثم يذْكُرُ سُبحانَهُ تسْخِّيرَ الشمسِ والقمرَ ثُمَّ تدبيرَ الأمر ... ثُمَّ يذْكُرُ بأنَّ في الأرض قِطعٌ متجاوراتٌ ... ثُمَّ وفي أواخرِ السُورةِ وفي الآيةِ 37 تحديداً يأمر سُبحانَهُ بـ : وَكَذَلِكَ أَنزَلْناهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بعد ما جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلىٍ وَلاَ وَاقٍ ...
ثم بعد ذلك في الآيةِ 38 يذْكُرُ السياقُ ذُريَّةَ الأنبياءِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْواجًا وَذُرِّيَّةً ...} ... ثُمَّ تذْكِيرٌ بالأجل، وأنَّ كُلَّ شيءٍ يحصلُ في وقتهِ وأنَّ لكل أجلٍ ( أي زمن ) كتاب ...
ثمَّ في الآية 41 من السُورةِ:
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتى الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
فلدينا ملاحظتين هنا حول الآيات السابقة:
الملاحظة الأولى :
نلاحظُ ورودَ كلمتي {الأرض} في سُورةِ الرعد بصيغتين مُتعاكستين. الأولى بصيغةِ {مدَّ} أي أطالَ في أوَّلِ السُورةِ {وَهُوَ الَّذى مَدَّ الأَرْضَ ... 3}، والثانية في آخر السُورةِ بصيغةِ {نَقَّصَ} أيْ قَصَّرَ {...الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ... 41} وهذا ملفتٌ جداً للنَظَر ... فلماذا وما الحكمة؟
الملاحظة الثانية:
في الآية 41 يقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتى الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ....
إنَّ عبارة {يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} تعني الأمرَ المطلقَ لله سُبحانَهُ ...
فما علاقةُ خلقِ الأرضِ (مَدَّها ... نَقْصَها ... تدْويرِها ... تكْعيبها ... أو أي شيءٍ آخر) بحكم الله تعالى وبغلبةِ هذا الدينِ وبإمضاءِ أمرِه تعالى؟
هذا ليس سؤالاً عابراً، فمما يؤكدُ موضوعية السؤالِ أنَّ نقصانَ الأرض لم يردْ في المُصحفِ إلَّا مرةً واحِدةً في غير هذا الموضعِ وفيها أيضاً يربُطُ سُبحانَهُ بين نقصانِ الأرض من جِهَةٍ وبين النصرِ للمؤمنين وقضاءِ أمرِه من جِهةٍ أخرى! فتأمل في الآيةِ 44 من سُورةِ الأنبياء:
أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتى الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟
فما علاقةُ خلقِ الأرضِ وشكلها ومَدَّها ... ونَقْصَها ... أو أي شيءٍ آخر بغلبةِ هذا الدينِ وبإمضاءِ أمرِه تعالى؟
بالنسبة للملاحظة الأولى نلاحظُ ورودَ كلمتي {الأرض} في السُورةِ بصيغتين مُتعاكستين.
الأولى: بصيغةِ {مدَّ} أي أطالَ في أوَّلِ السُورةِ {وَهُوَ الَّذى مَدَّ الأَرْضَ ... 3}،
الثانيةِ: في آخر السُورةِ بصيغةِ {نَقَّصَ} أيْ قَصَّرَ {...الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا... 41} وهذا ملفتٌ جداً للنَظَر ...
والمفاجأةُ :
إذا عددنا 45 كلمةً من أوَّلِ سُورةِ الرعد نجِدُ كلمة الأرضِ الموصوفةُ بالمدِّ في الآيةِ 3 ...
إذا عددنا 45 كلمة من آخرِ سُورةِ الرعدِ باتجاهِ أوَّلهِا نجِدُ كلمةَ الأرضِ الموصوفةُ بالنقصِ في الآيةِ 41!
يعني كلُّ هذا أنَّ توزيعَ كلمتي {الأرض} بإطالتها من ناحِيَّةٍ وتقصيرِها من الأُخرى ليس مُجردَ مصادفةٍ عابرةٍ ... فلو قلنا إنَّ حضور عبارات تدل على مدِّ الأرض في أول الرعد وعبارات تدل على نقصانها في آخر الرعد مصادفةً عابرة فكيف يمكن تفسير أنَّ ترتيب كلمة الأرض 45 في الجهتين مصادفة أيضاً؟
في الحقيقة ليس من مصادفاتٍ من أي نوعٍ كان في كلامه جلّ جلاله، فالمصادفات العابرة المتطايرةُ إنَّما تحدث في عقولنا نحن البشر ...
فما هو التأويل إذن؟
لأنَّ معنى "أرض" يرادف معنى "سورة" في المصحفِ الشريف، فاللهُ عزَّ وجلَّ يُشبِّهُ قِطَع الأرضِ بسُور القُرآن. فالمقصود بالأرض الممدودة هو السور الطوال الممدودة ... والمقصود بالأرض المنقوصة هي السور القصار ...
ولتأكيدِ هذا التأويلِ، فإنَّ عبارةَ {مَدَّ الأَرْضَ} التي جاءَت في مُسْتهَلِ السُورةِ تقعُ من ناحِيَّةِ السُورِ الطوالِ والتي يُستهلُ فيها القُرآنُ بالبقرةِ وآلِ عمرانَ والأُخَر الطِوال الممدودة ...
وعلى العكس نجِدُ أنَّ عبارةَ {الْأَرْضَ نَنقُصُهَا} التي جاءَت في أواخرِ السُورةِ تقعُ من ناحِيَّةِ السُور القِصار (المنقوصة) والتي يُختتمُ بها القُرآنُ مثل الزلزلة والكوْثر والأُخَر القِصار ...
إذاً مدُّ الأرضِ ونقصانُها يرمزُ إلى سُور القُرآنِ الطويلةِ الممدودةِ من جِهةِ بدايتِه، وإلى القصيرةِ من جِهةِ نهايتِه ... وكما تُزيَّنُ وتُثرى الأرضُ بالثمراتِ والأنهار والجبالِ والبحار وما إلى ذلك، فإنَ السُورَ تُزيَّنُ وتُثرى بالحِكَم والعِظاتِ والقصصِ الجميلةِ وما إلى ذلك ...
وكما توجد الأراضي المُتجاورةُ بِصفاتٍ وتضَاريسَ ومناخات ومَساحاتٍ مُتمَايزةٍ، ولكُلٍّ منها سُورٌ ورقمٌ مُحَدَدَّينِ، فسُورُ المصحفِ توجدُ أيضاً متجاورةً بصِفاتٍ وأطوالٍ وأرقام مُتمايزة ....
مما يُثبِتُ صحة ما ذهبنا إليه من أنَّ معنى "أرض" يُرادفُ معنى "سورة" هو ورود عبارات مثل {وَفِى الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَوِراتٌ} والتي توازي وترادف "وَفِى القرآن سُورٌ مُّتَجَوِراتٌ".
وكذلك فقد وردت عبارة {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} ولم ترد في أي مكانٍ آخر من المصحف الشريف، ومعنى {صِنْوَانٌ} هو الصِنوُ وهو الأخُ الشقيقُ أو العَمُّ. وإذا خرج نخلتان أو أكثر من أصلٍ واحد فكل واحدة منهنّ صِنْوٌ والاثنان صِنْوانِ الجمعُ صِنوانٌ. وقيل الصِنوُ عامٌّ في كل فرعين يخرجان من أصل واحد في النخل وغيره. فتكون المقصودُ أنَّ "أرض" صِنْو معنى "سورة" ...
حسناً ولكنْ تبقى الملاحظة الثانية بلا إجابةٍ: فما علاقةُ خلقِ الأرضِ (مدَّها ... نقصَها ... أو أي شيءٍ آخر) بغلبةِ هذا الدينِ و بإمضاءِ أمرِ اللهِ تعالى؟ لنكملْ التحليلَ للإجابةِ:
العلمُ معرفةٌ، والمعرفةُ قوةٌ، والقوةُ نصرٌ، والنصرُ غلبةٌ وتمكينٌ. فيكونُ المعنى إذاً: هل أنتم غالبونَ الذي خلقَ كُلَّ هذا الإبداعِ ووضعَ أسرَارَهُ في الكتابِ الذي بين أيديكم؟ ... هل أنتم غالبونَ الذي جعلَ في الكتابِ علومَ الغيبِ وأخبارَكم وأخبارَ آبائِكم وأخبارَ ما في نفوسِكم وتفصيلَ ما تُخطِطُون له ..... هل أنتم غالبونَ الذي خلق كُلّ هذا وعَلِمَ كُلَّ هذا الغيبِ عنكم ووضعه في الكتابِ مُقدماً؟ لا، فالعلمُ قوةُ ونصرٌ، فلابدَّ وأنْ ينتصرَ الأعلمُ هو وجندُه ... سُبحانَهُ العليم الحكيم ...
كذلك، من الأدلة على إن معنى أرض يرادف معنى سورة ما يلي:
• فكما الماء يحيي الأرض بعد مَوتِها، فسور القرآن تحْيي النفوسَ بعد موتِها ... فلا حَياةَ للأرض بلا ماء، ولا حياة للنفوس بغير سور القرآن ...
• وكما تهتزُ الأرضُ الميتةُ وتَرْبُتُ بعد نزول الأمطارِ، فالأنفسُ الميتةَ الضالَّة تهتزُ وتخشعُ عند قراءة القرآن.
• وكما أنَّ قُشورَ البذورِ الجافةِ الميتةِ بعد طول جَدبٍ تتشقَقُ وتنضرُ بحلولِ الماءِ من السماءِ، فجلودُ الضالين من الناسِ بعد طولِ هجرانٍ تقشعرُ وتنضرُ بذكر آياته تعالى المنزلة من السماء ...
• إنَّ إحياءَ الأرضِ الميتةِ بالماءِ المنزلِ من السماءِ هو بمعنى إحياء الأنفسِ الميتةِ الضالةِ بالقرآن المنزل بالوحيِّ من أمر الله تعالى. فتأمل على سبيل المثال هدى الناس في الآية 64 من سورة النحل والذي تبعه مباشرة ذكرُ إحياءِ الأرض الميتة في الآية 65:
وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكتابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذى اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {64}
وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {65}
وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ {66}
فلماذا قال تعالى عن آية المطر: إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ؟ فالمطرُ يُشاهدُ ويُحسُّ أكثر مما يسمعُ؟ الجوابُ إنَّ الآيتين 64 و 65 تتحدثان عن الشيء نفسه وهو إخراج الحياة من الممات. فالآية 64 تتحدث عن حياة الأمم بالكتاب المنزل من السماء بعد الضلال، والآية 65 تتحدث عن إخراج الحياة من الأرض بعد الجفاف.
ولهذا السبب فقد قال تعالى: إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ... أي يسمعون الذكر والهُدى المنزل من السماء.
لاحظ كذلك أنَّ الآية 66 تتحدث عن نفس الشيء، أي عن بعث الحياة من الموت وإخراج الشيء من ضدِّه، إذ إنَّ إخراجَ اللبن الأبيض السائغ اللذيذ من بطون الأنعام من بين فرث ودم هو إخراجٌ للشيء من ضدِّه كإخراج الحياة من الموت.
• وتأمل أيضاً قوله تعالى من سورة يونس:
إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاءٍ أنْزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنها حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ،
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {يونس: 24}
فعندما ينزلُ الماء من السماء تدُّبُّ الحياةُ في البذور الميتة وتصحوا فتُنبتُ الأرضُ الميتة ألواناً وأشكالا من الحياة. وعندها يظن الإنسان أنَّ هذا بمجهوده هو فينسى ويستكبر. فكما أنَّ الماء يُحيي الأرض الميتة، فإنَّ وَحيَّه وكلامَه وهداهُ تعالى يُحيي الأممَ الميتةَ.
فعند نزولِ الوحيِّ الإلهي إلى الأرض تحيا النفوس الميتة فتنْتظمُ الصفوفُ وتُوَحَدُ الأفكارُ وتُخترعُ العلومُ والمعارفُ ويحدثُ الرُقيُّ الماديُ والروحانيُ والإنسانيُّ كما حدث عند نزول القرآن الكريم. وبعد ذلك يعودُ الكفرُ والاستكبارُ من جديدٍ ويظنُ الإنسانُ من جديد أنَّ كلَّ هذا التقدم إنَّما كان بجهده هو ولم يكن بفضل النور الإلهي فيسودُ الظلمُ ويُطفأ النورُ وعندها يأتيهم العقابُ الإلهي من جديد ...
وهكذا تتكررُ السنَّةُ الإلهيةُ مع وحيِّ السماءِ في كل مرةٍ، كما هي حال حقول الأرض وأوديتها مع الماء المنزل من السماء ...
ثم بعد ذكر إحياء الأرض الميتة بالماء بالتفصيل في الآية 24، يأتي ذكر هدى الله تعالى مباشرة في الآية التالية لها أي في الآية 25 من سورة يونس:
وَاللهُ يدعوا إِلَى دَارِ السلام وَيهدى مَن يَشَاءُ إِلَى صراط مُّسْتَقِيمٍ {يونس:25}
فنلحظ الترادفَ في ذكر إحياء الأرض الميت في الآية 24 مع ذكر الهدى وإحياء الأمم الضآلة في الآية 25.
• وتأمل أيضاً قوله تعالى من سورة البقرة في الآيات 21 إلى 23 :
يأيها النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {21} الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ {22}
وهذا إحياء الأرض الميتةِ بالماء المنزل من السماء في عالم المادة المشاهد ...
ثم في الآية التالية مباشرة يأتي ذكر نزول حياة الأنفس الميتة بالهدى المنزل من السماء:
وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فأتوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ
وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادقينَ { 23 }
• وتأمل أيضاً قوله تعالى من آخر سورة السجدة:
أوَلَمْ يَرَوْا أنَّا نَسُوقُ المَاءَ إلَى الأرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ، أَفَلَا يُبْصِرُونَ{27}
وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {28}
فسُورةُ السجدةِ إنذارٌ من أوَّلِها وأمرٌ بالانتظارِ في آخرِها، وبين ذلك تتكلمُ عن الخلقِ والأمرِ والحسابِ بسياقٍ أزليٍّ كونيٍّ مهيب. لكنْ لماذا يتمُّ السؤالُ عن {هَذَا الْفَتْحُ} مع إلقاءِ الضوءِ على كلمةِ {الْفَتْحُ} بِتِكْرارِها مَرتين مع "ال" التعريف، مع العلم أنَّ الفتحَ هنا خارجٌ عن السياقِ العامِّ للسُورةِ فليس فيها أيُّ إشارةٍ إلى فتحٍ ما من أيِّ نوعٍ كان؟
ليس هذا وحسب، فاستخدامُ اسم الإشارة {هَذَا} يؤكدُ حصولَ الكلامِ قبل قليلٍ عن فتح ما. فهل جاءَ ذِكْرُ الفتح في السورة؟ وتحديداً قبل قليلٍ من الآية 28؟
الجوابُ نعم، فالفتحُ ذُكِرَ في الآية 27 ، ليس لفظاً ولكن بمعنى الهُدى. فإحياءُ الأرضِ الميتةِ (الجُرُزِ) بالماءِ المُنزلِ من السماءِ يعني إحياءَ الأنفسِ والأمم الميتةِ بالهُدى المنزلِ من السماءِ ...
فكما إنَّ الماءَ يُحْيي الأرضَ الجُرُزَ بعد مَوتِها، فإنَّ رَحْمةَ الله تُحْيي الأنفسَ الميتةَ وسُورَ القُرآن بعد موتِها في العقولِ والقلوبِ ... فلا حَياةَ بلا ماء، ولا هدىً ولا فتحاً بلا رَحْمةٍ من الله تبارك وتعالى ...
• وتأمل قوله تعالى من سورة فصلت:
وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ (فصلت : 39)
فالذي أحياها لمحي موتى الأنفس والأمم الضالة ...
• وتأمل قولَه تعالى من سورة الفرقان:
وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَى رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48)
لِنحى بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَماً وَأَنَاسِى كَثِيراً (49)
فهذا إحياء الأرض بالماء المنزل من السماءِ، ويلي الآية مباشرة إحياء الأمم الغافلة بالذكر المنزل من السماء:
وَلَقَدْ صَرَّفْناه بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً
فَلا تُطِعِ الكافرين وَجاهدهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (الفرقان: 50- 52)
سبحانه وتعالى عما نقول علوا كبيرا
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه