** علي بن خليفة **
--> علي بن خليفة قائد أول ثورة تونسية ضد المستعمر الفرنسي
ولد علي بن خليفة النفاتي-حسب المصادر التاريخية المتوفرة- سنة 1807 ميلادية، وتوفي سنة 1885 بالزاوية الغربية في ليبيا. ويرجع نسبه إلى قبيلة "نفات" (عرش "نفات" في اللهجة التونسية)، المنحدرة من قبيلة بني سليم النجدية العربية القادمة إلى بلاد شمال أفريقيا مع الزحف الهلالي، والتي انتشرت غالبية فروعها في الجنوب التونسي، وخصوصا في المناطق المنحصرة بين مدينيتي قابس وصفاقس (بئر علي، المزونة، الصخيرة..
ينتمي علي بن خليفة إلى عائلة شريفة في قبيلته، وهي عائلة "أولاد خليفة"، التي تولت حكم القبيلة على امتداد قرون، لم ينتزع منها إلا في فترات وجيزة، حيث شغل عدد كبير من أفرادها مناصب إدارية عالية، كعمال وخلفاء و كواهي..(ألقاب إدارية كانت معتمدة في الدولة التونسية خلال القرون الأربعة التي سبقت الاستقلال).
و بحسب المصادر التاريخية، فإن علي بن خليفة قد شب على حياة وتربية العائلات العربية الميسورة، التي تميزت بالترحال بين الحياة الحضرية في المدن والحياة البدوية في القرى والأرياف، وذلك وفقا لفصول السنة، وهو ما جعله يجمع بين مميزات المجتمع الحضري من حرص على التحصيل العلمي والمعرفي وإلمام بقواعد الحضارة والأدب، ومميزات المجتمع البدوي من تشبث بأخلاق الفروسية وارتباط بقيم الحرية وتواصل مع الحياة الرعوية الملتصقة "بالإبل والخيام والأغنام ومجالس الشيوخ وما فيها من حكمة وتجارب وسرد للتاريخ ومجتمع الشباب وما فيه من صخب وفروسية ورياضة وصيد ومرح..".
لقد تميز الشيخ علي بن خليفة حسب المؤرخين الذين تناولوا سيرته، بشخصية متكاملة الجوانب، جمعت بين التشبث بالقيم والمبادئ الإسلامية والتمسك بثوابت الأصالة والعادات العربية، من جهة، والعمل على اكتساب أسباب القوة العلمية والمعرفية والسعي إلى الاطلاع على منجزات الآخر، من جهة ثانية، وهو ما سيتجلى لاحقا في توجهات الثورة التي قادها، وضحى من أجلها بكل شيء تقريبا.
ولاء مطلق للخلافة
على المستوى الوظيفي، يؤكد المؤرخون أن علي بن خليفة، قد سار على درب آبائه و أجداده، في الحرص على نيل شرف خدمة الباب العالي (الخليفة العثماني)، حيث تدرج في الوظيف المخزني (الرتب الإدارية) من خليفة (قائمقام) إلى كاهية (محافظ) إلى عامل (والي).
أما على مستوى التكوين العسكري، فيذكر المؤرخون أن الشيخ علي بن خليفة قد اعتلى سلم الرتب العسكرية إلى آخره، حيث صعد من رتبة "كاهية وجق" إلى "أمير آلاي"، واختتم حياته بأعلى رتبة عسكرية في الجيش التونسي، حيث قاد ثورته وهو يحمل رتبة "أمير لواء" أو "فريق أول" (كولونيل)، وهو ما سيلقي بظلال كثيفة على مسار الثورة، وعموم نضال الرجل سياسيا وعسكريا.
لقد ولى الباي (الملك التونسي) الشيخ علي بن خليفة - لما عرفه عنه من إخلاص وقدرة على التسيير والقيادة-، عمالة عدة مناطق شاسعة وهامة، حيث تنقل عاملا من جهة "نفات"، إلى القيروان وجلاص، إلى "المثاليث" و "أولاد عيار"، و أخير إلى "الأعراض" وعاصمتها قابس، أين أدركته الحماية الفرنسية.
و على نحو ما يذكر المؤرخون، فإن حكم الشيخ علي بن خليفة، كان حكما عادلا منصفا، خلافا لطبيعة حكم الأسرة الحسينية المالكة، فقد كان ولاء الشيخ لهذه العائلة، مرتبطا بولائه للخلافة العثمانية الإسلامية، أكثر منه ولاء للباي، حيث عرف عنه إيمانه الشديد بضرورة الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية في ظل الخلافة، ودعوته إلى التمسك بالولاء للخليفة، كسبيل وحيد لإفشال مخططات الأعداء في تمزيق عرى الوحدة الإسلامية.
و يشير الدارسون لسيرة الشيخ في اثبات توجهه المشار إليه، إلى حدثين هامين في حياته، أولهما مساهمته الفعالة في قمع ثورة "علي بن غذاهم"، وهي ثورة محلية قامت لأسباب شخصية، مجدها الرئيس بورقيبة لالتقائها معه في معاداة الباي، وثانيهما خلعه بيعته للباي بمجرد توقيعه على معاهدة الحماية، فقد قمع الشيخ الثورة الأولى لأنها بنظره فتنة تساهم في إضعاف الدولة الإسلامية، فيما فجر الثورة الثانية لأنها ثورة ضد الكفار ومن أجل وحدة الدولة الإسلامية.
و تؤكد الوثائق التاريخية أن الشيخ علي بن خليفة النفاتي، قد عمل جاهدا خلال فترة ولايته على منطقة "الأعراض" (الجنوب التونسي حاليا)، على التخفيف من وطأة الفتن الداخلية على البلاد، خصوصا من خلال تصديه لأخطرها، وهو ما عرف في حينها بفتنة "اليوسفية" و "الشدادية"، وهي صراع دارت رحاه في وسط وجنوب البلاد، بين تحالفات قبلية ذهب ضحيتها آلالاف الناس طيلة عقود من الزمن.
إن الفترة التي قضاها الشيخ علي بن خليفة، حاكما محليا قبل ثورته، قد تميزت بسيادة الأمن وعودة الاستقرار والتقسيم العادل لإقطاعيات الرعي، الذي كان يشكل العمود الفقري لاقتصاد المنطقة، والمورد الرئيسي لدخل القبائل/العروش، وهو ما لم يستغربه المؤرخون الذين وقفوا على خصال الرجل الذي عرف بين أهله بالتقوى والورع على المستوى الشخصي، والحرص على إقامة تعاليم الإسلام والتمسك بالولاء الشديد لله والدولة الإسلامية على المستوى العام.
طاعة الباي كفر
لقد سبق التنبيه إلى مكانة الخلافة السامية في عقل وقلب الشيخ علي بن خليفة، انطلاقا مما عرف به من تشبث بمفاهيم الإسلام وقيمه، وهو ما جعله يربط باستمرار بين طاعة الخليفة وطاعة الله، ويرى بأن واجب المسلم صحيح العقيدة يقتضي عدم السماح بمخالفة ما تقتضيه هذه الصلة، حتى وإن كان المخالف "الباي" نفسه، الذي كان يحكم التونسيين بإسم الخليفة، وإن كانت إدارته مستقلة عن الإدارة في الأستانة.
و على نحو ما أوردته المصادر التاريخية – وخلدته ملاحم شعرية شعبية-، فإن قيام الباي بالتوقيع على معاهدة الحماية مع الفرنسيين، قد نزل على الشيخ علي نزول الصاعقة، إذ رأى فيه إخلالا مريعا بشروط البيعة، وتفريطا في حكم المسلمين للكفار، وهو ما دفعه إلى إطلاق مقولته الشهيرة على الملأ في مقر حكمه بضاحية "شنني" في مدينة قابس، "الآن أصبحت طاعة الباي كفرا"، والتي كانت إيذانا بانطلاق الثورة ضد الغزاة الفرنسيين والباي وأعوانه معا.
و لم يكتف الشيخ علي بالقول، بل بادر للاستعداد عمليا منذ تلك اللحظة، لتجسيد تنصله من طاعة من قام بموالاة الكفار، وتدشين الثورة الشعبية التي سيعيشعها الشعب التونسي بكل جوارحه طيلة سنوات، وسينشد من خلالها انتصار شيخهم المسن الذي جاوز السبعين من العمر على جحافل الجيش الفرنسي الجرارة، المزودة بكافة أنواع الأسلحة الحديثة.
و إن لم تقم الوثائق التاريخية الرسمية، التي كتبها مؤرخو السلطة خلال حقبة الحكم البورقيبي، فإن الوثائق التاريخية الشعبية، ممثلة في قصائد وملاحم الشعر الشعبي التونسي، والحكايات الشعبية المتناقلة شفاهيا، قد سجلت بكثير من الفخر والاعتزاز معارك المجاهدين بقيادة الشيخ علي، ونجاحاتهم الباهرة في تعطيل زحف المستعمرين على البلاد، لشهور طويلة، على الرغم من قلة الزاد والعتاد وخذلان الأصدقاء.
توحيد القبائل
لقد بدأت أول خطوات ثورة الشيخ علي بن خليفة، بمرحلة الإعداد لها، حيث بادر قائدها إلى جمع المجاهدين من مختلف القبائل/العروش وتنظيمهم في إطار موحد، وهو ما لم يكن سهل الحدوث، حيث كانت النزاعات القبلية طاغية، كما كانت محاولات الباي جارية – بإيعاز من سلطات الحماية الفرنسية- لاستقطاب زعماء القبائل إلى جانبه، بذريعة أن مصلحة البلاد كانت تقتضي التوقيع على معاهدة الاحتلال.
و قد أدرك الشيخ علي ضرورة تعبئة أكثر ما يمكن من القبائل في حركة الثورة لضمان فاعليتها، فتحرك سريعا في هذا الاتجاه، من خلال تكثيف اتصالاته بزعماء القبائل في وسط وجنوب البلاد، وتسفيه مزاعم الباي لديهم، متوجا تحركاته باجتماع كبير عقده في مسجد عقبة بن نافع في القيروان أوائل شهر يونيو 1881، بحضور قادة العروش وأعيان العاصمة الدينية للبلاد".
وخلال خطبة الإعلان عن الثورة في مسجد عقبة، عمل الشيخ علي على " تحريض قادة وأعيان الشعب التونسي على الجهاد، مذكرا بواجب المسلم نحو دينه وأرضه، ومؤكدا على أن نجدة الخلافة العثمانية ستتدخل لا محالة لفائدة الثورة قريبا، وداعيا إلى الثبات على الصفوف والمحافظة على علو النفس والهمة".
و قد تلى اجتماع القيروان، خطوات أخرى سياسية وديبلوماسية، حيث أرسل الشيخ علي مبعوثين إلى باشا طرابلس، لاستطلاع موقفه وتبليغه رغبة الثورة في الدعم بالمال والسلاح، غير أنه لم ينتظر وصول رد العثمانيين في ليبيا، وبادر بتسليح كل من يقدر على حمل السلاح من أبناء قبيلته "نفات"، وإعدادهم لخوض غمار الحرب.
حرب المدن
تذكر مصادر تاريخية، أن الشيخ علي بن خليفة، قد مر بمدينة صفاقس يوم 15 يونيو 1881، وهو في طريقه إلى القيروان لعقد اجتماعه المذكور، واتفق مع اثنين من شيوخها هما محمد كمون ومحمد الشريف، على تنسيق أعمال المقاومة، وعدم الاستجابة لدعوات الباي في تسليم المدينة للفرنسيين.
وفي 25 يونيو 1881، اعترض الشيخ علي برفقة كوكبة من فرسان "نفات"، طريق سنجق عسكري من الحامية التونسية، قام بإبادته بعد معركة قصيرة بأرض "المهاذبة" جنوب صفاقس، وهو في طريقه إلى مقر قيادته في "دار الفريك" في قابس.
و استطاع الشيخ علي بن خليفة إثر هذه المعركة، توسيع قواته لتشمل فرسانا من قبائل "جلاص" و"السواسي" و"المثاليث" و"الحزم" و"بني يزيد"، فيما اختار فرسان قبائل أخرى مثل "أولاد عيار" بمكثر، و"الفراشيش" بسبيطلة، و "أولاد رضوان" بقفصة، المقاومة المنفردة، على الرغم من اعترافهم بالشيخ علي ممثلا رسميا للسلطان العثماني.
وفي 2 يوليو 1881، تحرك الشيخ علي بجيشه الصغير متواضع التجهيز، لنجدة مدينة صفاقس الثائرة، حيث أمسى قادة مقاومتها يعترفون بإمارته لشعورهم بسيطرته المطلقة على القبائل البدوية
وعلى الرغم من عدم تكافؤ القوى بين الجيش الفرنسي وجيش المجاهدين، فقد تمكن الشيخ علي بن خليفة من قيادة معارك مقاومة باسلة، أظهر خلالها قدرات عسكرية فائقة وبطولات حيرت الضباط الفرنسيين الذين كانوا يقودون الحملة، وذلك بشهادة المؤرخ الفرنسي الشهير "مارتال".
ويذكر المؤرخ الفرنسي في كتابه "حدود تونس الصحراوية الطرابلسية"، أن فرسان الشيخ علي الأبطال، قد وقفوا سدا منيعا أمام الجيش الفرنسي بمدافعه وتجهيزه الحربي الكبير، حيث اضطروه إلى القبوع في مواقعه والاحتماء بسفنه خمسة عشرة يوما، ولولا وصول المدد للغزاة و نفاد الذخيرة عن المجاهدين –يقول المؤرخ- لكانت أحواز صفاقس مقبرة للغزاة ولانقلبت الآية لصالح الثورة في المعركة التي انتهت يوم 17 يوليو 1881
بعد خسارته معركة صفاقس، اضطر الشيخ علي -الذي كسرت رجله في الحرب فعاش بعد ذلك أعرجا، وفقد عددا كبيرا من رجاله- إلى منطقة "ودران" جنوب المدينة، حيث بادر من هناك إلى تجديد اتصالاته ببقية جبهات المقاومة، كما قام بإرسال حملة تكونت من خمسمائة فارس وألفين من المشاة، ألحقت خسائر كبيرة بممتلكات الباي في العاصمة، وعادت بألف رأس من الإبل دون أن تتمكن القوات الفرنسية من تتبعها.
و لم يكتف الشيخ علي بن خليفة بهذه الضربات الموجعة، على الرغم من قلة الدعم، بل كثف من حملات الإغارة على مراكز العدو، تعتمد بالأساس على مجموعة صغيرة من المجاهدين، تعتمد أسلوب الكر والفر والمداهمة المباغتة وعنصر المفاجأة.
و قد خاض الشيخ علي بن خليفة معركة أخرى دامية من أجل فك الحصار المضروب على مدينة قابس، التي قامت القوات الفرنسية بعملية إنزال كبير في مينائها، واستمرت في قصف المدينة من البحر بالمدفعية لأيام طويلة، وقاد ذلك إلى سقوط ما يزيد عن خمسين شهيدا يوم 31 يوليو 1881، دفاعا عن مقر الشيخ المعروف ب"دار الفريك"، الذي جرى تدميره بالكامل.
حرب الاستنزاف
رغم مرارة الهزيمة في صفاقس وقابس، لم ييأس الشيخ علي بن خليفة، وأصر على أن تواصل الثورة غليانها، بالاعتماد على ثبات المجاهدين وقدراتهم الذاتية. ففي منتصف اكتوبر 1881، تقدم الشيخ الثائر بقواته شمالا إلى أن وصل القيروان، وذلك بهدف الاتصال بزعماء المقاومة والوقوف على أحوال الجهاد، والاشتراك في معارك المقاومة في الوردانين وجمال الواقعتين في منطقة "الساحل".
و قد اضطر الشيخ علي في منتصف شهر نوفمبر 1881، إلى التراجع نحو الجنوب مجددا، وبالتحديد نحو بلدة "وذرف"، التي سيتخذها مقرا جديدا لقيادته العسكرية، و يقود من خلالها آخر معارك الدفاع عن قابس وضواحيها، وذلك قبل سقوطها بشكل نهائي في أيدي القوات الفرنسية.
وفي 20 نوفمبر 1881، انسحب الشيخ علي بكثير من المرارة والأسى نحو أقصى الجنوب، وحل بوادي "الزاس"، حيث التحق به اخوته ومن معهم من الأتباع بعد ثلاثة أيام. وقد ظل هناك ينتظر قدوم فرسان قبائل "بني يزيد" و"الحمارنة"، "آملا أن يكون منهم نواة هجوم قوية يعيد بها الكرة على قابس"، لكن هؤلاء تأخروا في القدوم إليه، وخاب أمله وزاد من لوعته نبأ استسلام محمد بن شرف ومن معه من المقاومين في قابس، فكان أن انسحب بصمت إلى الحدود الليبية، في المكان المحدد لتجمع زعماء المقاومة القادمين من طريق "الظاهر"، ولتدخل الثورة بعد هذه اللحظة مرحلة أخرى من عمرها، هي مرحلة النضال من وراء الحدود.
الثورة من وراء الحدود
لقد خمدت المقاومة المسلحة في تونس، بعد نزوح زعيمها الشيخ علي بن خليفة إلى الأراضي الليبية المجاورة في موفى عام 1881، مع نحو ثلاثين ألفا من أتباعه، ونحو 140 ألفا من المهاجرين من أتباع بقية زعماء المقاومة، غير أن هذا الخمود لم يكن ليثني الشيخ الثائر عن مواصلة الحلم بتحرير أرضه وشعبه من الغزاة، ومواصلة التحرك عسكريا و سياسيا في هذا الاتجاه.
علي الصعيد الحربي، واصل الشيخ علي من مقره في المهجر، إعداد حملات الإغارة على المواقع الفرنسية في عمق التراب التونسي، وذلك بهدف الحفاظ على الشعور العام لدى شعبه، بأن جذوة الثورة لم تمت، و إشعار الفرنسيين أيضا بأنهم لن يهنأوا بطيب المقام في تونس.
أما على الصعيد السياسي، فقد واظب الشيخ علي على الاجتماع بباشا طرابلس (الوالي العثماني فيها)، كما كان يبعث برسله إلى الأستانة عاصمة الخلافة، مطالبا بإمداده بالإغاثة لمعاودة الجهاد ضد فرنسا. وكان ابن أخيه محمد بن صالح أهم سفرائه إلى تركيا، حيث قام سنة 1882 بالاتصال بالوزير خير الدين باشا التونسي، للوقوف على موقفه من الثورة، غير أن هذا الأخير قابله بكثير من البرود، مما أثر سلبا في نفسية الشيخ الثائر.
و قد قام الشيخ علي حتى وفاته سنة 1885، بإفشال كافة المساعي التي بذلها رسل الباي إلى المهاجرين، لإغرائهم وتشجيعهم على العودة، حتى أنه اتهم مرة أحد الشيوخ المعممين من سفراء الملك التونسي بالجوسسة، وأوعز للسطات العثمانية بطرده. وكان ذلك كله حرصا من الشيخ على المحافظة على رصيد بشري يمكن للثورة أن تستأنف به عملها متى ما تيسر لها الدعم المادي، الذي لم يتحقق للأسف.
إن عزيمة الشيخ علي بن خليفة، على الرغم من تقدمه في السن، لم تفتر لحظة حتى وافته المنية، حيث لم يترك منفذا يعرف من خلاله بقضيته إلا واستغله، ومن ذلك تصديه بالرد لما نشرته بعض الجرائد العثمانية، مما رأى أنه تثبيط لعزائم المجاهدين، وبث لروح الهزيمة فيهم، كما هو شأن الرد الذي نشرته جريدة "الجوائب" الصادرة بالأستانة، والذي كذب فيه خبرا حاولت الاستخبارات الفرنسية الترويج له، ويفيد باستسلام المجاهدين ورجوعهم إلى أوطانهم.
يقول الشيخ علي في رده على الصحيفة التركية:" طالعت في العدد 1077 من جريدتكم خبرا أثار عجبي، إذ لا بد أنه صادر عن بعض المفسدين، فقد نسبوا إلينا أننا سلمنا أنفسنا للفرنسيين، والواقع أنه لا أصل لذلك أبدا، فنحن لن نتوقف عن الجهاد من أجل وطننا وديننا وشرفنا العربي الموروث، بكل إرادة وحزم.
نحن لا نعترف إلا بدولة واحدة (دولة الخلافة)، وقد تركنا أرزاقنا وعائلاتنا وبلادنا، ويظهر أنكم لم تطلعوا على أعمالنا، فإياكم أن تصدقوا ما تروجه الصحف من أخبار. كونوا على يقين أني ومن معي لا نزال متشبثين بطاعة الباب العالي، فنحن رعاياه وبلادنا بلاده ورأيه رأينا. كم من رجال منا يخوضون المعارك الحربية كالأسود، ويرون الموت في ساحة الوغى أهون من الاستسلام للأعداء. وعندما يحين الوقت الذي يتحقق فيه أملنا، سترون إذا كان تحتي جوادا أم حمارا.
هذا وأرجوا أن تنشروا رسالتي هذه جوابا عما صدر في صحيفتكم، ولو أن العقلاء العارفين يفرقون بين الحق والباطل من المنشورات. التوقيع: الكولونيل علي بن خليفة".
رحيله قصم ظهر الثورة
رغم مساعي الشيخ المتعددة لإنهاض حالة الثورة، فإن وضعه وأتباعه في المهجر قد زاد سوءا مع مر الأيام، وذلك لقلة الموارد الطرابلسية من جهة، وإهمال السلطات العثمانية للمجاهدين من جهة ثانية، وهو ما جعل اليأس يدب في النفوس و فسحة الأمل تضيق لدى القادة.
وقد اجتمع كل ذلك في نفس الشيخ علي، كما تشير إلى ذلك الوثائق التاريخية، وغلب عليه الحزن، خصوصا بعد تعاظم إحساسه بالعجز عن رد الفعل إزاء تقدم الفرنسيين وتغلغلهم في بلادهم، وما يسمعه عنهم من عبث بالأعراض وامتهان لكرامة المسلمين، فأثر كل ذلك عليه، وفارقت روحه إلى بارئها، من فرط الحزن والكمد على مهانة الدين والوطن.
و قد رثى الشيخ علي عند وفاته في الزاوية الغربية بليبيا، الكثير من الشعراء التونسيين والليبيين، وعددوا في ملاحم شعرية مدونة، مناقبه الشخصية الجمة و بطولاته العظيمة التي أبلاها في ساحة الجهاد ضد الكفار. لقد أبى العجوز المتمرد أن يعيش يوما واحدا تحت سلطان الكفر، ومات وهو يمتطي صهوة جواده، حالما بالفتح المبين، وهو الحلم ذاته الذي داعب خيال الكثير من المجاهدين التونسيين، حتى غادر الفرنسيون بلادهم غير
--> علي بن خليفة قائد أول ثورة تونسية ضد المستعمر الفرنسي
ولد علي بن خليفة النفاتي-حسب المصادر التاريخية المتوفرة- سنة 1807 ميلادية، وتوفي سنة 1885 بالزاوية الغربية في ليبيا. ويرجع نسبه إلى قبيلة "نفات" (عرش "نفات" في اللهجة التونسية)، المنحدرة من قبيلة بني سليم النجدية العربية القادمة إلى بلاد شمال أفريقيا مع الزحف الهلالي، والتي انتشرت غالبية فروعها في الجنوب التونسي، وخصوصا في المناطق المنحصرة بين مدينيتي قابس وصفاقس (بئر علي، المزونة، الصخيرة..
ينتمي علي بن خليفة إلى عائلة شريفة في قبيلته، وهي عائلة "أولاد خليفة"، التي تولت حكم القبيلة على امتداد قرون، لم ينتزع منها إلا في فترات وجيزة، حيث شغل عدد كبير من أفرادها مناصب إدارية عالية، كعمال وخلفاء و كواهي..(ألقاب إدارية كانت معتمدة في الدولة التونسية خلال القرون الأربعة التي سبقت الاستقلال).
و بحسب المصادر التاريخية، فإن علي بن خليفة قد شب على حياة وتربية العائلات العربية الميسورة، التي تميزت بالترحال بين الحياة الحضرية في المدن والحياة البدوية في القرى والأرياف، وذلك وفقا لفصول السنة، وهو ما جعله يجمع بين مميزات المجتمع الحضري من حرص على التحصيل العلمي والمعرفي وإلمام بقواعد الحضارة والأدب، ومميزات المجتمع البدوي من تشبث بأخلاق الفروسية وارتباط بقيم الحرية وتواصل مع الحياة الرعوية الملتصقة "بالإبل والخيام والأغنام ومجالس الشيوخ وما فيها من حكمة وتجارب وسرد للتاريخ ومجتمع الشباب وما فيه من صخب وفروسية ورياضة وصيد ومرح..".
لقد تميز الشيخ علي بن خليفة حسب المؤرخين الذين تناولوا سيرته، بشخصية متكاملة الجوانب، جمعت بين التشبث بالقيم والمبادئ الإسلامية والتمسك بثوابت الأصالة والعادات العربية، من جهة، والعمل على اكتساب أسباب القوة العلمية والمعرفية والسعي إلى الاطلاع على منجزات الآخر، من جهة ثانية، وهو ما سيتجلى لاحقا في توجهات الثورة التي قادها، وضحى من أجلها بكل شيء تقريبا.
ولاء مطلق للخلافة
على المستوى الوظيفي، يؤكد المؤرخون أن علي بن خليفة، قد سار على درب آبائه و أجداده، في الحرص على نيل شرف خدمة الباب العالي (الخليفة العثماني)، حيث تدرج في الوظيف المخزني (الرتب الإدارية) من خليفة (قائمقام) إلى كاهية (محافظ) إلى عامل (والي).
أما على مستوى التكوين العسكري، فيذكر المؤرخون أن الشيخ علي بن خليفة قد اعتلى سلم الرتب العسكرية إلى آخره، حيث صعد من رتبة "كاهية وجق" إلى "أمير آلاي"، واختتم حياته بأعلى رتبة عسكرية في الجيش التونسي، حيث قاد ثورته وهو يحمل رتبة "أمير لواء" أو "فريق أول" (كولونيل)، وهو ما سيلقي بظلال كثيفة على مسار الثورة، وعموم نضال الرجل سياسيا وعسكريا.
لقد ولى الباي (الملك التونسي) الشيخ علي بن خليفة - لما عرفه عنه من إخلاص وقدرة على التسيير والقيادة-، عمالة عدة مناطق شاسعة وهامة، حيث تنقل عاملا من جهة "نفات"، إلى القيروان وجلاص، إلى "المثاليث" و "أولاد عيار"، و أخير إلى "الأعراض" وعاصمتها قابس، أين أدركته الحماية الفرنسية.
و على نحو ما يذكر المؤرخون، فإن حكم الشيخ علي بن خليفة، كان حكما عادلا منصفا، خلافا لطبيعة حكم الأسرة الحسينية المالكة، فقد كان ولاء الشيخ لهذه العائلة، مرتبطا بولائه للخلافة العثمانية الإسلامية، أكثر منه ولاء للباي، حيث عرف عنه إيمانه الشديد بضرورة الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية في ظل الخلافة، ودعوته إلى التمسك بالولاء للخليفة، كسبيل وحيد لإفشال مخططات الأعداء في تمزيق عرى الوحدة الإسلامية.
و يشير الدارسون لسيرة الشيخ في اثبات توجهه المشار إليه، إلى حدثين هامين في حياته، أولهما مساهمته الفعالة في قمع ثورة "علي بن غذاهم"، وهي ثورة محلية قامت لأسباب شخصية، مجدها الرئيس بورقيبة لالتقائها معه في معاداة الباي، وثانيهما خلعه بيعته للباي بمجرد توقيعه على معاهدة الحماية، فقد قمع الشيخ الثورة الأولى لأنها بنظره فتنة تساهم في إضعاف الدولة الإسلامية، فيما فجر الثورة الثانية لأنها ثورة ضد الكفار ومن أجل وحدة الدولة الإسلامية.
و تؤكد الوثائق التاريخية أن الشيخ علي بن خليفة النفاتي، قد عمل جاهدا خلال فترة ولايته على منطقة "الأعراض" (الجنوب التونسي حاليا)، على التخفيف من وطأة الفتن الداخلية على البلاد، خصوصا من خلال تصديه لأخطرها، وهو ما عرف في حينها بفتنة "اليوسفية" و "الشدادية"، وهي صراع دارت رحاه في وسط وجنوب البلاد، بين تحالفات قبلية ذهب ضحيتها آلالاف الناس طيلة عقود من الزمن.
إن الفترة التي قضاها الشيخ علي بن خليفة، حاكما محليا قبل ثورته، قد تميزت بسيادة الأمن وعودة الاستقرار والتقسيم العادل لإقطاعيات الرعي، الذي كان يشكل العمود الفقري لاقتصاد المنطقة، والمورد الرئيسي لدخل القبائل/العروش، وهو ما لم يستغربه المؤرخون الذين وقفوا على خصال الرجل الذي عرف بين أهله بالتقوى والورع على المستوى الشخصي، والحرص على إقامة تعاليم الإسلام والتمسك بالولاء الشديد لله والدولة الإسلامية على المستوى العام.
طاعة الباي كفر
لقد سبق التنبيه إلى مكانة الخلافة السامية في عقل وقلب الشيخ علي بن خليفة، انطلاقا مما عرف به من تشبث بمفاهيم الإسلام وقيمه، وهو ما جعله يربط باستمرار بين طاعة الخليفة وطاعة الله، ويرى بأن واجب المسلم صحيح العقيدة يقتضي عدم السماح بمخالفة ما تقتضيه هذه الصلة، حتى وإن كان المخالف "الباي" نفسه، الذي كان يحكم التونسيين بإسم الخليفة، وإن كانت إدارته مستقلة عن الإدارة في الأستانة.
و على نحو ما أوردته المصادر التاريخية – وخلدته ملاحم شعرية شعبية-، فإن قيام الباي بالتوقيع على معاهدة الحماية مع الفرنسيين، قد نزل على الشيخ علي نزول الصاعقة، إذ رأى فيه إخلالا مريعا بشروط البيعة، وتفريطا في حكم المسلمين للكفار، وهو ما دفعه إلى إطلاق مقولته الشهيرة على الملأ في مقر حكمه بضاحية "شنني" في مدينة قابس، "الآن أصبحت طاعة الباي كفرا"، والتي كانت إيذانا بانطلاق الثورة ضد الغزاة الفرنسيين والباي وأعوانه معا.
و لم يكتف الشيخ علي بالقول، بل بادر للاستعداد عمليا منذ تلك اللحظة، لتجسيد تنصله من طاعة من قام بموالاة الكفار، وتدشين الثورة الشعبية التي سيعيشعها الشعب التونسي بكل جوارحه طيلة سنوات، وسينشد من خلالها انتصار شيخهم المسن الذي جاوز السبعين من العمر على جحافل الجيش الفرنسي الجرارة، المزودة بكافة أنواع الأسلحة الحديثة.
و إن لم تقم الوثائق التاريخية الرسمية، التي كتبها مؤرخو السلطة خلال حقبة الحكم البورقيبي، فإن الوثائق التاريخية الشعبية، ممثلة في قصائد وملاحم الشعر الشعبي التونسي، والحكايات الشعبية المتناقلة شفاهيا، قد سجلت بكثير من الفخر والاعتزاز معارك المجاهدين بقيادة الشيخ علي، ونجاحاتهم الباهرة في تعطيل زحف المستعمرين على البلاد، لشهور طويلة، على الرغم من قلة الزاد والعتاد وخذلان الأصدقاء.
توحيد القبائل
لقد بدأت أول خطوات ثورة الشيخ علي بن خليفة، بمرحلة الإعداد لها، حيث بادر قائدها إلى جمع المجاهدين من مختلف القبائل/العروش وتنظيمهم في إطار موحد، وهو ما لم يكن سهل الحدوث، حيث كانت النزاعات القبلية طاغية، كما كانت محاولات الباي جارية – بإيعاز من سلطات الحماية الفرنسية- لاستقطاب زعماء القبائل إلى جانبه، بذريعة أن مصلحة البلاد كانت تقتضي التوقيع على معاهدة الاحتلال.
و قد أدرك الشيخ علي ضرورة تعبئة أكثر ما يمكن من القبائل في حركة الثورة لضمان فاعليتها، فتحرك سريعا في هذا الاتجاه، من خلال تكثيف اتصالاته بزعماء القبائل في وسط وجنوب البلاد، وتسفيه مزاعم الباي لديهم، متوجا تحركاته باجتماع كبير عقده في مسجد عقبة بن نافع في القيروان أوائل شهر يونيو 1881، بحضور قادة العروش وأعيان العاصمة الدينية للبلاد".
وخلال خطبة الإعلان عن الثورة في مسجد عقبة، عمل الشيخ علي على " تحريض قادة وأعيان الشعب التونسي على الجهاد، مذكرا بواجب المسلم نحو دينه وأرضه، ومؤكدا على أن نجدة الخلافة العثمانية ستتدخل لا محالة لفائدة الثورة قريبا، وداعيا إلى الثبات على الصفوف والمحافظة على علو النفس والهمة".
و قد تلى اجتماع القيروان، خطوات أخرى سياسية وديبلوماسية، حيث أرسل الشيخ علي مبعوثين إلى باشا طرابلس، لاستطلاع موقفه وتبليغه رغبة الثورة في الدعم بالمال والسلاح، غير أنه لم ينتظر وصول رد العثمانيين في ليبيا، وبادر بتسليح كل من يقدر على حمل السلاح من أبناء قبيلته "نفات"، وإعدادهم لخوض غمار الحرب.
حرب المدن
تذكر مصادر تاريخية، أن الشيخ علي بن خليفة، قد مر بمدينة صفاقس يوم 15 يونيو 1881، وهو في طريقه إلى القيروان لعقد اجتماعه المذكور، واتفق مع اثنين من شيوخها هما محمد كمون ومحمد الشريف، على تنسيق أعمال المقاومة، وعدم الاستجابة لدعوات الباي في تسليم المدينة للفرنسيين.
وفي 25 يونيو 1881، اعترض الشيخ علي برفقة كوكبة من فرسان "نفات"، طريق سنجق عسكري من الحامية التونسية، قام بإبادته بعد معركة قصيرة بأرض "المهاذبة" جنوب صفاقس، وهو في طريقه إلى مقر قيادته في "دار الفريك" في قابس.
و استطاع الشيخ علي بن خليفة إثر هذه المعركة، توسيع قواته لتشمل فرسانا من قبائل "جلاص" و"السواسي" و"المثاليث" و"الحزم" و"بني يزيد"، فيما اختار فرسان قبائل أخرى مثل "أولاد عيار" بمكثر، و"الفراشيش" بسبيطلة، و "أولاد رضوان" بقفصة، المقاومة المنفردة، على الرغم من اعترافهم بالشيخ علي ممثلا رسميا للسلطان العثماني.
وفي 2 يوليو 1881، تحرك الشيخ علي بجيشه الصغير متواضع التجهيز، لنجدة مدينة صفاقس الثائرة، حيث أمسى قادة مقاومتها يعترفون بإمارته لشعورهم بسيطرته المطلقة على القبائل البدوية
وعلى الرغم من عدم تكافؤ القوى بين الجيش الفرنسي وجيش المجاهدين، فقد تمكن الشيخ علي بن خليفة من قيادة معارك مقاومة باسلة، أظهر خلالها قدرات عسكرية فائقة وبطولات حيرت الضباط الفرنسيين الذين كانوا يقودون الحملة، وذلك بشهادة المؤرخ الفرنسي الشهير "مارتال".
ويذكر المؤرخ الفرنسي في كتابه "حدود تونس الصحراوية الطرابلسية"، أن فرسان الشيخ علي الأبطال، قد وقفوا سدا منيعا أمام الجيش الفرنسي بمدافعه وتجهيزه الحربي الكبير، حيث اضطروه إلى القبوع في مواقعه والاحتماء بسفنه خمسة عشرة يوما، ولولا وصول المدد للغزاة و نفاد الذخيرة عن المجاهدين –يقول المؤرخ- لكانت أحواز صفاقس مقبرة للغزاة ولانقلبت الآية لصالح الثورة في المعركة التي انتهت يوم 17 يوليو 1881
بعد خسارته معركة صفاقس، اضطر الشيخ علي -الذي كسرت رجله في الحرب فعاش بعد ذلك أعرجا، وفقد عددا كبيرا من رجاله- إلى منطقة "ودران" جنوب المدينة، حيث بادر من هناك إلى تجديد اتصالاته ببقية جبهات المقاومة، كما قام بإرسال حملة تكونت من خمسمائة فارس وألفين من المشاة، ألحقت خسائر كبيرة بممتلكات الباي في العاصمة، وعادت بألف رأس من الإبل دون أن تتمكن القوات الفرنسية من تتبعها.
و لم يكتف الشيخ علي بن خليفة بهذه الضربات الموجعة، على الرغم من قلة الدعم، بل كثف من حملات الإغارة على مراكز العدو، تعتمد بالأساس على مجموعة صغيرة من المجاهدين، تعتمد أسلوب الكر والفر والمداهمة المباغتة وعنصر المفاجأة.
و قد خاض الشيخ علي بن خليفة معركة أخرى دامية من أجل فك الحصار المضروب على مدينة قابس، التي قامت القوات الفرنسية بعملية إنزال كبير في مينائها، واستمرت في قصف المدينة من البحر بالمدفعية لأيام طويلة، وقاد ذلك إلى سقوط ما يزيد عن خمسين شهيدا يوم 31 يوليو 1881، دفاعا عن مقر الشيخ المعروف ب"دار الفريك"، الذي جرى تدميره بالكامل.
حرب الاستنزاف
رغم مرارة الهزيمة في صفاقس وقابس، لم ييأس الشيخ علي بن خليفة، وأصر على أن تواصل الثورة غليانها، بالاعتماد على ثبات المجاهدين وقدراتهم الذاتية. ففي منتصف اكتوبر 1881، تقدم الشيخ الثائر بقواته شمالا إلى أن وصل القيروان، وذلك بهدف الاتصال بزعماء المقاومة والوقوف على أحوال الجهاد، والاشتراك في معارك المقاومة في الوردانين وجمال الواقعتين في منطقة "الساحل".
و قد اضطر الشيخ علي في منتصف شهر نوفمبر 1881، إلى التراجع نحو الجنوب مجددا، وبالتحديد نحو بلدة "وذرف"، التي سيتخذها مقرا جديدا لقيادته العسكرية، و يقود من خلالها آخر معارك الدفاع عن قابس وضواحيها، وذلك قبل سقوطها بشكل نهائي في أيدي القوات الفرنسية.
وفي 20 نوفمبر 1881، انسحب الشيخ علي بكثير من المرارة والأسى نحو أقصى الجنوب، وحل بوادي "الزاس"، حيث التحق به اخوته ومن معهم من الأتباع بعد ثلاثة أيام. وقد ظل هناك ينتظر قدوم فرسان قبائل "بني يزيد" و"الحمارنة"، "آملا أن يكون منهم نواة هجوم قوية يعيد بها الكرة على قابس"، لكن هؤلاء تأخروا في القدوم إليه، وخاب أمله وزاد من لوعته نبأ استسلام محمد بن شرف ومن معه من المقاومين في قابس، فكان أن انسحب بصمت إلى الحدود الليبية، في المكان المحدد لتجمع زعماء المقاومة القادمين من طريق "الظاهر"، ولتدخل الثورة بعد هذه اللحظة مرحلة أخرى من عمرها، هي مرحلة النضال من وراء الحدود.
الثورة من وراء الحدود
لقد خمدت المقاومة المسلحة في تونس، بعد نزوح زعيمها الشيخ علي بن خليفة إلى الأراضي الليبية المجاورة في موفى عام 1881، مع نحو ثلاثين ألفا من أتباعه، ونحو 140 ألفا من المهاجرين من أتباع بقية زعماء المقاومة، غير أن هذا الخمود لم يكن ليثني الشيخ الثائر عن مواصلة الحلم بتحرير أرضه وشعبه من الغزاة، ومواصلة التحرك عسكريا و سياسيا في هذا الاتجاه.
علي الصعيد الحربي، واصل الشيخ علي من مقره في المهجر، إعداد حملات الإغارة على المواقع الفرنسية في عمق التراب التونسي، وذلك بهدف الحفاظ على الشعور العام لدى شعبه، بأن جذوة الثورة لم تمت، و إشعار الفرنسيين أيضا بأنهم لن يهنأوا بطيب المقام في تونس.
أما على الصعيد السياسي، فقد واظب الشيخ علي على الاجتماع بباشا طرابلس (الوالي العثماني فيها)، كما كان يبعث برسله إلى الأستانة عاصمة الخلافة، مطالبا بإمداده بالإغاثة لمعاودة الجهاد ضد فرنسا. وكان ابن أخيه محمد بن صالح أهم سفرائه إلى تركيا، حيث قام سنة 1882 بالاتصال بالوزير خير الدين باشا التونسي، للوقوف على موقفه من الثورة، غير أن هذا الأخير قابله بكثير من البرود، مما أثر سلبا في نفسية الشيخ الثائر.
و قد قام الشيخ علي حتى وفاته سنة 1885، بإفشال كافة المساعي التي بذلها رسل الباي إلى المهاجرين، لإغرائهم وتشجيعهم على العودة، حتى أنه اتهم مرة أحد الشيوخ المعممين من سفراء الملك التونسي بالجوسسة، وأوعز للسطات العثمانية بطرده. وكان ذلك كله حرصا من الشيخ على المحافظة على رصيد بشري يمكن للثورة أن تستأنف به عملها متى ما تيسر لها الدعم المادي، الذي لم يتحقق للأسف.
إن عزيمة الشيخ علي بن خليفة، على الرغم من تقدمه في السن، لم تفتر لحظة حتى وافته المنية، حيث لم يترك منفذا يعرف من خلاله بقضيته إلا واستغله، ومن ذلك تصديه بالرد لما نشرته بعض الجرائد العثمانية، مما رأى أنه تثبيط لعزائم المجاهدين، وبث لروح الهزيمة فيهم، كما هو شأن الرد الذي نشرته جريدة "الجوائب" الصادرة بالأستانة، والذي كذب فيه خبرا حاولت الاستخبارات الفرنسية الترويج له، ويفيد باستسلام المجاهدين ورجوعهم إلى أوطانهم.
يقول الشيخ علي في رده على الصحيفة التركية:" طالعت في العدد 1077 من جريدتكم خبرا أثار عجبي، إذ لا بد أنه صادر عن بعض المفسدين، فقد نسبوا إلينا أننا سلمنا أنفسنا للفرنسيين، والواقع أنه لا أصل لذلك أبدا، فنحن لن نتوقف عن الجهاد من أجل وطننا وديننا وشرفنا العربي الموروث، بكل إرادة وحزم.
نحن لا نعترف إلا بدولة واحدة (دولة الخلافة)، وقد تركنا أرزاقنا وعائلاتنا وبلادنا، ويظهر أنكم لم تطلعوا على أعمالنا، فإياكم أن تصدقوا ما تروجه الصحف من أخبار. كونوا على يقين أني ومن معي لا نزال متشبثين بطاعة الباب العالي، فنحن رعاياه وبلادنا بلاده ورأيه رأينا. كم من رجال منا يخوضون المعارك الحربية كالأسود، ويرون الموت في ساحة الوغى أهون من الاستسلام للأعداء. وعندما يحين الوقت الذي يتحقق فيه أملنا، سترون إذا كان تحتي جوادا أم حمارا.
هذا وأرجوا أن تنشروا رسالتي هذه جوابا عما صدر في صحيفتكم، ولو أن العقلاء العارفين يفرقون بين الحق والباطل من المنشورات. التوقيع: الكولونيل علي بن خليفة".
رحيله قصم ظهر الثورة
رغم مساعي الشيخ المتعددة لإنهاض حالة الثورة، فإن وضعه وأتباعه في المهجر قد زاد سوءا مع مر الأيام، وذلك لقلة الموارد الطرابلسية من جهة، وإهمال السلطات العثمانية للمجاهدين من جهة ثانية، وهو ما جعل اليأس يدب في النفوس و فسحة الأمل تضيق لدى القادة.
وقد اجتمع كل ذلك في نفس الشيخ علي، كما تشير إلى ذلك الوثائق التاريخية، وغلب عليه الحزن، خصوصا بعد تعاظم إحساسه بالعجز عن رد الفعل إزاء تقدم الفرنسيين وتغلغلهم في بلادهم، وما يسمعه عنهم من عبث بالأعراض وامتهان لكرامة المسلمين، فأثر كل ذلك عليه، وفارقت روحه إلى بارئها، من فرط الحزن والكمد على مهانة الدين والوطن.
و قد رثى الشيخ علي عند وفاته في الزاوية الغربية بليبيا، الكثير من الشعراء التونسيين والليبيين، وعددوا في ملاحم شعرية مدونة، مناقبه الشخصية الجمة و بطولاته العظيمة التي أبلاها في ساحة الجهاد ضد الكفار. لقد أبى العجوز المتمرد أن يعيش يوما واحدا تحت سلطان الكفر، ومات وهو يمتطي صهوة جواده، حالما بالفتح المبين، وهو الحلم ذاته الذي داعب خيال الكثير من المجاهدين التونسيين، حتى غادر الفرنسيون بلادهم غير